ثماني جرائم كاملة



منذ أعوامٍ خَلَت، جمعَ بائعُ الكتب وعاشقُ الغموض «مالكوم كيرشو» قائمةً تضمُّ بعضًا من جرائم القتل المستعصي حَلُّها، وسمَّاها «ثماني جرائم كاملة». وفي أحد أيام فبراير القارصة البرودة، يُفاجَأ «مال» بعميلة من مكتب التحقيقات الفيدرالي تطرُق بابَه، بحثًا عن معلوماتٍ حول سلسلة من جرائم القتل التي لم تُحَلَّ، والتي تبدو مشابِهةً على نحوٍ مخيف للجرائم المدرَجة في قائمته القديمة. ولم تكن عميلةُ مكتب التحقيقات الفيدرالي الوحيدةَ المهتمة بأمرِ بائع الكتب الذي يقضي كلَّ ليلة تقريبًا في منزله في القراءة. يراقب القاتل كلَّ تحرُّكات «مال»، ويمثِّل تهديدًا شيطانيًّا له؛ إذ يعرف الكثيرَ عن تاريخه الشخصي، ولا سيما الأسرارُ التي لم يُخبر بها أحدًا، حتى زوجته المتوفَّاة مؤخرًا. لحماية نفسه، يبدأ «مال» في البحث عن المشتبَه فيهم المُحتمَلين، ويرى القاتلَ في كلِّ مَن حوله. وفجأة، تحدُث سلسلة من التقلُّبات المروِّعة، تُسفِر عن مَقتل المزيد من الضحايا. ويضيق الخناقُ على رقبته حتى إنه لا يستطيع الهرب مطلقًا. تُرى مَن القاتل؟ وهل سيكتشفه «مال» والعميلة «مالفي»؟


© كل الحقوق محفوظة


تنويه

تنويه: رغم أنَّ ما أنت على وشْك قراءته حقيقيٌّ إلى حَدٍّ كبير؛ فقد أَعدتُ صياغةَ بعض الأحداث والمحادثات من الذاكرة. كما رُوعيَ تغيير بعض الأسماء والسِّمات المميِّزة لحماية الأبرياء.

 الفصل الأول


فُتِح البابُ الأمامي، وسَمِعتُ وقعَ خطواتِ عميلة مكتب التحقيقات الفيدرالي فوق مِمسحة الأقدام. كانت الثلوج قد بدأت تتساقط الآن، واندفعَ الهواءُ إلى المتجر ثقيلًا ومُفعَمًا بالطاقة. ارتدَّ البابُ منغلقًا وراءَ العميلة. لا بد أنها كانت في الخارج عندما هاتفَتني؛ فلم تكَد تمضي خمسُ دقائق منذ أن وافقتُ على مقابلتها.


كان المتجرُ خاليًا فيما عَداي. لا أعلمُ تحديدًا لِمَ قررتُ أن أفتحَ المتجر في ذلك اليوم. لقد كان من المتوقَّع هبوبُ عاصفةٍ ثلجية يزيد ارتفاع الثلوج فيها عن القدَمَين، تبدأ في الصباح وتستمر حتى بعد ظهر اليوم التالي. كانت مدارس بوسطن الحكومية قد أعلنَت بالفعل أنها ستُغلِق أبوابها مبكرًا، وأَلغتْ جميعَ الفصول الدراسية لليوم التالي. كنت قد اتصلتُ بالموظفَين اللذين كان من المقرَّر أن يحضُرا — إيميلي في المناوَبة الصباحية وبداية الظهيرة، وبراندون في مناوبةِ بعد الظهيرة وحتى المساء — وطلبتُ منهما البقاءَ في المنزل وعدمَ المجيء. سجَّلتُ الدخول على حساب «تويتر» الخاص بمتجر «أُولد ديفيلز» لبيع الكتب وكنتُ على وشْك إرسال تغريدةٍ تفيد بأننا سنغلق أبوابنا طَوال وقت العاصفة، لكنَّ شيئًا ما أوقَفني. ربما كانت الفكرة هي قضائي اليومَ بأكمله وحيدًا في مسكني. وإلى جانب ذلك، فأنا أقطُن على بُعد أقلَّ من نصف ميل من المتجر.


قررتُ الذهاب؛ على الأقل سأتمكَّن من قضاء بعض الوقت مع نيرو، أرتِّب بعضَ الرفوف، وربما حتى أجمع بعضَ طلبات الزبائن عبْر الإنترنت.


واجهتني سماءٌ بلون الجرانيت مُنذِرة بالثلوج عندما فتحتُ الأبوابَ الأمامية المطلَّة على شارع باري في بيكون هيل. لا يقع متجر «أُولد ديفيلز» في منطقةٍ مزدحمة، لكننا متجرُ كتب متخصِّص؛ فلدينا رواياتٌ بوليسية، جديدة ومُستعمَلة، ومعظم زبائننا يسعون إلينا أو يطلبون ببساطةٍ عبْر موقعنا الإلكتروني مباشرةً. ففي يوم خميس عادي من شهر فبراير، ما كنتُ لأُفاجَأ إذا كان إجماليُّ الزبائن قد بلغ بصعوبةٍ عددًا من رقمَين، ما لم يكن لدينا بالطبع حدَثٌ مخطَّط له. ومع ذلك، كان هناك دائمًا عملٌ ينبغي القيام به. وكان هناك نيرو، قِطُّ المتجر، الذي كان يكره قضاءَ اليوم وحيدًا. ولم أستطِع أيضًا تذكُّر ما إذا كنتُ قد أطعمتُه طعامًا إضافيًّا ليلة أمس. واتضحَ أنني على الأرجح لم أفعل؛ لأنه جاءَ مسرعًا عبْر الأرضية الخشبية الصلبة لاستقبالي عندما دلفتُ من الباب الأمامي. كان قطًّا برتقاليًّا غيرَ معروفِ العُمر، كان مثاليًّا للمتجر بسبب استعداده (توقه، حقًّا) لتحمُّل مشاعر الغرباء. أشعلتُ أضواءَ المتجر، وأطعمتُ نيرو، ثم أعددتُ لنفسي قدَحًا من القهوة. في الساعة الحاديةَ عشرة، دخلتْ مارجريت لوم، وهي زَبونة منتظمة.


سألتني: «لِمَ فتحت المتجرَ في هذا الطقس السيِّئ؟»


فردَدتُ بدوري: «لِمَ أنتِ بالخارج؟»


رفعتْ حقيبتَي بقالةٍ من متجر بقالةٍ كبير في شارع تشارلز. وقالت بصوتها الأرستقراطي: «أغذية ومؤن.»


تحدَّثنا عن أحدثِ رواية للويز بيني. استحوذتْ هي على الحديث أغلبَ الوقت. وتظاهرتُ أنني قرأتُها. أصبحتُ أتظاهر هذه الأيام بقراءة العديد من الكتب. إنني أقرأُ بالطبع المقالات النقدية المنشورة في الإصدارات الرئيسية المتداولة، كما أتصفَّح بعضَ المدوَّنات. إحدى هذه المدوَّنات تُدعَى «ذا آرمتشير سبويلر»، وتتضمَّن مقالاتٍ نقديةً تُناقش نهاياتِ عدد من الكتب التي صدرت حديثًا. لم تَعُد لديَّ رغبةٌ في قراءة الروايات البوليسية المعاصرة — أحيانًا أُعيدُ قراءة كتابٍ معيَّن مفضَّل لديَّ منذ طفولتي — وأجد مدوَّنات الكتب لا غنى عنها. أعتقدُ أنَّ بمقدوري أن أكونَ صادقًا، وأخبرُ الناسَ أنني فقدتُ الاهتمام بالروايات البوليسية، وأنني أصبحتُ هذه الأيام أقرأ كتبَ التاريخ في المقام الأول، وأقرأ في الشِّعر قبل خلودي إلى النوم، لكنني أُفضِّل الكذب. ودائمًا ما يرغب الأشخاصُ القلائل الذين أخبرهم بالحقيقة في معرفةِ سبب إقلاعي عن قراءة أدب الجريمة، وذاك شيءٌ لا أستطيع التحدُّث بشأنه.


انصرفَتْ مارجريت لوم ومعها نسخةٌ مستعمَلة من رواية روث ريندل «مصافحة للأبد»، التي كانت واثقةً بنسبة ٩٠ في المائة أنها لم تقرأها من قبل. وبعدها تناولتُ الغداء الذي كنتُ قد أعددتُه — شَطيرة سلطة الدجاج — وكنت على وشْك إغلاق المتجر ومغادرته عندما دقَّ جرسُ الهاتف.


أجبتُ: «متجر أُولد ديفيلز للكتب.»


ردَّ صوتُ امرأة: «هل أستطيع التحدُّث إلى مالكوم كيرشو؟»


قلتُ: «مالكوم يتحدَّث.»


«أوه. جيد. أنا العميلة الخاصة جوين مالفي من مكتب التحقيقات الفيدرالي، أرغبُ في أخذِ القليل من وقتك لكي أطرحَ عليك بعضَ الأسئلة.»


قلتُ: «حسنًا.»


«هل يناسبكَ الآن؟»


قلتُ: «بالتأكيد»، معتقدًا أنها أرادت التحدُّث عبْر الهاتف، ولكن بدلًا من هذا وجدتُها تخبرني أنها سوف تأتي في الحال، ثم انقطعَ الاتصال. توقفتُ للحظة وأنا أحمل الهاتف بيدي، متخيِّلًا كيف ستبدو عميلةٌ فيدرالية تُدعَى جوين. كان صوتُها على الهاتف يبدو خشنًا أجشَّ، ومن ثمَّ تصوَّرتُ أنها ربما تكون على وشْك التقاعُد، امرأة مهيبة، ثقيلة الظل، ترتدي معطفًا واقيًا من المطر ذا لون داكن.


بعد عدة دقائق، دخلت العميلة مالفي مندفعةً عبْر الباب، وهي تبدو مختلفة تمامًا عما تخيَّلتُه عنها. كانت في الثلاثينيات من عمرها، وكانت ترتدي بنطالًا من الجينز قد دسَّته داخل حذاءٍ عالي الرقبة ذي لون أخضر داكن، بالإضافة إلى سترة شتوية منتفخة وقبَّعة صوف بيضاء تعتليها كُرَة منفوشة من الصوف. دعسَت بحذائها على دواسة الأقدام عند الباب، ثم خلعت قبعتَها، وعبَرت نحو طاولة الدفع. اقتربتُ لملاقاتها، مَدَّت يدَها لتصافحني. صافحتني بحزمٍ، لكن يدها كانت باردةً رطبة.


سألتُها قائلًا: «العميلة مالفي؟»


«أجل، مرحبًا.» أخذَت رقائقُ الثلج تذوب على معطفها الأخضر مخلِّفةً وراءَها بقعًا داكنة. هزَّت رأسها لحظةً … كانت أطرافُ شَعرها الأشقر الرقيق مُبلَّلة. قالت: «يدهشني أنك ما زلتَ فاتحًا المتجر.»


«في الواقع، أنا على وشْك إغلاقه.»


قالت: «أوه». كانت ترتدي حقيبةً جلدية معلَّقة على كتفٍ واحدة ورفعت الحزامَ فوق رأسها، ثم فتحت سَحَّاب معطفها. «ألديك بعض الوقت، رغم ذلك؟»


«بالطبع، ولديَّ فضولٌ لمعرفة الأمر. هَلا نتحدَّث في مكتبي؟»


التفتَت للخلف وألقت نظرةً خاطفة على الباب الأمامي. برزت أوتارُ رقبتها في بشَرتها البيضاء الرقيقة. وقالت: «هل يمكنك سماع الزبائن إذا دخلوا؟»


«لا أظن أن أحدًا سيأتي، ولكن، أجل، يُمكنني سماعُهم، تفضَّلي من هنا.»


كان مكتبي أشبهَ بزاوية في الجزء الخلفي من المتجر. أحضرتُ للعميلة مالفي مقعدًا ثم التفَفتُ حول المكتب وجلستُ في مقعدي الجلدي، كانت حشْوته المنتفخة تبرُز من بين الشقوق. عدَّلتُ وضعيتي على المقعد بحيث أستطيع أن أراها بين كومتَين من الكتب. وقلت: «آسف، نسيتُ أن أسألكِ إن كنتِ تريدين تناول أيِّ شيء أم لا؟» وأردفتُ: «لا يزال يوجد بعض القهوة في الإناء.»


أجابتني: «كلَّا، شكرًا لك»، وهي تخلع سترتها وتضع حقيبتها الجلدية، التي كانت أقربَ إلى محفظة أوراق في حقيقة الأمر، على الأرض بجانبها. كانت ترتدي كنزةً سوداء برقبة مستديرة أسفل المعطف. الآن بعد أن تمكَّنتُ من رؤيتها حقًّا، أدركتُ أنْ ليس بشَرتها فقط هي ما كانت شاحبة. بل كلُّ ما فيها كان كذلك: لون شعرها، شفتاها، وكان جَفناها شبهَ شفافَين؛ حتى نظارتها بحافاتها السلكية الرقيقة كادت تختفي في وجهها. كان من الصعب معرفة كيف تبدو حقًّا، وكأنَّ فنانًا قد فركَ إبهامه على ملامحها فطمسَها. «قبل أن نبدأ، أودُّ أن أطلبَ منك رجاءً عدم مناقشة أيِّ شيءٍ مما نحن على وشْك التحدُّث عنه مع أي شخص. فبعضُ ما سأقوله يندرج ضمن السجلات العامة، ولكن البعضُ الآخر ليس كذلك.»


بادرتُها بقولي: «الآن أثرتِ فضولي حقًّا»، مدركًا أن معدَّل ضربات قلبي قد بدأ يتسارع. «حسنًا، بالتأكيد، لن أخبر أحدًا.»


قالت: «رائع، شكرًا لك»، وبدا أنها استرخَت في مقعدها، وأخفضت كتفَيْها، وأصبح رأسها في محاذاة رأسي.


سألتْ: «هل سمعتَ عن روبن كالاهان؟»


روبن كالاهان مذيعةُ أخبار محلية، عُثِر عليها منذ سنة ونصف السنة مُرداةً بالرصاص داخل منزلها في كونكورد، على مسافة نحو خمسة وعشرين ميلًا شمالَ غرب بوسطن. لقد تصدَّرَت هذه القصة عناوينَ الأخبار المحلية منذ حدوثها، ورغم الاشتباه في زوجها السابق والشكوك التي حامت حوله، لم يُلقَ القبضُ عليه. قلتُ: «تقصدين جريمة القتل؟ بالطبع سمعتُ.»


«وماذا عن جاي برادشو؟»


فكَّرتُ لحظةً، ثم هزَزتُ رأسي قائلًا: «لا أعتقد.»


«لقد كان يعيش في دينيس بجزيرة كيب. وفي شهر أغسطس، عُثِرَ عليه في مرأب منزله وقد تعرَّض للضرب حتى الموت.»


قلتُ: «لا.»


«هل أنتَ متأكِّد؟»


«نعم متأكِّد.»


«وماذا عن إيثان بيرد؟»


«هذا الاسم يبدو مألوفًا لي.»


«كان طالبًا في جامعة يوماس لويل، وفُقِد منذ أكثرَ من عام.»


«حسنًا، صحيح». أتذكَّر هذه القضية بالفعل، بالرغم من أني لم أستطِع تذكُّر أيٍّ من تفاصيلها.


«لقد عُثِر عليه مدفونًا في منتزهٍ حكومي في آشلاند، حيث مسقطُ رأسه، كان ذلك بعد ما يقرُب من ثلاثة أسابيع من اختفائه.»


«أجل، بالطبع، تصدَّرت هذه الأخبار الصحف آنذاك. هل لهذه الجرائم الثلاث علاقةٌ بعضها ببعض؟»


انحنَتْ إلى الأمام في مقعدها الخشبي، ومدَّت يدَها إلى حقيبتها، ثم أعادتها فجأة، كما لو أنها عدَلَت عن رأيها بشأن شيءٍ ما. «في البداية، لم نكن نعتقد ذلك، إلا أنها جميعًا لم تُحَل. لكنَّ شخصًا ما لاحظَ أسماءَهم.» توقَّفتْ، كما لو أنها تمنحني الفرصةَ لمقاطعتها. ثم قالت: «روبن كالاهان، جاي برادشو، إيثان بيرد.»


فكَّرتُ هُنيهةً. «أشعر كما لو أنني في اختبارٍ ما، وأعجزُ عن الإجابة.»


قالت: «تستطيع أن تأخذَ وقتك، أو بإمكاني إخبارك فحسب.»


قلت: «هل لأسمائهم علاقة بالطيور؟»


أومأتْ برأسها. «صحيح، روبن (أبو الحِناء)، جاي (أبو زُرَيق)، ثم الاسم الأخير بيرد (طائر). أدركُ أنَّ في ذلك نوعًا من المبالغة، لكن … دون الخوض في الكثير من التفاصيل، بعد كل جريمة قتْل كان مركز الشرطة المحلي الأقربُ إلى مسرح الجريمة يتلقَّى … ما بدا أنه رسالةٌ من القاتِل.»


«إذن، ثمة علاقة بينها؟»


«أجل، يبدو الأمر كذلك. لكن قد توجد علاقة بينها بطريقةٍ أخرى، كذلك. هل تُذكِّرك هذه الجرائمُ بأي شيءٍ؟ إنني أسألك بصفتك شخصًا خبيرًا في أدب الجريمة.»


نظرتُ إلى سقف مكتبي لحظة، ثم قلت: «أعني، يبدو الأمر كأنه عملٌ روائي، أشبه بروايةٍ لقاتل متسلسل، أو لغزٍ من ألغاز أجاثا كريستي.»


اعتدلَتْ قليلًا في جِلستها. «هل تحضُركَ روايةٌ بعينها لأجاثا كريستي؟»


«لسببٍ ما، تحضُرني رواية «جيبٌ مليء بالحبوب». هل كان بها طيور؟»


«لا أعلم. لكن ليست تلك هي الروايةَ التي كنتُ أفكِّر فيها.»


قلتُ: «أعتقد أن ما حدثَ مشابهٌ لرواية «جرائم الأبجدية» أيضًا.»


ابتسمَت العميلة مالفي كما لو أنها قد فازت للتو بجائزة، وقالت: «صحيح. هذه هي الرواية التي أفكِّر فيها.»


«لأنه لا شيء يربط بين الضحايا سوى أسمائهم.»


«بالضبط. وليس هذا فحسب، بل أيضًا الرسائل التي تسلَّمها مركز الشرطة. في الرواية، يتلقَّى بوارو رسائلَ من القاتل مُوقَّعةً باسم أيه، بي، سي.»


«قرأتِ الرواية إذن؟»


«قطعًا، عندما كنتُ في الرابعة عشرة من عمري. لقد قرأتُ جميع روايات أجاثا كريستي تقريبًا، ومن ثمَّ فقد قرأتُ هذه أيضًا على الأرجح.»


قلتُ بعد وقفةٍ وجيزة: «إنها واحدةٌ من أفضل رواياتها.» لم أنسَ قط تلك الحبكةَ الدرامية المميَّزة لرواية كريستي هذه. سلسلة من الجرائم وما يربط بينها جميعًا هو أسماءُ الضحايا. في البداية، يُقتَل شخصٌ الأحرف الأولى من اسمه «إيه إيه» في بلدةٍ يبدأ اسمها بالحرف «إيه»، ثم يُقتَل شخصٌ الأحرف الأولى من اسمه «بي بي» في بلدةٍ يبدأ اسمها بالحرف «بي». لعلك أدركت الفكرة. ويتضح أنَّ كلَّ ما أراده الجاني حقًّا هو قتلُ ضحية بعينها، لكنه جعل الأمر يبدو سلسلةً من الجرائم التي ارتكبها قاتلٌ متسلسل مختل عقليًّا.


قالت العميلة: «هل تعتقد ذلك؟»


«نعم. إنها بالتأكيد واحدةٌ من أفضل حبكاتها.»


«إنني أنوي قراءتها مرةً أخرى، لكنني تصفَّحتُ موقع «ويكيبيديا» لأُذكِّر نفسي بالقصة. وقعَت أيضًا جريمةُ قتل رابعة في الرواية.»


قلت: «أجل، أعتقدُ ذلك. قُتِل شخصٌ آخرُ الحرف الأول من اسمه «دي». واتضح أن القاتل كان يحاول جعْل الأمر يبدو كما لو أن رجلًا مجنونًا هو مَن يرتكب تلك الجرائم كلَّها، بينما كلُّ ما كان يريده طَوال الوقت هو قتلُ شخص بعينه. ومن ثمَّ، لم تكن جرائم القتل الأخرى سوى غطاء في الأساس.»


«هذا ما قاله ملخَّص الرواية على موقع «ويكيبيديا». في الرواية، كان الشخص الذي حروف اسمه الأولى «سي سي» هو الضحيةَ المقصودة طوال الوقت.»


قلتُ: «حسنًا». بدأتُ أتساءل عن السبب الذي دفعها إلى القدوم إليَّ. هل كان هذا فقط لمجرد أنني أمتلك متجرًا لبيع الروايات البوليسية؟ هل كانت في حاجةٍ إلى نسخة من الكتاب؟ لكن إن كان الأمر كذلك، فلماذا سألَت عني بالتحديد على الهاتف؟ إذا كان ما تريده هو مجرد شخص يعمل في متجرٍ لبيع الروايات البوليسية، فكان بإمكانها الدخولُ والتحدُّث إلى أي شخص.


سألتْني: «هل يمكنك أن تخبرني بأي شيءٍ آخرَ عن الكتاب؟» ثم أضافت بعد هُنيهة: «أنت الخبير في الأمر.»


قلتُ: «هل أنا كذلك؟ لستُ بخبير حقًّا، ولكن ما الذي تريدين معرفته؟»


«لا أعلم. أيُّ شيءٍ. كنت آمُل أن تخبرني أنت.»


«حسنًا، بخلاف أنَّ رجلًا غريبًا يأتي إلى المتجر يوميًّا ويبتاع نسخةً جديدة من رواية «جرائم الأبجدية»، فأنا لا أعلم شيئًا آخَر يمكنني إخباركِ به». ارتفعَت عيناها لحظةً قبل أن تُدرك أنني ألقيتُ مزحة، أو حاولتُ إلقاء واحدة، ثم ابتسمَت قليلًا حين أدركَت ذلك. وسألتُها: «هل تعتقدين أن هذه الجرائم مرتبطةٌ بالكتاب؟»


قالت: «بالطبع. إن الأمر خياليٌّ للغاية بحيث لا يمكن أن يحدُث.»


«تعتقدين أنَّ أحدهم يُحاكي الكتبَ لكي يُفلت بجريمة قتل؟ تعتقدين أن شخصًا ما أراد قتْل روبن كالاهان، على سبيل المثال، لكنه قتلَ بعد ذلك الآخرَين ليجعل الأمر يبدو كأنه جريمة قتل لقاتل متسلسل مهووس بالطيور؟»


قالت العميلة مالفي: «ربما»، وفركتْ بإصبَعِها على طول حافة أنفِها لأعلى بالقرب من عينها اليسرى، حتى يداها الصغيرتان كانتا شاحبتَيْن والأظفار غير مَطليَّة. كانت هادئة مجدَّدًا. لقد كانت مقابلةً غريبة، مليئة بوقفاتٍ قصيرة. وكانت تأمُل أنْ أملأَ هذا الصمتَ على ما أعتقد. لكنني قررتُ عدم قول أي شيءٍ.


في النهاية، قالت: «لا بد أنك تتساءل عن سبب قدومي للتحدث معك.»


قلتُ: «فعلًا.»


«قبل أن أخبرك، أودُّ أن أسألك عن قضيةٍ أخرى حديثة.»


«حسنًا.»


«على الأرجح لم تسمع بها. رجلٌ يُدعى بيل مانسو. عُثِر عليه بالقرب من قضبان السكة الحديدية في نورووك بولاية كونيتيكت في الربيع الماضي. لقد كان يسافر بانتظام على متن قطارٍ بعينه، وبدا الأمر في البداية كما لو أنه قفز، لكن يبدو الآن أنه قد قُتِل في مكانٍ آخَر وجُلِب إلى السكة الحديدية.»


أجبتُها وأنا أهزُّ رأسي: «كلَّا، لم أسمع عن ذلك.»


«ألا يُذكِّرك هذا بأي شيء؟»


«ما الذي يُذكِّرني بأي شيءٍ؟»


«طبيعة وفاته.»


قلتُ: «كلَّا»، لكن ذلك لم يكن صحيحًا تمامًا. لقد ذكَّرني بشيءٍ ما، لكنني لم أستطِع تذكُّر ماهيته بالضبط. أضفتُ: «لا أعتقد ذلك.»


انتظرتُ مرةً أخرى، وقُلتُ: «هل تمانعين إخباري بسبب استجوابك إياي؟»


شدَّت سحَّابَ حقيبتِها الجلدية وأخرجت ورقة. «هل تتذكَّر قائمةً كتبتَها لمدوَّنة هذا المتجر، يعود تاريخها إلى عام ٢٠٠٤؟ قائمةً تُدعَى «ثماني جرائم كاملة»؟»


الفصل الثاني


لقد عملتُ في متاجر بيع الكتب منذ تخرُّجي في الكلية عام ١٩٩٩. في البداية، عملتُ مدةً وجيزة في متجر «بوردرز» في وسط مدينة بوسطن، ثم مديرًا مساعدًا ومديرًا أولَ في أحد المتاجر المستقلة القليلة المتبقية في ميدان هارفارد. كانت شركة أمازون قد انتصرَت للتو في حربها لإحراز الهيمنة الكاملة، وكانت معظم فروع متجر «إندي» للكتب تتداعى مثل خيامٍ مهلهلة في وجه إعصار مدمِّر. لكن متجر «ريدلاين» كان صامدًا، ويُعزى ذلك جزئيًّا إلى أنَّ العملاء الأكبر سنًّا لم يكونوا على درايةٍ كافية بعدُ بالتسوُّق عبْر الإنترنت، وفي الغالب أيضًا لأنَّ مالكه، مورت أبرامز، كان يمتلك المبنى الفعليَّ بالكامل المكوَّن من طابقَين الذي يضم المتجر؛ ومن ثمَّ لم يكن مضطرًّا إلى دفع الإيجار. مكثتُ في «ريدلاين» مدةَ خمسة أعوام، عامَين مساعدَ مدير، ثم ثلاثة أعوام مديرًا أولَ ومديرَ مشترياتٍ بدوام جزئي. وكان تخصُّصي هو الأدب الروائي، وعلى وجه الخصوص، أدب الجريمة. خلال المدة التي قضيتُها في المتجر قابلتُ أيضًا زوجتي المستقبلية، كلير مالوري، التي عُيِّنَت بائعةَ كتبٍ هناك بعد مدةٍ وجيزةٍ من ترْكها جامعةَ بوسطن. تزوَّجنا في العام نفسِه الذي فقدَ فيه مورت أبرامز زوجتَه البالغة من العمر خمسة وثلاثين عامًا بسبب سرطان الثدي. أصبح مورت وشارون، اللذان كانا يقطُنان على بُعد شارعَين من متجر بيع الكتب، صديقَيْن حميمَيْن لي، والدَيْن بديلَيْن حقًّا، وكان موت شارون صعبًا، لا سيَّما وأنه سلبَ مورت ما تبقَّى من بهجة الحياة. بعد عام من وفاتها أخبرني أنه سيُغلق المتجر، ما لم أرغب في الاستحواذ عليه لنفسي، وكنتُ أرغب بالطبع في شرائه. فكَّرتُ في الأمر، لكن في تلك المرحلة كانت كلير قد تركَت بالفعل «ريدلاين»، لتعمل في المحطة التلفزيونية المحلية، ومن ثمَّ لم أكن أرغب بضرورة الحال في استغراق الساعات أو تحمُّل المخاطرة المالية بإدارة متجري الخاص. تواصلتُ مع «أُولد ديفيلز»، وهو متجر لبيع الروايات البوليسية في بوسطن، وأوجدَ جون هيلي، المالِك حينذاك، فرصةَ عملٍ لي. أصبحتُ مدير الفعاليات، وتوليتُ إنشاء المحتوى الخاص بمدوَّنة المتجر المزدهرة، بوصفها موقعًا لعُشَّاق الألغاز والروايات البوليسية. كان آخِر يوم لي في «ريدلاين» هو آخِر يوم عملٍ للمتجر أيضًا. أغلقنا أنا ومورت الأبوابَ الأمامية معًا، ثم تبِعتُه عائدَيْن إلى مكتبه، حيث احتسينا شرابَ الشعير من زجاجةٍ مُغبرَّة كان قد أعطاها له روبرت باركر. أتذكَّر ما ظننتُه وقتها بأن مورت دون زوجته والآن دون المتجر، لن يصمد حتى فصل الشتاء. كنتُ مخطئًا. لقد اجتاز الشتاءَ والربيع، لكن الموت تمكَّن منه في صيف العام التالي في منزل البحيرة الخاص به في وينيبساوكي، قبل أسبوع واحد من تخطيطنا أنا وكلير لزيارته. كان «ثماني جرائم كاملة» أولَ مَقال أكتبه لمدوَّنة «أُولد ديفيلز». لقد طلبَ إليَّ رئيسي الجديد، جون هيلي، أن أكتبَ قائمة بالروايات البوليسية المفضَّلة لديَّ، ولكن بدلًا من ذلك تراءت لي فكرةُ كتابة قائمة بجرائم القتل الكاملة في أدب الجريمة. لا أعرفُ بالضبط لِمَ كنتُ مترددًا في مشاركة أسماء كتبي المفضَّلة، لكنني على ما أذكر اعتقدتُ وقتَها أن الكتابة عن جرائم القتل الكاملة قد تُولِّد المزيدَ من الزيارات للمدوَّنة. كان هذا صحيحًا في تلك الأثناء التي كان ينطلق فيها العديد من المدوَّنات، لتجعل مؤلِّفيها أثرياءَ ومشهورين. أذكر أن شخصًا ما أنشأ مدوَّنة حول إعداد إحدى وصفات جوليا تشايلد يوميًّا التي تحوَّلَت إلى كتاب، وربما حتى إلى فيلم سينمائي. أعتقد أنني أُصبت بجنون العظمة حين ظننتُ بأن منصة مدوَّنتي قد تُحوِّلني إلى هاوٍ مشهور وموثوق به في أدب الجريمة. وقد زادت كلير من فرط حماستي بإخباري مِرارًا وتَكرارًا بأنها تعتقد أن هذه المدوَّنة يمكن أن تُحقق نجاحًا ساحقًا حقًّا، وبأنني سوف أحقِّق هدفي بأن أصبح ناقدًا أدبيًّا لقصص الجريمة. الحقيقة أنني أدركتُ هدفي بالفعل، هذا ما ظننتُه على الأقل، وأصبحتُ بائعَ كتبٍ، قانعًا بمئات التفاعلات والفعاليات الصغيرة التي تُشكِّل الحياةَ اليومية لبائع كتب. وكان أكثر ما أحببتُه هو القراءة؛ فقد كانت هذه هي بُغيتي الحقيقية. ومع ذلك، بدأتُ بطريقةٍ ما أرى مقالي «جرائم قتل كاملة» — الذي لم يُكتَب بعد — على أنه أهمُّ مما كان عليه حقًّا. سأمهِّد السبيل أمام المدوَّنة، معلِنًا نفسي للعالَم. أردتُها أن تكون خاليةً من العيوب، ليس فيما يتعلق بالكتابة فحسب، بل القائمة نفسِها. يجب أن تكون الكتب مزيجًا من المعروف والمغمور. ينبغي تمثيلُ العصر الذهبي، ولكن ينبغي أن تتضمَّن أيضًا رواية معاصرة. عملتُ بجِدٍّ أيامًا متتالية، أُعدِّل القائمة، مضيفًا عناوين، ومقتطعًا عناوين، وباحثًا في الكتب التي لم أكن قد قرأتُها بعد. أعتقد أنَّ السببَ الوحيد الذي جعلني أنتهي فعليًّا هو أن جون بدأ يتذمَّر لأنني لم أكن قد نشرتُ أيَّ شيء على المدوَّنة بعد. قال: «إنها مجرَّد مدوَّنة. اكتب قائمةً بالكتب اللعينة وانشرها. فأنت لن تنالَ علاماتٍ عليها.» رُفِعَ المنشور، على نحوٍ مناسب بما فيه الكفاية، في عيد الهالوين. إن قراءته الآن تجعلني أرتعدُ قليلًا. لقد كُتِب المقال بطريقةٍ مُنمَّقة، حتى إنه يبدو رنَّانًا بين أوانٍ وآخرَ. وكان بإمكاني عمليًّا إدراكُ الحاجة إلى الموافقة. وكان هذا ما نُشِر في النهاية: ثماني جرائم كاملة بقلم مالكوم كيرشو في واحدٍ من أعمال المخرِج لورانس كاسدن «حرارة الجسد» عام ١٩٨١، الذي لم يَنل حقَّه في التقدير ويُصنَّف ضمن أفلام «السينما المظلمة الجديدة» (نيو-نوار)، قال تيدي لويس في كلماتٍ خالدة: «في أي وقتٍ تحاول فيه ارتكابَ جريمة مُدبَّرة، لديك خمسون طريقةً للفشل. إذا قدَّرت ٢٥ منها، تكون عبقريًّا … وأنت لست بعبقري.» كلماتٌ صحيحة، غير أنَّ تاريخ الأدب البوليسي مليءٌ بالمجرمين، معظمهم من القتلى أو المسجونين الذين حاولوا جميعًا تحقيقَ شبه المستحيل، وهو: «الجريمة الكاملة». والعديدُ منهم حاول ارتكابَ جريمة مكتملة الأركان، وهي القتل. فيما يلي اختياراتي لجرائم القتل الأشد ذكاءً، والأكثر إبداعًا وإحكامًا (إنْ كان هناك شيءٌ من هذا القبيل) في تاريخ أدب الجريمة. هذه ليست كتبي المفضَّلة في هذا النوع، ولا أدَّعي أنها الأفضل. إنها ببساطةٍ تلك التي يقترب فيها القاتلُ من إدراك ذلك المَثَل الأعلى الأفلاطوني للجريمة الكاملة. ولذا إليكم قائمةً شخصية ﻟ «جرائم قتْل كاملة». وأخبركم مسبقًا أنني حاولتُ قدْر استطاعتي تجنُّبَ حرق الأحداث، ولكنني لم أكن موفَّقًا تمامَ التوفيق. فإذا لم تكن قد قرأت أحدَ هذه الكتب، فإنني أقترح قراءة الكتاب أولًا، وقائمتي ثانيًا. «لغز المنزل الأحمر» (١٩٢٢) بقلم آلان ألكسندر ميلن قبل وقتٍ طويل من ابتكار آلان ألكسندر ميلن لإرثه الدائم — الدُّب ويني، في حال لم تسمعوا به — كان قد كتبَ روايةً واحدة عن جريمة كاملة. إنه لغزُ منزل ريفي، حيث يظهر فجأةً شقيقٌ لمارك أبليت كان قد فُقِد منذ مدة طويلة، مطالِبًا إياه بالمال. ينطلق رصاصُ بندقية في غرفة مغلقة، ويُرْدى الأخُ قتيلًا. ثم يختفي مارك أبليت. هناك بعضُ الأساليب الخداعية غير المعقولة في هذا الكتاب — بما في ذلك شخصياتٌ مُتخفية، وممرٌّ سري — لكن العناصر الجوهرية وراء مخطَّط القاتِل كانت في منتهى البراعة والذكاء. «سبق الإصرار» (١٩٣١) بقلم أنتوني بيركلي كوكس تشتهر بكونها أولَ رواية بوليسية «مقلوبة» (تُكشَف لنا هُوية القاتِل والضحية بدءًا من الصفحات الأولى)، فهي بالأساس دراسةُ حالة حول كيفية قتْل زوجتك بالسُّم والإفلات من العِقاب. ومما ساعد بالطبع أن القاتل طبيبٌ ريفي ولديه إمكانية الوصول إلى أدويةٍ قاتلة. وزوجته التي لا تُطاق ليست سوى ضحيته الأولى؛ لأنه بمجرد أن يرتكب المرءُ جريمةَ قتْل كاملة، يكون الإغراءُ هو أن يُجرِّب جريمةً أخرى. «جرائم الأبجدية» (١٩٣٦) بقلم أجاثا كريستي يُجري المحقِّق بوارو تحرياتٍ عن «رجل مجنون»، يبدو أنه مهووس بالأبجدية، حيث تُقتَل أليس آشر في مدينة أندوفر تليها بيتي برنارد في مدينة بكسهيل. إلى آخرِ ذلك من أحداث. هذا هو المثال النموذجي لإخفاء جريمةِ قتلٍ مع سبق الإصرار بين مجموعةٍ من الأشخاص؛ على أملِ أن يشتبه المحقِّقون في أنه فِعلٌ من ارتكاب شخصٍ مَعتوه. «تعويض مزدوج» (١٩٤٣) بقلم جيمس مالاهان كين هذه هي قصتي المُفضَّلة للكاتِب كين، وذلك غالبًا بسبب النهاية القَدَرية القاتمة. تُنفَّذ جريمةُ القتل ببراعة في منتصف الكتاب، حيث يتآمر وكيلُ تأميناتٍ مع امرأة ذات فتنة لا تُقاوم تُدعَى فيليس نيردلينجر على زوجها. إنها جريمة قتْل مُدبَّرة كلاسيكية؛ يُقتَل الزوج في سيارة ثم يُوضَع على قضبان القطار ليبدوَ كأنه سقط من عربة التدخين في مؤخرة القطار. ينتحل والتر هوف، وكيل التأمين وعشيق الزوجة، شخصية الزوج على متن القطار، لضمان أن الشهود سوف يشهدون على أن الرجل المقتول كان موجودًا على متن القطار. «غريبان على متن قطار» (١٩٥٠) بقلم باتريشيا هايسميث أراها من وجهة نظري أكثرَ قصص الجريمة براعةً وإحكامًا. يُخطِّط رجلان، كلٌّ منهما يريد قتْلَ شخصٍ بعينه، للقتل بالوكالة أحدهما عن الآخر، والتأكُّد من أنَّ كلَيهما لديه حُجَّة غياب في وقت وقوع الجريمة. ويتعذَّر حلُّ جريمتَي القتل نظرًا إلى عدم وجود صلةٍ بين الرجلَين؛ إذ لم يتحدَّثا إلا مدة وجيزة على متن أحد القطارات. من الناحية النظرية، بالطبع. وعلى الرغم من الحبكة الرائعة، ركَّز هايسميث اهتمامَه على أفكار الإكراه والذنب لرجلٍ يفرض إرادته على الآخر. تتَّسم الرواية في نسختها الأخيرة المكتمِلة بأنها رائعةٌ وفاسدة حتى النخاع في آنٍ واحد، مثل معظم أعمال هايسميث. «المُغْرِق» (١٩٦٣) بقلم جون دي ماكدونالد ماكدونالد هو خياري لأستاذ أدب الجريمة في منتصف القرن الذي لم يُقدَّر حقَّ قدْره، ونادرًا ما كان ينغمس في روايات الجريمة. لقد كان مهتمًّا جدًّا بالعقل الإجرامي بحيث لم يتمكَّن من إبقاء شخصياته الشريرة مخفيةً حتى النهاية. ومن ثمَّ، فإن رواية «المُغْرِق» عملٌ جيد وخارج عن المألوف. يبتكر القاتلُ فيه طريقةً لإغراق ضحاياه أو ضحاياها بحيث يبدو الأمر بالضبط حادِثًا. «مصيدة الموت» (١٩٧٨) بقلم إيرا ليفين ليست رواية بالطبع، بل مسرحية، وإن كنت أوصي بشدةٍ بقراءتها، إلى جانب مشاهدة الفيلم الممتاز المُقتبَس عنها الذي عُرِضَ عام ١٩٨٢. سيجعلك هذا الفيلم تغيِّر نظرتك إلى كريستوفر ريف تمامًا. إنه فيلم مسرحي رائع ومُسلٍّ، نجحَ في أن يُطابق العمل الأصلي وأن يكون نسخةً هجائية ساخرة منه في آنٍ واحد. تتَّسم الجريمة الأولى بأنها بارعة في بنائها، بل ومُحكَمة أيضًا في حبكتها، وهي لزوجةٍ تعاني ضَعفًا في القلب. والنوبات القلبية هي وفاةٌ طبيعية، حتى حين لا تكون كذلك. «التاريخ السِّري» (١٩٩٢) بقلم دونا تارت مثل رواية «سبق الإصرار»، لدينا هنا لغزُ جريمة قتلٍ أخرى «مقلوبة»، حيث يَقتل مجموعةٌ صغيرة من طلاب الأدب الكلاسيكي في جامعة نيو إنجلاند؛ طالبًا منهم. تُكشَف لنا هُوية القاتل قبل أن نعرف دوافعه بوقتٍ طويل. تبدو جريمة القتل في ذاتها بسيطةً في تنفيذها؛ حيث يُدفَع بزميلهم المُلقَّب بالأرنب كوركوران إلى وادٍ خلال نزهته المعتادة يوم الأحد. ما يسترعي الانتباه هو شرح قائد تلك المجموعة هنري وينتر للجريمة؛ أنهم «يسمحون للأرنب كوركوران باختيار مُلابسات وفاته بنفسه». إنهم ليسوا متأكِّدين حتى من المسار المُخطَّط أن يسلكه في هذا اليوم، ولكنهم ينتظرون في بقعةٍ محتملة، حيث يرغبون في أن تبدوَ وفاته عَرَضيَّة، غير مُفتعَلة. ويلي ذلك إحساسُهم المروِّع بالندم والذنب. في الحقيقة، لم يكن جمْع عناصر هذه القائمة بالأمر اليسير. اعتقدتُ أنه سيكون من الأسهل الإتيانُ بأمثلةٍ على جرائم قتل كاملة في أدب الجريمة، لكن الأمر لم يكن كذلك. ولهذا السبب أدرجتُ «مصيدة الموت»، على الرغم من أنها مسرحية وليست رواية. وفي الواقع، لم يسبق لي أن قرأتُ نص إيرا ليفين الأصليَّ أو حتى شاهدتُه على خشبة المسرح. لقد كنتُ معجبًا بالفيلم فحسب. وبالنظر مجددًا إلى القائمة الآن، من الواضح أن «المُغْرِق»، وهو كتاب أحبُّه حقًّا، لا ينتمي إلى هنا تمامًا. تتربَّص القاتلة في قاع بحيرة ومعها أسطوانة أكسجين، ثم تسحب ضحيَّتها إلى الأعماق. إنها فكرةٌ مثيرة للاهتمام، لكنها مستبعَدة للغاية، ومن الصعب أن تكون محبوكة. فكيف تعرف المكان الذي عليها الانتظارُ فيه؟ وماذا لو تصادف وجود شخصٍ آخر في البحيرة؟ أتصوَّرُ أنَّ الجريمة بمجرد تنفيذها ستبدو حادثةً، لكنني أعتقدُ أنني أدرَجتُ الكتابَ من منطلَق حُبي الشديد لجون دي ماكدونالد فحسب. وأظن أنني أردتُ أيضًا شيئًا مغمورًا بعضَ الشيء، شيئًا لم يُحوَّل إلى فيلم سينمائي. بعد أن نشرتَ المقال، أخبرتني كلير أنها أحبَّت المقالَ ومحتواه، كما أنَّ رئيسي جون اطمأنَّ بالُه أخيرًا؛ لأن المُدوَّنة قد انطلقَت. انتظرتُ ظهورَ التعليقات، ورحتُ أتخيَّل أوقاتًا وجيزة أنَّ مقالي بدأ في إثارة الضجة على شبكة الإنترنت، وأنَّ قرَّاء المُدوَّنة دخلوا في نقاشٍ ليتجادلوا حول جرائم القتل المُفضَّلة لديهم. سوف تتصل بي شبكةُ الإذاعة الوطنية العامة في الولايات المتحدة، وتطلب مني الحضورَ في لقاءٍ على الهواء لمناقشة هذا الموضوع. وما حدثَ في النهاية أن مقالَ المُدوَّنة حصَل على تعليقَيْن فحسب. الأولُ جاء من سوسنودن التي كتبَت: «واو! الآن لديَّ الكثير من الكتب الجديدة لإضافتها إلى مجموعتي!» والثاني من ففوليوت١٢٣ الذي كتبَ: «أيُّ شخص يكتب قائمةً بجرائمِ قتلٍ كاملة لا تتضمَّن ولو عملًا واحدًا على الأقل لجون ديكسون كار هو بالتأكيد شخصٌ لا يعرف شيئًا عن أي شيء.» الفكرة في أعمال جون ديكسون كار أنني لا أستطيع الخوضَ في كتبه فحسب، ولو أنَّ صاحبَ التعليق محقٌّ على الأرجح في انتقاده لغياب كتاباته من قائمتي. تخصَّص كار في ألغاز جرائم الغرفة المغلَقة؛ أي الجرائم المستحيلة. يبدو الأمر سخيفًا الآن؛ ربما لأنني اتفقتُ معه إلى حدٍّ ما، ولكنني انزعجتُ من رأيه وقتَها. بل فكرتُ أيضًا في مشاركة منشورٍ للرد عليه … ربما شيء من قبيل «ثماني جرائم أكثر اكتمالًا». ولكن بدلًا من ذلك، كان منشوري التالي عبارةً عن قائمة بالروايات البوليسية المُفضَّلة لديَّ من العام السابق، وكتبتُ كلَّ شيءٍ في غضون ساعة تقريبًا. اكتشفتُ أيضًا كيفيةَ ربط عناوين الكتب بمتجرنا عبْر الإنترنت؛ ولهذا، كان جون ممتَنًّا للغاية. لقد قال: «ما نحاوله هنا هو بيعُ الكتب فحسب، يا مَال، وليس إثارةَ الجدل».


الفصل الثالث


كانت العميلة مالفي تحمل ورقةً مطبوعة. أخذتُها منها، ألقيتُ نظرةً خاطفة على القائمة التي كنت قد كتبتُها، ثم قلت: «أتذكَّر هذه، لكنها كانت منذ وقتٍ طويل.» «هل تتذكَّر الكتبَ التي اخترتها؟» ألقيتُ نظرةً خاطفة على النُّسخة المطبوعة مرةً أخرى، وانتقلَت عيناي على الفور إلى «تعويض مزدوج»، وفجأةً عرفتُ سببَ وجودها هنا. قلت: «أوه، الرجل الذي وُجد على قضبان السكة الحديدية. هل تعتقدين أن ذلك مبنيٌّ على «تعويض مزدوج؟»». «أظنُ أنه قد يكون كذلك، بالتأكيد. لقد كان مسافرًا منتظمًا. ومع أنه قُتِل في مكانٍ آخر، فقد دُبِّر الأمرُ ليبدوَ كأنه قفزَ من القطار. عندما سمعتُ بذلك، رُحتُ أفكِّر على الفور في «تعويض مزدوج». الفيلم على أي حال. فأنا لم أقرأ الكتاب.» قلتُ: «وأنتِ قادمة إليَّ لأنني قرأتُ الكتاب؟» أجفلتْ سريعًا، ثم هَزَّت رأسَها. «كلَّا، أنا قادمةٌ إليك لأنني عندما أدركتُ أن هذه الجريمة ربما كانت محاكاةً لفيلم أو كتاب، أجريتُ بحثًا على «جوجل» تضمَّن كلًّا من «تعويض مزدوج» و«جرائم الأبجدية». ومن هنا عثرتُ على قائمتك.» كانت تُطالعني بترقُّب، مُحدِّقة إلى عينيَّ، وشعرتُ أن عينيَّ تزوغان بعيدًا عن عينيها، سابحةً في امتداد جبينها الواسع، وحاجبَيْها غيرِ المرئيَّين تقريبًا. قلتُ «هل أنا مشتبَهٌ به؟» ثم ضحكت. اتَّكأتْ إلى الخلف قليلًا في مقعدها. «إنك لستَ مشتبهًا به رسميًّا، كلَّا. إذا كان الأمر كذلك، فلن أكون وحدي هنا لاستجوابك. لكنني أحقِّق في احتمال أن تكون كلُّ هذه الجرائم قد ارتكبَها الجاني نفسُه، وأنَّ هذا الجانيَ يُحاكي الجرائمَ من قائمتك عن عَمْدٍ.» «لا يمكن أن تكون قائمتي هي القائمة الوحيدة التي تتضمَّن كلًّا من «تعويض مزدوج» و«جرائم الأبجدية»؟» «لِأصدُقك القول، إنها كذلك إلى حدٍّ كبير. حسنًا، إنَّ قائمتك هي أقصرُ قائمة تحتوي على كليهما. كان الكتابان مُدرجَيْن معًا في قوائمَ أخرى، لكن تلك القوائم كانت أطولَ بكثير، على شاكلة «مئات الألغاز التي يتعيَّن عليك قراءتها قبل أن تموت»، شيءٌ من هذا القبيل، لكن قائمتك استرعَت الانتباه. إنها عن ارتكاب الجريمة الكاملة. ذُكِرَت ثمانية كتب. إنك تعمل في متجر لبيع كتب الغموض والألغاز في بوسطن. كلُّ الجرائم قد وقعَت في نيو إنجلاند. انظر، أعلمُ أنها مصادفةٌ على الأرجح، لكنني اعتقدتُ أن الأمر يستحقُّ المتابعة.» «أتفهَّم أنه من الواضح بعضَ الشيء أن شخصًا ما يقلِّد «جرائم الأبجدية»، لكن ماذا عن العثور على جثةٍ بالقرب من قضبان السكة الحديدية؟ إنَّ القول بأن الجريمة مقتبَسة من «تعويض مزدوج» يبدو مبالغًا فيه بعضَ الشيء.» «هل تتذكَّر الكتابَ جيدًا؟» «بالطبع. إنه أحدُ الكتب المفضَّلة لديَّ». كان ذلك صحيحًا. لقد قرأتُ رواية «تعويض مزدوج» في سن الثالثة عشرة تقريبًا وكنتُ مُولَعًا بها للغاية لدرجةِ أنني بحثتُ عن نسخة الفيلم الذي أدَّى البطولة فيه كلٌّ من فريد مكموري وباربرا ستانويك، والذي أُنتِج عام ١٩٤٤. هذا الفيلم أسقطني في دوامةٍ من أفلام «السينما المظلِمة الجديدة» (نيو-نوار)؛ فقد أمضيتُ سنوات مراهقتي في البحث عن متاجر الفيديو التي تُخزِّن أفلامًا كلاسيكية. ومن بين جميع أفلام النيو-نوار التي شاهدتُها بسبب «تعويض مزدوج»، لم يتمكَّن أيٌّ منها من التفوق على تجربة المشاهدة الأولى. أظن أحيانًا أن موسيقى الفيلم التصويرية لميكلوس روزا أصبحت محفورةً في ذاكرتي للأبد. «في اليوم الذي عُثِر فيه على جثةِ بيل مانسو على القُضبان، كانت إحدى نوافذ الطوارئ في القطار قد وُجِدَت مفتوحة، بالقرب من مكان العثور على الجثة.» «إذن، هل من الممكن أن يكون قد قفزَ حقًّا؟» «مستحيل. لقد توصَّل ضباط مسرح الجريمة الى أنه قُتِل في مكانٍ آخر واقتِيد إلى القضبان. وأكَّد الطبيبُ الشرعي أنه قضى نحْبَه نتيجةَ إصابة قوية وحادة في الرأس، على الأرجح من جَرَّاء سلاحٍ من نوعٍ ما.» قلت: «حسنًا.» «ذلك يعني أن شخصًا ما، على الأرجح الشخص الذي قتله، أو أحد شركائه، كان على متن القطار، وحطَّم نافذةَ الطوارئ ليجعل الأمرَ يبدو كأنه قفَز.» لأول مرة منذ أن بدأنا الحديث، أشعر في نفسي بشيءٍ من التوجُّس. في الكتاب وفي الفيلم أيضًا، يقع وكيل تأمين في حبِّ زوجة مدير تنفيذي بإحدى شركات النفط، ويُخطِّطان معًا لقتله. لا يقومان بهذا من أجل نفسيهما فقط، بل طمعًا في المال أيضًا. يُزيِّف وكيلُ التأمين والتر هوف، وثيقةَ تأمين ضد الحوادث على حياة نيردلينجر، الرجل الذي يُخطِّطان لقتله. وتتضمَّن الوثيقة شرطَ «تعويض مزدوج» حيث يُضاعَف مبلغُ التعويض في حالة حدوث الوفاة على متن قطار. يكسِر والتر وفيليس، وهي الزوجة الخائنة، عنقَ الزوج في سيارة، ثم يتظاهر والتر بأنه نيردلينجر، ويصعد هو نفسُه إلى القطار. يضع جبيرةً مُزيَّفة على ساقه، ويستخدم عكازَيْن؛ نظرًا إلى أن نيردلينجر الحقيقي كان قد كُسِرت ساقُه مؤخرًا. يعتقد أن الجبيرة مثالية لأن الركَّاب الآخَرين سوف يتذكَّرون رؤيته، ولكن ليس بالضرورة أن يتذكَّروا رؤيةَ وجهه. يذهب إلى عربة التدخين في مؤخرة القطار، ويقفز منها. ثم يترك والتر وفيليس الرجلَ الميت على القضبان، ليبدوَ الأمرُ كما لو أنه سقط. قلت: «إذن، ما تقولينه هو أنَّ الجريمة نُفِّذَت حتمًا بحيث تبدو مثل جريمة القتل في رواية «تعويض مزدوج»؟» أجابت: «هو كذلك، وإنْ كنت الوحيدة المقتنِعة بوجود صلة.» سألتُ: «كيف كان هؤلاء الأشخاص؟ الأشخاص الذين قُتلوا.» ألقَت العميلة مالفي نظرةً خاطفة على السقف المنخفض للغرفة الخلفية للمتجر، ثم قالت: «حسب عِلمنا، لا توجد طريقةٌ للربط بينهما، بالإضافة إلى حقيقةِ أن جميع الوَفَيات حدثَت في نيو إنجلاند، وبالإضافة إلى حقيقةِ أنها تكاد تبدو جرائمَ قتلٍ مُقلَّدة من مصادرَ أدبية.» قلت: «من قائمتي.» «صحيح. قائمتُك رابطٌ مُحتمل. ولكنْ هناك رابطٌ آخر … إنه ليس رابطًا حقًّا، بل أشبهُ بشعور داخلي من جانبي، بأنَّ جميع الضحايا … لم يكونوا أشرارًا تمامًا، لكنهم لم يكونوا أخيارًا. إنني لستُ متأكِّدة من أن أيًّا منهم كان محبوبًا حقًّا.» فكَّرتُ لحظة. كان الظلامُ يزداد في الغرفة الخلفية لمتجر الكتب، وتفقَّدتُ ساعتي على نحوٍ غريزي، لكن الوقت كان لا يزال في بدايةِ ما بعد الظهيرة. نظرتُ إلى الخلف نحو المخزن، حيث تُطل نافذتان على الزقاق الخلفي. كان الثلجُ قد بدأ يتراكم في كلٍّ منهما، وكان الجزء الخارجي الذي أمكنني رؤيته من خلال النوافذ مظلمًا كالغسَق. أشعلتُ مصباحَ مكتبي. واصَلَت حديثَها قائلةً: «على سبيل المثال، كان بيل مانسو سمسارَ استثمارٍ مُطلَّقًا. قال المحقِّقون الذين أجْرَوا استجوابًا مع أطفاله البالغين إنهم لم يرَوه منذ أكثرَ من عامَين، وإنه لم يكن من النوع الأبوي تمامًا. كان من الواضح أنهم لا يحبُّونه. وروبن كالاهان، كما قرأت على الأرجح، كانت مثيرةً للجدل إلى حدٍّ كبير.» قلتُ: «ذَكِّريني.» «أعتقدُ أنها أنهتْ زيجةَ أحد زملائها في العمل قبل عدة سنوات. وبعد ذلك، أنهت زيجتَها الخاصة. ثم ألَّفَت كتابًا ضد الزواج الأحادي، كان هذا منذ مدة. الكثيرُ من الناس لا يُحبونها. إذا بحثتَ عن اسمها في جوجل …» قلتُ: «حسنًا …» «صحيح. الجميعُ لديه أعداءٌ الآن. ولكن لأجيبَ عن سؤالكِ، أعتقدُ أنه من المُحتمل أنَّ كلَّ مَن قُتِل حتى الآن لم يكن بالشخص الجيد جدًّا.» قلتُ: «أتعتقدين أنَّ شخصًا ما قرأ القائمة التي أعددتُها بجرائم القتل، ثم قرَّر أن يُحاكيَ ما بها من أساليبَ وطُرق؟ وأراد التأكُّد من أن الأشخاص الذين يقتلهم يستحقُّون الموتَ بطريقةٍ ما؟ هل هذه نظريتُكِ؟» زمَّتْ شفتَيها، مما زادهما شحوبًا أكثرَ من ذي قبل، ثم قالت: «أعلمُ أنَّ الأمرَ يبدو سخيفًا …» «أو أنكِ تظنين أنني كتبتُ هذه القائمة، ثم بعد ذلك قررتُ أن أجرِّب جرائمَ القتل بنفسي؟» قالت: «هذا سخيفٌ على حَدٍّ سواء. أعلمُ أنه كذلك. ولكنه مُستبعَد أيضًا، أليس كذلك، أن يُحاكي شخصٌ ما حبكةً من رواية أجاثا كريستي، وفي الوقت نفسه يُدبِّر شخصٌ جريمةَ قتل على متن قطار من …» قلتُ: «مِن رواية جيمس كاين.» قالت: «بالضبط». كان لمصباح مكتبي لمبةٌ صفراء اللَّون، وقد بَدتْ هي في وهْجها كما لو أنها لم تَنَمْ منذ ثلاثة أيام تقريبًا. سألتُها: «متى توصلتِ إلى وجودِ صلةٍ بين هذه الجرائم؟» «أتعني متى وجدتُ قائمتك؟» «أعني هذا. أجل.» «أمس. كنتُ قد طلبتُ جميعَ الكتب بالفعل، وقرأتُ كلَّ ملخصاتِ حبكاتها، ولكني قررتُ بعدها أن آتيَ إليك مباشرةً. كنتُ آمُل أن يكون لديك بعضُ البصيرة، لعلك تتمكَّن من إيجاد علاقة أو صلةٍ بين بعض الجرائم الأخيرة التي لم تُحلَّ وقائمتِك. أعلمُ أنه احتمالٌ بعيد …» كنتُ أنظر إلى النسخة المطبوعة التي أعطتها لي، مذكِّرًا نفسي بالكتب الثمانية التي اخترتُها. قلت: «بعض هؤلاء، لا يمكنكِ محاكاةُ جرائم القتل المذكورة فيها بحذافيرها. أو يمكنكِ ذلك، لكن سيكون من الصعب اكتشافُها.» قالت: «ماذا تقصد؟» تفحَّصتُ القائمة. «مصيدة الموت، مسرحية إيرا ليفين. هل تعرفينها؟» «أجل، لكن ذكِّرني.» «الطريقة التي تُقتَل بها الزوجة هي إخافتها حتى الموت؛ ومن ثمَّ تعرُّضها لنوبةٍ قلبية. دبَّرَ الزوجُ وصديقُه كلَّ هذا. إنها جريمةُ قتل كاملة، بالطبع؛ لأنه لا يمكنك أبدًا إثبات أن شخصًا أُصِيبَ بنوبة قلبية قد قُتِل فعليًّا. لكن لنفترض أنَّ شخصًا ما أراد محاكاةَ تلك الجريمة. بادئَ بَدْء، من الصعب جدًّا أن تصيبَ شخصًا بنوبةٍ قلبية، والأصعب أن تكتشفَها. لا أفترضُ أنكَ وجدتَ ضحيةً مشتبَهًا في وفاتها بنوبة قلبية، أليس كذلك؟» قالت: «بل وجدتُ في واقع الأمر»، وللمرة الأولى منذ وصولها إلى المتجر، أرى بصيصًا من الرضا عن النفس في عينَيْها. كانت مؤمنة حقًّا أنها في سبيلها إلى اكتشاف شيءٍ ما. واصَلَت: «لا أعرفُ الكثيرَ عن ذلك، لكن كانت هناك امرأةٌ تُدعَى إلين جونسون من روكلاند بولاية مين، تُوفِّيَت بنوبة قلبية في منزلها في سبتمبر الماضي. كانت تعاني مرضًا في القلب، ومن ثمَّ بدا الأمر وكأنه وفاةٌ طبيعية، لكن كانت هناك علاماتٌ تدُل على اقتحام منزلها.» فركتُ شحمة أذني. وسألتُها: «مثل عملية سطو؟» «هذا ما قرَّرَته الشرطة. اقتحم شخصٌ ما منزلها لسرقته أو للاعتداء عليها، لكنها أُصيبت بنوبة قلبية بمجرد أن رأت مقتحِم المنزل. ومن ثمَّ، فَرَّ هاربًا.» «ولم يُؤخذ شيءٌ من المنزل؟» «صحيح. لم يُؤخذ شيءٌ من المنزل.» قلت: «لا أعرف.» قالت وهي تتحرَّك قليلًا إلى الأمام في كرسيها: «فكِّر في الأمر، رغم ذلك. لنفترض أنك أردتَ قتل شخصٍ ما بالتسبُّب في إصابته بنوبةٍ قلبية. بادئ ذي بدء، سوف تختار ضحيةً تعاني نوباتٍ قلبية بالفعل، وفي هذه الحادثة، كانت إلين جونسون. وبعدها سوف تتسلَّل إلى داخل منزلها، حيث تعيش بمفردها، مرتديًا قناعًا مرعبًا إلى حدٍّ ما، وتنقضُّ عليها من خِزانةٍ ما. وبعدها تسقط هي جثةً هامدة، وتكون أنت قد ارتكبتَ جريمةَ قتل مماثلة تمامًا لِما ورد في كتابك.» «وإذا لم ينجح ذلك؟» «حينئذٍ ينسحب القاتل خارجًا من المنزل، ولا يمكنها التعرُّف عليه.» «لكنها ستُبلغ عن ذلك؟» «بالطبع.» «هل أبلغ أيُّ شخص عن تعرُّضه لشيءٍ من هذا القبيل؟» «كلَّا، على الأقل ليس على حدِّ علمي. لكن هذا لا يعني سوى أن الخطة قد نجحَت من أول مرة.» قلت: «حسنًا.» ظلت صامتةً لحظة. وتناهى إلى سمعي صوتُ التكتكة الذي يعني أن نيرو كان قادمًا نحونا على طول الأرضية الخشبية الصلبة. استدارت العميلة مالفي التي سمِعتها أيضًا، ونظرَت إلى قِطِّ المتجر. سمحت له بأن يتشمَّم يدها ثم خلَّلَت أصابعها في رأسه على نحوٍ ينمُّ عن خبرتها بذلك. خرَّ نيرو جالسًا في الأرض وانقلبَ على جانبه، وهو يُخرخر. قلت: «لا بد أنَّ لديك قططًا؟» «اثنان. أيذهب معك إلى المنزل أم يبقى في المتجر فحسب؟» «بل يبقى هنا فحسب. الكون كلُّه بالنسبة إليه عبارةٌ عن غرفتَين محفوفتَين بالكتب ومجموعةٍ من الغرباء، القليل منهم يُطعمه.» قالت: «تبدو حياةً جيدة.» «أعتقد أنه على ما يُرام. نصف الناس الذين يأتون إلى هنا يحضُرون فقط لرؤيته.» وقفَ نيرو مرةً أخرى، ممدِّدًا ساقَيه الخلفيتَين، واحدةً تلو الأخرى، وسار عائدًا باتجاه واجهة المتجر. قلت: «إذن، ما الذي تُريدينه مني؟» «حسنًا، إذا كان شخصٌ ما يسترشد بقائمتك حقًّا في ارتكاب جرائم قتل، فأنت الخبير بالأمر إذن.» «ولكني لا أعرفُ شيئًا عن ذلك.» «أعني، أنت الخبير في الكتب الموجودة في قائمتك. إنها كتبك المُفضَّلة.» قلت: «أعتقد هذا. لقد كتبتُ هذه القائمة منذ وقتٍ طويل، وبعض هذه الكتب أعرفُها أفضلَ بكثيرٍ من غيرها.» «ومع ذلك، لن تضرَّ معرفةُ رأيك في شيء. كنت آمُل أن تنظر في بعض القضايا التي جمعتُها، قائمة بجرائم القتل التي لم تُحلَّ في منطقة نيو إنجلاند على مدار السنوات القليلة الماضية. لقد رتَّبتُها معًا على عجلٍ الليلة الماضية، مجرد ملخَّصات، في واقع الأمر.» ثم راحت تسحب حُزمةَ أوراق مُدبَّسة معًا من حقيبتها، «وكنتُ أتمنَّى أن تطَّلع عليها، أخبرني إذا كان أيٌّ منها قد يبدو أنَّ له علاقةً بالكتب الموجودة في قائمتك.» قلت، وأنا آخُذ الأوراق منها: «بالتأكيد. هل هذه … سرية أيضًا؟» «معظم المعلومات التي أوجزتُها هي معلوماتٌ متداوَلة. إذا استرعَت إحدى هذه الجرائم انتباهَك كاحتمالٍ وارد، فسوف أُلقي نظرةً فاحصة. إنني هنا كمن يُنقِّب صدقًا عن إبرة وسط كومة من القَشِّ. لقد تصفَّحتُها بالفعل. الأمر فقط أنه، بما أنك قد قرأت الكتب …» قلت: «سأحتاج أيضًا إلى إعادة قراءة بعض الكتب أيضًا.» استوت في جِلستها قليلًا وارتسمَت على وجهها نصفُ ابتسامة، ثم قالت: «إذن سوف تُساعدني». كانت شَفتُها العليا قصيرة، وكان بمقدوري رؤية لثَتِها عندما فتحت فمَها. قلت: «سأحاول.» «شكرًا لك. وهناك شيءٌ آخر. لقد طلبتُ جميع الكتب، ولكن إذا كان لديك أيُّ نسخ هنا، فسوف يمكنني البدء أسرع في تفقُّدها.» تفقَّدت قائمة الجرد على الكمبيوتر؛ فعلمتُ منها أن لدينا عدةَ نسخ لكلٍّ من «تعويض مزدوج» و«جرائم الأبجدية» و«التاريخ السري»، بالإضافة إلى نسخة واحدة من «لغز المنزل الأحمر». كان لدينا أيضًا نسخةٌ واحدة من «غريبان على متن قطار»، لكنها كانت طبعةً أولى منذ عام ١٩٥٠ وفي حالة ممتازة وتُقدَّر ﺑ ١٠ آلاف دولار على الأقل. كانت لدينا خِزانةٌ مقفلة بالقرب من طاولة الدفع تحوي كلَّ كتبنا التي يبلغ سعرها خمسين دولارًا أو أكثر، لكنها لم تكن موضوعة هناك. بل كانت في مكتبي، في خِزانة زجاجية مقفلة أيضًا، حيث أضع طبعاتِ الكتب التي لم أكن مستعدًّا تمامًا للتخلِّي عنها بعد. كان بداخلي نزعةُ جامعِ كتب، وهي ليست بالضرورة شيئًا جيدًا بالنسبة إلى شخصٍ يعمل في متجر لبيع الكتب، وكذلك لشخص تمتلئ رفوف الكتب في الغرفة العُلِّيَّة التي يقطُنها عن آخرها. كدتُ أُخبر العميلةَ مالفي أننا لا يوجد لدينا كتاب هايسميث لكنني قررتُ ألا أكذب، على الأقل ليس بشأن شيءٍ تافه، على عميلة في مكتب التحقيقات الفيدرالي. أخبرتُها بقيمة الكتاب، وقالت إنها سوف تنتظر وصولَ نسختها الورقية. هكذا يتبقى «المُغْرِق»، التي توجد حتمًا لديَّ في المنزل، و«سبق الإصرار»، التي اعتقدتُ أنها ربما توجد أيضًا لديَّ في المنزل. لم يكن لديَّ بالتأكيد نسخةٌ من سيناريو مسرحية «مصيدة الموت»، سواءٌ هنا في المتجر أو في المنزل، لكنني كنت أعرف بأنها موجودة. أخبرتُ العميلة بكل هذا. قالت: «لا أستطيع قراءةَ ثمانية كتب في ليلةٍ واحدة، على أي حال.» «هل ستعودين إلى …» «سوف أمكُث بالقرب من هنا الليلة، في فندق «فلات أوف ذا هيل». كنت أتمنى بعد أن تطَّلع على القائمة، ربما في الصباح … أن نتمكَّن من اللقاء مرة أخرى، فلتنظر ماذا ترى.» قلت: «بالطبع. لا أعرف ما إذا كنت سأفتح المتجرَ غدًا، ليس إذا كان الطقس …» «يمكنك القدوم إلى الفندق. سيدفع مكتب التحقيقات الفيدرالي نظيرَ وجبة إفطارك.» قلت: «يبدو هذا رائعًا.» عند الباب الأمامي، قالت العميلة مالفي إنها ستدفع ثَمن الكتب التي سوف تأخذها معها إلى المنزل. قلت: «لا تقلقي بشأن هذا. يمكنك إعادتها إليَّ عندما تنتهين.» قالت: «شكرًا لك.» ما إن فتحت البابَ حتى سَرَت هبَّةُ ريح على طول شارع بيري. كانت الثلوج تتراكم، وتسبَّبَت الريحُ في حدوث انجرافاتٍ، طمسَت جميعَ الزوايا الحادة لشارع المدينة. قلت: «توخَّي الحذرَ في الخارج.» قالت: «إنه ليس بعيدًا». وأضافت، مؤكِّدةً موعدَ لقائنا على الإفطار: «سأنتظرك غدًا في تمام العاشرة، حسنًا؟» قلت: «حسنًا»، ووقفتُ في المدخل، أراقبُها وهي تختفي في الثلوج التي تكتنفُ أرجاء المكان.


الفصل الرابع


عشتُ بمفردي على الجانب الآخر من شارع تشارلز، أعلى التل في غرفةٍ عليَّة من الحجر الرملي البُني استأجرتُها من سيدةٍ تسعينية من براهمة بوسطن ونُخبتها، لم تكن لديها أيُّ فكرة عن القيمة الفعلية لمِلكيَّتها العقارية. دفعتُ إيجارًا زهيدًا للغاية، وتوجَّستُ بدافعٍ من الأنانية بشأن اليوم الذي ستموت فيه صاحبةُ الغرفة وتنتقل ملكيتها إلى أحد أبنائها الأكثر فطنةً من الناحية المالية. عادةً ما يستغرق الأمر أقلَّ من عشر دقائق للوصول من المتجر إلى غرفتي، لكنني كنت أسيرُ في مواجهة العاصفة مرتديًا زوجَين من الأحذية ذَوَي نعلَين مهترئَين. لسعَ الثلجُ وجهي، وأخذَت الرياح تعقِفُ الأشجار وهي تدوي في الشوارع الخالية. وعند بلوغ شارع تشارلز، فكَّرتُ في التحقُّق مما إذا كان متجر «سفنز» مفتوحًا لتناول مشروب، لكنني قررتُ الدخولَ إلى متجر الجُبن والنبيذ بدلًا من ذلك، حيث ابتعتُ لنفسي ستَّ عبواتٍ من الجِعَة من نوع «أولد سبيكلد هن» وشطيرةً من خبز الباجيت الجاهزِ محشوةً بلحم الخنزير والجبن لتناولها على العشاء. كنت أخطِّط لطهي شريحةِ لحم الخنزير التي كنت قد أخرجتُها لإذابة تجميدها في ذلك الصباح، لكنني كنت متشوقًا لقراءة قائمة العميلة مالفي في تلك الليلة. في البناية حيث توجد الغرفة التي أقطُن بها، صعدتُ الدرجات المؤدية إلى الباب الأمامي الثقيل، المصنوع من خشب الجوز والذي له مقابضُ مصنوعة من الحديد الزهر، ولم يكن قد جُرف الثلج عنها بعد. سمحتُ لنفسي بالدخول بعد أن تخلَّصتُ من الثلجِ العالقِ بحذائي. كانت مستأجِرة أخرى، على الأرجح ماري-آن، قد فرزَت البريدَ بالفعل وتركَته على الطاولة الجانبية في الرَّدهة. التقطتُ استمارات بطاقتي الائتمانية الرطبة بينما تساقطت مني قطراتُ الماء على الأرضية المُبلَّطة المُتصدِّعة، ثم تسلقتُ ثلاث درجاتٍ من السُّلَّم صاعدًا إلى مكان العليَّة المُعدَّل. وكما هو الحال دائمًا خلال أشهر الشتاء، كانت الحرارة خانقة داخل المكان. خلعتُ معطفي وسُترتي، ثم فتحتُ كلتا النافذتَين لديَّ؛ حيث توجد نافذتان على جانبَي الجدارَين المائلَين، تكفيان لأن يسريَ الهواءُ البارد إلى الداخل. وضعتُ خَمسًا من عُبوات الجِعة في ثلاجتي وفتحتُ السادسة. على الرغم من أن شقتي كانت عبارةً عن شقةٍ استوديو صغيرة، كانت بها مساحةٌ كافية لغرفة معيشة مُعيَّنة الحدود بوضوح، وتمددتُ على الأريكة، ثم رفعتُ قدمَي فوق طاولة القهوة، وشرَعتُ أقرأ قائمة العميلة مالفي. كانت مرتَّبة ترتيبًا زمنيًّا، وكل إدخال فيها منَّسقٌ بالطريقة نفسِها، موضحٌ في رأسية الصفحة كلًّا من التاريخ والموقع واسم الضحية. ومع أنها ملخصٌ مُجمل، كُتب على عجلٍ في آخرِ لحظة، إلا أنها صِيغت في جملٍ كاملة، وتُماثل في أسلوبها الكتابةَ الصحفية النموذجية. على الأرجح لم تحصُل العميلة مالفي على تقديرٍ أقلَّ من ممتاز في مسيرتها الأكاديمية بأكملها. تساءلتُ ما الذي جذبها إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي. لقد بدَت شخصًا أكثرَ مواءمةً للأوساط الأكاديمية، ربما أستاذة لغة إنجليزية، أو باحثة. ذكَّرَتني قليلًا بإيميلي بارساميان؛ وهي موظفة لديَّ مُولعة للغاية بالكتب ومُطالَعتها، ولا تستطيع النظرَ في عينيَّ عندما نتحدَّث. لم تكن العميلة مالفي على هذا القدْر من الارتباك، ربما يُعزى الأمر فقط إلى كون إيميلي شابةً وعديمةَ الخبرة. كان من المستحيل بالنسبة إليَّ ألا أفكِّر في كلاريس ستارلينج (اسم طائر آخر) من فيلم «صمت الحُملان» (ذا سايلنس أوف ذا لامس). هذا تقريبًا ما يتبادر إليه ذهني دائمًا، الكتب والأفلام. هكذا هو الأمر منذ أن بدأت القراءة أولَ مرة. وبدت مالفي، مثل نظيرتها الخيالية، وديعةً للغاية بالنسبة إلى الوظيفة التي تَشغلها. كان من الصعب تخيُّلها تسحب سلاحًا من جَعبته وتلوِّح به، أو تستجوب مُشتبهًا به بضراوةٍ وحَزم. «ومع ذلك، فقد استجوبَت أحدَ المُشتبَه بهم بالفعل. لقد استجوبَتك أنت!» طردتُ تلك الفكرةَ بالذات من رأسي، واحتسيتُ بعضَ البيرة، ونظرتُ إلى قائمتها متفحِّصًا البنود المُدرجة قبل أن أعكفَ على قراءة التفاصيل. عرَفتُ على الفور أنه لم يكن يوجد الكثير هنا؛ على الأقل لم يجذب انتباهي شيءٌ بعينه. العديدُ من جرائم القتل كانت جرائمَ سلاح. ومعظمها لشباب في مدن. بدا أحدُ ضحايا عنف السلاح احتمالًا واردًا، ولكن لم يوجد كثيرٌ من التفاصيل في الوصف. قُتل رجلٌ يُدعى دانيال جونزاليس رميًا بالرصاص أثناء تمشية كلبه في منطقة ميدلسكس فيلز. حدث ذلك في وقتٍ مبكِّر من صباح أحد الأيام في سبتمبر الماضي، وقد دوَّنَت العميلةُ مالفي ملاحظةً بعدم كفاية الأدلة حاليًّا في هذه القضية. كان السببُ الوحيد الذي جذب انتباهي إلى تلك القضية بالذات هو جريمة القتل في رواية «التاريخ السري». حيث يُقرِّر قتلةٌ في سنِّ الدراسة الجامعية في رواية «التاريخ السري» لدونا تارت ضرورةَ التخلُّص من صديقهم الملقَّب باسم باني كوركوران أو الأرنب كوركوران؛ خشيةَ أن يكشف ما يعرفه عن جريمةِ قتلٍ سابقة حينما حاكى طلابُ الأدب الكلاسيكي طقسَ عربدةٍ ديونيسي (شهواني) في الغابة، وقتلوا مُزارعًا خطأً (أو عمدًا). لم يكن باني جزءًا من الطقوس، لكنه اكتشف ذلك وبدأ في ابتزاز أصدقائه الأثرياء بهذه المعلومات للحصول على أشياءَ، مثل عشاء في الخارج، ورحلات إلى إيطاليا. كما أنهم شعَروا بالقلق تجاهه خشيةَ أن يُخبر أحدًا وهو في حالةِ سُكرٍ بما حدث. ومن ثمَّ، وضعوا خُطةً لقتله. تولَّى هنري وينتر، وهو الطالب الأذكى في المجموعة، وضْعَ اللمسات الأخيرة لخُطتهم. كانوا يعرفون أن باني يخرج في نزهة طويلة سيرًا على الأقدام بعد ظهر يوم الأحد، ومن ثمَّ تربصوا به في مكانٍ اعتقدوا أنه قد ينتهي به المطافُ إليه، وكان عبارة عن ممرٍّ فوق وادٍ عميق. عندما وصل، دفعوه من فوق الحافة، آملين أن يبدوَ الأمر وكأنه حادث، أملًا في أن يُخفي مسارُ نزهته العشوائي مخططَ الجريمة. هل من الممكن أن تكون قضية دانيال جونزاليس، الذي قُتل أثناء ركضه الصباحي، ذاتَ صلة؟ يبدو الأمر مُستبعَدًا على ضوء حقيقة كونه قُتل رميًا بالرصاص، ولكن ربما تكون الفكرة وراء هذه الجريمة المقلَّدة هي التخلُّص من شخصٍ ما أثناء قيامه بنشاط مُتوقَّع. أحضرتُ الكمبيوتر المحمول، وبحثتُ عن نعيِه. كان أستاذًا مساعدًا في اللغة الإسبانية بإحدى الكليات المحلية. ومع أن مجال تخصُّصه لم يكن اللاتينية أو اليونانية، لكنه كان أستاذًا للُّغات على أي حال. كان ذلك احتمالًا واردًا، وقرَّرتُ إخبارَ العميلة مالفي به في صباح اليوم التالي. تفقدتُ بقيةَ الجرائم. كنت أبحث تحديدًا عن حادث غرق، بينما أفكِّرُ في كتاب جون دي ماكدونالد «المُغْرِق». لكن، إذا كان أحدُهم قد غرق بطريقةٍ تجعله يبدو كأنه حادث، فمن المُحتمَل بالطبع ألا يوجد ذكرٌ له في قائمةٍ بجرائم قتل لم تُحلَّ بعد. لم يكن هناك أيضًا قوائمُ للحوادث المرتبطة بتناول جرعاتٍ زائدة عن طريق الخطأ. كان هذا هو أسلوبَ القتل في رواية «سبق الإصرار». يُحوِّل القاتلُ، وهو طبيبٌ، زوجتَه إلى مُدمنة مورفين. ثم يقتصر الأمر ببساطةٍ على التأكُّد من أن الآخرين يعلمون بشأن إدمانها، لدرجة أن يُصبح الأمر مثارًا للقيل والقال في الأوساط المحلية. ثم يقتلها بجرعةٍ زائدة. وبالطبع، لا بد أنه كان هناك المئات — إن لم يكن الآلاف — من حوادثِ تناول جرعاتٍ زائدة من المخدرات في نيو إنجلاند في السنوات القليلة الماضية. هل يمكن أن تكون واحدةٌ منها جريمةَ قتل مُتعمَّدة؟ الفكرة في قائمتي أنني عندما أنشأتُها في الأساس، كنت أحاول حقًّا الإتيانَ بجرائمِ قتلٍ عبقرية للغاية، يستحيل معها القبضُ على الجاني مطلقًا. وبناءً على ذلك، إذا نجح أحدُهم في تقليد بعض جرائم القتل هذه، فلن يكون من الممكن اكتشافُها. قضمتُ قضمتَين من شطيرتي ثم تناولتُ عبوةً أخرى من الجِعة. كانت الشقة هادئة للغاية، ولم أرغب في فتح التلفزيون، ومن ثمَّ شغَّلتُ موسيقى بدلًا من ذلك. ألبوم ماكس ريختر «٢٤ بوست كاردز إن فول كلر». استلقيتُ على أريكتي ونظرتُ إلى السقف المرتفع، إلى صُدعٍ رقيق متعرِّج من أسفل الصبِّ؛ كان مشهدًا مألوفًا، ذلك السقف. فكرتُ بشأنِ ما سأقوله للعميلة مالفي في صباح اليوم التالي على الإفطار. سأخبرها عن دانيال جونزاليس بالطبع، ووجه الصلة المحتمَل بينه وبين رواية «التاريخ السري». سوف أقترح عليها أن تبحث في حوادث الغرق، خصوصًا تلك التي حدثَت في البِرَك أو البحيرات، وسأقترح أيضًا أن تطَّلع على حالات الوفاة الناجمة عن تناول جرعاتٍ زائدة، خصوصًا تلك التي استخدم فيها المُتوفَّى مِحْقَنة. انتهى الألبوم، وأعدتُ تشغيله، مستلقيًا على الأريكة. كان عقلي يسير في اتجاهاتٍ مختلفة؛ ولذا قررتُ أن أتمهَّل وأعُدَّ قائمةً ذهنية. قلتُ لنفسي أن أُدرج الفرضيات أولًا. الفرضية الأولى هي أن أحدهم يستخدم قائمتي لقتل أشخاصٍ على نحوٍ عشوائي. حسنًا، ربما ليس عشوائيًّا، ربما كان الضحايا يستحقون بطريقةٍ ما الموت، على الأقل من وجهة نظر القاتل. والفرضية الثانية أنه على الرغم من أنني ربما كنتُ مشتبهًا به، فلم أكن بأي حال من الأحوال مشتبهًا به جِديًّا. وكما أوضحت العميلةُ مالفي نفسها، لم تكن لتأتي بمفردها لو كانت هذه هي حقيقة الوضع. كان الغرضُ من مقابلتها لي بعد ظهر هذا اليوم هو استشارتي، في محاولةٍ لمعرفة رأيي في هذا الشأن. إذا كانت تعتقد أنني متورِّط، فإنني أجزم أنه في المرة القادمة التي سنلتقي فيها — من أجل الإفطار غدًا، أو ربما في وقتٍ لاحق — سيكون معها عميلٌ فيدرالي آخر. الفرضية الثالثة: أيًّا كان مَن يفعل هذا، فهو لا يستخدم قائمتي فحسب. القاتل يعرفُني. ربما ليس كثيرًا، ولكن إلى حدٍّ ما. إنَّ ما دفعني إلى اعتقاد — أو معرفة — ذلك هو أنني أعرف في الحقيقة الضحيةَ الخامسة التي ذكرَتها العميلةُ مالفي، المرأة التي أُصيبت بنوبةٍ قلبية في منزلها في روكلاند، إيلين جونسون. إنني لا أعرفها جيدًا، ولكن بمجرد أن سمعتُ الاسم، عرَفتُ أنها إيلين جونسون التي اعتادت العيش في بيكون هيل، وهي زَبونة منتظمة للمتجر، وامرأة حضرَت الندوةَ النقاشية لكل كاتب استضفناه. أعلم أنه كان عليَّ آنذاك إخبار العميلة مالفي بذلك، لكنني لم أفعل، وحتى اللحظة التي شعرتُ فيها بأني مضطرٌّ إلى ذلك، لم أكن أعتزم إخبارها. لقد كنتُ واثقًا أنها كانت تحجُب معلوماتٍ عني، ومن ثمَّ اعتزمتُ أن أحجُب هذه المعلومات عنها. كان عليَّ أن أبدأ في الاحتراز لنفسي.


الفصل الخامس


كنت قد بدأتُ أغفو على الأريكة، ومن ثمَّ نهضتُ، غسلتُ زجاجات الجِعة، وألقيتُ ما تبقَّى من شطيرتي، ثم غسلتُ أسناني وارتديتُ منامتي. ثم ذهبتُ إلى رفِّ الكتب الخاص بي ووجدتُ الكتابَ الذي كنت أبحث عنه «المُغْرِق». كان لديَّ الكتابُ الأصلي الورقي الغلاف الصادر عن دارِ النشر «جولد ميدال» طبعة عام ١٩٦٣. كان الكتاب يحمل واحدًا من تلك الأغلفة المصوَّرة الفاضحة التي تزيِّن على الأغلب كلَّ الكتب الورقية؛ كان غلافًا لجون دي ماكدونالد في منتصف القرن. في هذا الغلاف، تظهر امرأةٌ ذات شعر داكن ترتدي بيكيني أبيضَ وهي تُجرُّ عبْر الأعماق الخضراء القاتمة بواسطة يدَين تُمسكان بإحدى ساقَيها الجميلتَين. ترمز مثل تلك الأغلفة إلى شيئَين: الجنس والموت. مرَّرتُ إبهامي على حافة الكتاب، أُقلِّبُ في الصفحات، وانبعثَت تلك الرائحة اللاذعة العطنة لكتابٍ قديم ورقي الغلاف، حتى تخلَّلَت أنفي. لطالما أحببتُ تلك الرائحة، على الرغم من أنني كنت أعلم بحُكم خبرتي في جمْع الكتب أنَّ هذه الرائحة علامةٌ على أن الكتاب لم يُحفظ بطريقةٍ سليمة على مرِّ السنين، وهو كتابٌ ربما ظلَّ راقدًا في صندوق من الورق المقوَّى على أرضية قبو رطب عدةَ فصول. ولكن بالنسبة إليَّ، أعادتني الرائحة على الفور إلى متجر كتب «آنيز بوك سواب» حيث شرَعتُ في شراء الكتب عندما كنت في الصف السادس. لقد نشأتُ في ميدلهام، على بُعد نحو ٤٥ دقيقة غرب بوسطن. كان العام الذي بلغتُ فيه الحادية عشرة هو أيضًا العامَ الذي سُمح لي فيه بركوب دراجتي مسافة ميل ونصف ميل على طريق دارتفورد إلى وسط مدينة ميدلهام. لم يكن هناك سوى ثلاثة متاجر: متجر صغير أَطلق على نفسه اسم «ميدلهام جنرال»، في محاولةٍ منه أن يبدوَ كأنه شيءٌ أروعُ مما كان عليه، ومحل تُحف يقع في مبنى مكتب البريد القديم، ومتجر «آنيز بوك سواب»، وهو متجرٌ لبيع الكتب المُستعملة حاصل على حق الامتياز التِّجاري تحت إدارة رجل إنجليزي يُدعى أنتوني بليك. كان يبيع بالأساس لأسواق الجملة — تلك الكتب ذات الأغلفة الورقية التي يمكن وضعها في الجيب الخلفي — ولقد ابتعتُ منه رواياتِ إيان فليمنج، وبيتر بينشليز، وأجاثا كريستي التي أسرَتْني في سنٍّ مبكرة. ومنه ابتعتُ أيضًا «المُغْرِق»، حيث كنت قد ابتعتُ بالفعل كلَّ كتابٍ متاح لترافيس ماكجي وسلسلة جون دي ماكدونالد الشهيرة. وقلَّما كان يمكن الحصول على كتابات ماكدونالد المستقلة، ولكن لا بد أن قارئ جريمةٍ ما مُتفانٍ في البقعة التي أعيش فيها من ولاية ماساتشوستس قضى نَحبه في الوقت الذي بدأتُ فيه ركوب دراجتي إلى وسط المدينة؛ لأن آنيز اكتظَّت فجأةً بأكوام من روايات الأدب الشعبي، ليست روايات جون دي ماكدونالد فحسب بل كتب ميكي سبيلين، وروايات أليستير ماكلينز، وسلسلة إد ماكبين البوليسية «المنطقة السابعة والثمانون». حدَّدتُ لنفسي شراءَ ثلاثة كتب في كل مرة أتسوَّق فيها، وهو ما استنفدَ مدَّخراتي تقريبًا. في تلك الأيام كنت أستغرقُ أقلَّ من أسبوع لقراءة هذه الكتب الثلاثة — أحيانًا أستغرقُ ثلاثة أيام فقط — لكنني كان يُسعدني دائمًا إعادةُ قراءة الكتب التي اقتنيتُها بالفعل. ربما لم أقرأ «المُغْرِق» منذ ذلك الحين، منذ أن كنت في سنِّ المراهقة، ولكن الحبكة الأساسية ظلَّت عالقةً بذهني. كانت شخصية الشرير — وهي شخصيةٌ جيدة بحق — سكرتيرةً شديدة التديُّن وجَّهَت كلَّ طاقتها الجنسية المكبوتة إلى ممارسة التمرينات الرياضية. قتلت الأشخاصَ الآثمين حولها، بمَنْ فيهم امرأة متزوجة كانت على علاقةٍ مع رئيسها في العمل. لقد أغرَقَتها بأن تربَّصَت لها، مرتديةً عُدَّة الغوص، في قاع البحيرة حيث كانت تسبح تلك المرأة. ثم أمسكَت بإحدى ساقَيها وجذبتها تحت الماء. هذه الجريمة بالتحديد لم أنسَها قط. وسرعان ما تبادرَت إلى ذهني عندما أعددتُ قائمةَ جرائم القتل الكاملة. لم أُعِد قراءة الكتاب، لكنني على دراية جيدة بأحداثه. اصطحَبتُ رواية «المُغْرِق» معي إلى الفراش. قرأتُ الفقرة الأولى، كانت كلماتُها مألوفةً على نحوٍ مخيف. ما الكتبُ إلا سَفرٌ عبْر الزمن. كلُّ القُراء الحقيقيين يعرفون ذلك. لكن الكتب لا تُعيدك فقط إلى الوقت الذي كُتبت فيه؛ بل يمكنها إعادتُك إلى نسخٍ مختلفة من نفسك. في المرة الأخيرة التي فتحتُ فيها هذا الكتاب بالتحديد كنتُ على الأرجح في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمري. أعتقدُ أنه كان في فصل الصيف وظللتُ مستيقظًا حتى وقتٍ متأخِّر من الليل، في غرفة نومي الضيقة تحت ملاءةٍ فردية، كانت هناك على الأرجح بعوضةٌ تطِنُّ في أحد أركان الغرفة. كان والدي يُشغِّل أسطواناته في غرفة المعيشة بصوتٍ عالٍ للغاية، وهو أمرٌ يتوقَّف على مدى ثمالته. انتهت معظم الليالي على المنوالِ نفسه، حيث تُخفضُ والدتي صوت موسيقاه — التي كانت الجاز عادةً، على الرغم من أنه كان يستمع أحيانًا إلى أنواعٍ أخرى مثل فرانك زابا أو فرقة «ويذر ريبورت» الموسيقية — ووالدي يوبِّخُها لعدم فهمها إياه. لكن هذا ببساطة كان ضجيجًا في الخلفية. ذلك لأنني لم أكن حقًّا هناك في غرفة النوم تلك. لقد كنت في الواقع في فلوريدا عام ١٩٦٣، أتسكَّعُ مع مُطوِّري العقارات المشبوهين، والمطلَّقات المثيرات، وأحتسي خمر البوربون. والآن ها أنا ذا مجددًا — في الأربعين من عمري تقريبًا — وعيناي تُطالعان سريعًا الكلمات نفسَها، أحمل الكتاب نفسَه الذي حملته قبل ثمانية وعشرين عامًا، الكتاب نفسه الذي حمله رجلُ أعمال أو ربَّة منزل قبل خمسين عامًا. ها أنا ذا أسافرُ عبْر الزمن. أنهيتُ الكتابَ في نحو الرابعة صباحًا. كدتُ أنهضُ من الفراش لأحصُل على كتابٍ آخر من القائمة لكنني قررتُ أن أنال قسطًا من الراحة ونمتُ عِوَضًا عن ذلك. انقلبتُ لأنام على بطني، ورحتُ أفكِّر في الكتاب، فيما يمكن أن يكون عليه شعور المرء عندما يسبح في بحيرةٍ وإذا بشيءٍ يمسك به من الأسفل، ويسحبه ليلقى حتفه. ولمَّا بدأتُ أشعر بالنعاس، تبادر إلى ذهني وجهُ زوجتي، كما يحدث دائمًا. لكني لم أحلُم بها، ولم أحلُم ﺑ «المُغْرِق». حلمتُ بالركض، وبأناسٍ يُلاحقونني. إنه الحُلم نفسه الذي طالما كان يُراودني كلَّ ليلة في حياتي. ••• كان الثلجُ لا يزال يتساقط عندما غادرتُ شقتي في الصباح، لكنه كان ثلجًا خفيفًا منجرفًا، تطاير نصفُه بفِعل الريح التي كانت لا تزال تعصف. كان هناك نحوُ قدمَين بالفعل على الأرض. كانت الطرق قد أُزيلت عنها الثلوج، لكن لم يكن أحدٌ قد خرج بعد إزالة الثلوج عن الأرصفة، ومن ثمَّ سِرتُ في منتصف الشارع، وأنا حَذرٌ في النزول من التل الشديد الانحدار إلى شارع تشارلز. على الرغم من أن السماء كانت مُلبَّدة بالغيوم، كان النهار مشرقًا، ربما بسبب كل هذا الثلج البِكر النقي. حملتُ حقيبتي القديمةَ الأشبهَ بحقيبة ساعي البريد، ووضعتُ حزامها على كتفي. وصلتُ إلى الفندق مبكرًا. كان فندق «ذا فلات أوف ذا هيل» قد بُنيَ حديثًا في الجزء الذي أقطُن فيه من بوسطن، وهو فندقٌ صغير داخل مستودَع جُدِّد قُبالة شارع تشارلز مباشرةً. كان به مطعمٌ فاخر وبار ظريف اعتدتُ ارتياده من آنٍ إلى آخرَ في ليالي الإثنين حين كان يقدِّم المَحارة الواحدة بدولار. خاطبتُ الموظَّفة الوحيدة في مكتب الاستقبال، وهي امرأةٌ ذات عينَين حزينتَين، قائلًا: «لديَّ موعد مع أحدهم على الإفطار»، فقادتني خلف البار إلى منطقةٍ صغيرة لتناول الطعام بها نحو ثماني طاولات. لم يوجد أحدٌ ليُجلسني، ومن ثمَّ اتخذتُ لنفسي مقعدًا على طاولة في الركن قُرب نافذة كبيرة مُطلَّة على حائط من القِرميد. كنتُ الشخص الوحيد في المكان، وتساءلتُ عمَّا لو كان هناك مَن يعملون هنا بالفعل، أو إذا كان طاقم العمل برُمَّته لم يتمكَّن من المجيء بسبب العاصفة الثلجية. في اللحظة نفسِها، اندفعَ خلال زوج من الأبواب الدوَّارة رجلٌ يرتدي قميصًا أبيضَ مُجعَّدًا وبنطالًا أسود، بينما ظهرَت العميلة مالفي عند مدخل غرفة الطعام. شاهدتني وجاءت، بمجرد أن كان النادل يضعُ قوائمَ الطعام على الطاولة. طلبَ كلانا القهوة والعصير. قلت: «إنَّ لمكتب التحقيقات الفيدرالي ميزانيةَ سفرٍ لائقة.» بدت مرتبكة لحظة، ثم قالت: «أوه. لقد حجزتُ هذا المكان بنفسي؛ لأنه قريبٌ من متجرك. مَن يدري ربما سيردون إليَّ ما دفعتُ.» سألت: «كيف كان نومك؟» كان لديها ظلالٌ أرجوانية داكنة أسفل عينَيها. «لم أنَم كثيرًا، كنت أقرأ.» «وأنا أيضًا. ما الكتاب الذي قرأتِه؟» «لغز المنزل الأحمر. فكَّرتُ بأن أبدأ من البداية.» قلت وأنا آخذُ رشفة من قهوتي، لسَعَت طرفَ لساني: «ما رأيُك؟» «كانت جيدة. حاذقة، على ما أعتقد، ولم أَحزُر النهاية». لمسَت جانب فنجان قهوتها المصنوع من الخزف ثم انحنَت لأسفل، وهي تزمُّ شفتَيها، وارتشفت القليلَ من أعلى الفنجان. جعلتني تلك المناورةُ أفكِّر في طائرٍ ما. قلت: «بصراحة، أعلمُ أنني أدرجتُه في قائمتي، لكنني لا أتذكَّر التفاصيلَ بالضبط. مضى وقتٌ طويل على قراءتي له.» «إنَّه إلى حدٍّ كبير كما وصفته. إنَّه لغزُ منزلٍ ريفي مثير للسخرية نوعًا ما. لقد ظلِلتُ أفكِّرُ في لعبة «كلو»، اللُّعبة …» «الكولونيل ماسترد في المكتبة.» «بالضبط. لكنها كانت أفضلَ من ذلك.» وصفَت لي الحبكة الأساسية، وبدأتُ أتذكَّر. هناك رجل ثري يُدعى مارك أبليت يعيش في منزلٍ ريفي، من الطراز الإنجليزي الذي يبدو أنه مصمَّم خصوصًا لوقوع جريمة قتل فيه. يتلقَّى رسالةً من أخيه غيرِ الصالح المُغترب، يقول فيها إنَّه قادمٌ للزيارة من أستراليا. عندما يصل الأخ، يُطلب منه انتظار مارك أبليت في المكتب. ثم يُسمَع صوتُ إطلاق عيار ناري. قُتِلَ الشقيقُ القادم من أستراليا ومارك أبليت مفقود. يبدو جليًّا أن مارك قتل شقيقه وفرَّ هاربًا. المحقِّقُ في القصة لديه في الواقع مجرد معرفة سطحية بأحد نُزلاء المنزل الريفي. اسمُه توني جيلينجهام، وبدأ هو وصديقه بيل يباشران التحقيق. يتضح أنَّ هناك نفَقًا سريًّا يمتد من المكتب أسفل المنزل وعلى طول الطريق المؤدي إلى ملعبٍ للجولف، ويوجد بالطبع العديدُ من المشتبَه فيهم. قاطعتُها قائلًا: «لم يكن هناك أخٌ، أليس كذلك؟» «صحيحٌ، بالفعل. ماتَ الأخ الحقيقي منذ سنواتٍ عديدة ولم يكن جزءًا من الأحداث الحاليَّة. هناك مَن أقنعَ مارك أبليت بانتحال شخصيته، ومن ثمَّ قُتل. لكنَّ هذا لم يكن الجانبَ الذي وجدتُه حاذقًا في الجريمة. أليس كذلك؟» كانت تتحدَّث بسرعة ولم أدرك أنها كانت تنتظر إجابةً مني إلا عندما توقَّفَت. «أعتقدُ أنني أدرجتُها في القائمة؛ لأنَّ القاتل قدَّم بالأساس قاتلًا وجثةً في آنٍ واحد. كانا الشخص نفسَه، لكن القاتل وحدَه مَن كان يعلم ذلك.» «هل يمكنني قراءة مقطعٍ سطَّرتُه الليلة الماضية؟» قلت: «بالتأكيد»، ومن ثمَّ جذبت الكتاب الورقي الغلاف من حقيبتها وبدأت تُقلِّب الصفحات. استطعتُ أن أرى من مكاني أنها وضعَت خطًّا تحت عدة فقرات. فكَّرتُ في زوجتي، وكيف كانت دائمًا ما تقرأ وفي يدها قلم، استعدادًا للكتابة في أي كتاب كانت تقرؤه. شعرتُ فجأة بالسعادة؛ لأنني لم أعطِ العميلةَ مالفي النسخةَ الأولى الباهظة الثمن من «غريبان على متن قطار». قالت وهي تبسُط الكتاب على الطاولة وتميل إلى الأمام كي تقرأ: «حسنًا. وجدتُه.» بدأت بقولها: «وصل المفتِّش إليه، أعتقدُ أنه يتحدَّث هنا عن المنزل، ليجدَ رجلًا ميتًا وآخرَ مفقودًا». «كان من المرجَّح للغاية، دون شك، أن يكون الرجل المفقود قد أطلقَ الرصاص على القتيل. ولكن لم يكن من المرجَّح للغاية، بل من شبه المُؤكَّد أن يبدأ المفتِّش بفكرة أنَّ هذا الحل المرجَّح للغاية هو الحل الحقيقي الوحيد؛ ومن ثمَّ سيكون أقلَّ استعدادًا للتفكير في أي حلٍّ آخرَ دون تحيُّز.» أنهت القراءة وأغلقت الكتاب. ثم تابعت: «جعلني هذا أُفكِّر. إذا كنت تنوي ارتكابَ جريمةٍ بناءً على هذا الكتاب، فكيف ستُنفِّذها؟» لا بد أنني بدَوتُ حائرًا؛ لأنها أضافت: «هل ستُطلق النارَ على أحدهم في مكتب في منزل ريفي؟» قلت: «كلَّا. أعتقدُ أنني سأقتل شخصَين، ثم أخفي إحدى الجثتَين، وأجعل الأمرَ يبدو كما لو أن القاتل فرَّ هاربًا.» قالت: «بالضبط.» كان النادل يحوم حولنا، ومن ثمَّ طلب كلانا الطعام. طلبت العميلةُ مالفي فلورنتين البيضَ (بيضًا بالسبانخ). لم أكن جائعًا، لكنني طلبتُ بيضتَين مسلوقتَين مع الخبز المحمَّص، وفواكه طازَجة بالإضافة إلى ذلك. وبعد أن طلبنا، قالت: «هذا ما جعلني أفكِّر في القواعد». «ماذا تعنين بالقواعد؟» قالت: «حسنًا»، ثم فكَّرت هُنيهة. «لو كنتُ أنا مَن تولَّيتُ إنجازَ هذه المهمة بنفسي … بهدف ارتكاب جرائم القتل الثمانية التي وصفتها في قائمتك، لكان من المفيد وضعُ بعض الإرشادات. بعض القواعد. هل تُقلِّد جرائم القتل بالضبط؟ أم الفكرة من وراء جرائم القتل؟ ما مدى التشابه المرتقَب بينها؟» «إذن، تعتقدين أن القواعد تُملي على القاتل الالتزامَ قدْر الإمكان بجرائم القتل الفعلية في الكتاب؟» «كلَّا، ليست تفاصيل جرائم القتل، بل الفلسفة التي وراءها. يبدو الأمر كما لو أن القاتل يختبر هذه الكتبَ على أرض الواقع. إذا كانت الفكرة ببساطةٍ هي مُحاكاةَ الكتب، ففي وُسعك إذن إطلاقُ النار على شخصٍ ما في مكتبة منزل ريفي وينتهي الموضوع. أو، فيما يخصُّ «جرائم الأبجدية»، في وُسعك محاكاتها بالضبط. كما تعلم، سيكون كلُّ ما عليك هو البحث عن امرأةٍ تُدعى آبي آدمز وتعيش في بلدة أكتون وقتلها أولًا، إلى آخِر ذلك. لكن، ليس هذا هو المقصود، بل المقصود هو تنفيذ الجريمة على النحو الصحيح. توجد قواعد.» «ومن ثمَّ، يتعلق الأمر كلُّه في «لغز المنزل الأحمر» بتوجيه الشرطة نحو مشتبَهٍ به لن يجدوه أبدًا، ولن يستجوِبوه أبدًا.» قالت العميلة مالفي: «نعم، بالضبط. إنه في الواقع تفكيرٌ حاذق. كنت أُمعِنُ النظر في الأمر برُمَّته البارحة. لنفترض أنني أردتُ قتْلَ شخصٍ ما … صديقي السابق، على سبيل المثال.» قلت: «حسنًا.» «إذا قتلتُه فحسب، فسأكون عندئذٍ مشتبهًا به. ولكن لنفترض أنني قتلت شخصَين — مثل صديقي السابق، وصديقته الجديدة، على سبيل المثال — وتأكَّدتُ من عدم العثور على جثةِ صديقته الجديدة. يمكنني بهذه الطريقة أن أجعل الأمرَ يبدو كأنَّ القاتل قد هرب. لن تبحث الشرطة عن هُوية القاتل؛ فسوف يعتقدون أنهم يعرفونه بالفعل.» قلت: «لن يكون الأمر سهلًا، كما تعلمين.» قالت: «ها، لم أكن أفكِّر في ذلك حقًّا.» «لأنَّ القاتل سيتعيَّن عليه أن يقتل شخصَين.» «صحيح.» «وإخفاء جثَّة ليس بالأمر السهل.» قالت: «أنت لا تتحدَّث عن خبرة، أليس كذلك؟» «لقد قرأتُ الكثيرَ من الروايات البوليسية.» «أعتقدُ أنني بحاجةٍ إلى البحث عن جريمةٍ اختفى فيها المشتبَه به الرئيسي.» «هل هذا شائع؟» «في الواقع، ليس كذلك. فالاختفاءُ هذه الأيام ليس سهلًا. معظم الناس يتركون آثارًا واضحةً للغاية. لكنه يحدُث أحيانًا.» قلتُ: «أعتقدُ أنك على وشْك اكتشافِ شيءٍ ما. ربما يتعلق الأمر بالبحث عن ضحيتَين تستحقَّان القتل — ربما مجرمَين — أحدهما ماتَ والآخر اختفَى. أي، إذا كانت نظريتُكِ صحيحة … فماذا عسانا أن نُسمي المشتبهَ به؟ ينبغي أن يكون لدينا اسم.» قالت: «لمَ لا ندعوه …؟» ثم توقَّفت هُنيهة. «شيءٌ له علاقة بالطيور.» قالت: «كلَّا، سيكون هذا مُحيِّرًا. دعنا ندعوه تشارلي.» «ولماذا تشارلي؟» «لقد خطرَ ببالي فحسب. كلَّا، هذا ليس صحيحًا. كنتُ أحاولُ التفكيرَ في اسمٍ مُحاكٍ (أي كوبي كات)، وذكَّرني ذلك بقِطِّي الأول، عندما كنتُ صغيرة، وكان اسمُه تشارلي.» «تشارلي المسكين. هل يستحق أن يُستخدَم اسمه بهذه الطريقة؟» «في الواقع، يستحق. لقد كان سفَّاحًا. كان يجلب لنا فأرًا أو طائرًا كلَّ يوم.» قلت لها: «رائع.» «ليكن تشارلي إذن.» «إذن ماذا كنت أقول؟ صحيح، علينا أن نبحث عن أزواج من الضحايا تستحقُّ القتل. فتشارلي لا يروق له قتلُ الأبرياء.» قالت وهي تبتعد قليلًا عن الطاولة لكي تسمح بوضع الطعام أمامها: «لسنا متأكِّدَين من ذلك في الحقيقة، لكنه احتمالٌ وارد». قالت للنادل: «شكرًا لك»، ثم تناولت شوكة. «هل تُمانع إذا أكلت ونحن نتحدَّث؟ لقد فاتني عشاءُ البارحة وأنا أتضوَّر جوعًا.» قلتُ: «كلَّا، لا بأس.» وصلَ البيض المسلوق الخاص بي، وكان منظر حافات بياض البيض الشفافة بعضَ الشيء، قد جعل مَعِدتي تضطرب. وغرَزتُ طرَفَ شوكتي في مكعبٍ من الكانتالوب. قالت العميلة مالفي عندما انتهت من مضغِ قضمةِ إفطارها الأولى: «وربما أكون مخطئة.» ثم اتسعَت عيناها قليلًا وهي تقول: «قد يكون لهذا علاقة بك، بالطبع. شخصٌ ما يحاول لفْت انتباهك، ربما يحاول أحدُهم توريطَك.» مطَطتُ شفتي السفلى، كما لو كنت أفكِّر في هذا الاحتمال. قلتُ أخيرًا: «وإذا كان الأمر كذلك، فمن المنطقي الحرصُ على أن تستند جرائم القتل بوضوحٍ إلى الكتب المدْرَجة في القائمة.» قالت: «صحيح، لهذا السبب أريدُ أن ألقيَ نظرةً فاحصة على ما حدَث لإيلين جونسون، ضحيةَ النوبة القلبية …» قلتُ: «التي ربما تكون أو لا تكون قد قُتِلَت على يد تشارلي.» «ولكن إن كانت قد قُتلت، فإنه يتعيَّن عليَّ الذَّهابُ إلى مسرح الجريمة. فقد يكون هناك شيءٌ يربِطها ﺑرواية «المُغْرِق».» قلت: «لديَّ اعترافٌ»، وشاهدتُ وجْنتَي العميلة مالفي تتحوَّلان إلى الحُمرة في ترقُّب. «في الواقع لم أشاهد المسرحيةَ من قبل، أو حتى قرأتُها. لكنني شاهدتُ الفيلم وأنا متأكِّد من أنه مطابقٌ للغاية. على أي حال، أنا محرَج منكِ.» قالت: «ينبغي أن تكون كذلك.» ولكنها ضحكت. ولم يَعُد وجهُها أحمر. قلت: «في الفيلم، كلُّ ما يمكنني التحدُّث فعلًا بشأنه أن الضحيةَ تموت على إثر نوبة قلبية عندما ترى رجلًا تعتقد أنه ميتٌ يلوح في غرفة نومها ويقتل زوجها. هل عُثر على إلين جونسون ميتة في غرفة نومها؟» قالت: «عليَّ أن أتحقَّق، لا أستطيع أن أتذكَّر ارتجالًا. أتدري، عندما قلت إنَّ لديك اعترافًا، اعتقدتُ أنك ستقول شيئًا آخر.» قلتُ، فيما كنت آمُلُ أن يكون أسلوبي ساخرًا: «اعتقدتُ أنني سأعترفُ بأنني تشارلي.» قالت: «لا. اعتقدتُ أنك ستعترف لي بأنك كنت تعرف إلين جونسون.»


الفصل السادس


تردَّدتُ، ثم قلتُ: «هل هي نفسها إلين جونسون التي كانت تعيش في بوسطن؟»


«أها.»


«إذن، فأنا أعرفُها. ليس جيدًا، لكنها اعتادت أن تأتيَ إلى المكتبة طوال الوقت، واعتادت أن تحضُر ندوات المؤلِّفين.»


«ألم ترغب في أن تخبرني بذلك بعد ظهر أمس؟»


«بصراحة، لم يخطُر ببالي أنها كانت الشخصَ نفسَه. لقد بدا الاسمُ مألوفًا، لكنه اسمٌ شائع.»


قالت: «حسنًا، كيف كانت تبدو، إلين جونسون؟» إلا أنَّ عينَيها لم تلتقيا بعينيَّ تقريبًا.


تظاهرتُ بالتفكير، فقط حتى أكسِب بعضَ الوقت، لكن الحقيقة أن إلين كانت لا تُنسى. لقد كانت ترتدي نظاراتٍ سميكةً للغاية — أعتقد أن المرء كان سيطلق عليها زجاجات الكوكا — وشعرُها خفيف، وكانت ترتدي دائمًا ما بدت أنها كنزات صوفية مصنوعة يدويًّا، حتى في فصل الصيف، ولكن لم يكن أيٌّ من هذا هو ما جعلها لا تُنسى. كانت لا تُنسى لأنها كانت واحدةً من هؤلاء الأشخاص الذين يستغلُّون الطبيعةَ الهشَّة لموظفي البيع بالتجزئة، وذلك بأن تُحاصرهم وتُخضعهم لخُطَبٍ طويلة لا نهاية لها، أشبه بخُطبٍ لاذعة، حول مواضيعها المُفضَّلة. وكان موضوع إلين المُفضَّل هو مُؤلِّفي الجرائم — مَن منهم عبقري، ومَن جيدٌ فحسب، ومَن سيِّئ (عادةً ما كانت تَنعَتهم بقولها «شنيع للغاية») — واعتادت أن تأتيَ إلى المتجر كلَّ يوم وتحاصر أيَّ موظف تصادفه أولًا. كان الأمر مرهقًا ومزعجًا، لكننا اكتشفنا جميعًا أنَّ أفضلَ طريقة للتعامُل معها هي أن نُواصل العملَ أثناء حديثها، امنحها نحو عشر دقائق، ثم أخبرها — بعباراتٍ لا التباس فيها — أنَّ وقتها قد انتهى. يبدو ذلك وقحًا، لكن الفكرة أنَّ إلين جونسون نفسَها كانت وقحة. لقد كانت تقول أشياءَ شنيعةً عن المؤلِّفين الذين لم يحوزوا إعجابها. كانت عنصريةً على نحوٍ غيرِ مبالٍ، ومعاديةً للمثليِّين على نحوٍ علَني، ومما يُثير الدهشة أنها كانت تحبُّ التعليق على مظاهر الآخرين، على الرغم من مظهرها. أعتقدُ أنَّ أيَّ شخص يعمل في متجرٍ لبيع الكتب، أو في أي متجر على الأرجح، معتادٌ على التعامُل مع العملاءِ الصِّعابِ المِراس، بمَن فيهم هؤلاء الذين يأتون يوميًّا. الأمرُ المتعلق بإلين جونسون هو أنها كانت تظهر أيضًا في جميع الندوات النقاشية لمؤلِّفينا، وكانت دائمًا أولَ مَنْ يرفع يده ويطرح سؤالًا بطريقة مهذَّبة، أو غير مهذَّبة، لتُهين المؤلِّف المسكين على المنصة. ودائمًا ما كنا نحذِّر المؤلِّفين منها مسبقًا، لكننا نذكُر أيضًا أنها كانت تبتاع نسخةً من الكتاب للحصول على توقيعِ المؤلِّف حتى عندما كانت تراه من وجهة نظرها «محتالًا يفتقر إلى الموهبة». أجدُ أنَّ معظم المؤلِّفين على استعداد لتحمُّل شخصٍ أحمقَ إذا كان ذلك يعني بيعَ كتاب، ولا سيَّما كتب الجيب ذات الأغلفة الورقية.


كنت قد علمتُ أن إلين جونسون قد انتقلت إلى روكلاند بولاية مين؛ لأنها ظلَّت تُخبرنا عن الانتقالِ يوميًّا لمدة عام تقريبًا قبل حدوثه. فقد ماتت أختُها وتركَت لها منزلًا. وفي اليوم الذي غادرَت فيه أخيرًا، خرجتُ أنا والموظفون لتناول مشروب احتفالًا بتلك المناسبة.


قلتُ للعميلة مالفي: «كانت شديدةَ الوقاحة. كانت تأتي إلى المتجر كلَّ يوم وتُحاصر أحدَنا للتحدُّث عن الكتاب الذي كانت تقرؤه. أتذكَّرُ الآن أنها انتقلت إلى مين، لكنني لم أربط الاسم عندما قُلته. لقد عرَفتُها فقط بأنها إلين، وليست إلين جونسون.»


سألت: «هل كانت تستحق الموت؟»


رفعتُ حاجبيَّ. «هل كانت تستحق الموت؟ هل تسألينني بشكل شخصي؟ لا، بالطبع لا.»


«كلَّا، آسفة. أعني، لقد قلت إنها كانت شخصية وقحة. من الواضح، على الأقل لي، أن جميع الضحايا حتى الآن كانوا أقلَّ من محبوبين. هل كانت تندرج ضمن هذه الفئة؟»


«كانت بالتأكيد غير محبوبة. لقد أخبرَتني مرةً أن السِّحاقيات يصبحن مؤلِّفاتٍ رديئات لأنهن لم يقضين وقتًا كافيًا مع الرجال، الذين يتفوَّقون عليهن فِكرًا.»


«أوه.»


«اعتادت أن تتفوَّه بأمورٍ لتثير بها حفيظةَ أحدِهم ليس إلا. في النهاية، كانت حزينةً ووحيدة، أكثرَ من كونها فظيعة.»


«هل كنت تعلم أنها تعاني قصورًا في القلب؟»


بعد الجراحة التي خضعَت لها، أذكر أنها جذبت رقبةَ كنزتها الموبَّرة لأسفل، لتريني النَّدبة المُتغضِّنة على صدرها المُجعَّد. وأذكر أنني قلت: «من فضلكِ لا تريني ذلك مرةً أخرى»، مما أثار ضحكها. اعتقدتُ أحيانًا أنَّ تصرفات إلين جونسون كانت مجرد تصرفاتٍ فحسب، وأنَّ ما كانت تتوق إليه حقًّا هو أن يبادلها الناسُ وقاحتَها.


قلتُ للعميلة مالفي: «تذكَّرتُ شيئًا. أذكر أنه كان هناك وقتٌ لم تأتِ فيه إلى المتجر — شعرنا جميعًا بسعادةٍ غامرة — لكنها عاودَت المجيء بعد ذلك. أذكر أنَّ السبب كان طبيًّا».


تنحَّى النادلُ جانبًا. كان طبقُ العميلة مالفي فارغًا تمامًا، وكان طبقُ البيض الخاص بي لم يُمَس. سألَ عمَّا إذا كان كلُّ شيءٍ على ما يُرام.


قلت: «آسف. كلُّ شيء على ما يرام. ما زلت أعمل على هذا.»


أزالَ طبقَ العميلة، وطلبَت هي المزيد من القهوة. قررتُ أن أحاول تناوُلَ شيءٍ من طبق البيض أمامي، معتقدًا أن الأمر سيبدو غريبًا إن لم أفعل. نظرَت العميلة مالفي إلى ساعتها وسألتني إن كنت سأذهب إلى العمل.


قلتُ: «سأذهب. أشك في أنه سيكون لديَّ أيُّ زبائن، لكنني سأتفقَّد نيرو.»


قالت بصوتٍ تملؤه العاطفة: «أوه، نيرو.»


تذكَّرتُ أنَّ لديها قططًا خاصة بها وسألتُها: «مَن الذي يعتني بقططكِ؟» وما إنْ قلتُ ذلك، حتى أدركتُ أنه سؤالٌ شخصيٌّ للغاية. لقد بدا الأمر أيضًا كما لو أنني كنت أحاول معرفةَ ما إن كانت عزباء أم لا. وتساءلتُ إن كانت تعتقد أنني أسعى إلى التقرُّب منها. لم أكن أكبرُها كثيرًا — ربما بعشر سنواتٍ — على الرغم من أنني كنتُ أعرف أن شعري، الذي شابَ قبل الأوان، جعلني أبدو أكبرَ بعض الشيء.


قالت مُتجنِّبةً السؤال: «إنها بخير. إنها تؤنِسُ بعضها البعضَ.»


واصلتُ تناول طعامي، وألقت هي نظرةً خاطفة على هاتفها، ثم أعادته مجددًا إلى الطاولة ووجهُه للأسفل.


«لا بد لي أن أسألك أين كنت ليلة الثالث عشر من سبتمبر، الليلة التي قضَت فيها إلين جونسون نَحبَها.»


قلتُ: «بالطبع، في أي ليلةٍ كانت؟»


«ليلة الثالث عشر.»


«لا، أقصدُ أيُّ يوم في الأسبوع.»


«دعني أتحقَّق.» تناولت هاتفها مرة أخرى، وبحثت فيه مدةَ عشر ثوانٍ، ثم قالت: «ليلة سبت».


قلتُ: «كنت مسافرًا. في لندن». آخذُ الإجازة نفسها كلَّ عام، أسبوعَين في لندن، عادةً في بداية شهر سبتمبر. إنه موسم ركود سياحي؛ لأنَّ الأطفال يعودون إلى المدارس، ولكن الطقس يكون لا يزال جيدًا في العادة. بالإضافة إلى ذلك، إنه وقتٌ مناسب للتغيُّب عن المتجر.


سألت: «هل تعرف بالضبط التواريخَ التي كنت متغيِّبًا فيها؟»


«إذا كان الثالث عشر هو يوم سبت، فقد أخذتُ الطائرة عائدًا في اليوم التالي، يوم الأحد الموافق الرابع عشر. يمكنني أن أرسل إليكِ الرحلات الجوية التي كنتُ على مَتنها، إذا كنتِ ترغبين في ذلك. لكنني أعلم بصفةٍ أساسية أن ذلك كان في الأسبوعَين الأوَّلَين من سبتمبر.»


قالت: «حسنًا، شكرًا»، وبدا لي من قولها أنها تريدني أن أرسلَ إليها رحلاتي الجوية بدقة.


قلتُ: «إذا كانت إلين جونسون قد قُتلت على يدِ تشارلي …»


«أجل؟»


«إذن، هذا يرجِّح أكثر أنَّ تشارلي يستخدم قائمتي بالتأكيد.»


«أجل، إنه كذلك. وهذا يعني أنه لا يعرف مَن أنت فحسب، بل يعرف الأشخاص المحيطين بك. أعتقدُ أنه لا يمكن أن يكون من قبيل المصادفة أن أحد الضحايا شخصٌ تعرفه شخصيًّا.»


قلتُ: «لا أعتقد ذلك.»


«هل يوجد مَن يُكنُّ لك ضغينة، ربما موظف سابق، شخص ربما كان يعرف أن إلين جونسون زَبونة منتظمة لدى أُولد ديفيلز؟»


قلت: «على حدِّ علمي، لا. لا يوجد الكثير من الموظفين السابقين في واقع الأمر. كلُّ ما أحتاجه في المتجر شخصان فقط بالإضافة إليَّ، والاثنان اللذان يعملان لديَّ الآن معي منذ أكثرَ من عامَين.»


قالت، وهي تسحب دفتر ملاحظاتٍ من حقيبتها: «هل يمكنك إخباري باسمَيهما؟»


أعطيتُها اسمَي إيميلي وبراندون بالكامل ودوَّنتهما.


قالت: «ماذا يمكنك أن تخبرني عنهما؟»


قلتُ لها ما أعرفه. لم يكن بالشيء الكثير. تخرَّجَت إيميلي بارساميان في كلية وينسلو، خارج بوسطن، منذ نحو أربع سنوات، وتدرَّبتُ مدةً في «بوسطن أثينيوم»، وهي مكتبة مستقلة مرموقة وتاريخية. وجاءت للعمل في «أُولد ديفيلز» مدة عشرين ساعة في الأسبوع لدعم دخلها المادي. عندما انتهت مدة التدريب، زادت ساعاتُ عملها وظلَّت معي منذ ذلك الحين. إنني لا أكاد أعرفُ أيَّ شيء عن حياتها الشخصية؛ لأنها نادرًا ما تتحدَّث، وعندما تفعل، كان الأمر يتعلق فقط بالكتب، أو أحيانًا بالأفلام. ظننتُ أنها تمارس الكتابة سرًّا، لكنني لم أتأكَّد من ذلك. أما براندون ويكس، فهو موظفي الاجتماعي. كان لا يزال يعيش مع والدته وأخواته في روكسبري، وفي الغالب أعرفُ أنا وإيميلي كلَّ شيءٍ عنه، وبالتأكيد كلَّ شيءٍ عن عائلته وعن رفيقته الحاليَّة. عندما وظَّفتُه، على سبيل المساعدة الإضافية خلال موسم العطلات قبل عامَين، أعترفُ أنه كانت لديَّ شكوكٌ حول ما إذا كان سيُظهر أيَّ نوع من الانتظام. لكنه واصلَ العمل مدةً طويلة، وبقدْر ما أذكر، لم يتغيَّب — أو حتى يتأخر — يومًا واحدًا.


سألت العميلة مالفي: «وهذا كلُّ شيء؟»


«فيما يخصُّ الموظفَين الحاليَّين؟ أجل. إنني أذهبُ كلَّ يوم بنفسي. وعندما آخذُ إجازةً، إما أن نوظِّف موظفًا مؤقتًا، أو يأتي شريكي براين ويُجري بعض المناوبات. يمكنني إعداد قائمة بالموظفين السابقين وإرسالها إليكِ، إن أردتِ.»


قالت: «هل براين هو براين موري؟»


«نعم، هل تعرفينه؟»


«رأيتُ اسمه على موقعك الإلكتروني، نعم. لقد سمعتُ عنه.»


براين كاتبٌ شبه مشهور يعيش في ساوث إند ويكتب سلسلةَ إليس فيتزجيرالد. يمكن أن يقارب عددُ كتبه خمسة وعشرين كتابًا حاليًّا؛ ومع أنها لا تُحقق مبيعًا كالمعتاد، فإن براين يكتبها على أي حال، مع إبقاء المحقِّقة إليس في سن الخامسة والثلاثين دائمًا، وإقصاء كلٍّ من المُوضة والتقدُّم التكنولوجي عن رواياته. تدور أحداث كتبه في وقتٍ ما في أواخر الثمانينيات في بوسطن، على غِرار ما كان في المسلسلِ التلفزيوني المدعوِّ «إليس» الذي ظلَّ يُعرض مدة عامين، ومنح براين المنزل المستقل الذي ابتاعه في ساوث إند، ومنزله على البحيرة في أقصى شمال مين، وما يكفي من المال الإضافي لاستثماره في «أُولد ديفيلز».


«إذا فكَّرت في شخص آخر، فلتدرِجه في قائمتك. عملاء غاضبون؟ أي علاقات سابقة لك ينبغي أن نعرف بشأنها؟»


قلت: «ستكون قائمةً قصيرة، العلاقة السابقة الوحيدة لديَّ هي زوجتي، وقد تُوفِّيَت.»


قالت: «أوه، أنا آسفة»، لكن كان واضحًا من تعابيرها أنها كانت على درايةٍ بهذه المعلومات بالفعل.


«وسأواصلُ التفكير بشأن الكتب الموجودة في القائمة.»


قالت: «شكرًا. لا تتراجع. أبقني على اطلاعٍ إنْ خطرَت لديك أيُّ أفكار، حتى لو بدَت غيرَ مهمة أو غير مُحتمَلة. فلن يضر ذلك في شيءٍ.»


قلتُ وأنا أطوي منديلي وأضعُه على الجزء المتبقِّي من إفطاري: «حسنًا، هل تغادرين الفندق أو تَبقين هنا؟»


قالت: «سوف أغادر. ما لم تُلغَ رحلة القطار لسببٍ ما، فأعتقد أنني سأقضي ليلةً أخرى هنا. لكنني لن أغادر على الفور. لم تخبرني إن كنت قد ألقيتُ نظرةً على الجرائم التي لم تُحل التي أعطيتُك إياها الليلة الماضية.»


أخبرتُها أن أيًّا منها لم يَسترعِ انتباهي، ربما باستثناء دانييل جونزاليس، الرجل الذي أُصيبَ برصاصةٍ أثناء الركض.


سألت: «وما علاقة هذا بقائمتك؟»


«على الأرجح لا توجد علاقة، لكنه جعلني أفكِّر في كتاب دونا تارت، «التاريخ السري». في هذا الكتاب ينتظر القتلةُ ضحيتَهم في مكانٍ يعتقدون أنه قد يتنزَّه فيه.»


قالت: «لقد قرأتُ هذا الكتاب، في الكلية.»


«إذن هل تتذكَّرين؟»


«نوعًا ما. أعتقدُ أنهم قتلوا شخصًا وهم يُؤدون طقسًا جنسيًّا في الغابة.»


«هذه هي جريمة القتل الأولى؛ قتلوا مُزارعًا. أما الجريمة الثانية، فهي التي أشرتُ إليها في القائمة. إنهم يدفعون صديقَهم من فوق منحدر.»


«أُطلقت النارُ على دانيال جونزاليس.»


«أعلم. إنه احتمالٌ بعيد. يتعلَّق الأمر أكثرَ بحقيقة أنه كان بالخارج يُنزِّه كلبه. ربما هي نزهة يقوم بها كلَّ يوم، أو مرة واحدة في الأسبوع. ربما ليس للأمر علاقة ﺑ…»


«لا، إنه احتمال مفيد. سأبحثُ أكثر في الأمر. كان هناك العديد من الأشخاص المعنيِّين بقضية دانيال جونزاليس، من بينهم طالبٌ سابق لا يزال قيد التحقيق. لكنه يبدو احتمالًا واردًا.»


قلتُ: «هل كان دانيال جونزاليس … وغدًا؟ لا تحضُرني كلمة أفضل.»


«هذا ما لا أعرفه، لكنني سأتحقَّق من الأمر. مع أنه من المُرجَّح أن يكون كذلك، إذا كان هناك العديد من الأشخاص الذين لهم مصلحة في قتله. إذن هل كانت هذه هي القضية الوحيدة، قضية جونزاليس …؟»


قلتُ: «أجل، وإن كنت أظنُّ أنكِ يجب أن تبحثي خارج نطاق جرائم القتل العمد التي لم يُحلَّ لغزُها. ابحثي في حوادث الغرق، وكذلك حوادث تناول جرعاتٍ زائدة من العقاقير والمخدِّرات. أوه، يُذكِّرني هذا بشيءٍ.» فتحتُ حقيبتي وأخرجتُ الكتابَين اللذين أحضرتُهما معي، النسخة الورقية من «المُغْرِق» التي كنت أعيد قراءتها ليلة البارحة، بالإضافة إلى نسخة ورقية من «سبق الإصرار» التي وجدتُها في مجموعتي الشخصية صباح ذلك اليوم. لقد كان كتابًا ورقيَّ الغلاف في حالةٍ رثَّة للغاية من إصدارات شركة «بان بوكس» للنشر، وكان الغلاف شبه متهالك. ناولتُ كليهما إلى العميلة مالفي. قالت: «شكرًا. سأحرص على إعادتهما إليك.»


قلتُ: «لا تَشغلي بالكِ كثيرًا بذلك. كلاهما لا يمكن الاستغناء عنه، ولقد قرأتُ «المُغْرِق» الليلةَ الماضية. قرأتُها مرةً أخرى، أعني؛ إذ مرَّت مدةٌ طويلة منذ آخرِ مرةٍ قرأتُها.»


قالت: «أوه، حسنًا. أيُّ أفكار؟»


«ذُكرت جريمتا قتْل في الكتاب. هناك امرأة تُقتَل أثناء السباحة. لقد سُحِبَتْ من الأسفل، وهذا ما يُظهره لكِ غلاف الكتاب بالأساس. ولكن هناك جريمة قتْل ثانية، وهي جريمة مزعجة حقًّا. تَرتكبُ القاتلة، وهي امرأةٌ قوية البنيان للغاية، على نحوٍ يبدو خارقًا للطبيعة، جريمةَ قتل حيث تقتل رجلًا عن طريق إصابته بنوبة قلبية بضربةٍ من يدها. إنها تقبض يدَها بصرامة هكذا»، أوضحتُ لها هيئة الإمساك بالضحية من خلال رفع يدي ومدِّ أصابعي، «وترفعها ببطءٍ وتضرب تحت قفصه الصدري حتى تستشعر مكانَ قلبه ثم تعتصره بشدة.»


ارتسَم على وجه العميلة تعبيرٌ يوحي بالاشمئزاز وقالت: «فعلٌ مقزز».


قلتُ: «لا أدري إنْ كان هذا ممكنًا. وحتى لو كان ممكنًا، فأنا متأكِّد أنَّ تشريح الجثة سيُظهِر ما حدث.»


قالت: «أعتقدُ ذلك أيضًا. ما زلتُ أرى أننا يجب أن نبحثَ عن حوادث الغرق. أعتقدُ أن قاتلنا تشارلي سيرغب في محاكاةِ القتل غرقًا، لا سيَّما أن هذا هو عنوان الكتاب.»


قلتُ: «صحيح.»


«هل تذكَّر أيَّ شيءٍ آخر من الكتاب؟»


لم أخبِرها كيف أني لم أتذكِّر فحسب كيف كانت عمليات القتل ذات طابع جنسي. لقد تخيَّلتْ آنجي، القاتلةُ المختلةُ عقليًّا، شخصيتَين لنفسها؛ إحداهما متأثِّرة بشخصية «جان دارك» التي جعلها نقاؤها منيعةً ضد الألم، والأخرى أسمَتْها شعورَ «الفرس الأحمر»، حيث يتقوَّس ظهرُها، وتنتصب حلمتا ثديَيها، وكانت تتقمَّص هاتين الشخصيتَين عند ارتكابها جريمةَ قتلٍ ما. لقد جعلني هذا أتساءل عما إذا كان كلُّ القتَلة بحاجةٍ إلى القيام بذلك؛ بحاجة إلى الانفصال عن أنفسهم أثناء القتل، ليتقمَّصوا شخصيةً أخرى. هل كان تشارلي هكذا؟


لكن ما قلتُه للعميلة مالفي كان: «في الواقع إنه ليس كتابًا رائعًا. أنا أحبُّ جون دي ماكدونالد ولكن، باستثناء شخصية آنجي، لم يكن هذا الكتاب أفضلَ أعماله.»


هزَّت كتفَيها ووضعت كِلا الكتابَين في حقيبتها الخاصة. أدركتُ أن تقييمي النقدي للكتاب لم يكن في محلِّه تمامًا. ومع ذلك، نظرت إلى الأعلى وقالت: «لقد كنت متعاونًا إلى أبعدِ حدٍّ. هل تُمانع إذا أرسلتُ أستشيرك في أي أمرٍ قد يتبادر إلى ذهني؟ وإذا كنت ستستمر في إعادة قراءة الكتب …»


قلتُ: «بالطبع.»


تبادَلنا عناوين البريد الإلكتروني، ثم نهضنا، ورافقَتني إلى مدخل الفندق. قالت وهي تسير معي إلى الخارج: «أريدُ أن ألقيَ نظرةً على أحوال الطقس». كان الثلج يتساقط بندرةٍ الآن، لكن ملامح المدينة قد تبدَّلَت؛ إذ تجمَّعَت كتلٌ من الثلج في الزوايا، وانحنت الأشجار، حتى الجدران القرميدية للبنايات المجاورة كانت قد اكتست بنسيج أبيضَ اللون.


قلتُ: «حظًّا سعيدًا في العودة إلى المنزل.»


تصافحنا. دعوتُها بالعميلة مالفي، وطلبت مني أن أناديها جوين. وبينما كنت أبتعدُ رويدًا رويدًا، خلال الثلوج التي يصل ارتفاعها إلى قصبة الساق، قررتُ بأنها علامة طيبة أن تطلب مني أن أدعوَها باسمها الأول.


الفصل السابع


عندما وصلتُ إلى المتجر، بعد عشرين دقيقة، كانت إيميلي بارساميان تحت المظلَّة تنظر إلى هاتفها.


سألتُ: «منذ متى وأنت هنا؟»


«عشرون دقيقة. عندما لم أتلقَّ ردًّا منك، ظننتُ أننا سنفتح أبوابنا في ساعات العمل العادية.»


«آسف. كان ينبغي أن ترسلي إليَّ رسالة نصية». قلتُ هذا وأنا أعلم أنها لم ترسل إليَّ رسالةً نصية مطلقًا خلال أربع سنوات، وبأنها ربما لن تفعل ذلك قط.


قالت بينما فتحتُ الباب، ثم تبعتُها إلى الداخل: «لم يكن لديَّ مانعٌ من الانتظار. لقد كان خطئي لأنني نسيتُ مفاتيحي.»


جاءَ نيرو لتحيتنا، وهو يموء، وجلسَت إيميلي القُرفصاء لتحكَّ ذقنه. اتجهتُ وراء طاولة الدفع وأضأتُ الأنوار. وقفت إيميلي وخلعَت معطفها الأخضر الطويل. كانت ترتدي تحته ما كنتُ أعتقده زيَّ العملِ الخاص بها؛ تنورةً داكنة متوسطة الطول، حذاءً مبطَّنًا، وكنزةً عتيقة تحتها قميصٌ بأزرار، أو تي-شيرتًا في بعض الأحيان. قلَّما كانت تصاميم التي-شيرت التي ترتديها أدلةً حول ما تحبُّه إيميلي وما تكرهه، كان بعضُها ذا علاقة بالكتب — كان لديها تي-شيرت عليه غلاف قديم لكتاب شيرلي جاكسون «لطالما عِشنا في حصن» مع رسم توضيحي لقطٍّ أسود وسط عشب أخضر طويل — والعديد منها كان لفرقةٍ غنائية تُدعى «ذا ديسمبرست». في الصيف الماضي كانت ترتدي تي-شيرتًا يحمل إعلانًا عن «الاحتفال بالأول من مايو في جزيرة سامراي عام ١٩٧٣» وتملَّكَني شعورٌ مزعج طوال اليوم بأنَّ ما كُتب على التي-شيرت بدا مألوفًا. سألتُها أخيرًا، وأخبرتني أنه يشير إلى فيلم «رجل الأغصان»، وهو فيلم رعب يرجع إلى حِقبة السبعينيَّات من القرن العشرين لم أشاهده منذ سنواتٍ عديدة. سألتُ: «هل أنت من محبي الرعب؟»


في العادة عندما كنا نتحدَّث، كانت تنظر إما إلى جبهتي أو ذقني. قالت: «أعتقد ذلك.»


قلتُ آملًا أن تستمرَّ المحادثة: «ما أفضل خمسة أفلام لديك؟»


عبَسَت لوهلة، وهي تفكِّر، ثم قالت: ««طفل روزماري»، و«طارد الأرواح»، و«عيد الميلاد الأسود» — الفيلم الأصلي — و«المخلوقات السماوية»، و… إمم، «كوخ الغابة»، على ما أعتقد.»


«لقد شاهدتُ اثنَين من الأفلام الخمسة، ماذا عن فيلم «البريق»؟»


«كلَّا». هزَّت رأسها بسرعة، وظننتُ أنها قد تُسهب في الحديث، لكن كانت هذه نهايةَ المحادثة. لم أكن أمانع كونها شخصيةً متحفِّظة. فلقد كنتُ بدوري كذلك. وكونك شخصًا متحفِّظًا هي سمةٌ نادرة هذه الأيام. لكنني ما زلت أتساءل عن حياتها الداخلية. وتساءلتُ عمَّا إذا كانت لديها طموحاتٌ إلى جانب كونها بائعةَ كتب.


بينما كانت تُعلِّق معطفها المُندَّى، سألتُها إن كان الوصول إلى المتجر صعبًا أم لا. قالت: «لقد ركبتُ الحافلة، كان الأمر على ما يُرام»، كانت تعيش على الجانب الآخر من النهر، بالقرب من ميدان إنمان في كامبريدج. كلُّ ما كنت أعرفه عن وضْعها المعيشي هو أنها تقاسمَت شقةً من ثلاث غرف نوم مع خريجين آخَرين من كلية وينسلو.


اتجهَت إيميلي إلى الجزء الخلفي، حيث الطاولةُ التي كنت أجمع فيها ما يصل حديثًا من كتبٍ. كانت وظيفتُها الأساسية هي تحديث متاجرنا على الإنترنت ومراقبتها. إننا نبيع الكتب المُستعملة من خلال موقع «إيباي» و«أمازون» وموقع يُسمى «أليبريس»، وبعض المواقع الأخرى التي لم يكن لديَّ حتى معرفةٌ بها. اعتدتُ أن أفعل بعضًا من ذلك بنفسي، وأتلقى الطلبات، لكن إيميلي تولَّت المهمةَ بالكامل. كان هذا أحدَ أسباب قلقي بشأن خُططها المستقبلية. إذا تركت العمل في المتجر، فسأكون في ورطة كبيرة.


بقيتُ خلفَ الطاولة وتفقَّدتُ الهاتف بحثًا عن رسائل — لم يكن هناك أيُّ رسائل — ثم أجريتُ تسجيل دخول إلى مدوَّنة «أُولد ديفيلز»، وهو أمرٌ نادرًا ما أفعله هذه الأيام، لكن زيارة جوين مالفي جعلَتني مهتمًّا بإلقاء نظرة. بلغ إجماليُّ عدد المدخلات على المدوَّنة ٢١١ مُدخلًا، آخرها أُدخِل منذ شهرَين. كان يُطلق عليها «مختارات العاملين»، وهو شيءٌ أجبرتُ إيميلي وبراندون على القيام به بصفة دورية، حيث يكتبان جملتين عن آخِر كتاب قرَآه ونال إعجابهما. اختار براندون آخرَ رواية بقلم لي تشايلد «جاك ريتشار»، وكتبَت إيميلي تعريفًا موجزًا بكتاب دوروثي بي هيوز «في مكانٍ مُوحش»، وبالنسبة إليَّ وقع اختياري على كتابٍ من قِبَل كيت أتكينسون «بدأتُ مبكرًا، أخذتُ كلبي». لم أكن قد قرأتُه بالطبع، لكني كنت قد قرأت ما يكفي من التعقيبات التقييمية والملخَّصات التي تجعلني أستوعبه وكأني قرأتُه، علاوةً على أنني كنت مُعجبًا بالعنوان.


أمضيتُ ساعة أو ما يقارب في تمرير مدخلات المدوَّنة للخلف، وكان الأمرُ كما لو أنني أعيشُ السنوات العشرَ الماضية من حياتي في الاتجاه المعاكس. كان هناك أول وآخر مشاركة لجون هيلي، لقد نُشرت في الأسبوع الذي غادر فيه المتجر، مُلقيًا على عاتقي المسئولية. كان قد باع «أُولد ديفيلز» وجميع أسهمها لي أنا وبراين موري عام ٢٠١٢. كان براين قد أسهم بمعظم رأس المال، لكنه منَحني حصةً ملكية بنسبة ٥٠ في المائة، بما أنني سأتولَّى الإدارة. والأمر ناجحٌ حتى الآن. اعتقدتُ في البداية أن براين سيرغب في الانخراط أكثرَ مما كان عليه الحال، لكن لم يحدُث ذلك. كان يأتي إلى المتجر لحضور حفل عطلتنا السنوية، إلى جانب حضور جميع ندواتنا النقاشية تقريبًا، لكن، بخلاف ذلك، فقد أسند إليَّ المسئولية، باستثناء هذين الأسبوعين في السنة عندما أقوم برحلتي السنوية إلى لندن. ورغم ذلك، كنت أرى براين كثيرًا. استغرق الأمرُ منه نحو شهرين لكتابةِ مقدِّمة سلسلة إليس فيتزجيرالد. وأطلق على بقية السنة «إجازة شرب الخمر»، التي يقضي معظمها على مقعدٍ مُغطًّى بالجلد في البار الصغير بفندق «بيكون هيل». كنت كثيرًا ما أُعرِّجُ عليه لتناول مشروبٍ معه، على الرغم من أنني حاولتُ القيامَ بذلك في وقتٍ مبكِّر من المساء. إذا تأخرتُ في وصولي أكثرَ من اللازم، فإن براين — راويَ القصص المعتاد — سيُقدِّم لي أعظمَ حكاياته، وهي قصصٌ سمعتُها بالفعل مئات المرات.


مرَّرتُ المنشورات أكثرَ إلى الوراء، لاحظتُ غيابَ أيِّ منشور منذ خمس سنواتٍ مضت، في العام الذي ماتت فيه زوجتي. كان آخر إدخال قبل هذا الحدث قائمةٌ كتبتُها بعنوان «ألغاز من أجل ليلة شتاءٍ باردة»، نُشرت في الثاني والعشرين من ديسمبر عام ٢٠٠٩. تُوفيت زوجتي في الساعات الأولى من صباح الأول من يناير عام ٢٠١٠؛ على إثر حادث سير، حيث انزلقَت من ممرٍّ علوي على الطريق ٢ وهي مخمورة. لقد أطلَعوني على صورٍ بغرضِ تحديد هُويتها، وكانت هناك مُلاءة بيضاء قد غطَّت رأسَها من أعلى الحاجبين. بدا وجهها خاليًا من العلامات على الرغم من أنني تخيَّلتُ أن جمجمتها قد تهشمَت تمامًا من أثر الارتطام.


قرأتُ قائمة الروايات البوليسية التي اخترتُها، كلُّها تدور أحداثُها في فصل الشتاء أو أثناء العاصفة. في هذه المرحلة من مسيرتي المهنية في كتابة المدوَّنات، كنت سعيدًا بمجرد إنشاء قائمة ببعض الكتب، وعدم الاستطراد في وصفها. كان هذا هو منشوري:


«لغز سيتافورد» (١٩٣١) بقلم أجاثا كريستي

«الخيَّاطون التسعة» (١٩٣٤) بقلم دوروثي إل سايرز

«الجُثَّة في رجل الثلج» (١٩٤١) بقلم نيكولاس بليك

«مُقيَّدٌ بأشرطة مُلوَّنة» (١٩٧٢) بقلم نايو مارش

«البريق» (١٩٧٧) بقلم ستيفن كينج

«حديقة جوركي» (١٩٨١) بقلم مارتن كروز سميث

«إحساس سميلا بالثلج» (١٩٩٢) بقلم بيتر هوج

«خطة سهلة» (١٩٩٣) بقلم سكوت سميث

«حصاد الثلج» (٢٠٠٠) بقلم سكوت فيليبس

«غراب أسود» (٢٠٠٦) بقلم آن كليفز

تذكَّرتُ جمْعها معًا، وتذكَّرتُ قلقي بشأن إدراج رواية «البريق» في القائمة؛ لأنها كانت روايةَ رعب وليست روايةً بوليسية على الإطلاق، لكنني أدرجتُها على أي حال؛ لأنها كانت روايةً أحبُّها. كان من الغريب أن أتذكَّر مثل هذه التفاصيل الدقيقة، هذه الأفكار التافهة التي تملَّكَتني لأقلَّ من أسبوعين قبل أن يتغيَّر عالمي إلى الأبد. إذا كان بإمكاني العودة إلى أواخر ديسمبر من ذلك العام، فلم أكن لأكتب هذه القائمةَ مطلقًا. كنت سأقضي كلَّ وقتي أقاتل من أجل زوجتي بكلِّ ما أوتيتُ من قوة، كنت سأخبرها بأنني على علمٍ بعلاقتها الغرامية، وبأنني أعلم أنها عادت إلى تعاطي المخدِّرات مجددًا، كنت سأخبرها بأنني سامحتُها، وأن بإمكانها العودةَ إليَّ. مَن يدري إن كان أيٌّ من هذا سيُحدث فرقًا؟ لكن على الأقل سأكون قد حاولت.


مرَّرتُ إلى الوراء أكثر، ووجدتُ قائمةً أخرى، «رواياتُ جريمة عن الخيانة»، وتحقَّقتُ بسرعة من التاريخ. لم أكن قد علمتُ رسميًّا بشأن زوجتي في هذه المرحلة، لكن لا بد أنني خمَّنتُ، لا بد أنني عرَفتُ في داخلي بأن شيئًا ما كان يجري. واصلتُ التمرير للخلف، وكانت منشورات المدوَّنة تزداد تواترًا مع وصولي إلى السنوات التي كنت أُداوم فيها على تحديث المدوَّنة. فكَّرتُ، وليس للمرة الأولى: لماذا يجب أن يكون لكل شيءٍ قائمة؟ ما الذي يدفعنا إلى ذلك؟ كان شيئًا أفعله منذ أن أصبحتُ قارئًا مهووسًا، منذ أن بدأت أنفق كلَّ أموالي في متجر «آنيز بوك سواب». عشرة كتب مُفضَّلة. عشرة كتب رعب. أفضل روايات جيمس بوند. أفضل ما كتب رولد دال. أفترضُ أنني أعرف لماذا فعلت ذلك حينذاك. لا يتطلب الأمر الحصولَ على درجةٍ جامعية في علم النفس حتى أفهم أنها كانت طريقةً لأمنح نفسي هُوية. ذلك أنني لو لم أكن طفلًا في الثانيةَ عشرة من عمره قرأ كلَّ رواية لديك فرانسيس (ويستطيع تسميةَ أفضل خمس رواياتٍ له)، لأصبحتُ إذن مجردَ طفل وحيد دون أصدقاء مع أمٍّ بعيدة ووالدٍ مدمنٍ للشراب. كانت تلك هي هُويتي، ومَن عساه يريدها؟ ومِن ثمَّ، أعتقد أن السؤال هو لماذا أستمرُّ في فعل ذلك، لماذا أستمر في إنشاء القوائم، حتى بعد أن أصبحتُ أعيش في بوسطن، وحصلتُ على وظيفة جيدة، وتزوجتُ ووقعتُ في الحب؟ لماذا لم يكن كلُّ ذلك كافيًا؟


في النهاية عُدتُ إلى بداية المدوَّنة، إلى «ثماني جرائم كاملة». لقد قرأتُها عدةَ مرات خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية حتى إنني لم أكن بحاجةٍ إلى قراءتها مرةً أخرى.


فُتح البابُ الأمامي، ورفعتُ رأسي. كانا زوجين في منتصف العمر، تدثَّر كلاهما بمعاطفَ شتوية منتفخة ذات قلَنسوات. لقد كانا على الأرجح ذَوي بِنية ضخمة بالفعل أسفل تلك المعاطف، لكن طبقات الملابس الإضافية جعلتهما أشبهَ بالكُرَة. كان عليهما الدخولُ منفردَين عبْر الباب. وعندما أنزلا غطاءَي رأسَيهما وفكَّا سحَّابا معطفيهما، اقتربا مني وهما يبتسمان، وقدَّما نفسَيهما على أنهما مايك وبيكي سوينسون من مينيسوتا. لقد أدركتُ على الفور أنهما صنفٌ معيَّن من العملاء نحصُل عليه بين الفينة والأخرى؛ قُرَّاء الروايات البوليسية المتعصِّبون الذين يحرصون على زيارتنا خلال رحلتهم إلى بوسطن. إن «أُولد ديفيلز» ليس متجرًا مشهورًا، لكننا مشهورون لدى فئة معينة من القُرَّاء.


قلتُ: «لقد جلبتما طقسكما معكما»، وضحك كلاهما، وأخبراني كيف كانا يُخطِّطان للمجيء إلى بوسطن منذ سنوات.


قال الرجل: «ينبغي أن تذهب إلى تشيرز، ينبغي أن تجرِّب بعضًا من حساء البطلينوس، وبالتأكيد ينبغي أن تأتيَ إلى أُولد ديفيلز».


قالت زوجته: «أين نيرو؟» وكما لو كانت تلك بمنزلةِ إشارةٍ متفَقٍ عليها مسبقًا، التفَّ نيرو حول رف الإصدارات الجديدة ومَثَل أمام الزوجين. لقد كان علينا جميعًا المشاركة، على ما أظن.


غادر مايك وبيكي بعد ساعة ونصف الساعة. كان حديثًا بنسبة ٩٠ في المائة وتسوقًا بنسبة ١٠ في المائة، وإن كانا قد اشترَيا مجلَّداتٍ موقَّعةً بقيمة مائة دولار، وسجَّلا عنوانهما في إيست جراند فوركس حتى نتمكَّن من إرسال الكتب إليهما بالبريد. قال بيكي: «لقد نسينا ترْك أيِّ متسعٍ في حقائبنا.»


كانت الثلوج قد توقَّفَت عن الهطول عندما غادرا. وكانا قد أخذا معهما العديدَ من فواصل الكتب الخاصة بنا هدايا تذكاريةً، بالإضافة إلى أنني أرشدتُهما إلى بعض المطاعم في المنطقة المجاورة التي كانت أفضل من «تشيرز». وبينما كنت أمسك لهما البابَ حتى يخرجا، وصل براندون، مرتديًا سترةً ذات قلنسوة فحسب، على الرغم من أنه كان يرتدي قفازاتٍ وقبعةً صوفية تحت قلنسوته. لقد نسيتُ أنه كان من المقرَّر أن يحضُر اليوم. قال: «تبدو متفاجئًا، إنه يوم الجمعة.»


قلتُ: «أعرف.»


أضاف بصوتٍ عالٍ، ممددًا صوتَ العلة في كلمة الله إلى حدٍّ مثيرٍ للإعجاب: «حمدًا لله إنه يوم الجمعة. وحمدًا لله أنَّ لديَّ عملًا أذهبُ إليه، ومن ثمَّ لست مضطرًّا إلى العودة إلى المنزل طَوال اليوم.»


سألتُ: «هل أُلغيَ صفُّك الدراسي؟»


قال: «أوه، نعم». كان يحضُر دوراتٍ في إدارة الأعمال، معظمُها في الصباح، وكان قد شرع فيها منذ أن بدأ العمل بالمتجر. آخرَ مرة سألتُه فيها عرَفتُ أنه سوف يتخرَّج قريبًا، وعلمتُ أنني على الأرجح سأفقده. سيكون الأمر على ما يرام، لكنني سأفتقد ثرثرته التي لا تتوقَّف. وكانت هذه النقطة نقيضًا لطيفًا لصمت إيميلي، ولصمتي أيضًا على ما أعتقد.


سحبَ كتيبًا ورقيًّا — رواية «القنَّاص» لريتشارد ستارك — من الجيب الأمامي في سترته ذات القلنسوة، وناولني إياه. قال: «رائعة بدرجة مذهلة.» عندما بدأ العمل في المتجر لأول مرة، كان عليَّ أن أذكِّره باستمرار بألا يُطلق السُّباب، بسبب العملاء، ومن ثمَّ عدَّل أسلوبه. كان قد استعار الكتابَ من المتجر بناءً على اقتراحي قبل يومين فقط. وما بين العمل بدوام كامل والذهاب إلى الكلية والحفاظ (حسب قوله) على حياة اجتماعية نشطة للغاية، تمكَّن أيضًا من قراءة نحو ثلاثة كتب في الأسبوع. نظرتُ إلى الكتيب، الذي تغيَّر فيه العنوان إلى «تسديدة مباشرة!» ليعكس فيلم لي مارفن الذي أُنتج عام ١٩٦٧.


قال قاصدًا الحالةَ التي كان عليها الكتاب: «لقد أخذتُه على هذه الحالة، مال». تقتضي سياسة استعارة الكتب من قِبل الموظفين أنَّ في مقدورهم أخْذَ أي كتاب إلى المنزل لقراءته ما داموا لن يُضيفوا إليه مزيدًا من التلف.


قلتُ: «كلَّا، يبدو على ما يرام.»


قال براندون: «أجل، إنه كذلك»، ثم صاح في ثلاثة مقاطع متساوية التشديد: «إيميلي». جاءت من الخلف، وعانقها براندون، وهو أمرٌ كان يفعله أحيانًا إذا مرَّ أكثرُ من يوم منذ وجوده في المتجر آخرَ مرة. لقد عانقني فقط في حفل العطلة السنوية، وفي المناسبات القليلة التي أغلقنا فيها المتجر، ثم أسرعنا في تناولِ كأسٍ من الجِعَة في مطعم «سيفنز». أنا لا أميل إلى العِناق بطبعي، مع أنه الآن البروتوكول القياسي للتحية بين رجال جيلي. فأنا لا أستطيع التركيزَ على الحركات، لا سيَّما إذا كان العِناق يتضمَّن واحدةً من تلك التربيتات الذكورية على الظهر. عندما أخبرتُ زوجتي كلير، عن جزعي هذا تحديدًا، بدأَت تتدرَّب معي. أصبحنا مدةً من الوقت يُحيِّي كلٌّ منَّا الآخرَ في المنزل بعناقٍ ذكوري.


تبِع براندون إيميلي إلى الغرفة الخلفية، حيث أخذ قائمةَ الطلبات البريدية، وبدأ في تجميع أكوامٍ من الكتب لشحنها. من المزايا العظيمة لوجود الموظفين أنفسِهم هنا مدةً طويلة أنني لا أحتاج إلى إخبارهما بما يتعيَّن عليهما فِعله. ونظرًا إلى ولائهما، فإنني أدفع لهما أكثرَ بكثير مما تُقدِّمه أماكنُ البيع بالتجزئة الأخرى على ما أظن. لست بحاجةٍ إلى تحقيقِ أرباح كبيرة، ولا أعتقد أن براين موري يهتمُّ كثيرًا أيضًا. سعيدٌ لمجرد أنه يمتلك متجرًا لبيع الروايات البوليسية، سواءٌ كان يملكه كلَّه أو يملك نصفَه.


استمعتُ إلى براندون وهو يخبِر إيميلي بكامل حبكة «القنَّاص» بينما كنت أُحدِّثُ الإصدارات الجديدة. دخل أربعة زبائن آخَرين، منفردِين: سائحٌ ياباني، وزبونٌ منتظِم يُدعى جو ستيلي، ورجل في العشرينيَّات من العمر كنت أعرفه بالنظر حيث كان دائمَ التصفُّح لقسم الرعب ولم يبتَع أيَّ شيءٍ قط، بالإضافة إلى امرأةٍ كان من الواضح أنها ما دلفَت إلى الداخل إلا هربًا من برودة الطقس بالخارج. تفقَّدتُ هاتفي لمعرفة حالة الطقس. كانت الثلوج قد توقَّفت الآن، لكن درجات الحرارة كانت ستنخفض على مدار الأيام القليلة المقبلة إلى ما دون الصفر. كلُّ الثلوج التي تساقطت ستتحوَّل إلى أكوامٍ سوداء من الجليد بفعلِ وسخِ المدينة.


عُدتُ إلى جهاز الكمبيوتر الخاص بي للتحقُّق من رسائل البريد الإلكتروني، ثم ألقيتُ نظرةً خاطفة على موقع المدوَّنة، كان لا يزال مفتوحًا على قائمة «ثماني جرائم كاملة». هناك سطرٌ ثانوي في أسفل القائمة يفيد بأنَّ مَن نشرَها هو مالكوم كيرشو، ثم وقت المنشور وتاريخه، ثم ثلاثة تعليقات على المنشور. تذكَّرتُ أنه كان هناك تعليقان فقط، ومن ثمَّ نقرتُ فوق التعليقات لقراءتها. كان آخرُ تعليقٍ قد نُشر منذ أقلَّ من أربع وعشرين ساعة، في الساعة الثالثة صباحًا، من مُستخدم يُدعى دكتور شيبارد، وكان كالتالي: «أنا في منتصف قائمتك. غريبان على متن قطار (تمَّ)، جرائم الأبجدية (تمَّ أخيرًا). تعويض مزدوج (متعذِّر). مصيدة الموت (شاهدتُ الفيلم). عندما أنتهي من القائمة (لن يستغرق هذا وقتًا طويلًا الآن)، سأتواصل معك. أو عساك تعرف مَن أكون؟»


الفصل الثامن


في تلك الليلة طهوتُ لنفسي قطعةَ لحم الخنزير التي كانت في الثلاجة، على الرغم من أنني كنتُ لا أزال أرتجف، ولقد أفرطتُ في طهيها. التفَّت جوانبها، وأصبحت قاسيةً كلحمٍ مقدَّد.


منذ وقتٍ متأخِّر بعد الظهيرة، وحتى موعد الإغلاق في السابعة. لم أستطِع التوقُّف عن التفكير في التعليق الثالث على منشور المدوَّنة «ثماني جرائم كاملة». لا بد أنني قرأتُه ثلاثين مرةً حتى الآن، مُحلِّلًا كلَّ كلمة. كان الاسم الذي استخدمه مَن كَتَبَ المنشور — «دكتور شيبارد» — قد أثار انزعاجي حتى إنني بحثتُ عنه في «جوجل» في نهاية المطاف. لقد كان اسم الراوي في رواية أجاثا كريستي الشهيرة «مقتل روجر أكرويد». كانت هذه هي الرواية التي وضعت كريستي على الخريطة، إذا جاز التعبير. كُتِب عام ١٩٢٦، وهو مشهورٌ بحبكةٍ متطورة في منتهى البراعة. يُسرَد الكتابُ بصيغةِ المتكلم، من وجهة نظر شيبارد، وهو طبيبُ قرية ريفية، وجارٌ لهيركيول بوارو. صراحةً، لا أذكر شيئًا عن الجريمة نفسِها، باستثناء اسم الضحية، فيما يبدو واضحًا. أذكر أنه يتبيَّن في نهاية الرواية أن الراويَ هو القاتل الفعلي.


عندما وصلتُ إلى المنزل، ذهبتُ على الفور إلى رفِّ الكتب الخاص بي ووجدتُ نسختي من رواية كريستي. كانت لديَّ طبعة بنجوين الورقية، وهي طبعةٌ من الخمسينيَّات، ذات غلاف أخضرَ بسيط ودون صورة. رُحتُ أتصفَّحها لأرى ما إذا كان ذلك سيُنعش ذاكرتي بطريقةٍ ما فيما يتعلَّق بالحبكة الفعلية، لكنه لم يفعل، وقرَّرتُ أنني سأقرؤها في تلك الليلة.


هل كان من الممكن أن يكون مَن نشرَ التعليقَ مجردَ قارئ حقًّا، يستغل قائمتي؟ اعتقدتُ أنه كان احتمالًا واردًا، احتمالًا ضئيلًا للغاية، باستثناء حقيقةِ الكتب المذكورة على أنه أتمَّ قراءتها. كانت تلك الكتب التي ارتُكبت عن طريقها جريمةٌ بالفعل. «جرائم الأبجدية»، و«تعويض مزدوج»، و«مصيدة الموت»، و«غريبان على متن قطار» أيضًا، على الرغم من أن جوين مالفي لا تعرف كلَّ شيء عن تلك بعد. كنت أنا مَن أعرفُ بشأنها. ومعي شخصٌ آخرُ كذلك.


إن كانت هذه الكلمات قد قُرئت بأي حال، فأنا متأكِّد من أن القارئ ربما خمَّن أن لي علاقةً بهذه الجرائم أكثرَ مما أفصحت عنه بالفعل. وثمة أدلةٌ تؤيِّد ذلك. فعلى سبيل المثال، لماذا تسارع خفَقانُ قلبي عندما بدأت جوين مالفي في استجوابي لأول مرة؟


لماذا لم أخبِرها على الفور بأنني أعرف مَن هي إلين جونسون؟


لماذا تناولتُ قضمتَين فقط من شطيرتي في الليلة التي أعقبَت زيارةَ العميلة الفيدرالية لي؟


لماذا أحلُم بأنَّ هناك مَن يطاردني؟


لماذا لم أخبِر جوين على الفور بتعليق الدكتور شيبارد؟


وأما القارئ الداهية حقًّا، فربما لاحظ أن اختصار اسمي هو «مال» … الذي يعني، بالفرنسية طبعًا، «سيئًا». ومع ذلك، فالأمور تُؤخَذ أبعدَ من اللازم؛ لأن هذا هو اسمي حقًّا. لقد غيَّرتُ بعضَ الأسماء لأجل هذه النُّبذة الوصفية، ولكن ليس اسمي.


•••


حانَ الوقتُ لقول الحقيقة.


حانَ الوقتُ للحديث عن كلير.


كان هذا هو اسمَها الحقيقي أيضًا. كلير مالوري، التي نشأت في بلدة ثرية في مقاطعة فيرفيلد بكونيتيكت، وهي واحدة من ثلاث شقيقات. لم يكن والداها خيِّرَين للغاية، لكنهما لم يكونا شرِّرَين للدرجة التي تجعلهما جزءًا من هذه القصة في واقع الأمر. كانا ميسورَي الحال وسطحيَّين؛ كانت والدتُها، على وجه التحديد، مهووسةً بجاذبية بناتها الثلاث ووزنهن، ولأنها كانت مهووسة بذلك، فإن والدها — الذي لا ينفرد بأي شخصية مستقلة — يتفقُ معها. ولقد أرسلا أطفالهما إلى المعسكرات الصيفية في ولاية مين وإلى المدارس الخاصة الفاخرة، واختارت كلير، كُبراهنَّ سنًّا، الذهابَ إلى جامعة بوسطن؛ لأنها أرادت أن تكون في مدينة، وقد بدَت كلٌّ من مدينة نيويورك وهارتفورد قريبةً للغاية من مكان نشأتها.


في جامعة بوسطن، تخصَّصَت في السينما والتلفزيون، كانت ترغب في أن تصبح مخرجةَ أفلام وثائقية. كان عامُها الأول على ما يُرام، لكن في عامها الثاني وبدافع من صديقها المتخصِّص في فنون المسرح، انخرطَت بشدةٍ في المخدرات، خصوصًا الكوكايين. ومع تفاقم حالتها، بدأت تُعاني نوبات هلع، مما جعلها تُفرط في الشراب. توقَّفت عن دراستها، ووُضعت تحت المراقبة الأكاديمية، تعافت مدةً وجيزة ثم رسَبَت في عامها الأول. وقد حاول والداها جاهدَين إعادتها إلى المنزل، لكنها بقيت في بوسطن بدلًا من ذلك، واستأجرَت شقةً في ألستون وحصلَت على وظيفة في متجر «ريدلاين» للكتب، حيث كنتُ قد رُقِّيتُ وقتَها إلى منصب مدير.


لقد كان حُبًّا من النظرةِ الأولى حقًّا. على الأقل بالنسبة إليَّ. عندما جاءت لإجراء مقابلة، كان من الواضح أنها متوترة وكانت يداها ترتجفان قليلًا، وظلَّت تتثاءب، الأمر الذي بدا غريبًا، لكنني أدركتُ أنه كان علامةً على فرط قلقها وشدة توتُّرها. جلست على كرسي دوَّار في مكتب مورت، ووضعَت يدَيها على فخذَيها. كانت ترتدي تنورة قصيرة وجواربَ طويلة ضيقة داكنة، بالإضافة إلى سترة ذات ياقة عالية. كانت نحيفة على نحوٍ ملحوظ، ولها عنقٌ طويل. بدا رأسُها كبيرًا جدًّا بالنسبة إلى جسدها، ووجهُها مستديرًا على نحوٍ مثالي تقريبًا. كانت ذات عينين بُنيتين داكنتين، وأنفٍ رفيع، وشفاهٍ تبدو غليظةً ومثيرة. وكان شعرها داكنًا جدًّا، ومقصوصًا بطريقةٍ تشبه قصةَ البوب. بدت لي كأنها صيحةٌ قديمة، شيء قد يعتمره محقِّق هاوٍ مقدام في فيلم من ثلاثينيات القرن العشرين. كانت جميلة جدًّا لدرجةِ أن خفقانًا ثقيلًا قد احتلَّ صدري.


سألتُها عن خبراتها العملية. كانت خبرتها قليلةً للغاية، لكن خلال الصيف الماضي كانت تعمل في سلسلةِ متاجر «وولدنبوكس» للكتب في مركزها التجاري المحلي بولاية كونيتيكت.


سألتُها: «مَن هم كُتَّابك المُفضَّلون؟» وبدَت متفاجئةً من السؤال.


قالت: «جانيت فريم. فرجينيا وولف. جانيت وينترسون». ثم فكَّرت هُنيهة. «أقرأُ الشعر أيضًا. إدريان ريتش. روبرت لويل. آن سيكستون.»


سألتُها على استحياءٍ: «سيلفيا بلاث؟» بدا الأمر أحمقَ؛ إذ أشير إلى أشهر شاعرات الشعر الاعترافي، كما لو كنت أذكِّرُها بطريقةٍ ما بالاسم.


قالت: «بالتأكيد»، ثم سألتني عن كُتَّابي المُفضَّلين.


أخبرتُها. ظلِلنا نتحدَّث على هذا المنوال، بشأن الكُتَّاب على مدى ساعة كاملة، وأدركتُ أنني لم أطرح عليها إلا سؤالًا واحدًا فقط حول الوظيفة الفعلية.


قلتُ: «ما الساعات التي ستكونين متاحة فيها؟»


لمست وجنتَها وراحت تفكِّر، ثم قالت: «أوه». لاحظتُ ذلك على الفور، غيرَ مدركٍ في تلك اللحظة كم مرةً سوف أرى هذه الإيماءةَ منها، وكيف سأراها في النهاية ليس فقط كشيءٍ محبَّب وفريد، ولكن كشيءٍ ينِمُّ عن القلق. قالت ضاحكةً: «لا أدري لماذا أفكِّر في الأمر. أيُّ ساعاتٍ.»


مرَّت ستةُ أسابيع قبل أن أستجمِع شجاعتي لأطلب منها الخروج معي.


حتى في ذلك الوقت، كنت أصوغُها في إطار لقاء عمل. كانت روث ريندل تنظِّم حدثًا في مكتبة بوسطن العامة، وسألتُ كلير عما إذا كانت تريد مرافقتي. أجابت بنعم، ثم أضافت: «لم أقرأ كُتُبها، ولكن إذا كانت تحوز إعجابك، فلا بد أن أقرأها»، وهي جملةٌ حلَّلتُها في الأيام التي أعقبت ذاك اللقاء كما قد يحلِّل طالبُ دراسات عليا قصيدةً لشكسبير. قلتُ، وبدا صوتي في رأسي هادئًا نسبيًّا: «ربما يمكننا تناولُ مشروب بعد ذلك؟»


قالت: «بالتأكيد.»


كان ذلك في ليلةٍ من ليالي نوفمبر، وكان الليل قد بدأ يُسدِل أستاره في الوقت الذي كنا نعبُر فيه ميدان كوبلي بشكل قُطري للوصول إلى المكتبة، وكانت الحديقة قد تناثرَت فيها أوراقُ الشجر الهشَّة. جلسنا باتجاه الجزء الخلفي من القاعة الصغيرة. وكان مَن يُحاور روث ريندل مذيعًا في الإذاعة المحلية، وكان مهتمًّا بنفسه إلى حدٍّ بعيد. ومع ذلك، كان حديثًا شائقًا، وبعدها سرتُ أنا وكلير إلى «ذا بورهاوس» لتناول مشروب، حيث جلسنا إلى طاولةٍ في الزاوية حتى وقت إغلاق المكان.


تحدَّثنا عن الكتب، بالطبع، وعن الموظفين الآخرين في متجر الكتب. لا شيءَ شخصي. لكن عندما كنا واقفين أمام مبنى شقَّتها في ألستون في الثانية صباحًا، حيث أصابت الرياحُ كلًّا منها برجفة، قالت حتى قبل أن يُقبِّل أحدُنا الآخر: «أنا فكرة سيئة.»


ضحكتُ: «ماذا تعنين؟»


«أعني، أيًّا كانت الأفكار التي تُراودك عني، فهي أفكار سيئة. فأنا لديَّ مشكلات.»


قلتُ: «لا يُهمُّني.»


قالت: «حسنًا»، وتبِعتُها إلى الداخل.


كان لديَّ صديقتان في الكلية؛ إحداهما كانت طالبة تبادُل ألمانية تدرُس مدة عام في أمهيرست، والأخرى طالبة بالسنة الأولى عندما كنتُ أنا بالسنة الأخيرة، وهي فتاة من هولتن بولاية مين، انضمَّت إلى المجلة الأدبية التي كنت أحرِّرُها آنذاك. كانت مشاعري تجاههما واحدة تقريبًا. ما جذبني إليهما هو حقيقةُ أنهما انجذبتا إليَّ. كانتا متحدثتَين حادَّتَي المِزاج، وبما أنني كنت أميلُ إلى الجانب الهادئ، فقد نجح الأمر. عندما عادت بترا إلى ألمانيا، أخبرتُها أنني سأزورها في أقربِ وقتٍ ممكن. وكان ردُّها، بأنها لم تتوقَّع قط أن تستمر علاقتنا إلى ما بعدِ مدةِ وجودها في أمريكا، وهو ما كان أمرًا محيِّرًا ومريحًا إلى حدٍّ ما؛ إذ بدا لي أنها كانت تحبُّني. بعد مرور عامَين، عندما تخرَّجتُ، أخبرتُ روث بورتر — صديقتي بالسنة الأولى — أنه بما أنني سأنتقل الآن إلى بوسطن، وهي ستبقى في أمهيرست، فينبغي لنا أن نُنهيَ العلاقة. كنت أتوقَّعُ عدمَ اهتمام مُفرح من جانبها، لكنها بدَت كما لو أنني أطلقتُ النار عليها. وبعد سلسلة من المحادثات المُؤلِمة، تمكَّنتُ أخيرًا من الانفصال عنها مُدركًا أنني قد كسرتُ قلبها أيضًا. قررتُ حينئذٍ أنني لا أجيدُ قراءة النساء، أو ربما الناس بوجهٍ عام.


ومن ثمَّ، عندما دخلتُ شقةَ كلير مالوري، وراح كلٌّ منا يقبِّل الآخر وقبل حتى أن نخلعَ عنا ستراتنا، قلتُ لها: «لمعلوماتكِ فقط، أعتقدُ أنني فظيعٌ في التلميحات غير اللفظية. أريدكِ أن تخبريني بكلِّ شيءٍ.»


ضحكت قائلة: «هل أنت متأكِّد؟»


قلتُ لها: «أجل، رجاءً»، كان هذا كلُّ ما يمكنني فِعله حتى لا أخبرها أنني أحبُّها بالفعل.


«حسنًا. سأخبرك بكل شيءٍ.»


بدأت هي تلك الليلة. وفي الفراش، بينما كان ضوءُ الفجر يملأ نافذتَي غرفة نومها المغبرَّة، أخبرتني كيف تحرَّش بها مدرسُ العلوم في المدرسة الإعدادية على مدار عامَين.


قلتُ: «ألم تُخبري أحدًا؟»


قالت: «كلَّا. إنه أمرٌ مبتذَل، لكنني شعرتُ بالخجل. اعتقدتُ أنه كان خطئي، ولم أنفكَّ أخبر نفسي أنه على الأقل لم يكن يمارس الجنس معي. لم نتبادل حتى القُبل مطلقًا. في الواقع، كان لطيفًا معي بطريقةٍ ما، هو وزوجته. لكن عندما كان ينفرد بي، كان دائمًا ما يتمكَّن من الوقوف خلفي بطريقةٍ ما، ويجذبني من أجل معانقتي واضعًا إحدى يديه في قميصي والأخرى أسفل بنطالي الجينز. أعتقدُ أنه اعتادَ أن يصل إلى النشوة بهذه الطريقة. لكنه لم يخلع ملابسي أو ملابسه قط، ودائمًا ما كان يعتريه الخجلُ بعضَ الشيء، ويقول شيئًا من قبيل «كان ذلك لطيفًا»، ثم يُغيِّر الموضوع.»


قلتُ: «يا إلهي!»


قالت: «لم يكن أمرًا جللًا، لقد حدثَت لي أمورٌ سيئة أخرى وكان هذا أحدَها فحسب. أعتقدُ أحيانًا أنَّ أمي كانت مصدرَ إيذاءٍ نفسي لي أكثرَ من ذلك المتحرِّش.»


كان لدى كلير وشمٌ على باطن ذراعَيها، وعلى طول جانبَي قفصها الصدري. مجرد خطوطٍ مستقيمة، داكنة ورقيقة. سألتُها عنها، فأخبرتني أنها شعرت بحبٍّ لرسمِ الوشم، ولكنها لم تستطِع قط اختيارَ صورة قد ترغب في أن تبقى على جسدها إلى الأبد. ومن ثمَّ، حصلت على خطوط فحسب، واحدًا تلو الآخر. اعتقدتُ أنها كانت جميلة، مثلما كان جسدها النحيف على نحوٍ غير صحي جميلًا أيضًا في نظري. أظنُّ أن علاقتنا نجحت مدةً من الوقت؛ لأنني لم أُسئ الظن بها قط، ولم أشكِّك مطلقًا فيما قالته لي. كنت أعلم أنَّ لديها مشكلات، وأنها تحتسي الشرابَ كثيرًا (وإن كانت لم تتعاطَ المخدِّرات منذ قُرابة العام)، وأنها تأكل القليل جدًّا، وكنت في بعض الأحيان، عندما نمارس الجنس، أشعرُ بأنها تريدني أن أعاملها كأداةٍ لإشباع رغبتي الجنسية، كما لو أنه لم يكن يكفيها دائمًا أن نمارس الجنس الطبيعي النابع من الحُبِّ، وأنها تريد المزيد. عندما كانت تثمَل، كانت تدير ظهرها لي، وتسحَب يدي إلى مقدِّمتها، وتضغط نفسَها في مقابلتي، وكان من المستحيل ألا أفكِّر في مُدرِّسها في المدرسة الإعدادية، وأتساءل عمَّا إذا كانت تفكِّر به كذلك.


لكنْ كلُّ هذه الظُّلمة، إنْ جاز حتى أن نُسمِّيها كذلك، لم تكن إلا مجردَ جزءٍ مما كان لدينا في السنوات الثلاث الأولى التي كنا فيها معًا. فمعظم ما كان لدينا كان تقارُبًا مُذهلًا، السعادة التي تأتي مع العثور على شخصٍ يبدو أنه يُلائمُك مثل مفتاحٍ في قُفل. هذا أفضلُ تعبير مجازي يمكنني التوصُّل إليه. أعلمُ أنه مُبتذل، لكنه صحيحٌ أيضًا. وكانت تلك هي المرةَ الوحيدة التي حدَث معي فيها هذا النوعُ من التآلف، حينذاك أو منذ ذلك الحين.


تزوَّجنا في لاس فيجاس، وكان الشاهد على زواجنا موزِّعَ ورق (بلاك جاك) كنا قد التقينا به قبل خمس دقائق. كان السببُ الرئيسي وراء هروبنا هو أنَّ كلير لم تستطِع تقبُّل احتماليةِ أن تتولَّى والدتُها مسئولية حفل زفافها. وكنت لا أرى بأسًا في ذلك. فلقد تُوفِّيَت والدتي قبل ثلاثة أعوام بسرطان الرئة. هي لم تدخِّن يومًا في حياتها قط، لكن والدي، المُدخِّن الشَّرِه كان بالطبع لا يزال على قيد الحياة، إنه يعيش الآن في فورت مايرز بفلوريدا، وما زال على حدِّ علمي مدمنًا للكحول ويشرب ثلاث عُلب من سجائر «ونستون مان» في اليوم. بعد أن تزوَّجنا أنا وكلير، انتقلنا إلى سومرفيل معًا، واستأجَرنا الطابق الأوسط في مبنًى من ثلاثة طوابق بالقرب من ميدان يونيون. وبحلول هذه المرحلة، كانت كلير قد غادرت متجر «ريدلاين» للكتب، وحصلت على وظيفةٍ إدارية في محطة سومرفيل التلفزيونية، حيث بدأت في صناعة أفلام وثائقية قصيرة. وبعد عام من إغلاق «ريدلاين» أبوابه، حصلتُ على الوظيفة في «أُولد ديفيلز». كنتُ في التاسعة والعشرين من عمري، وشعرتُ كما لو أنني وجدتُ وظيفةَ العُمر كلِّه.


لم يكنِ الأمر سهلًا بالنسبة إلى كلير. فقد استاءت من وظيفتها في المحطة التلفزيونية، لكنها لم تكن حاصلةً على شهادة جامعية، وما من وظيفةٍ تجذِب اهتمامها إلا وتشترط حصولَها على ذلك. فقررَت معاودةَ الدراسة بدوامٍ جزئي في كلية إيمرسون وإنهاء دراستها الجامعية؛ وعمِلت نادلةً في حانةٍ متواضعة في ميدان سنترال سكوير. اعتدتُ زيارتَها هناك، حيث كنت أجلسُ ساعاتٍ طويلةً في الحانة، أعاني صخبَ فِرَق البانك، وأحتسي شراب الشعير الأيرلندي الجاف، وأراقبُ زوجتي وهي تتلقَّى نظراتٍ غراميةً من قِبل الهيبز الذين يرتدون نظاراتٍ ذاتَ إطاراتٍ داكنة، وبناطيل الجينز الضيقة. استطعتُ أن أُنمِّي لديَّ القدرةَ على قراءة رواياتٍ كاملة، بينما أتجاهل هديرَ الهواةِ الصاخبين على خشبة المسرح. ومع أنني لم أكن أكبرَ سنًّا من روَّاد الحانة الآخرين، فقد شعرتُ بأنني أكبرُ سنًّا مع كتابي، وشيب شعري. لقد اعتاد السقاة الآخرون أن يشيروا إليَّ بأنني رجلُ كلير العجوز، وراحت كلير تناديني هي الأخرى بالعجوز. أظنُّ أن زوجتي ظلَّت فترةً من الوقت تحبُّ وجودي معها في الحانة. وكانت تنضمُّ إليَّ في نهاية مناوبتها لتناول الجِعَة، وبعدها نعود إلى المنزل معًا، متشابكَي الأيدي، عبْر شوارع كامبريدج وسومرفيل المزدحِمة المظلمة. لكنَّ شيئًا ما قد تغيَّر عام ٢٠٠٧. كانت جولي شقيقةُ كلير ستتزوَّج، وفجأةً عادت كلير لتنخرط مع عائلتها، فقد استُدعيَت لتكون بمنزلة حائلٍ بين أختها الصغرى ووالدتها. كانت قد فقدَت الوزن الذي اكتسبَته خلال السنوات القليلة الماضية، وأضافت عددًا من خطوط الوشم الجديدة في باطن فخذها اليسرى.


كما وقعَت في حُبِّ نادلٍ جديد يُدعى باتريك يتس!


الفصل التاسع


بعد أن أنهيتُ عشائي السيِّئ، ذهبتُ إلى فراشي مبكرًا ومعي نسختي الخاصة من إصدارات بنجوين «مقتل روجر أكرويد»، لكنني لم أستطِع التركيز. قرأتُ الصفحة الأولى مرارًا، وكان عقلي يقفز سريعًا ما بين أفكارٍ متعلقة بزوجتي وبين تساؤلاتي عمَّن كتب التعليق على منشور مدوَّنتي. ملأتُ رئتَيَّ بهواء شقتي الراكد، ثم زفرتُه ببطءٍ. لماذا أطلق على نفسِه اسمَ دكتور شيبارد؟ لأنه كان القاتل، أليس كذلك؟ ولكن، هذا لم يكن يعني أنني بحاجةٍ إلى أن أجرِّب وأقرأ الكتاب. وضعتُه على المنضدة بجانب السرير، حيث أحتفظُ بكومة من الدواوين الشعرية. هذا ما أقرؤه الآن ليلًا، قبل أن أخلُد إلى النوم. حتى لو كنت حاليًّا أقرأ السيرةَ الذاتية للأدباء (حتى لو أنني نادرًا ما أقرأ في الجريمة، فأنا أقرأ السير الذاتية لكُتَّاب الجريمة)، أو شيءٍ عن التاريخ الأوروبي، فإنَّ آخرَ ما أقرؤه قبل خلودي إلى النوم هو كلام الشعراء. تبدو لي كلُّ قصائد الشعر … بل كل الأعمال الفنية كأنها حقًّا صيحاتُ استغاثة؛ لا سيَّما الأشعار. عندما تكون جيدة، وأعتقد أنَّ القصائد الجيدة قليلة جدًّا؛ فإنَّ قراءتها تشبه وجودَ شخصٍ غريب مات منذ زمنٍ بعيد يهمِس في أذنك، في محاولةٍ لتستمع إليه.


نهضتُ من الفراش وذهبتُ إلى رفِّ كتبي لأجد مختاراتٍ من القصائد التي تحتوي على إحدى قصائدي المُفضَّلة، «غسقُ الشتاء» للسير جون سكواير. بإمكاني على الأرجح إلقاؤها عن ظهر قلب، لكنني أردتُ أن أرى الكلمات. عندما أجدُ قصيدةً أحبُّها، فإنني أقرؤها مرارًا وتكرارًا. لا بد أنني قرأتُ «الغراب الأسود في طقسٍ ممطر» لسيلفيا بلاث كلَّ ليلة قبل أن أغفوَ، على مدى عام كامل. وكنت أقرأ مؤخَّرًا كتابَ بيتر بورتر «جنازة»، وإن كان ما فهمتُه أقلَّ من نصفه. فأنا لا أتمتَّع بعقلٍ نقدي للقصائد، لكنني أتفاعل معها.


عُدتُ إلى الفِراش وقرأتُ قصيدة «سكواير»، ثم أغمضتُ عينيَّ تاركًا الكلماتِ الأخيرةَ تعدو فوقي — «وقذع خُطايَ في الطين الجيفي لهذا البلد المُقفر» — مرارًا وتكرارًا مثل ترنيمة. فكَّرتُ أكثرَ في زوجتي، وفي القرارات التي اتخذتُها. عندما دخل باتريك يتس حياتَها، وفي الواقع أتذكَّر التاريخ جيدًا لأنه كان في يوم ميلادي الموافق الحادي والثلاثين من مارس، عرَفتُ على الفور أن شيئًا بالغَ الأهمية قد حدث. كانت كلير قد أنهت مناوبةَ بعد الظهيرة في ذلك اليوم في الحانة، حتى تخرج مبكرةً وتُرافقني إلى مطعم «إيست كوست جريل» لتناول العشاء احتفالًا بهذه المناسبة. قالت: «لقد عيَّنَّا أخيرًا نادلًا جديدًا.»


«أوه.»


«باتريك. بدأتُ في تدريبه اليوم. إنه يبدو جيدًا.»


كانت الطريقة التي قالت بها اسمه مزيجًا من التردُّد والجُرأة، فعرَفتُ على الفور أنه ترك انطباعًا لديها. وشعرتُ كما لو أن تيارًا كهربيًّا يكاد يكون غيرَ محسوس قد سرى في جسدي.


سألتُ، وأنا أقلبُ محارة بطرَف إصبعي: «هل لديه خبرة؟»


«عمل في حانة في أستراليا مدة عام، ومن ثمَّ لديه بعض الخبرة. ذكَّرني بك؛ لأنه يحمل وشمًا لإدجار ألان بو على كتفه اليمنى.»


لم أكن زوجًا غَيورًا، لكنني كنت أيضًا على درايةٍ بأنَّ كلير على النقيض مني، لم تكن لتخُوض الحياةَ مُكتفيةً بي وحدي. لقد كانت مع العديد من الرجال في الكلية، وقد اعترفَت أكثرَ من مرة، بأنها مرَّت بأوقاتٍ حين كانت في كل مرة تلتقي فيها رجلًا، أو في كل مرةٍ تمرُّ فيها بجوار رجل في الشارع، تتساءل عمَّا إذا كان هذا الرجل يريدها، ثم بعد ذلك تصبح مهووسةً بما قد يفكِّر هؤلاء الرجال في فِعله بها. كنت أستمع إلى هذه الاعترافات وأقول لنفسي إنه كان من الأفضل أن تخبرني. ذلك أفضل من الخيار البديل. أفضل من الأسرار.


كان لديها مُعالج، وهي امرأةٌ أشارت إليها باسم الدكتورة مارثا، التي كانت تراها مرةً كلَّ أسبوعين، ولكن بعد زيارتها كان يعتريها مِزاجٌ سوداوي قاتم، يستمر أحيانًا عدة أيام، وتساءلتُ عمَّا إذا كان الأمرُ يستحق ذلك.


كان جزءٌ مني يخبرني دائمًا أنَّ كلير ستخونني يومًا ما، أو ربما ليست خيانة، لكنها ستقع في حُبِّ شخصٍ آخر. وقد تقبَّلتُ ذلك. وعندما سمعتُ عن باتريك، علمتُ أنَّ ذلك اليوم قد حان. لقد شعرتُ بالفزع، لكنني كنت قد قرَّرتُ بالفعل ما سأفعله. كانت كلير زوجتي. ستظل دائمًا زوجتي، وسأقف إلى جانبها مهما حدث. لقد منحني هذا شعورًا بالراحة، مدركًا أنني سأكرِّس نفسي لهذا الأمر بغضِّ النظر عن أي شيءٍ.


كانت على علاقة غرامية مع باتريك، على الأقل علاقة عاطفية، وإن كنت أشكُّ أنها قد انقلبت إلى علاقةٍ جسدية مرتين على الأقل. انتظرتُ بصبر، مثل زوجة قبطان بحري، تأمُل أن تنجوَ من العاصفة. أتساءل أحيانًا ما إذا كان عليَّ أن أقاتل أكثرَ، أن أهدِّد بالرحيل، أن أوبِّخها عندما عادت إلى المنزل بعد ساعتين من إغلاق الحانة، تفوح من ملابسها رائحةُ سجائر «أمريكان سبريت» التي كان يُدخِّنها، ورائحة الكحول تملأ أنفاسها. لكنني لم أفعل. لم يكن هذا خياري. انتظرتُ عودتها إليَّ، وفي إحدى الليالي، ليلة صيف حارة في أغسطس، فعلَت ذلك. كنت قد وصلتُ لتوي إلى المنزل عائدًا من المتجر، وكانت جالسةً على الأريكة، مُطأطئةً رأسها، والدموع في عينَيها.


قالت: «لقد كنتُ حمقاء.»


«بعضَ الشيء.»


«هل ستغفر لي؟»


قلتُ: «سوف أغفر لكِ دائمًا.»


في وقتٍ لاحق في تلك الليلة، سألتني إذا كنتُ أرغب في معرفة التفاصيل، وقلتُ فقط إذا كانت بحاجةٍ إلى أن تفصح عمَّا بداخلها.


قالت: «يا إلهي، كلَّا، لقد انتهيتُ منه.»


اكتشفتُ لاحقًا، ولكن ليس من كلير، أنَّ باتريك يتس قد اختفى بعد أن نهبَ أموال خِزانة النقود في ليلة سبت، وأنَّ ثلاث نادلاتٍ أخرياتٍ على الأقل في الملهى قد تحطَّمن جرَّاء مغادرته.


بعد تلك الحادثة، تحسَّنَت الأمور بيني وبين كلير، على الرغم من أن الأمور كانت أسوأ معها. لقد تركَت الحانة وتركَت الدراسة في كلية إيمرسون. وقامت ببعض المناوبات في «أُولد ديفيلز» مدةً من الوقت، لكنها حصلَت بعد ذلك على وظيفةٍ أخرى نادلةً في مطعم راقٍ في حي «باك باي». تقاضت أجرًا جيدًا، لكنها شعرت بالإحباط بسبب غياب الإبداع عن حياتها. «لا أريدُ أن أكون نادلةً بقيةَ حياتي. أريدُ أن أصنع أفلامًا، لكن عليَّ الذهاب إلى الكلية من أجل ذلك.»


قلتُ: «لستِ مضطرةً إلى الذهاب إلى الكلية، يمكنكِ صنعُ فيلم فحسب.»


وهذا ما فعلَته. كانت لديها مناوبةٌ مسائية في المطعم، ونهارًا كانت تصنع أفلامًا وثائقيةً قصيرة. فيلمًا عن فنَّاني الوشم، وآخرَ عن مجتمعِ تعدُّد الزوجات في ميدان ديفيس، وثالثًا عن متجر «أُولد ديفيلز». نشرَتها على موقع «يوتيوب»، وهناك وجدها إريك أتويل. كان أتويل يدير ما أسماه «حاضنة الابتكار» خارجَ بوسطن في مزرعةٍ جُدِّدَت في ساوثويل. قدَّم مساحة عمل مجانية (وغرف نومٍ في بعض الأحيان) للمبدعين الشباب، مقابل نسبة مئوية من أرباح منتجهم النهائي. اتصلَ بكلير، وأخبرها أنه أحبَّ فيلمَها الوثائقي عن الوشم، وسألها عما إذا كانت ستصوِّر فيديو ترويجيًّا لحاضنته. وعلى عكس باتريك يتس، لم ينتَبْني شعورٌ سيئ تجاه إريك أتويل عندما بدأت كلير تخبرني عنه لأول مرة. قالت إنه كان شخصًا مُبتذلًا، في الخمسين من عمره ويتصرَّف كما لو كان في الثلاثين، من الواضح أنه أحبَّ أن يُحيط نفسَه بالشباب، وحبَّذا لو كانوا من المُتملِّقين.


قلتُ: «يبدو غريبَ الأطوار.»


«لا أعلم، إنه أشبهُ برجلٍ محتال. أعتقدُ أنه يأمُل حقًّا أن يصادف البديل الأفضل ويحقِّق ربحًا سريعًا.»


أمضت عطلةَ نهاية الأسبوع في منزل المزرعة — كان اسم شركته «بلاك بارن إنتربرايسيز» — وعندما عادت، شعرتُ أن شيئًا ما قد تغيَّر فيها. كانت عصبية المزاج، وغاضبة قليلًا، لكنها كانت أيضًا أكثر حنانًا معي إلى حدٍّ ما. بعد أيام قليلة من عطلة نهاية الأسبوع، أيقظتني كلير في منتصف الليل وسألتني: «لماذا تُحبني؟»


قلتُ: «لا أعرف، أُحبُّكِ فحسب.»


«لا بد أنَّ لديك أسبابًا.»


«إذا كان لديَّ أسباب لأحبَّكِ، فستكون لديَّ إذن أسبابٌ لكيلا أحبكِ.»


«ماذا تعني؟»


«لا أعلم. أنا مجهَد.»


«لا، أخبرني، لقد انتابني الفضول.»


«حسنًا. إذا كنتُ قد أحببتُكِ لأنك جميلة، فهذا يعني أنني لن أحبَّكِ إذا تعرَّضتِ لحادث من شأنه أن يُشوِّه وجهكِ …»


«أو ببساطة، إذا تقدَّمتُ في العمر.»


«صحيح، أو تقدَّمتِ في العمر. وإذا أحببتُكِ لأنكِ شخصٌ جيد، فهذا يعني أنني سأكُفُّ عن حبكِ إذا فعلتِ شيئًا سيئًا. وهذا لن يحدث.»


قالت: «أنت أفضلُ مني بكثير»، لكنها ضحكت.


قلتُ: «ما الذي تحبِّينه فيَّ؟»


قالت، وهي تضحك أكثر بعض الشيء: «مظهرُك الشاب الجميل. في الواقع، أنا أحبُّك لأنك روحُ عجوزٍ في جسد شاب.»


«وذات يوم سأكون روحًا عجوزًا في جسد رجلٍ عجوز.»


قالت: «لا أستطيع الانتظار.»


ونظرًا إلى أنني كنتُ أعمل في الغالب أثناء النهار وكانت هي تميل إلى العمل في مناوباتٍ ليلية في المطعم، فقد استغرق الأمرُ مني بعضَ الوقت حتى اكتشفتُ أنها ظلت تذهب إلى ساوثويل خلال ساعات النهار. بدأتُ في تتبُّع الأميال على سيارتها السوبارو؛ انتابني شعورٌ سيئ وأنا أتجسَّسُ عليها بهذه الطريقة، لكن اتضح أن شكوكي كانت في محلها. كان من الواضح أنها كانت تذهب إلى ساوثويل مرتَين أو ثلاث مرات في الأسبوع. افترضتُ أنها كانت على علاقة غرامية إما مع أتويل، أو ربما مع أحد مستأجري أتويل. لم يخطر ببالي، على الأقل ليس في تلك الأسابيع القليلة الأولى، أنها كانت تذهب إلى «بلاك برن إنتربرايسيز» لسبب آخر، حتى أدركتُ أن الجينز الضيق عادةً الذي كانت ترتديه في العمل أصبح يبدو فضفاضًا حول خصرها. لقد وجدتُ الكوكايين، بالإضافة إلى علبة دواء صغيرة مملوءة بمجموعة متنوعة من الأقراص، في أحد أقسام صندوق المجوهرات التي ورثته عن جَدتها.


في وقتٍ لاحق، وبعد أن واجهتُها، أخبرتني كيف أقام أتويل حفل عشاءٍ مليء بطُنٍّ من النبيذ الرائع في نهاية الأسبوع الأول في بلاك بارن. وعندما أخبرته أنها تشعر برغبة في النوم، أقنعها بتناول كمية صغيرة من الكوكايين فقط لمواصلة الاحتفال. وفي اليوم التالي، بعد أن انتهت من أخذ لقطاتٍ لفيلمها، عبَّر لها عن امتنانه بأن أعطاها زجاجة من السانسيري (نبيذ فرنسي) الذي كانوا يحتسونه في الليلة السابقة، بالإضافة إلى نصف جرام من الكوكايين. كما شرح لكلير أنه ابتكر نظامًا لتعاطيه المخدرات، ونشره، حتى لا يُفضي إلى الإدمان. أقنعها بأن الأمر لا ضيرَ منه، ما دامت تسير وُفق جدوله العلمي.


لو كنت أعلم منذ البداية أن زيارات كلير إلى ساوثويل كانت من أجل المخدرات وليس ممارسة الجنس، فلربما حاولتُ التدخُّل بأسرعِ ما يمكن. وكما حدث سابقًا، في الوقت الذي كنت أسمع فيه بالأمر، كانت كلير قد أصبحت مدمنة تمامًا من جديد. قررتُ أن أفعل ما كنت أفعله دائمًا. قررتُ الانتظار على أمل أن تُوافق في نهاية المطاف على الإقلاع عن التعاطي أو الذهاب إلى المصحَّة. أعرفُ كيف يبدو الأمر. أعلم أنه لو فعلتُ شيئًا — لو أعطيتُها إنذارًا نهائيًّا، أو اتصلت بوالديها، أو أشركتُ صديقاتها، أي شيء — لربما أصبحت النتيجة مختلفة. ما زلتُ أفكِّر في هذا طوال الوقت.


أتذكَّر، عندما كنت مراهقًا، أنني سألتُ أمي لماذا تحمَّلَت معاقرة والدي للخمر.


عبسَت في وجهي؛ ليس لأنها كانت منزعجة، ولكن لأنها كانت مرتبكة. وقالت أخيرًا: «وهل لديَّ خيار آخر؟»


«يمكنكِ تركه.»


هزَّت رأسها: «أُفضِّلُ انتظاره.»


قلتُ: «حتى لو تحتَّم عليكِ الانتظار إلى الأبد؟»


أومأت برأسها ردًّا على ذلك.


كان هذا هو ما شعرتُ به تجاه كلير خلال تلك اللحظات التي لم تكن فيها ملكي تمامًا. كنت أنتظرُها.


عندما طرقَ شرطيَّان يرتديان الزيَّ الرسمي بابَ شقتي في وقتٍ مبكر من اليوم الأول من عام ٢٠١٠، علمتُ أنها قد ماتت قبل أن يتحدَّث أيٌّ منهما.


«حسنًا»، أتذكَّر أن هذا ما قلتُه بعد أن أبلغاني بخبر تعرُّضها لحادث سير في الثالثة صباحًا، وبأنها فارقَت الحياةَ على الفور.


سألتُ: «هل أُصيبَ أحدٌ آخر؟»


«كلَّا، لقد كانت بمفردها، ولم تتورَّط أيُّ مركباتٍ أخرى في الحادث.»


•••


قلتُ «حسنًا» مرةً أخرى، وذهبتُ لإغلاق الباب، ظننتُ أنَّ الشرطة قد انتهت مني. لكنهما منَعاني من إغلاق الباب، وأوضحا لي أنني بحاجةٍ إلى الذَّهاب إلى المركز بغرض التحقُّق من هُويتها. بعد ثلاثة أشهر وجدتُ مذكِّراتٍ كانت تحتفظ بها. كانت مخبَّأةً خلف عددٍ من المجلدات الأكبر في قسمٍ من رفِّ الكتب لدينا كانت قد اتخذته لنفسها. كدتُ أحرقها دون قراءتها، لكن الفضول استحوذ عليَّ، وفي إحدى الأمسيات الربيعية الرطبة ابتعتُ لنفسي ست عبواتٍ من جِعَة نيوكاسل براون، واستقرَرْتُ في مكاني، وقرأتُ المحتوى برُمَّته.


الفصل العاشر


مع أنني لم أَعُد أقرأ الروايات البوليسية المعاصرة، فإنني أُجاري التيارات السائدة. إنني أدركُ جيدًا أنَّ رواية «الزوجة المفقودة» للكاتبة جيليان فلين قد غيَّرت الصناعة، وأنَّ فكرة الرواة غير الموثوق بهم أصبحت ذائعةً فجأة، بالإضافة إلى التشويق والإثارة النفسية التي تُركِّز الضوءَ على العلاقات الشخصية، فضلًا عن الكتب التي تناقش مسألةَ هل في مقدورنا حقًّا الوثوقُ بأحدٍ، لا سيَّما أولئك الأقرب إلينا. بدا لي من بعض التعليقات التي قرأتُها أن الأمر بات كما لو أنه ظاهرة حديثة، كما لو أن فكرة اكتشاف أسرار أحد الزوجين تُشكِّل شيئًا جديدًا، أو أن إغفال الحقائق من السرد لم يكن هو الأساس الذي بُنيَت عليه الروايات النفسية المثيرة لأكثر من قرن. في رواية «ربيكا»، التي نُشرت عام ١٩٣٨، لم يُزوَّد القراء حتى باسمها مطلقًا.


الأمرُ هو، وربما كنت متحيِّزًا بسبب كلِّ تلك السنوات التي قضيتُها في عوالمَ خيالية مبنيَّة على الخداع، أنني ما عدتُ أثق في الرواة أكثرَ مما أثق في الأشخاص الفعليين في حياتي. فنحن لا نحصُل على الحقيقة كاملة، ليس من أي شخص. عندما نقابل شخصًا ما لأول مرة، وقبل أن نتجاذب أطرافَ الحديث حتى، تكون هناك بالفعل أكاذيبُ وأنصاف حقائق. إن الملابس التي نرتديها تغطي حقيقةَ أجسادنا، لكنها تُفصح للعالم أيضًا عن رغباتنا وهويتنا. إنها افتراءاتٌ، مجازية وحرفية.


ومن ثمَّ، لم أُفاجَأ عندما وجدتُ مذكرات زوجتي السرية، ولم أُفاجأ بوجودِ أشياء بداخلها لم تُخبرني بها قط. العديد من الأشياء. لأهداف هذه القصة — قصتي — لن أخوض في كلِّ ما اكتشفتُه من قراءة المذكرات. ذلك أنها لم تكن تريد أن يعرف العالم، وأنا لا أريد ذلك أيضًا.


لكنني بحاجةٍ فعلًا إلى سردِ ما حدث بين كلير وإيريك أتويل. من غير المفاجئ أنهما كانا على علاقة جسدية. لم تكن علاقةَ ارتباطٍ عاطفية. كانت كلير قد أصبحَت مدمنةً على الكوكايين، وبعد مدةٍ أمَدَّها خلالها أتويل بالكوكايين مجانًا، بدأ يطلب منها المال. كنا أنا وهي نتقاسم معًا حسابًا مصرفيًّا واحدًا — للإيجار، والنفقات المنزلية، والعطلات، ولكن كان لكلٍّ منا حسابٌ منفصل كذلك. وكان حسابُها المصرفي قد أُفرغ في غضون ثلاثة أسابيع. وبعدها، بدأت تدفع لأتويل المقابل في هيئةِ علاقاتٍ جنسية. كانت تلك فكرتَه. ودون الخوض في التفاصيل، كان بعضُ ما طلبه منها مُهينًا حقًّا. لقد أخبرَته في مرحلةٍ ما عن تجربتها السيئة مع السيد كليفتون، مدرس المدرسة الإعدادية؛ إذ كتبَت: «كان بإمكاني رؤيةُ الإثارة في عينَيه.»


قرأتُ بقيةَ المذكرات، ثم في عطلة نهاية الأسبوع التالية، توجَّهتُ بالسيارة إلى بحيرة والدن بوند في كونكورد، مرورًا بساوثويل. كانت الساحة فارغة تقريبًا … كانت درجة الحرارة بالخارج تُقارب عشر درجات، البحيرة متجمِّدة، والسماء فوقها بيضاءُ بلون الطباشير. اجتزتُ ممرًّا يجتاز سلسلةً من التلال فوق البحيرة، ثم غمَستُ المذكرات في الكيروسين وأحرقتُها في بقعة أرض جرداء، داعسًا على البقايا حتى لم يتبقَّ من أثر الدفتر إلا فوَّهة سخام أسود في الثلج ورماد في الهواء.


لم أشعر بالنَّدم على حرق مذكرات كلير مطلقًا رغم أنني أحيانًا، وحتى يومنا هذا، أندم على قراءتها. عندما انتقلتُ من شقتنا في سومرفيل إلى الشقة الاستوديو في بيكون هيل، تخلَّصتُ من كلِّ ما تبقَّى من كلير … ملابسها، الأثاث الذي ابتاعته لمنزلنا، وكُتُبها في سنوات الكلية. احتفظتُ ببعض كُتُبها، نسخة طفولتها من «شائبة في الزمن»، وهو كُتيب مُذيَّل لقصائدَ مُجمَّعة من تأليف آن سيكستون، ابتاعتْه من أجل الدراسةِ خلال عامها الأول في جامعة بوسطن. هذا الكتاب موجودٌ دائمًا على منضدةٍ بجانب سريري. أحيانًا أقرأ القصائد الموجودة داخله، لكنني في أغلب الأحيان أُلقي نظرةً على ملاحظات كلير ورسوماتها العابثة والأبيات والكلمات التي وضعت سطرًا تحتها. أحيانًا ألمسُ النتوءات التي صنعها قلمُها الجاف في الصفحة.


هذه الأيام، غالبًا ما أحبُّ فقط كون الكتاب موجودًا هناك، في متناوَل يدي. لقد مرَّت خمسة أعوام على وفاتها، لكنني أتحدَّث إليها الآن في رأسي، أكثرَ مما فعلتُ فور وفاتها. لقد تحدَّثتُ إليها في الليلة التي استلقيتُ فيها في الفراش مع رواية أجاثا كريستي «مقتل روجر أكرويد»، أخبرتُها بكل شيءٍ عن القائمة، وعن زيارة العميلة مالفي، وكيف كان شعوري وأنا أقرأ هذه الكتب مجددًا.


•••


استيقظتُ في نحو الساعة الثامنة والنصف صباحًا، متفاجئًا بأنني قد استطعتُ النوم. كنت قد نسيتُ أن أسدل الستائر في شقتي، وكانت أشعَّة الشمس القاسية تتدفَّق لتغمر المكان بالداخل. نظرتُ من النافذة باتجاه خطِّ السقف غير المنتظم عبْر الشارع، المُغطَّى الآن بالثلوج، بينما تُزيِّن رقاقاتُ الثلج المزاريب. كانت هناك خطوطُ صقيع عنكبوتية على السطح الخارجي للنوافذ، وكان الشارع أدناه شاحبًا رماديًّا مما يعني أن الطقس بالخارج كان باردًا على نحوٍ بالغ للغاية. تفقَّدتُ هاتفي، وكان يُسجِّل حاليًّا درجةً واحدة فوق الصفر. أوشكتُ على إرسال بريد إلكتروني إلى إيميلي وبراندون؛ لأعلمهما أن في وُسعهما عدمَ المجيء اليوم، وبأن الطقس بارد جدًّا يتعذَّر معه مطالبتهما بالحضور، لكنني غيَّرتُ رأيي.


ارتديتُ ملابسَ دافئة وسرتُ إلى شارع تشارلز، حيث مقهًى يقدِّم الشوفان. كنت أجلسُ إلى طاولة بالزاوية وأقرأ نسخةَ أمسِ من صحيفة «جلوب» التي كانت تقبع فوق الطاولة حين دقَّ هاتفي الخلوي.


«مالكوم، أنا جوين.»


قلتُ: «مرحبًا.»


«هل كنتَ نائمًا؟»


«أوه، لا. أنا أتناول الفطور. إنني على وشْك الذهاب إلى المتجر. أمَا زلتِ في بوسطن؟»


«كلَّا، عُدتُ إلى المنزل بعد ظهر أمس، وقد وصلَت جميع الكتب التي طلبتها، ومن ثمَّ قرأتُ البارحة «غريبان على متن قطار».»


«أجل، و…؟»


«أريدُ التحدُّث معك عن ذلك. هل من وقتٍ مناسب؟»


قلتُ: «هل يمكنني معاودة الاتصال بكِ عندما أصل إلى المتجر؟» كان الشوفان قد وصلَ للتو، وكان البخار يتدفَّق من الوعاء.


قالت: «بالتأكيد. عاوِد الاتصال بي.»


بعد أن أنهيتُ الإفطار، ذهبتُ إلى «أُولد ديفيلز». كانت إيميلي هناك بالفعل، وتناول نيرو طعامه.


قلتُ: «جئتِ مبكرًا.»


«تذكَّر أنني سوف أغادر مبكرًا.»


قلتُ، وإنْ لم أتذكَّر ذلك: «أوه، صحيح.»


قالت وهي تفرك يديها معًا: «لقد اشتكى السيد بوبوفيتش مجددًا. يريد إعادةَ شحنته الأخيرة.»


«الشحنة بأكملها؟»


«أجل. يقول إنها كلها متسلسلةٌ على نحوٍ خاطئ.»


كان ديفيد بوبوفيتش جامعًا للكتب يعيش في نيو مكسيكو، لكننا جميعًا في المكتبة كنا نشعر كما لو أنه يعيش في الجوار. لقد ابتاع من متجرنا طُنًّا من الكتب وأعاد نصفها على الأقل إلينا، كان يتصل من حينٍ لآخر متذمِّرًا، لكنه في الغالب كان يرسل إلينا رسائلَ إلكترونية مِلؤها الازدراء.


«أوقِفوا التعامُل معه.»


«ماذا؟»


«اكتبي إليه مرةً أخرى وأخبريه أننا سنقبل أيَّ مرتجعاتٍ لديه، لكن لا يمكنه أن يُجري معنا أيَّ طلبات شراء بعد الآن. لقد اكتفيتُ منه.»


«هل أنتَ جادٌّ؟»


«نعم. هل تُفضِّلين أن أكتب أنا الرسالة الإلكترونية؟»


«كلَّا، يُسعدني القيام بذلك. هل أرسل نسخة إليك؟»


قلتُ: «بالتأكيد.» ربما قد يُضرُّ إقصاء بوبوفيتش بأرباحنا الإجمالية في النهاية، لكنني لم أعُد أكترث في الوقت الحالي. وشعرتُ بالارتياح.


قبل معاودة الاتصال بجوين، أرسلتُ بريدًا إلكترونيًّا إلى مسئول الدعاية في «راندوم هاوس» الذي كنت أتجاهله، وأكدتُ موعدَ حضورِ مؤلِّفتهم للندوة النقاشية في مارس. ثم فتحتُ الخزانة الزجاجية وأخذتُ نسختنا الأولى من «غريبان على متن قطار»، وأعدتُها معي إلى حيث الهاتف. كان غلافُها أزرقَ غامقًا، ومزوَّدًا بصورة مقرَّبة لوجه رجلٍ وامرأةٍ شاحبة المظهر، لها شعرٌ أحمر.


التقطت جوين سماعة الهاتف بعد رنَّة واحدة.


قلتُ: «مرحبًا جوين»، وبدا اسمُها الأول غريبًا وأنا أنطِقه.


«شكرًا لمعاودة الاتصال بي. إذن، هذا الكتاب …»


«ما رأيُك؟»


«كئيب. عرَفتُ القصة من الفيلم. ولكن الكتاب كان مختلفًا. رأيتُ أنه أكثرُ كآبةً، وهل يرتكب كِلا الرجلَين جرائمَ قتلٍ في الفيلم؟»


حاولتُ أن أتذكَّر. ثم قلتُ: «لا أعتقد. كلَّا، بالتأكيد لا. أعتقدُ أنَّ الشخصية الرئيسية في الفيلم — لاعب التنس — يُوشك أن يقتل الأب لكنه لا يفعل. ربما كان لهذا علاقةٌ بقانون الإنتاج أكثر مما كان له علاقة بما أراد هيتشكوك فِعله حقًّا. لا أعتقدُ أنه كان مسموحًا لهم بترك الشخصيات تفلتُ بجريمة قتل». لم أقرأ الكتاب منذ سنوات عديدة، ولم أشاهد الفيلم مرةً أخرى، لكنني تذكَّرتُ كليهما جيدًا.


قالت: «قانون هايز للإنتاج السينمائي، ليته كان المُتَّبع في الحياة الواقعية.»


«صحيح.»


«وهو ليس لاعبَ تنس في الكتاب.»


«مَن؟»


«جاي. الشخصية الرئيسية. إنه مهندسٌ معماري.»


قلتُ: «أوه، صحيح. هل كانت قراءة الكتاب مفيدة؟»


قالت متجاهلةً سؤالي: «لقد ذكرت في قائمتك أنك تعتقد أنه المثال الأفضل على جريمة قتل كاملة. فماذا قصدت بالضبط؟»


قلتُ: «إنها جريمة كاملة؛ لأنه عندما تُرتكب جرائمُ قتلٍ بالوكالة مع شخصٍ آخر، شخصٍ غريب في الأساس، فعندئذٍ لن توجد صلةٌ بين القاتل وضحيته. وهذا ما يجعلها محبوكة.»


قالت: «هذا ما كنتُ أفكِّرُ فيه». وتابعت: «الأمرُ الذكي في جريمة القتل بالكتاب هو أن الشخص الذي ارتكبها لا يمكن ربطُه بالجريمة. ولا علاقة لهذا بأسلوب القتل.»


قلتُ: «ماذا تعنين؟»


«يقتل برونو زوجةَ جاي في مُتنزَّه. يقتلها خنقًا حتى الموت. لكن لا يوجد شيءٌ ذكي في ذلك. لقد كنت أفكِّر في قواعد تشارلي مرةً أخرى. ولذا، إذا كنت تشارلي، فلتُجارِني فحسب، فكيف إذن سترتكب جريمةً مبنيَّة على «غريبان على متن قطار»؟»


«فهمتُ ما تعنينه. سيكون الأمر صعبًا للغاية.»


«صحيح. يمكنك فحسب خنقُ شخص في مُتنزَّهٍ ما، ولكن هذا لن يتَّبع فلسفة الجريمة.»


«سيكون عليه أن يجد شخصًا آخرَ لارتكاب جريمة قتل معه.»


قالت: «هذا ما فكَّرتُ فيه، ولكن ليس بالضرورة، في واقع الأمر. إذا كنتُ تشارلي، إذا كنتُ أحاول تقليد جريمة «غريبان على متن قطار»، فسأختارُ شخصًا من المُحتمل أن يُقتل فعلًا ليكون الضحية. أشعرُ أن عقلي صار فارغًا من الأفكار الآن؛ لا أستطيع التفكير بوضوح، لكن لنفترض أن شخصًا ما قد تعرَّض الآن إلى طلاقٍ مرير، أو …»


قلتُ: «مَن هو الرجل الذي سرق أموال الجميع في نيويورك؟»


«برني مدوف؟»


«أجل، هو.»


«سوف يفي بالغرض، لكن ربما كان هناك العديد من الأشخاص الذين يتمنَّون موته. لو أني مكانه لاخترت أحد طرَفَي طلاقٍ سيئ، على ما أعتقد، شيئًا علنيًّا نوعًا ما، ثم سأنتظر حتى يبتعد الشريك الذي تعرَّض للازدراء، وأرتكبُ جريمة القتل. أعتقد أن هذا سيكون أفضلَ طريقة للالتزام بما جاء في الكتاب.»


قلتُ: «يبدو ذلك منطقيًّا.»


«أظن ذلك أيضًا. إنها فكرة تستحق النظر. ماذا عنك، هل راودَتك أيُّ أفكار جديدة ليلة البارحة؟»


«كنت متعبًا جدًّا أمس، حيث ظللتُ مستيقظًا الليلة التي تسبقها. ومن ثمَّ، لم تُراودني أفكار جديدة. لكنني سأواصل التفكير في الأمر.»


قالت: «شكرًا. كنتَ خيرَ عون لي». ثم أضافت بنبرةِ صوتٍ مختلفة قليلًا: «لا تنسَ أن ترسل إليَّ معلومات رحلة الطيران التي قمت بها إلى لندن الخريف الماضي.»


قلتُ: «سأرسلها إليكِ اليوم.»


بعد أن أغلقتُ سماعة الهاتف، جاء نيرو وهو ينقر على الأرضية الخشبية ليستقر أسفل ساقي. شاهدتُه في خدَرٍ طفيف، وأنا أفكِّر في المحادثة الهاتفية التي قد أجريتُها للتو.


جاء صوتُ إيميلي يقول: «فعلتُها»، واستدرتُ لأجدها قادمةً نحوي، وعلى وجهها ابتسامةٌ استثنائية.


«فعلتِ ماذا؟»


«أرسلتُ البريدَ الإلكتروني إلى بوبوفيتش، سيُصدم من ذلك.»


«يبدو أنكِ سعيدة للغاية.»


«كلَّا، إنني … أنت تعرف كم يدفعني هذا الرجل إلى الجنون.»


«لا بأس. بصراحة، أعتقدُ أنه يحتاج إلينا أكثرَ مما نحتاج إليه. الزَّبون ليس دائمًا على حق، كما تعلمين.»


ابتسمت إيميلي ابتسامةً عريضةً مرة أخرى، ثم قالت: «هل أنت بخير؟»


«أنا بخير. لماذا؟»


«أوه، لا شيء. تبدو مشتَّتًا، هذا كلُّ ما في الأمر. لا أدري إنْ كان ثمَّة خطْبٌ ما.»


لم يكن من عادتها أن تُبدي هذا الاهتمام الكبير بي لدرجةِ أنني أدركتُ أنني أتصرَّفُ بطريقة مختلفة على نحوٍ ملحوظ. أعتقدُ أنني شخصٌ رزين، شخصٌ لا يكشف الكثيرَ عن نفسه، وقد أقلقني ألا يكون الأمر كذلك.


قلتُ: «هل من ضيرٍ إنْ خرجتُ لأتمشَّى قليلًا؟ يمكنك تولِّي أمر المتجر، أليس كذلك؟»


«بالتأكيد.»


قلتُ: «سوف تكون تمشيةً سريعة.»


كان الجو في الخارج لا يزال قارسَ البرودة، لكن الشمس كانت ساطعة، واكتست السماءُ بلون أزرقَ زاهٍ للغاية. كانت الأرصفة قد أُزيلت منها الثلوج وسِرتُ باتجاه شارع تشارلز، معتقدًا أنني سأقطع الطريق إلى الحديقة العامة. ظللتُ أفكِّرُ في المحادثة التي دارت بيني وبين جوين حول كتاب «غريبان على متن قطار»، وهو كتابٌ قد عملت جاهدًا على عدم التفكير فيه لسنواتٍ عديدة.


كان عددٌ من الناس في الحديقة أكبرَ مما ظننتُ بالنظر إلى درجة الحرارة في ذلك الوقت. وكان هناك أبٌ يمسح الثلج عن أحدِ التماثيل البرونزية المدعوَّة ﺑ «افسح الطريقَ للبط الصغير» حتى يتمكَّن من وضْع طفله فوقه والتقاط صورة. لا بد أنني مررتُ بجوار صغار البط تلك آلافَ المرات، وكان هناك دائمًا أمٌّ أو أبٌ أو مجموعة من الآباء، يساعدون طفلهم أن يتخذ وضعيةً معينة لالتقاط صورة. وكثيرًا ما كان يوجد صفُّ انتظار في فصل الصيف. وتساءلتُ دومًا عما سيخرج به الوالدان من إصرارهما على توثيق لحظةٍ معينة. ولأنني لست أبًا، فإنني حقًّا لا أعرف. في الواقع، لم نتحدَّث أنا وكلير قط عن مسألة الإنجاب. لقد أخبرتُ نفسي أن الأمر متروكٌ لها، لكن ربما كانت تنتظر مني أن أفتح أنا الموضوع.


مشيتُ حول البحيرة المتجمِّدة، أخذَتِ الرياح الآن تذري أوراق الشجر الجافة، وشرَعتُ أشقُّ طريقي إلى المتجر. لم أكن بريئًا، مع أنني سمحتُ لنفسي أحيانًا برفاهية التفكير في أنني كذلك. وإذا اكتشفَت جوين مالفي الحقيقة، فسيتحتَّم عليَّ تقبُّل الأمر.


الفصل الحادي عشر


علمتُ أنني كنتُ أعتزم قتْل إريك أتويل في اللحظة التي انتهيتُ فيها من قراءة مذكِّرات كلير. لكن الأمر استغرق مني عدة أشهر حتى أكتسبَ الشجاعة لأعترف بذلك لنفسي.


علمتُ أيضًا أنه بعد مقتل أتويل، ستحوم الشكوك حولي على الفور. فقد كانت زوجتي قادمةً من منزله ليلةَ وفاتها في حادث سير. بل إنَّ أتويل قد اعترف بتزويدها بالمخدِّرات التي عُثر عليها في جسدها، وكانت الشرطة قد قرَّرَت مما لا شك فيه أيضًا أن كلير كيرشو ني مالوري كانت على علاقةٍ مع صاحب شركة «بلاك بارن إنتربرايسيز» الثري.


فكَّرتُ في استئجار شخص لقتل أتويل، ثم التأكُّد من أنني كنت بعيدًا (خارج البلاد؟) عندما يحدث ذلك. ولكن كان هناك العديد من الأسباب التي قد تؤدي إلى فشل تلك الخطة. فعلى سبيل المثال، كنت أشكُّ في حيازة المال الذي سيتكلَّفه استئجارُ قاتل محترف، وحتى إذا تمكَّنت من تدبير المبلغ بطريقةٍ ما، فسيتَّضح الأمر لأي شخصٍ يتفقَّد حسابي المصرفي الذي استُنفد فجأة. بالإضافة إلى أنني لم تكن لديَّ أيُّ فكرة عن كيفية استئجار قاتل. ولم أرغب أيضًا في دعمِ القتلةِ المرتزقين؛ فأيُّ شخص يقتل الناس من أجل المال لم يكن شخصًا قد أرغب في التورُّط معه؛ إلى جانب ذلك، سيكون الأمر بمنزلة تمكين شخصٍ من التحكم في حياتي الخاصة.


ومن ثمَّ، قررتُ أنه ليس باستطاعتي استئجار قاتل، لكن فكرة كوني بعيدًا عندما يُقتل إريك أتويل كانت قد حازت إعجابي.


قبل عام، في وقتٍ ما من عام ٢٠٠٩، دخلت امرأةٌ شابة متجر «أُولد ديفيلز» ومعها مجموعة من الطبعات الأولى القيِّمة للغاية. لم تكن في الأساس رواياتٍ بوليسية، على الرغم من وجودِ طبعة «هاربر آند برازرز» من «مغامرات شيرلوك هولمز» الصادرة عام ١٨٩٢. كان يوجد ما يقرُب من عشرة كتب إجمالًا — من بينها الطبعة الأولى لكتابَين من كتب مارك توين لا بد أنهما كانا يساويان الآلاف — وكانت المرأة، ذات الشعر الخشن والشفاه المتشقِّقة، تحمل الكتبَ في حقيبة بقالة. سألتُها من أين حصلت عليها.


قالت: «ألا تريدها؟»


«ليس إذا لم تُخبريني من أين أتيتِ بها.»


غادرتُ المتجرَ بأسرعَ مما دخلت إليه. وبالنظر إلى الماضي الآن، تمنَّيتُ لو أنني ابتعتُ منها الكتبَ بأي مبلغ لديَّ في درج النقود حينذاك. وبعدها، كنت سأتمكَّن من العثور على المالك — إذ لا بد أنها سرقت منزلَ أحدِهم — ومن ثمَّ إعادة الكتب إليه. وما حدث أنني اتصلتُ وقتها بالشرطة للإبلاغ عن الحادث، وأخبروني أنهم سيبقون على اطلاع على محاضر الكتب المسروقة. لكنني لم أتلقَّ أيَّ ردٍّ منهم قط، ولم أرَ تلك المرأة مرةً أخرى. في ذلك الوقت، كان لدى «أُولد ديفيلز» موظفٌ يُدعَى ريك مورفي، كان يعمل في مناوبات نهاية الأسبوع. كان ريك جامعًا للكتب، مهتمًّا في المقام الأول بأي شيءٍ يتعلق بالرعب.


أخبرتُ ريك عن المرأة التي جاءت بالطبعات الأولى النادرة.


قال ريك: «ربما تُحاول بيعها عبْر الإنترنت.»


«لم تَبدُ من النوع الذي يتصل بالإنترنت.»


قال: «ومع هذا، فهي فكرة تستحقُّ النظر، يوجد هذا الموقع الصغير الممتع للغاية، وهو أكثر من مجرد موقع مظلم على الإنترنت، حيث يبيع الناسُ المقتنيات على نحوٍ غير شرعي.»


عرَضَ لي ريك، الذي عملَ في قسم تكنولوجيا المعلومات لدى شركة تأمين خلال الأسبوع، موقعًا إلكترونيًّا اسمه «دوكبرج». بالنسبة إليَّ، بدا الأمر غيرَ مفهوم تقريبًا، مثل لوحاتِ تبادل الرسائل من أيام الإنترنت الأولى، لكن ريك سحب قسمًا حيث تُعرَض المقتنيات النادرة للبيع. كان الجميع مجهولي الهُويَّة. بحثنا عن بعض الكتب التي أُحضرت إلى المتجر، لكن لم يظهر شيء.


قلتُ: «ماذا يوجد هنا أيضًا؟»


«آه، لقد أُثير فضولُ السيد. جزءٌ كبير منه مجرد مكان للدردشة دون الكشف عن هُوية المتحدِّث. لأصدُقك القول، هذه ليست شبكةَ الويب المظلمة الحقيقية، لكنها مظلمةٌ بدرجة كافية.»


ذهبَ ريك لإحضار الصودا العملاقة الخاصة به، وسارعتُ بوضع إشارة مرجعية على الصفحة. فكَّرتُ أنني قد أتحقَّق منها لاحقًا، لكنني لم أفعل ذلك قط.


بعد أن قررتُ في أواخر عام ٢٠١٠ قتْل إريك أتويل، ذهبتُ إلى إشاراتي المرجعية واكتشفتُ أن هذا الرابط لا يزال موجودًا لديَّ. في ليلةٍ ما، قضيتُ بضع ساعاتٍ بعد وقت إغلاق المتجر، ورُحتُ أتصفَّحُ البوابات المختلفة، وأنشأتُ هُوية مُزيَّفة، مطلِقًا على نفسي اسم «بيرت كلينج». ثم سجَّلتُ الدخول إلى بوابة باسم «سوابس» (أي مقايضة أو تبادُل)، وهو ما لم يتحدَّد بالضبط الغرضُ من استخدامها، ولكن بدا أنها ذات طبيعة جنسية في المقام الأول. «رجلٌ في الستين من عمره يريد أن يشتريَ ملابس بقيمة ١٠٠٠ دولار لامرأة. شابة ومثيرة فقط. ولا تمانع في مرافقتي إياها إلى غرفة تغيير الملابس. من دون لمس، مجرد النظر». ولكن كانت هناك أيضًا عروضٌ مثل «البحث عن عاملات تنظيف يرغبن في تقاضي أجورهن على هيئة عقار أُوكسيكودون.»


فتحتُ مربَّع حوار وكتبتُ: «هل يوجد أيُّ معجَبين ﺑ «غريبان على متن قطار»؟ أودُّ أن أقترح مقايضةً ذاتَ منفعة متبادلة». نشرتُ المنشور وأجريتُ تسجيل خروج.


اعتزمتُ أن أنتظر مدة أربع وعشرين ساعة قبل أن أعاود الدخول، لكنني لم أصمد سوى اثنتَي عشرة ساعة. كان يومًا هادئًا في المتجر، وسجَّلتُ الدخول مجددًا إلى «دوكبرج» باسمي المستعار. لقد تلقيتُ ردًّا. «معجبٌ كبير بذلك الكتاب. أحبُّ أن نتناقش. هلا ننتقل إلى الدردشة الخاصة؟»


أجبتُه: «حسنًا»، بينما نقرتُ فوق المربع الذي جعل الدردشة مرئيةً للطرَفَين المعنيَّين فقط. بعد ساعتَين، ظهرت رسالة جديدة: «ما الذي يدور في ذهنك؟»


كتبتُ: «هناك شخصٌ يستحق أن يختفيَ من على وجه الأرض. ولكنني لا أستطيع أن أفعلها بنفسي». بطريقةٍ ما، لم أستطِع حمْل نفسي فعليًّا على كتابة كلمة «يموت» بلفظها الصريح.


جاءَ الرد على الفور تقريبًا: «لديَّ المشكلة نفسُها.»


«فليُساعد أحدُنا الآخر، اتفقنا؟»


«اتفقنا.»


•••


كان قلبي يخفق وأصبحَت أذناي دافئتَين. أتُراه شَركًا ينصبه لي؟ كان ذلك احتمالًا واردًا، ولكن كل ما أعطيتُه هو معلومات عن إيريك أتويل، وليس معلوماتٍ عني. قررتُ بعد خمس دقائق تقريبًا أن الأمر يستحق.


كتبتُ: «إيريك أتويل، ٢٥٥ شارع إلزينور، ساوثويل، ماساتشوستس. في أي وقتٍ من ٦ فبراير حتى ١٢ فبراير». كنت سأحضُر مؤتمر بائعي الكتب القديمة في ساراسوتا بولاية فلوريدا، خلال ذلك الأسبوع. وكنت قد اشتريتُ تذكرتِي بالفعل.


راقبتُ الشاشة وقتًا بدا كأنه ساعة، ولكنه على الأرجح كان عشر دقائق فقط. في النهاية، ظهرَت رسالة. «نورمان تشيني، ٤٢ طريق كوميونتي، تيكهيل، نيو هامبشير. في أي وقتٍ من ١٢ مارس حتى ١٩ مارس». بعد تلك الرسالة ظهرَت رسالةٌ أخرى بعد ثلاثين ثانية. «يجب ألا نتراسل مرةً أخرى.»


كتبتُ: «موافق». وكتبتُ عنوان نورمان تشيني على الجزء الخلفي من فاصلِ كتبٍ قديم لأُولد ديفيلز، ثم سجَّلت الخروج. وفقًا لما فهمتُه من سياسة موقع «دوكبرج»، فإن المحادثة ستختفي الآن إلى الأبد. كانت فكرةً مطَمْئِنة، رغم أنني شككتُ في صحَّتها.


بعد أن أخذتُ نفَسًا عميقًا، أدركتُ أنني كنت أتنفَّس بصعوبةٍ طَوال العشرين دقيقةً الماضية. حدَّقتُ في الاسم والعنوان اللذَين كتبتُهما وكنتُ على وشْك إدخالهما في الكمبيوتر إلا أنني تراجعت. أردتُ توخِّيَ الحذَر أكثرَ من ذلك. كانت هناك طرقٌ أخرى للتعرُّف إلى هذا الشخص. وفي الوقت الحالي، كان الاسم كافيًا. كنتُ سعيدًا، عليَّ أن أعترف، أنه رجلٌ من المفترض أن أقتله. وكنت سعيدًا جدًّا لأنَّ دوري في الصفقة كان الثاني. من الواضح أنني سأُضطرُّ فقط إلى الخوض في نصف الصفقة إذا مات إريك أتويل أثناء وجودي في ساراسوتا.


•••


حضرتُ المؤتمر في فبراير عام ٢٠١١. لم أكن قد ذهبتُ إلى ساراسوتا من قبل، وأحببتُ وسطَ المدينة القديم المبنيَّ من القِرميد. زُرت المنزلَ الذي عادةً ما كان ينزل فيه جون دي ماكدونالد في سيستا كي؛ حيث نظرتُ عبْر البوابات المغلقة لأرى مبنًى عصريًّا يرجع إلى منتصف القرن تحيط به النباتاتُ الخضراء الوارفة. كما أنني حضرتُ بعضَ العروض التقديمية وتناولتُ العشاء مع إحدى صديقاتي القلائل في مجال تجارة الكتب القديمة، شيلي بينجهام، التي كانت تمتلك متجرًا لبيع الكتب المستعمَلة في ميدان هارفارد قبل أن تنتقل إلى برادنتون بولاية فلوريدا، وتبيع الكتب المستعملة في سوق بيع السلع المستعملة الأسبوعي بجزيرة آنا ماريا. احتسينا المارتيني في نادي جاتور، وبعد الكأس الثانية قالت شيلي: «مال، لقد شعرتُ بالحزن الشديد عندما سمعتُ ما حلَّ بكلير العام الماضي. كيف تسير أمورك؟»


فتحتُ فمي لأتحدَّث، لكنني شرَعتُ في البكاء بصوتٍ عالٍ عوضًا عن ذلك، لدرجةٍ جعلَت العديدَ من الناس يُديرون رءوسهم نحوي. كانت مباغَتةُ الدموع وقوَّتها مروِّعة. نهضتُ وسِرتُ إلى دورة المياه في الجزء الخلفي من الحانة المظلمة، حيث جمعتُ شتات نفسي، ثم عُدتُ إلى الحانة، وقلتُ: «آسفٌ على ذلك، شيل».


«لا عليك. آسفة لأنني فتحتُ الموضوع. دعنا نأخذ مشروبًا آخرَ ونتحدَّث عن الكتب التي نقرؤها.»


في وقتٍ لاحق من تلك الليلة، عُدتُ وحدي إلى غرفتي بالفندق، أحضرتُ الكمبيوتر المحمول الخاص بي وتفقَّدتُ موقعَ «بوسطن جلوب» على الإنترنت. كان الخبر الرئيسي يدور حول الصفقة التي أبرَمها التوَّة فريقُ البيسبول الأمريكي (ريد سوكس) خارج الموسم، بينما كان الخبر الثاني حول جريمة قتل في ساوثويل. لم تكن الشرطة قد أزاحت الستارَ بعدُ عن اسم الضحية. كنت أميلُ إلى الجلوس أمام الكمبيوتر المحمول الخاص بي، وتحديث الموقع حتى إعلان اسم إيريك أتويل على أنه الضحية، لكنني أرغمتُ نفسي على محاولة الخلود إلى النوم بدلًا من ذلك. فتحتُ نافذةَ غرفتي في الفندق، واستلقيتُ على الفراش تحت ملاءة واحدة، وأنصتُّ إلى صوت النسيم، بالإضافة إلى دوي شاحنة من حينٍ لآخَر على الطريق السريع القريب. غفوتُ في وقتٍ ما قُبيل الفجر، واستيقظتُ بعد بضع ساعاتٍ، وجِلدي رطبٌ مبلَّل من العَرق، والملاءة ملتفَّة حول جسدي. سجَّلتُ الدخول مرةً أخرى إلى موقع «جلوب». أعلنَت الشرطة أن الجثةَ التي عُثر عليها هي جثة إريك أتويل، وهو رجلُ أعمال محلي بارز ومستثمر مموِّل. بعد أن تقيَّأت في حمَّام الفندق، عُدتُ إلى الاستلقاء في فراشي واستمتعتُ، للحظة، بحقيقةِ أن أتويل قد نال ما يستحقُّه.


بعدما عُدتُ إلى بوسطن، علمتُ أنَّ إريك أتويل قد أبلَغ عنه أحدُ رفاقه في السكن في عداد المفقودين ليلة الثلاثاء. كان قد خرج في إحدى جولاته اليومية في وقتٍ مبكِّر من ذلك اليوم ولم يعُد قط. وفي صباح اليوم التالي، بحثَت الشرطةُ فعثرَت على جثة أتويل بالقُرب من ممرٍّ للمشي في محميَّةٍ على بُعد ميل تقريبًا من منزله. أُطلقتُ النار عليه عدة مرات؛ واستُوليَ على محفظته، بالإضافة إلى مجموعةٍ باهظة الثمن من سمَّاعات الرأس وهاتفه الخلوي. أخذت الشرطة تُحقِّق في احتمالية وقوع الحادث بدافع السرقة وطلبَت المساعدة من السكان المجاورين. هل رأى أحدُهم شخصًا مريبًا؟ هل سمِع أحدٌ ما صوت أعيرة نارية؟


واستطرد المقال ليُشير إلى أن أتويل كان فاعلَ خيرٍ مشهورًا، ولديه اهتمامٌ كبير بالمشهد الفني المحلي، واستضاف مرارًا وتكرارًا التجمُّعات وحملات جمع التبرعات في مزرعته المجدَّدة في ساوثويل. لم يتطرَّق المقال إلى المخدرات، أو الابتزاز، أو أي شيءٍ عن دور أتويل في وفاة كلير مالوري في حادث سير. ومن ثمَّ، كنت سعيدًا. مرَّ أسبوعٌ، وبدأتُ أعتقد أن لا أحد قد ربط بيني وبين أتويل. ثم، بعد ظهر أحد أيام الأحد، وأنا أعاني نزلةَ برد، فوجئتُ بصوتِ جرسِ الباب. وحتى قبْل أن أُجيبَه، كنتُ متأكِّدًا من أنها الشرطة قد جاءت لاعتقالي. استجمعتُ نفسي. وكانت بالفعل الشرطة — مُحقِّقة طويلة، يعتلي ملامحها الوجوم، تُدعى جيمس — لكن لم تدلَّ هيئتُها على أنها ضابطة شرطة جاءت بغرض اعتقالي. قالت إنَّ لديها بعضَ الأسئلة السريعة. سمحتُ لها بالدخول، وأوضحَت لي أنها كانت محقِّقة في شرطة بوسطن تتَّبع بعض الخيوط في جريمة قتل لم تُحلَّ في ساوثويل.


سألتني بعد أن اتخذت لنفسها مقعدًا عند حافة الأريكة: «هل تعرف إيريك أتويل؟»


«لا، لكن زوجتي كانت تعرفه. لسوء الحظ.»


«لماذا لسوء الحظ؟»


«أعتقدُ أنك تعرفين بالتأكيد؛ لأن هذا هو سببُ وجودك هنا. كانت زوجتي قد أنتجَت فيديو لإريك أتويل، وبعد ذلك أصبحا صديقين. زوجتي … كلير … تُوفِّيَت في حادث سير في طريقها إلى المنزل عائدةً من منزله في ساوثويل.»


«وهل ألقيتَ باللوم على إريك أتويل في هذا الحادث؟»


«نعم، ولو جزئيًّا على الأقل. أعلمُ أن زوجتي بدأت في تعاطي المخدرات مجددًا بعد أن قابلتْه.»


أومأت المحقِّقة ببطءٍ: «هل كان هو مَن يُزوِّدها بتلك المخدرات؟»


«نعم. انظري، أعرفُ إلامَ يتجه هذا. أنا أكره … كرهتُ … إريك أتويل. لكن لا علاقة لي بوفاته. الحقيقة هي أن زوجتي كانت تُعاني مشكلاتٍ متكررة مع المخدرات والكحول. هو لم يجبرها على العودة إلى تعاطي المخدرات. لم يكن أولَ مَن يقدِّمها لها. وفي النهاية، كان ذلك قرارَ زوجتي بالأساس. لقد سامحتُه. استغرق الأمرُ مني الكثير، ولكن بعد ما حدث، قررتُ أخيرًا أن أسامحه.»


«إذن ما شعورك الآن بعد أن علمت بمقتله؟»


حدَّقتُ إلى السقف، كما لو كنت أفكِّر: «بصراحة، لا أعرفُ حقًّا. إنني أعني ما أقوله حقًّا عندما أعترفُ أنني سامحتُه، لكن هذا لا يعني أنني أحببتُه. أنا لستُ حزينًا، ولست سعيدًا تمامًا. الأمرُ سيَّان. لأصدُقَك القول، أعتقد أنه ربما كان يستحقُّ ما حدث له.»


«إذن فأنت تعتقد أنه ربما قُتل على يد أحدهم … بدافع الانتقام؟»


«تعنين هل أعتقد أنه قُتل عمدًا. وليس فقط بدافع السرقة؟»


«صحيح، هذا ما أعنيه.» كانت المحقِّقة ساكنةً جدًّا، لا تكاد تتحرك على الأريكة.


«خطر لي. بالتأكيد. لا أستطيع أن أتخيَّل أن زوجتي هي الوحيدة التي أعطاها المخدرات. وربما لم تكن هي الوحيدةَ التي بدأ في مطالبتها بالمال بعد أن أصبحَت مدمنة. لا بد أنه فعل ذلك مع أشخاص آخرين». بمجرد أن أنهيتُ كلامي، أدركتُ أنني قلتُ أكثرَ مما كنت أرغب في إخبار المحقِّقة به. كان هناك شيءٌ ما في حضورها الهادئ جعلني أرغبُ في التحدُّث.


أخذَت تُومئ برأسها مرةً أخرى، وعندما أدركَت أنني توقَّفتُ عن الكلام، قالت: «هل انتهى الأمر بزوجتك بتقديم الكثير من المال إلى أتويل؟ مال لم يكن في حوزتك؟»


«كان لكلٍّ من زوجتي وأنا حسابٌ مصرفي منفصل، ومن ثمَّ لم أكن على دراية بذلك حينها. لكن، نعم، شرَعَت في إعطاء المال إلى أتويل مقابل المخدرات.»


«يُؤسفُني أن أسألك عن هذا الأمر، سيد كيرشو، ولكن على حدِّ علمك، هل كانت هناك أي علاقة جنسية بين زوجتك وأتويل؟»


ترددتُ. جزءٌ مني أراد فقط إخبارَ هذه المحقِّقة بكل شيءٍ علمتُه من مذكرات كلير، لكنني أدركتُ أيضًا أنه كلما تحدَّثتُ أكثر، أصبح من الواضح أن لديَّ دافعًا قويًّا جدًّا لقتل أتويل. قلتُ: «لا أعرف، لأصدِقك القول. أشكُّ في أنه ربما كانت هناك علاقة». قَولي تلك الكلمات جعل حلقي ينغلق قليلًا، كأنني على وشْك البكاء، وضغطتُ براحة يدي على إحدى عينيَّ.


قالت المحقِّقة: «حسنًا.»


قلتُ غيرَ قادر على إيقاف نفسي: «لم تكن على طبيعتها. أعني بسبب المخدرات.» ومسحتُ دمعةً عن وجنتي.


«إنني أتفهَّمُ ذلك. يُؤسفُني المجيءُ إلى هنا وتعريضُك لكلِّ هذا مرةً أخرى، سيد كيرشو. أكره أن أفعل هذا، لكن التحقيقات من هذا النوع غالبًا ما تدور حول تصفيةِ المشتبَهِ بهم المُحتملين. هل تتذكَّر أين كنتَ بعد ظهر يوم الثامن من فبراير؟»


«في الواقع، كنت في فلوريدا، لحضور مؤتمر.»


قالت المحقِّقة جيمس، وهي تبدو سعيدة تقريبًا: «أوه، أيُّ نوع من المؤتمرات كان ذلك؟»


«بائعي الكتب العتيقة. فأنا أُديرُ متجرًا للكتب المستعملة هنا في بوسطن.»


«أُولد ديفيلز، صحيح. لقد ذهبتُ إلى هناك من قبل.»


«حقًّا؟ هل أنت من مُحبِّي الروايات البوليسية؟»


قالت المحقِّقة، وقد اعتلَت وجهَها ابتسامةٌ عريضة للمرة الأولى منذ أن دخلَت شقتي: «أحيانًا. لقد ذهبتُ لحضور ندوة نقاشية لسارة باريتسكي. قبل ما يقرُب من سنة؟»


قلتُ: «يبدو هذا صحيحًا، أعتقدُ أنها كانت جيدة.»


«كانت كذلك. هل أنت مَن قدَّمها؟»


«نعم، كنتُ أنا. سوف أغفرُ لك إذا لم تتذكَّريني. فالتحدُّث أمام الجمهور ليس موطنَ قوَّتي.»


قالت: «أعتقدُ أنك كنتَ جيدًا، على حسب ما أتذكَّر.»


قلتُ: «شكرًا لكِ على ذلك.»


وضعَت المحقِّقة جيمس يديها على ركبتيها، وقالت: «إن لم يكن لديك أيُّ شيءٍ تُضيفه، فأعتقدُ أننا على الأرجح قد انتهينا هنا.»


قلتُ: «ليس لديَّ شيءٌ أضيفه»، ونهضنا واقفَين في آنٍ واحد. كانت في نفس طولي تقريبًا.


قالت: «سأحتاج إلى إثباتٍ بشأن المؤتمر في فلوريد.»


وعَدتُ بإرسال تفاصيل رحلة الطيران إليها، وأعطيتُها أيضًا اسمَ شيلي بينجهام وعنوانها.


تركَت المحقِّقة كارتًا ببياناتها. كان اسمها الأول روبيرتا.


الفصل الثاني عشر


عرَفتُ من اللافتة الترحيبية في تيكهيل، نيو هامبشير، أنَّ إجمالي عدد السكان ٧٣٠ نسمة.


كان ذلك في يوم الإثنين، الرابع عشر من مارس لعام ٢٠١١. كنتُ قد غادرتُ بوسطن بعد الساعة الخامسة صباحًا بقليل، وكانت عقاربُ الساعة تشير الآن إلى الثامنة والنصف. تقع قريةُ تيكهيل شمال جبال وايت. كنت قد أجريتُ بحثًا عن المدينة، وبحثًا عن نورمان تشيني، الرجل الذي ذهبتُ إلى هناك كي أقتله، لكن ليس كثيرًا. وبحثتُ قدْر ما استطعتُ أن أبحث على كمبيوتر المكتبة؛ إذ جلستُ بسرعة البرق إلى الكمبيوتر فور أن غادر شخصٌ آخرُ دون تسجيل الخروج. كنت أحملُ دفتر ملاحظاتي معي وتمكَّنتُ من تدوين الملاحظات. ما علمتُه عن تيكهيل أنَّ بها مطعمًا واحدًا صغيرًا، وفندقَين للمبيت والإفطار، كلاهما مشهور بسبب قُربهما من العديد من مناطق التزلج. أخرجتُ الخريطة وحدَّدتُ موقع نورمان تشيني بالضبط على طريق كوميونتي. بدا المنزل، وفقًا للخريطة على الأقل، منعزلًا إلى حدٍّ ما. بعد رسم الموقع في دفتر ملاحظاتي، بدأتُ في البحث عن نورمان تشيني، الذي اشترى منزل تيكهيل قبل ثلاثِ سنواتٍ مقابل ٢٢٥ ألف دولار. المعلومة الأخرى الوحيدة التي حصلتُ عليها عن نورمان تشيني كانت نعيًا من عام ٢٠٠٧ لمارجريت تشيني، معلِّمة مدرسية من هوليوك، في غرب ماساتشوستس، ماتت في حريق منزل. ماتت مارجريت تشيني عن عمر سبعة وأربعين عامًا، تاركةً وراءها طفلَين؛ فين في الثانية والعشرين من العمر، ودارسي في التاسعة عشرة، وزوجها نورمان تشيني البالغ من العمر ثلاثةً وعشرين عامًا. لم تكن هذه بالمعلومات الكثيرة، لكنها جعلتني أتساءل. هل يمكن أن يكون نورمان تشيني مسئولًا عن وفاة زوجته، وإذا كان الأمر كذلك، فهل هذا هو ما جعله في عِداد الأموات؟ وهل كان هذا هو السببَ في أنه ترك هوليوك ليعيش في بلدةٍ يقلُّ عدد سكانها عن ألف نسمة؟


خطر لي أنني لستُ بحاجةٍ فعلًا إلى قتْل نورمان تشيني. إذا كان «دوكبرج»، الموقِع الذي رتَّبتُ فيه عمليةَ القتل بالوكالة، لا يُفصح عن هُوية المستخدمين مثلما زعم، فمن المستحيل أن يتعرَّف الغريب الذي تواصلتُ معه إلى شخصي. حسنًا، لم يكن هذا صحيحًا تمامًا. حتى لو كان هذا الغريب — نسخة الظل من نفسي — لا يعرف شيئًا عني، فهو يعرف شيئًا واحدًا. كان يعلم أنني أردتُ الموت لإريك أتويل. قد يضعُني هذا على قائمة اشتباهٍ طويلة، وقد لا يحدُث ذلك أيضًا. قررتُ المضيَّ قُدُمًا في تنفيذِ نصف الصفقة الذي يخصُّني؛ فقد بدا لي ذلك شيئًا أكثرَ أمانًا، وربما يكون الشيء الصحيح أيضًا، ولكن بطريقةٍ ملتوية.


قبل إغلاق كمبيوتر المكتبة، بحثتُ بسرعة عن كلٍّ من فين تشيني ودارسي تشيني. وعلى عكس والدهما، كان لكلٍّ منهما وجودٌ على الإنترنت. وإن كنت قد عثرتُ على الأشخاص المقصودين، فإنَّ فين تشيني يعمل حاليًّا في بنك صغير في بيتسفيلد، حيث يعمل أيضًا مضيفًا للألعاب الترفيهية في حانة محليَّة. أما دارسي تشيني، فإنها تعيش الآن خارج بوسطن، حيث إنها ملتحقةٌ بكلية الدراسات العُليا في جامعة ليزلي في كامبريدج. كانت توجد صورٌ لكلَيهما، وكانا بلا شكٍّ أخًا وأختًا. شعرٌ أسود فاحم، حاجبان كثيفان، عينان زرقاوان، فمٌ صغير. لا يبدو أن أيًّا منهما يعيش مع والده، وكانت هذه أهمَّ معلومة حصلتُ عليها. إذا كان نورمان تشيني يعيش بمفرده، فإنَّ مهمتي أصبحت أسهلَ بكثير.


كانت الثلوج قد بدأت في الهطول للتو عندما دخلتُ تيكهيل، وعُلِّقت رقاقاتٌ خفيفة في الهواء دون أن تهبط. وجدتُ طريق كوميونتي، وهو طريق قليل السكان وممهَّد على نحوٍ سيئ، يقود إلى تلٍّ في نهايته. أبطأتُ سرعتي عندما اقتربتُ من الرقم ٤٢؛ كان صندوقُ البريد، المطليُّ باللون الأسود وعليه أحرفٌ بيضاء، هو المؤشرَ الوحيد على وجود ملكية. وبينما كنت أقودُ ببطءٍ، دقَّقتُ النظر عبْر الممر الترابي لكني لم أستطِع رؤيةَ المنزل في الغابة. في نهاية طريق كوميونتي انعطفتُ، ثم اتخذتُ قرارًا. هذه المرة توجَّهتُ إلى أسفل الممر. والتفَّ بي الطريق إلى اليسار، وعندئذٍ تمكَّنتُ من رؤية المنزل. كان هيكل المبنى على شكل حرف A؛ تشغَل النوافذ فيه مساحةً أكبرَ عن الجوانب الخشبية، ومُشيَّد على هيئة شاليه تزلُّج صغير. كنت سعيدًا جدًّا عندما لاحظتُ عدم وجود مرأب للسيارات وأن سيارةً واحدة فقط — من طراز سيارات الدفع الرباعي — واقفةٌ أمام المنزل. ومن ثمَّ، كان الاحتمال الأرجح أنَّ نورمان تشيني بمفرده في المنزل.

ترجَّلتُ من السيارة، مرتديًا قفازَين، وواضعًا على رأسي قناعَ تخفٍّ، ولكني لم أسحبه على وجهي بالكامل، وأمسكتُ بعتلةٍ بالقرب من ساقي. اقتربتُ من المنزل وصعدتُ الدرجتَين إلى الباب الأمامي. كان الدرَج من الخشب الصلب، ولكن كان هناك شريطٌ من الزجاج المشطوف على كِلا الجانبين. بعد أن قرعت جرسَ الباب، اختلست النظرَ إلى داخل المنزل المظلم، الذي بدا متزعزعًا؛ نظرًا إلى تأثير تموُّج الزجاج. كنت قد قررتُ أنه في حالِ اقترب من الباب أيُّ شخص بخلاف رجلٍ في منتصف العمر، فسوف أسدُل القناع على وجهي وأعودُ أدراجي إلى السيارة. وكنت قد لطَّختُ بالفعل لوحةَ الترخيص بما يكفي من الطين بحيث يُحجَب الرقم واسم الولاية.


لم يُجب أحدٌ على الباب. قرعتُ الجرس مجددًا — أربع مراتٍ — ثم رأيتُ رجلًا ضخمًا ثقيل الوزن يتثاقل ببطءٍ على الدرَج. حتى من خلال الزجاج كان بإمكاني أن أرى أنه يلبَس بنطالًا رياضيًّا رماديَّ اللون وقميصًا ذا مربعات من الصوف. كان وجهه أحمر، وشعره الكثيف الداكن يبرُز في خصلاتٍ، كما لو كان غير مغسول.


فتح الرجلُ الباب. لم يكن هناك خوفٌ في تعابير وجهه، ولا حتى أي تردد. قال: «آها.»


سألتُ: «هل أنت نورمان تشيني؟»


قال مرة أخرى: «آها»، كان طوله يزيد عن ستة أقدام، رغم أنه انحنى قليلًا، بحيث كانت إحدى الكتفين أعلى على نحوٍ ملحوظ من الأخرى.


أرجحتُ العتلة، مستهدفًا جانب رأسه، لكن تشيني ارتدَّ إلى الوراء، وكان طرَفُها قد علِق بقصبة أنفه. أحدثَت شرخًا ممزقًا وهو يترنَّح إلى الوراء، وتساقطت الدماءُ بغزارة على ذقنه. رفع يديه على وجهه قائلًا في وهن: «اللعنة.»


خطوتُ إلى داخل المنزل، وأنا أُلوِّح بالعتلة مرة أخرى، لكن تشيني تصدَّى لها بسهولة بذراعه اليسرى البدينة، ثم لوَّح في وجهي بيمينه، وضربني على كتفي بقبضته. لم تؤلمني، لكنها أفقدَتني توازني هُنيهة، قيَّد تشيني حركتي، ممسكًا بتلابيب بدلتي الرياضية بكلتا قبضتَيه، دافعًا إياي باتجاه الحائط. وبشيءٍ ما، ربما خُطَّاف معطف، طعنني في أعلى ظهري. كان الدم الدافئ يندفع من أنف تشيني كالرشَّاش ويرتطم بي في وجهي. مرَّت على ذهني المذعور بعضُ الذكريات، ربما من رواية إيان فليمنج، ورفعتُ قدمي اليُمنى لأنزل بحذائي الثقيل بقوةٍ على مشط قدم تشيني. صاح تشيني في ذعر وأرخى قبضته، واندفعتُ إلى الأمام بينما تعثَّر هو إلى الخلف، وسقط كلانا بعد بضع خطواتٍ، هبطتُ فوقه بقوة، وسمعتُ شيئًا يُطقطق. تلوَّى وجه تشيني من الألم، وأخذ يفتح فمه ويغلقه مثل سمكة أُخرجت من الماء. دفعتُ نفسي بعيدًا عن جسده، ثم وضعتُ ركبتي على صدره وانحنيتُ فوقه مرةً أخرى. أخذ يكافح من أجل أن يتنفَّس، ووضعتُ يدَيَّ ذواتَي القفازين حول عنقه الثخين، وأخذتُ أضغط بأقصى ما يمكنني مُستخدمًا كِلا إبهاميَّ. حاول أن يُرخيَ يدي، لكنه كان قد وهن بالفعل. أغمضتُ عينيَّ وظللتُ أضغط. بعد دقيقة أو ربما أطول، توقَّفتُ وتدحرجت إلى الجنب وأنا أتنفَّس بصعوبة، وأدركتُ أن فمي كان مالحًا ومثخنًا بالدماء. مرَّرتُ بلساني حول أسناني، لكن طرَف لساني كان خشنًا ومؤلمًا. لا بد أنني قد عضضت لساني أثناء الشجار. كانت الدماءُ تملأ فمي، وابتلعتُها. لقد بدت فكرةً سيئة أن أبصق بعضَ دمي في مسرح الجريمة، مع علمي بأنني قد تركتُ على الأرجح كلَّ أنواع آثار الحمض النووي بالفعل.


جلستُ أمام تشيني، ومن دون أن أنظر إليه مباشرةً، رحت أتحسَّسُ النبضَ في رقبته ومعصمه. لم يكن هناك شيء.


وقفتُ، وتأرجَح العالم من حولي لحظة، ثم انحنيتُ لالتقط العتلة. كنتُ قد قررتُ سابقًا أنني سوف يتعيَّن عليَّ التجوُّل في المنزل، وأخذُ بعض الأشياء الثمينة بعد وفاة تشيني، لكنني لم أكن أعرف إن كانت لديَّ المقدرةُ على ذلك أم لا. أردتُ فقط أن أعودَ إلى السيارة، مبتعدًا قدْرَ المستطاع عما حدث الآن.


كنتُ على وشْك الانعطاف عندما استشعرتُ حركةً بجانب عيني، نظرتُ على أثرها عبْر الرَّدهة نحو غرفة المعيشة ذات الطراز المفتوح والنوافذ الممتدة من الأرض حتى السقف. كان هناك قطٌّ برتقالي يشق طريقه ببطءٍ نحوي، وكانت أظفارُه غير المقلَّمة تنقر على الأرضية الخشبية. توقَّف القط وشمَّ جسدَ تشيني، ثم نظرَ إليَّ مجددًا وأخذَ يعوي بصوتٍ عالٍ، واقتربَ خطوتَين، ثم تقلَّب على جانبه وتمدَّد لتظهر بطنه البيضاء المرقَّطة. سرَت في جسدي موجةٌ من البرد القارس لتُصيبه بالشلل تقريبًا، لقد انتابني هاجسٌ بأن هذه الصورة، لهذه القطة التي تلتمس الحُبَّ بينما يرقُد صاحبها مقتولًا على الأرض، ستُلاحقني إلى الأبد. ودون تفكير، انحنيتُ وأخذتُ القطة، واصطحبتُها معي خارجًا إلى سيارتي، وقُدتُ بعيدًا.


كانت الثلوج قد تجمَّعَت الآن وبدأت تلتصق بالطرق. قُدتُ سيارتي ببطءٍ، عاكسًا مسار طريقي عبْر وسط مدينة تيكهيل، ثم أخذتُ الطريق السريع الذي سيقودني عبْر جبال وايت وجنوبًا إلى ماساتشوستس. شعرتُ أن تحركاتي في السيارة بطيئةٌ ومتأنية، وحتى السيارة نفسها بدت كما لو كانت تتحرَّك في الهواء الذي تحوَّل إلى شيءٍ قريبٍ من الصلابة. تباطأَ الزمنُ، وكان كلُّ شيءٍ قد تخضَّب بشعورٍ من اللاواقعية. نظرتُ إلى دواسة المقعد بجانبي إلى حيث وضعتُ القط المطيع. كان جزءٌ من عقلي يصرخ بأنه لم يكن ينبغي أن آخُذ أيَّ شيءٍ من مسرح الجريمة، يخبرني أنني وقَّعتُ للتو على وثيقة موتي، لكنني واصلتُ القيادة. كانت القطة تنظر الآن إلى أعلى نحو النافذة، إلى رقاقات الثلج المتطايرة بجانب السيارة. لم يكن هناك طوقٌ. مددت يدًا ومسحتُ على طول عمودها الفقري؛ كانت أقلَّ وزنًا مما ظننت، وكان معظم حجمها يأتي من فروها البرتقالي السميك. أحسستُ بخرخرةٍ صغيرة تسري عبر أطراف أصابعي.


بمجرد أن تخطَّيتُ الجبال، وبدأ عقلي يَصفو قليلًا، قررتُ أن أتوقَّف جانبًا في أي بلدة عشوائية، وأبحث عن متجر، أو نُزُل، عن مكانٍ به بابٌ مفتوح، وأزج القطة بالداخل. ومن ثمَّ، سيعثر أحدهم على القطة ويوفِّر لها مأوًى. كانت هناك مخاطرة، مخاطرة كبيرة، أن يراني شخصٌ ما، لكن كان عليَّ أن أحاول. ما كان يجب أن آخذ القطة بتاتًا، ولا يمكنني حتى أن أتذكَّر الآن لماذا فعلتُ ذلك. ولكن الآن بعد أن أصبحَت القطة في السيارة، لم أستطِع حمْل نفسي ببساطةٍ على دفعها إلى جانب الطريق. سيكون هذا هو الشيءَ الحكيم الذي يجب القيام به، لكن فرص بقاء القطة على قيد الحياة ستكون ضئيلةً للغاية.


تابعتُ القيادة، وفي مكانٍ ما في جنوب نيو هامبشير خفضَت القطةُ رأسها وغطَّت في النوم. لم أتوقَّف في أيِّ بلدةٍ عشوائية، وفجأةً أدركتُ أنني لن أفعل. عندما عُدتُ إلى بيكون هيل ووجدتُ مكانًا لانتظار السيارات أمام المبنى مباشرةً، كانت القطة لا تزال معي. حملتُها وأخذتُها إلى الطابق العلوي. كانت الساعة العاشرة والنصف صباحًا.


بينما كانت القطة تتجوَّل في شقتي الصغيرة، تتشمَّم وتفرك خدَّها في كلِّ قطعة أثاث، رُحتُ أتجرَّد من ملابسي كلها، ووضعتُها هي والعتلة معًا في كيس قمامة متين. ثم استحممتُ بالماء والصابون، واغتسلتُ ثلاث مراتٍ على الأقل، حتى بدأ الماء الساخن ينفد.


في خُطتي الأصلية لهذا اليوم، كنت سأغادر منزلَ تشيني، ثم أتوجَّه شمالًا قليلًا إلى متجرٍ للكتب المستعملة كنت أعرفُه، وكان يقع في حظيرة قديمة قد جُدِّدت. سبق أن ذهبتُ إلى هناك عدة مرات، وفي السابق كنت محظوظًا بالعثور على طبعاتٍ نادرة من روايات الجريمة. إذا انتهى بي الأمر لأي سببٍ بأن أكون مشتبهًا به في وفاة تشيني، أو رصد أحدُهم سيارتي، فسيكون لديَّ على الأقل مبرِّر لوجودي في نيو هامبشير في ذلك الإثنين تحديدًا. لقد كانت حُجةَ غيابٍ واهيةً للغاية، لكنها كانت أفضلَ من لا شيء. افترضتُ أنه يمكنني الآن القول إنني كنتُ أخطِّط للقيادة إلى متجرِ كتبٍ مُفضَّلٍ إليَّ، لكنني استدرتُ عائدًا بسبب الثلوج.


لا شيء من هذا بالطبع يفسِّر وجودَ قطة رجلٍ مقتول في شقتي، قطة كانت تحكُّ ذقنها بكاحلي الآن. وجدتُ علبة تونة، وأفرغتُها في وعاءٍ، ثم ملأتُ وعاءً آخرَ بالماء. عثرتُ أيضًا على غطاء صندوق من الورق المقوَّى، فنثرتُ فيه بعضَ التراب من أحد نباتات العنكبوت الخاصة بي، على أملِ أن يصلُح صندوقًا لفضلاتِ القطة. وبينما كانت القطة تأكل، ذهبتُ إلى جهاز الكمبيوتر الخاص بي وبحثتُ على جوجل عن كيفية معرفةِ إن كان القط ذكرًا أم أنثى. وبعد البحث، قررتُ أن القطة كانت ذكرًا. قضيتُ اليوم معه في الداخل، وفي مرحلةٍ ما، نمنا معًا على الأريكة، والقط بجوار قدمي. وبحلول الظلام، وجد طريقه إلى الفراش، والتفَّ على نفسِه فوق كتابي الحالي، وهو نسخة ورقية من كتاب ريكس ستاوت «كثير من الطهاة». سميتُ القطَّ نيرو.


•••


عقب شهر واحد — شهر واحد بعد أن تركتُ جثة نورمان تشيني في تيكهيل، بنيو هامبشير — كان هناك شيئان واضحان. الأول، لم تأتِ الشرطة في طلبي. على الرغم من أنني لم أتصفَّح الإنترنت للبحث عن أي شيءٍ حول قضية قتْل تشيني، إلا أنني شعرتُ في أعماقي، أنني قد نجوتُ بفَعلتي. الإدراك الثاني هو أن نيرو، الذي ألِف منزلَه الجديد وتأقلَم عليه بسعادةٍ غامرة، كان بحاجةٍ إلى المزيد من الأشخاص من حوله. كثيرًا ما كنت أخرج مدة اثنتي عشرة ساعة في كل مرة، وعندما أعود إلى المنزل، أجد نيرو هناك عند الباب في حاجةٍ ماسة إلى أن أحنوَ عليه. أخبرتني ماري آن، جارتي في الطابق السفلي، أنها تسمعه يبكي خلال النهار.


بدأتُ أعتقد أنَّ نيرو سوف يصبح قطَّ متجرٍ ممتازًا في «أُولد ديفيلز».


الفصل الثالث عشر


كونك قارئًا شغوفًا للروايات البوليسية في مرحلة المراهقة ليس بالأمر الذي يَعُدُّك للحياة الحقيقية. تصوَّرتُ حقًّا أن حياتي بصفتي شخصًا بالغًا ستكون شبيهةً بالكتب أكثرَ مما اتَّضح فيما بعد. اعتقدتُ، على سبيل المثال، أنه سيكون هناك عدةُ لحظات أستقلُّ فيها سيارة أُجرة لتعقُّب شخصٍ ما. اعتقدتُ أنني سأحضُر المزيد من الجلسات لفتح وصية شخصٍ ما، وأنني سأحتاج إلى معرفة كيفية فتح الأقفال دون مفتاح، وأنه في أي وقت أقوم فيه بإجازة (خصوصًا في النُّزُل القديمة المليئة بالصرير، أو منازل البحيرة المستأجرة) سيحدث شيءٌ غامض. اعتقدتُ أنَّ ركوب القطار سيتضمَّن حتمًا جريمةَ قتل، وأنَّ الأحداث المشئومة ستجتاح عطلات نهاية الأسبوع في حفلات الزفاف، وأنَّ الأصدقاء القُدامى سيتَّصلون دائمًا لطلب المساعدة، ليُخبروني أن حياتهم في خطر. حتى إنني اعتقدتُ أنَّ الرمال المتحركة ستكون إحدى المشكلات التي ستواجهني.


كنتُ مستعدًّا لكلِّ هذا بالطريقة نفسِها التي لم أكن مستعدًّا بها لتفاصيل الحياة المُحطِّمة للرُّوح. الفواتير. تحضير الطعام. الإدراك البطيء بأن البالغين يعيشون في فقاعاتٍ غير مثيرة للاهتمام من صُنعهم. الحياة ليست غامضةً ولا مغامرة. وبالطبع، توصَّلتُ إلى هذه الاستنتاجات قبل أن أصبح قاتلًا. لا يعني ذلك أن مسيرتي الإجرامية قد أشبعَت الحياةَ الخيالية التي كانت لديَّ عندما كنت طفلًا. ففي تخيُّلاتي، لم أكن القاتلَ قط. كنتُ الرجلَ الطيب، المحقِّق (الهاوي، عادةً)، الذي يحلُّ لغز الجريمة. لم أكن الشريرَ قط.


كان من بين مجموعة المهارات الأخرى التي اعتقدتُ أنني سأستخدمها أكثرَ في سنوات البلوغ هي القدرة على تعقُّب شخصٍ ما. والقدرة على معرفة أن أحدهم يتعقَّبني في المقابل. ومرةً أخرى، لم تظهر هذه الأشياء في الواقع مطلقًا. لكن في ليلةِ السبت تلك، بعد أن أغلقتُ «أُولد ديفيلز»، مشيتُ عبْر منتزه بوسطن كومن، وكانت الرياحُ تمرُّ خلال ملابسي، وقد انتهى بي المطافُ في الحانة في جاكوب ويرث، أحتسي البيرةَ الألمانية وآكلُ شريحة وينر. كان ذلك في منتصف شهر فبراير، لكن أضواء عيد الميلاد كانت لا تزال معلَّقة على طول الأسقف العالية للحانة، وبطريقةٍ ما، جعلني هذا المكان أشعرُ بالرضا حيال تناول الطعام بمفردي. هكذا كنت أحكم على المطاعم القريبة مني؛ إذ كانت هناك تلك الأماكن التي تجعلك تشعر بالوحدة عندما تأكل بمفردك، مثل بعض الأماكن الراقية التي تضجُّ بها باك باي، ثم كانت هناك تلك الأماكنُ — «جاكوب ويرث» ومطعم يُسمى «ستوداردز» — كانت صاخبةً بما فيه الكفاية، ومظلمةً بما فيه الكفاية، حيث لا يهمُّ كثيرًا كونُك وحيدًا.


عندما غادرتُ «جاكوب ويرث»، وبدأتُ أمشي في ذلك الطقس البارد عائدًا إلى المنزل، شعرتُ يقينًا بأنني كنتُ مراقَبًا. ربما قرأتُ الكثيرَ من الكتب حقًّا، لكنني شعرتُ بذلك في قرارة نفسي، إحساسٌ مادي تقريبًا بأنَّ أحدًا ما كان يُراقبُني. استدرتُ إلى الخلف، وتفحَّصتُ الأهاليَ والسيَّاح المحتشدين بكثرة، لكنني لم أرَ أحدًا يبدو مريبًا. لكن الشعور استمرَّ طَوال الطريق إلى شارع تشارلز، وعندما توجَّهتُ إلى ريفير باتجاه شقتي، نظرتُ إلى الخلف ورأيتُ رجلًا في الضوء الخافت لمصابيح الغاز يمشي ببطءٍ عبْر التقاطع مُحدِّقًا في اتجاهي ووجهُه في الظِّل. السِّمة الوحيدة التي استطعتُ تمييزها هي أنه كان يرتدي قبعةً رفيعة الحافات. استمر في المشي، مِشية بطيئة متموِّجة، وفكَّرتُ لحظةً في الالتفاف لمواجهته. لكنه اختفى بعد ذلك خلف مبنًى، وعدَلتُ عن رأيي. كان كلُّ مَن يجتاز شارع تشارلز يُلقي نظرةً على الشوارع الجانبية السكنيَّة، لا سيَّما في فصل الشتاء عندما تكون في أجمل حالاتها.


عندما كنت في الداخل، فكَّرتُ أكثرَ في الرجل الموجود في الشارع وقررتُ أنني مصابٌ بجنون الارتياب. لا أحدَ كان يتبعني حرفيًّا. لكن هذا لا يعني أنني لم أكن مراقبًا بطريقةٍ أو بأخرى، أو أنَّ أحدًا لم يكن يتلاعبُ بي.


منذ أن وصلَت جوين مالفي إلى «أُولد ديفيلز»، سائلةً إيَّايَ عن قائمة جرائم القتل الكاملة، وأنا أفكِّر في ظلِّي، ذلك الرجلِ (دائمًا ما كنت أفكِّر فيه على أنه رجل) الذي التقيتُه عندما ردَّ على رسالتي المجهولةِ المصدر حولَ رواية «غريبان على متن قطار». الرجل الذي قتل إريك أتويل من أجلي. الرجل الذي أرادَ موتَ نورمان تشيني.


ماذا لو اكتشف مَن أكون؟ لن يكون الأمر عسيرًا للغاية. ربما وجدني من خلال بعض البحث حول إريك أتويل. لو أمعن النظرَ قليلًا، لَعلمَ بحادث سيارة كلير، والزوج الذي تركته وراءها، وهو رجلٌ كان يعمل في متجرٍ لبيع الروايات البوليسية. ليس هذا فحسب، بل أيضًا رجلٌ نشر مرةً منشورًا على مدوَّنة حول ثمانٍ من جرائم القتل الكاملة المفضَّلة لديه؛ إحداها «غريبان على متن قطار». ومن ثمَّ، من السهل أن يجدني. وماذا بعد أن يجدَني؟ ربما كان قد استمتع بقتل إيريك أتويل، وأراد أن يمضيَ قُدمًا؟ ماذا لو قرَّر استخدام قائمتي مخطَّطًا لارتكاب مزيدٍ من جرائم القتل؟ ستكون تلك وسيلةً لجذب انتباهي. أليس كذلك؟ هل كان هذا كلُّه بمنزلة لُعبةٍ ما؟


كلما أمعنت التفكير في الأمر، زاد اقتناعي بأنَّ تشارلي، الذي نظَّم جرائمَ الأبجدية وجريمةَ قتل القطار المستوحاة من رواية «تعويض مزدوج»، وربما أخافَ إيلين جونسون حتى الموت في روكلاند بولاية مين، كان هو نفسه الرجلَ الذي أطلق النار على إريك أتويل من أجلي.


لقد عرَفني.


وقد جلبَت أفعالُه مكتبَ التحقيقات الفيدرالي إلى باب منزلي. ربما كانت هذه هي نيتَه أيضًا.


«تشارلي، ما الذي تريده؟»


فكَّرتُ أكثرَ في «غريبان على متن قطار». لم يكن الكتاب عن الشخصَين اللذين قُتِلَا. بل كان عن القاتلَين برونو وجاي، وعلاقتهما معًا. ربما شعر أيًّا كان مَن اتصلتُ به من خلال هذا الموقع كما لو كنا على علاقةٍ أيضًا. تذكَّرتُ صاحبَ التعليق على منشور المدوَّنة الخاص بي، دكتور شيبارد. كان من الواضح أنه أراد أن يعرفني، وأنه أرادني أن أعرفه.


رنَّ هاتفي الخلوي. ألقيتُ نظرةً لأجد أنها جوين.


قلتُ: «مرحبًا.»


«آسفة، أتصلُ بك في وقتٍ متأخرٍ جدًّا. أمَا زلتَ مستيقظًا؟»


قلتُ: «لا بأس. أنا مستيقظ.»


«رائع. هناك أمران. لقد أجريتُ مزيدًا من البحث في قضية إيلين جونسون، ضحيةِ الأزمة القلبية.»


«صحيح.»


«لقد تحدَّثتُ مع محقِّقة الشرطة التي حضَرَت إلى مكان الحادث، وأخبرتني أنَّ المنزل كان مكتظًّا تمامًا بالكتب.»


«لستُ متفاجئًا.»


سكتَت جوين هُنيهةً، ثم قالت: «لديَّ طلب منك. أعلم أنه غريب، لكنني أعتقد أنه سيكون مفيدًا. سأقود سيارتي إلى روكلاند بعد ظُهر الغد. هل يمكنك أن تأتيَ معي؟»


قلتُ: «أعتقدُ أنَّ باستطاعتي ذلك، لكنني لست متأكِّدًا من أنني سأكون ذا فائدة. ما الذي سيُمكنني رؤيته ولن تكوني قادرةً على رؤيته؟»


قالت جوين: «لقد فكَّرتُ في هذا الأمر بالفعل. ربما لن ترى شيئًا، وربما سترى الكثير. لقد كنتَ تعرفها. أنا لستُ متأكِّدة من أنَّ ذلك سيكون مفيدًا، لكنني لا أعتقد أنه قد يضرُّ. هل هذا منطقي بالنسبة إليك؟»


قلتُ: «قليلًا.»


«إذن هل ستأتي؟»


«بالتأكيد، على ما أظن. متى ستغادرين؟»


«ممتاز. يجب أن أكون هنا في نيوهافن طوال الصباح، وبعد ذلك أعتقدُ أنه يمكنني المغادرةُ في الظهيرة تقريبًا. سوف أمرُّ ببوسطن وآخذُك في الواحدة والنصف، وسنصل إلى روكلاند في نحو الساعة الخامسة بعد الظهر. هل يناسبك هذا؟»


قلتُ: «حسنًا. سيوجَد مَن يحلُّ محلي في المتجر. هل سنبيت هناك؟»


«لم أفكِّر في ذلك حتى. لقد قررتُ القيامَ بهذه الرحلة قبل خمس دقائق فقط.» فكَّرت لحظة. «دعنا نخطِّط لكيفية المبيت. قالت المحقِّقة إنها ستلتقي بنا هناك في تمام الخامسة، لكننا قد نرغب في إلقاء أكثرَ من نظرةٍ واحدة على المنزل، وقد يكون هناك شهودٌ آخَرون يمكنني مقابلتهم في اليوم التالي. هل يناسبك المبيت ليلًا؟»


قلتُ: «بالتأكيد.»


«ممتاز. سأرسل لك رسالةً نصية عندما أغادر نيوهافن. هل أمرُّ عليك في المتجر أم في شقتك؟»


أخبرتُها أنني سأكون في المتجر، وأنهينا المكالمة.


وقفتُ لحظة ثم ذهبتُ وانتزعتُ عبوةَ بيرة من الثلاجة. لم أكن أعرفُ حقًّا لماذا أرادت جوين أن آتيَ معها إلى منزل إيلين جونسون. كانت تتعلَّق بقشة. ربما كانت طموحة واعتقدت أنني سأساعدها في القضاء على قاتلٍ متسلسل. وربما أرادتني هناك لأنها كانت تأمُل أن أُفشيَ سرِّي، حيث سأكون في مواجهة مسرح الجريمة وعندها سأخرُّ معترفًا. كان دافعُها صحيحًا بالطبع. كانت إيلين جونسون واحدةً من جرائم القتل المدرجة في القائمة. لقد قرَّر الرجل نفسُه، ظلِّي، الذي قتل إريك أتويل، الاستمرارَ في قتل الناس واستخدامَ قائمتي. وكان يحاول التواصلَ معي، وهو ما اتضح جليًّا من خلال اختياره إيلين واحدةً من الضحايا. ولكن كيف عرَف بشأنها بالضبط، هل عرَف أنها اعتادت أن تتردَّد على متجر الكتب؟ ما مدى قُربه مني؟


لم تكن لديَّ إجاباتٌ عن هذه الأسئلة، لكنني كنتُ أعرف في داخلي أنَّ جوين مالفي سوف تكتشف ذلك. لقد جمعَت كلَّ الخيوط معًا حتى الآن وستُواصل تجميعها معًا. وها هي ذي تقودها إليَّ، إلى مقتل إريك أتويل، وما فعلته بنورمان تشيني في نيو هامبشير. سوف تجدني. وهذا يعني أنني بحاجةٍ إلى العثور على ظلِّي أولًا. يجب أن أسبقها إليه.


الفصل الرابع عشر


في اليوم التالي استيقظتُ مبكرًا، وحزمتُ حقيبةً من أجل المبيت وذهبتُ إلى «أُولد ديفيلز». لم أنَمْ جيدًا. كنت أفكِّر فيه بالطبع. أُدرك أنني بحاجةٍ إلى اتخاذ قرار بشأن اسمٍ رسمي لهذا الرجل. لطالما فكَّرتُ فيه على أنه ظلي، لكن هذا يبدو إلى حدٍّ بعيد مثلَ شخصية في كتاب هزلي. أعتقد بدلًا من ذلك أنني سأستخدم تشارلي، الاسم الذي توصَّلنا إليه أنا وجوين. لا بأس بتشارلي.


بعد أن فتحتُ البابَ الأمامي للمتجر، دخل نيرو عبْر البابِ المخصَّصِ له، الذي يؤدي إلى شبه سرداب. كان ذلك هو المكانَ الذي ينام فيه أحيانًا بالقرب من التنُّور، لكنه لم يكن يمكث هناك بتاتًا عندما يوجد أناسٌ في الجوار. انخفض واسترخى أمامي، وانحنيتُ وفركت صدره وتحت ذقنه. اعتقدتُ أنه قد تأتي مرحلةٌ في حياتي يتمدَّد فيها نيرو لجذب الانتباه ولا أفكِّر في جثة نورمان تشيني الملطَّخة بالدماء، ولكن ذلك لم يحدُث بعد.


ذهبتُ إلى كمبيوتر المتجر وتفقَّدتُ رسائلَ البريد الإلكتروني، ثم كتبتُ رسالةً سريعة إلى براندون، أسأله فيها عمَّا إذا كان على استعدادٍ لإغلاق المتجر بعد الانتهاء من مناوبته بعد الظهر. كنتُ أعلم أنه سيفعل ذلك، لكنني أردتُ فقط التأكُّد. كان ذلك في صباح يوم الأحد، مبكرًا، ومن ثمَّ لم أكن أتوقَّع تلقِّيَ بريد إلكتروني في أي وقتٍ قريبًا.


احتسيتُ القهوةَ وفكَّرتُ أكثرَ في خُطتي لذلك الصباح. أدركتُ أنه بحلول الساعة التاسعة، أو ربما حتى الثامنة والنصف، سيكون الوقت مناسبًا للاتصال بمارتي كينجشيب وهو ضابط شرطة سابق أعرفه، يعمل الآن مستشارًا أمنيًّا بدوام جزئي لدى أحد الفنادق الكبيرة في وسط المدينة. كنت قد قابلتُ مارتي قبل ثلاث سنواتٍ عندما جاء إلى المتجر أثناء توقيع دينيس ليهان. وقد مكث مدةً طويلة بعد مغادرة ليهان، وطرح عليَّ أسئلة حول روايات الجريمة، قائلًا إنه كان يفكِّر في كتابة رواية بنفسه منذ أن كان في القوات العسكرية. وقبل أن يغادر تلك الليلة، سألني إذا كنتُ أرغب في تناول مشروب معه في وقتٍ ما. أخبرتُه أنني سأفعل وفُوجئتُ عندما اقترح على الفور مكانًا ووقتًا لهذا اللقاء؛ حانة تُسمى «مارلياف» على الجانب الآخر من المنتزَه في ليلة الخميس المقبل في تمام الثامنة.


لم تكن حانة «مارلياف» بالمكان الذي زرتُه من قبل، وهي تقع بعيدًا في شارعٍ جانبي بالقرب من داون تاون كروسينج. كان المدخل عبارةً عن ممرٍّ ضيق يؤدي إلى بارٍ مكسوٍّ بالبلاط يبدو أشبهَ بحانة صغيرة فرنسية أكثرَ منه مكانًا قد يرغب شرطيٌّ سابق في احتساء الشراب فيه. كان مارتي كينجشيب عند البار الطويل، يتحدَّث إلى أحد السقاة. وقد بدا متفاجئًا تقريبًا عندما جذبت المقعد المجاور له، كما لو أنه نسي ترتيب لقائنا.


قال: «أجئت؟»


«بالتأكيد.»


«ماذا ستطلب؟ أنا سأطلب ميلر لايت ولكن روبرت هنا» أشار إلى النادل، «أخبرني أن لديَّ ذوقًا سيئًا.»


طلبتُ جِعةَ شعير. وحصلَ مارتي على جِعةٍ أخرى وطلب بعض الطعام؛ حلزونًا، وطبقًا من شطائر كرات اللحم.


لم أكن قط جيدًا في تكوين صداقات. أحيانًا أُلقي باللوم في ذلك على حقيقةِ أنني طفلٌ وحيد، وأنه لم يكن أيٌّ من والديَّ، باستثناء أبي عندما يكون ثمِلًا، اجتماعيًّا للغاية. لكني أعتقدُ أنَّ الأمر أعمقُ من ذلك، الأمر يرجع إلى عدم القدرة على إقامة علاقاتٍ حقيقية مع الناس. فكلما طال تفاعلي مع شخصٍ ما، بدأت أشعر ببُعدي عنه. أستطيع أن أشعر بقدْرٍ كبير من المودة تجاه سائح ألماني مُسن يزور متجري مدة عشر دقائق ويشتري نسخةً مستعملة من رواية سيمون بريت، ولكن في كل مرة أبدأ في التعرُّف إلى الناس حقًّا، يبدو الأمر كما لو أنهم يأخذون في الخفوت، كما لو كانوا خلف حاجز زجاجي يزداد سُمكًا وسُمكًا. كلما عرَفتُ عنهم أكثر، زادت صعوبة رؤيتهم وسماعهم بأي طريقة ذات معنًى. لكن كان هناك استثناءات. كلير على سبيل المثال. لورانس تيبود أعزُّ أصدقائي في الإعدادية، الذي انتقل ليعيش في مكانٍ ما في البرازيل في نهاية الصف الثامن. وشخصيات في الكتب بالطبع. والشعراء. كلما عرَفت عنهم أكثرَ، ازددتُ حُبًّا لهم.


كان مارتي، عندما قابلتُه لأول مرة، يبحث عن أصدقاء، ولمدةٍ حاولتُ أن أشغل هذا الدَّور. عمل ضابط شرطة في الكتلة الغربية لكنه استقال بعد وقتٍ قصير من مغادرة أطفاله المنزل وطلبِ زوجته الطلاق. كان قد انتقل إلى شقة بغرفة نوم واحدة بالقرب من ميدان دودلي واعتبر نفسه شبهَ متقاعد، على الرغم من ممارسته العملَ الأمني غير الرسمي، وعلى الرغم من أنه كان يرسم الخطوطَ العريضة لرواية كنتُ متأكِّدًا من أنه لن يكتبها أبدًا. كان رجلًا مرحًا. كما أنه كان أذكى بكثير مما بدا عليه بقَصَّة شعره القصيرة وأنفه المكسور وجسده الذي يُشبه ثمرةَ الكُمَّثرى؛ كان يقرأ بسهولةٍ نحو خمسة كتب في الأسبوع. لمدةٍ من الوقت كان يأتي إلى متجرِ بيع الكتب بالقرب من وقتِ الإغلاق، يشتري مخزونًا من الكتب الجديدة، ثم نذهب إلى مكانٍ ما لتناول الشراب. كان لديه دائمًا قصة، أو حكاية مضحكة، ولم يكن يتخلَّل جلستَنا أيُّ فتراتٍ من الصمت. في البداية، نجح الأمر، لكنَّ مثل معظم علاقاتي، بعد مدة شعرتُ أنَّ هناك جدارًا يظهر بيننا. كان الأمر كما لو أننا وصلنا إلى قمةِ صداقتنا وذروتها، ولن تتوسَّع أبدًا. في هذه الأيام، عادةً ما نجتمع فقط لتناول شراب بحلول أعياد الميلاد.


لم أكن أعرفُ إن كان في إمكان مارتي مساعدتي أم لا، لكنني اعتقدتُ أنَّ الأمر يستحق المحاولة. سيكون لديه الوقت والمصادر لمعرفةِ معلوماتٍ حول نورمان تشيني. لقد كانت مخاطرة، لكنها مخاطرة عليَّ أن أتحمَّلها. أيًّا مَن كان تشارلي، فقد أراد موت نورمان تشيني. وأنا أعلم أيضًا أنه أراد أن يتولى شخصٌ آخر هذه المهمة، مما يعني أنه سيكون مشتبهًا به في جريمة القتل.


اتصلتُ بمارتي في تمام التاسعة.


قال: «مرحبًا أيها الغريب.»


«هل أيقظتُك؟»


«كلَّا، لقد خرَجتُ من فوري من الحمَّام. اللعنة، لقد أمضيتُ نحو عشرين دقيقة في محاولة إلصاق بواقي الصابون القديمة بقالب الصابون الجديد. لا بد أنني اشتريتُ صابونًا من علامة تجارية جديدة ولن يظلا معًا على الإطلاق. ليست الفكرة أنَّ أحدهما أخضر والآخر بُنيٌّ أو شيء من هذا القبيل. لقد كانا إلى حدٍّ كبير من اللون نفسه، لكنهما لا ينطبقان أبدًا. أنا متأكِّد من أن هذا هو سبب اتصالك؛ لمعرفة المزيد عن حمَّامي، أليس كذلك؟»


«كلَّا، لكنها كانت قصةً رائعة. لديك الكثير مما يحدُث في حياتك، هه؟»


«نعم، فعلًا. ستأتي سيندي وتبقى هنا لقضاء عطلة الربيع. أنا لست مغفَّلًا … إنها مهتمة بشابٍّ ما في جامعة بوسطن. ومع ذلك، لا يزال قدومها شيئًا أترقَّبه بلهفة.»


سيندي هي ابنة مارتي، الشخص الوحيد في العائلة الذي لا يزال على اتصالٍ منتظم به.


«هذه أخبارٌ جيدة يا مارتي. انظر، في الواقع أريدك أن تسدي إليَّ معروفًا.»


«أوه، حقًّا؟»


«إن كان هذا أمرًا لا يمكنك القيام به، أو لا تشعر بالراحة تجاهه، فقط أخبرني. ولن تكون هناك مشكلة.»


قال: «هل تريدني أن أقتل أحدهم؟» ثم ضحك.


«لا، لكنني في الحقيقة أريدُ بعضَ المعلومات عن شخصٍ قُتل. هل يمكنك القيام بهذا، بصفتك شرطيًّا سابقًا؟»


«أيُّ نوعٍ من المعلومات؟»


قلتُ: «يجب أن يكون هذا بيننا فقط. لا يمكنك إخبارُ أي شخص.»


«لا مشكلة. هل أنت في ورطة؟»


قلتُ: «لا، لا». وخلال المحادثة الهاتفية، بدأتُ أدرك أنني سأحتاج إلى تبريرٍ لما كنتُ أطلبه منه. وبسرعة قرَّرتُ إخباره النسخة الملتوية من الحقيقة. «اتصل بي مكتبُ التحقيقات الفيدرالي بشأن قضية قتلٍ قديمة. رجلٌ من نيو هامبشير قُتل قبل نحو أربع سنوات. نورمان تشيني. ت. ش. ي. ن. ي. لم يخبروني بكلِّ شيءٍ، ولكنه — على ما يبدو — قد حصل على الكثير من الكتب من متجري، ويعتقدون أنه ربما يكون هناك رابطٌ ما.»


«أيُّ نوعٍ من الروابط؟»


«لم يُخبروني بالضبط. أنا فقط … أشعرُ أنَّ هذا الأمر برُمَّته قد ألقى به عليَّ، وكنت أتساءل عما إذا كان بإمكانك النظر في الأمر من أجلي، ومعرفة شيءٍ عن هذا الرجل. أشعرُ وكأنهم ربما لا يُخبرونني بالقصة بأكملها، وأنه قد تكون لها علاقةٌ بكلير، أو شيء من هذا القبيل.»


قال مارتي، وبدا مرتبكًا شيئًا: «يمكنني إجراءُ بعض المكالمات بالتأكيد. إنَّه على الأرجح أمرٌ غير مهم، مال. يحدُث دوريًّا تسليمُ قضية لم تُحلَّ إلى شخصٍ ما، ويجدون ثغرةً لم يتناولها التحقيقُ تناولًا كاملًا — مثل من أين حصل على كتبه — ويقرِّرون التحقُّق منه. إنها محاولة للتعلق بقشَّة. قلت إنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي جاء لرؤيتك؟»


«نعم. هذا غريبٌ، أليس كذلك؟»


«لا تقلق بشأن ذلك. سأجري بعض المكالمات. أنا متأكِّد من أنه أمرٌ غير مهم.»


«شكرًا جزيلًا يا مارتي.»


«ما الذي يجري أيضًا معك؟»


«ليس الكثير. ما بين شراء الكتب وبيعها.»


«دعنا نحتسي الجِعة قريبًا. سأتصلُ بك عندما أحصلُ على معلوماتٍ عن دونالد تشيني، ويمكننا أن نلتقيَ.»


«نورمان تشيني.»


«صحيح، صحيح. نورمان تشيني.»


قلتُ: «أجل، فليكن ذلك. لنحتسِ الشراب.»


أغلقتُ الهاتف، وأدركتُ فقط بعد أن فعلت ذلك أنَّ كتفيَّ كانتا قد تصلَّبتا، وأنَّ فكي يؤلمني. كان نورمان تشيني اسمًا أحاول نسيانه لسنوات. مجرد نطقه بصوتٍ عالٍ قد أحدث فيَّ تغيراتٍ جسدية. مرةً أخرى، تساءلتُ عمَّا إذا كنت قد ارتكبتُ خطأً بإقحام مارتي في هذا، لكنني كنت بحاجةٍ إلى معرفة مَن أراد موت تشيني. حرَّكتُ كتفيَّ، لإرخائهما، في اللحظة نفسِها التي دخلَت فيها إيميلي من الباب، وهي تفكُّ وشاحًا طويلًا حول رقبتها. كان هذا موعد بدء العمل، وأُضيئت جميع الأنوار في المتجر، ذهبتُ ووضعتُ لافتة «المتجر مفتوح» على الباب الأمامي. كانت هناك حُزمة من الكتب الجديدة الوافدة في الخلف بحاجة لرصِّها، وبعد أن أزالت إيميلي كلَّ ملابسها الخارجية، بدأنا نحن الاثنان العمل، في صمتٍ على الأغلب. وعندما تحدَّثنا، لاحظتُ أنَّ صوتها كان أجشَّ قليلًا، كما لو كانت مصابةً بنزلة برد، أو تحدَّثَت كثيرًا في الليلة السابقة. تذكَّرتُ أنه كان لديها خطط. ومع ذلك، كان من الصعب تخيُّل إيميلي تتحدَّث كثيرًا مع أي شخص. وكان من الصعب تخيُّل وجود خطط لدى إيميلي.


سألتُها: «ما الجديدُ لديك هذه الأيام؟»


قالت: «ماذا تقصد؟»


«لا شيء حقًّا. أتساءل فقط بدافع الفضول إن كان أي شيء قد تغيَّر في حياتك. أمَا زلتِ تعيشين في كامبريدج؟ هل تواعدين أحدًا؟»


قالت: «آه»، وانتظرتُ المزيد.


قلتُ: «هل شاهدتِ أيَّ أفلامٍ جيدة؟» فقط لأمنحها مخرجًا بعد أن استغرق الصمتُ مدًى لا يبعثُ على الراحة.


قالت: «شاهدتُ «تحت الجلد».»


«أوه، أجل. هل ذلك هو الفيلم الذي تلعب فيه سكارليت جوهانسون دور كائن فضائي؟»


«بالضبط.»


«كيف وجدتِه؟»


«رائعٌ حقًّا.»


قلتُ: «من الجيد معرفةُ ذلك»، وقررتُ عدم طرح المزيد من الأسئلة عليها. لم يكن لديَّ أطفال قط، ومن ثمَّ لن أعرف أبدًا كيف يكون الحال عندما يكون لديَّ مراهق صامت فجأة، لكنني شعرتُ في بعض الأحيان أن هذه كانت علاقتي مع إيميلي.


عُدنا مرةً أخرى إلى رصِّ الكتب فوق الرفوف، ووجدتُ نفسي أفكِّر في حديثي مع مارتي. ربما كان من الخطأ أن أطلب منه أن ينظر في أمر نورمان تشيني، لكنني شعرتُ أنه كان عليَّ القيام بذلك. لقد كان تشيني هو حلقةَ الوصل بيني وبين تشارلي. حسنًا، وكذلك إيلين جونسون، على ما أعتقد، لكن لا بد أنه اختارها لأنه علِم أنني أعرفُها. وإذا افترضتُ أنَّ جرائم القتل الأخرى كانت عشوائيةً بطريقة أو بأخرى، فإنَّ الجريمة التي ستقودني إلى هُويته كانت جريمةَ قتل نورمان تشيني. لقد أراد موت تشيني، وإذا عرَفتُ السبب، فسوف أجد تشارلي.


رنَّ هاتفي عند الظهيرة. كانت جوين، تراسلني لتخبرني أنها في طريقها. أخبرتُ إيميلي أنني سأغادر في وقتٍ مبكر من ذلك اليوم، لكن براندون سيغلق أبواب المتجر، وأخبرتُها أيضًا أنَّ هناك احتمالًا أن تُضطرَّ إلى فتح المتجر بنفسها في صباح اليوم التالي. كان لكلٍّ من براندون وإيميلي مفاتيحهما الخاصة لأُولد ديفيلز. وإذا كانت تشعر بالفضول حيال المكان الذي سأذهبُ إليه، فلم تكن لتظهره.


في نحو الساعة الواحدة، بدأتُ أراقبُ الباب الأمامي، المُطلَّ على شارع بري. كانت حقيبتي مليئة بما يكفي من الملابس وأدوات الزينة لاحتمالية المبيت لليلةٍ واحدة. على الرغم من القلق الذي كنت أشعر به حيال الموقف، وما قد تكتشفه جوين، فإنني كنت أتوق إلى الرحلة. كنت أشعر بأنني محاصَر في بوسطن هذا الشتاء. كنت أتوق إلى الطريق السريع، إلى المناظر الثلجية، وإلى زيارة مكانٍ لم أزُره من قبل.


في الواحدة والنصف، أخرجتُ رأسي من الباب الأمامي ورأيتُ جوين تتوقَّف فجأةً أمام صنبور إطفاء حريق في سيارة بيج من طراز «تشيفي إكوينوكس». ودَّعتُ إيميلي واتجهتُ إلى الخارج عندما بدأ هاتفي الخُلوي يرن. رأيتُ رقم جوين على الشاشة، تجاهلتُه، وسِرتُ عبْر الشارع إلى الباب الجانبي للراكب، وطرَقتُ على الزجاج. نظرَت في اتجاهي، وأغلقَت هاتفها، ودخلتُ أنا السيارة. كانت رائحتُها كالجديدة، وتساءلتُ إذا كانت سيارةَ شركة. ربطتُ حزامَ الأمان ووضعتُ حقيبتي الصغيرة على الأرض بين قدميَّ.


قالت: «مرحبًا، حجزتُ لنا غرفتَين في روكلاند، من باب الاحتياط فحسب. ألديك كلُّ ما تحتاج إليه؟»


قلتُ: «أجل.»


واصلت السيرَ في شارع بري باتجاه طريق ستورو درايف. كنا هادئَين، وقررتُ ألَّا أتحدَّثُ أولًا؛ فأنا لا أعرفُ ما إذا كانت تحاول التركيزَ على الخروج من بوسطن. ومع ذلك، بمجرد وصولنا إلى طريق ٩٣ شمالًا، شكرتني على القدوم.


قلتُ: «سيكون من الرائع الخروج من المدينة». استدرتُ ونظرتُ إليها للمرة الأولى منذ أن ركبت السيارة. كانت قد خلعت مِعطفها حتى تتمكَّن من القيادة، وكانت ترتدي سترةً محبوكة على شكل ضفائر، وبنطالًا من الجينز الغامق. كانت تضع يديها بوضعيةٍ صحيحة على عجلةِ القيادة (عند الرقمَين عشرة واثنين) وكانت تدرس الطريق وكأنها شخصٌ يحتاج إلى ارتداء نظَّارة. كانت منهمكة للغاية حتى إنني تمكَّنتُ من تأمُّل وجهها قليلًا؛ إذ كان من الأسهل أن أميِّز ملامحها من الجانب بوضوحٍ أكبر، مع أنفها المرتفع إلى أعلى قليلًا، وجبينها البارز، وبشَرتها الناعمة الشاحبة، التي تناثر فوقها قليلٌ من الحُمرة هنا وهناك. كلما أمعنتُ النظر في الناس حقًّا، لا يمكنني أن أمنع نفسي من تصوُّرهم على أنهم إما صغارٌ جدًّا أو كبار جدًّا. بالنسبة إلى جوين، رأيتُها في الخامسة من عمرها، لها عينان واسعتان، تمضغ شفتَها السفلية، وتتوارى خلف ساق أحد والديها. ثم تخيَّلتُها امرأةً عجوزًا، لها شَعر رمادي معقود أسفل ظهرها، وجِلدها من النوع الورقي الذي يكتسبه بعض كبار السن، لكنها جميلة بعينيها الكبيرتين اللتَين تشعَّان ذكاءً، كان هناك شيءٌ مألوف بشأنها، وبشأن وجهها البيضاوي الشاحب أيضًا، لكنني لم أتمكَّن من تحديد ماهيته.


«سوف نقابل المحقِّقة سيفيلي في منزل إيلين جونسون عند الساعة السادسة، هل تناولت الغداء؟»


أخبرتُها أني تناولتُ وجبةَ الإفطار في وقتٍ متأخر، وانتهى بنا الأمر بالتوقُّف عند منطقة استراحة بالقرب من مدينة كينيبانك بولاية مين. وكان هناك أحد مطاعم «برجر كينج» و«بوبايز». طلب كلٌّ منَّا البرجر والقهوة وتناولنا الطعام سريعًا في زاويةٍ بالقرب من إحدى النوافذ. كان الجوُّ بالخارج مشرقًا للغاية، والسماء صافية، وكانت الأرض قد اكتسَت بالثلوج المتساقطة حديثًا، لدرجة أننا كنا نحدِّق النظر بينما نتناول الطعام.


بعد أن تناولت البرجر الخاص بها، ثم نقرَت بإصبعها على غطاء قهوتها، قالت: «لقد ألقَوا القبضَ على شخصٍ بتهمة قتل دانيال جونزاليس. مساء أمس.»


قلتُ: «أوه، الشخص الذي أُطلق عليه الرصاصُ بينما كان يُنزِّه كلبه؟»


«أجل، اتضح أنه كان أيضًا يروِّج منشِّطات الإكستاسي (إم دي إم إيه) بين طلابه في الكلية حيث كان يعمل، وقد أطلق عليه الرصاص تاجرُ مخدرات منافس. أعتقدُ أننا لم نفهم الموقف جيدًا.»


قلتُ: «وليكن.»


«فعلًا. لدينا العديد من الأمور المؤكَّدة. «جرائم الأبجدية» أكيدة، وجريمة «تعويض مزدوج» أكيدة. وأنا واثقة تمامًا مما سنجده في منزل إيلين جونسون في روكلاند.»


قلتُ: «ما الذي تثقين في إيجاده؟»


«شيءٌ ما. لا بد أنه ترك شيئًا. إنَّ تشارلي هذا شخصٌ مسرحي. كما لو أنه لم يكن كافيًا أن يقتل ثلاثة أشخاص لديهم قاسمٌ مشترك بين أسمائه، فكان عليه أن يُرسل ريشة.»


قلتُ: «عن أي ريشةٍ تتحدثين؟»


«أوه، نسيتُ أنني لم أخبرك. هذا ما وصل إلى مراكز الشرطة بعد مقتل كلٍّ من روبن كالاهان وإيثان بيرد وجاي برادشو. تسلَّمَت الشرطة ظرْفًا يحتوي على ريشةِ طائر. لم يكن ينبغي أن أخبرك بذلك حقًّا؛ لأنهم حجَبوه عن الصحافة، لكنني أعتقد أنني أثق بك الآن.»


قلتُ: «هذا جيد، على ما أعتقد.»


«والآن بتَّ تعرف ما أعنيه بكونه مسرحيًّا. لهذا السبب أعتقد أننا سنجد شيئًا ما في مسرح الجريمة. فضلًا عن أنك تعرفها. لأن أيًّا مَن كان يتبع قائمتك، فهو يعرفك. لا أقصد أنك تعرفه … أعني، ربما لا تعرفه. لكنه يعرفك. تشارلي يعرفك. وأعتقد أننا سنجد شيئًا هناك … شيئًا يربط الجريمة بالقائمة. شيئًا ملموسًا. ينتابني شعورٌ جيِّد بشأن هذا. أمَا زلتَ تأكل؟»


أدركتُ أنني كنت أحمل نصف شطيرة البرجر خلال الدقيقتَين الماضيتَين. قلتُ: «أوه، آسف»، وأخذتُ قضمة كبيرة، على الرغم من أنني لم أعُد جائعًا. كنت أعرفُ أنَّ كلَّ ما تقوله جوين صحيح، لكن كان لا يزال سماعه من شخصٍ آخر شيئًا مخيفًا.


«يمكنك أن تأخذها معك إذا أردت، ولكن علينا استئناف الطريق. ما زال أمامنا ساعتان على الأقل إلى روكلاند.»


الفصل الخامس عشر


كان منزل إيلين جونسون من الداخل كما تخيَّلتُه إلى حدٍّ كبير؛ كتبًا مبعثرة ومغبرة في كل مكان.


كان المنزل عبارةً عن بيتٍ ريفي ذي طلاءٍ رمادي متقشِّر من الخارج. كان على شارعٍ يبعُد نحو نصف ميل من الطريق ١، تتضاءلُ أمامه أشجار الصنوبر، ويكاد يتعذَّر الوصول إليه بسبب تساقط الثلوج مؤخرًا. أوقفت جوين سيارتها الإكوينوكس في الشارع المليء بالحُفر، مباشرةً خلف سيارة الشرطة التي كانت تنتظرنا إلى جانب قائدتها المحقِّقة لورا سيفيلي، وهي امرأة في منتصف العمر ذات وجه مستدير جميل محجوب أغلبه بقلنسوة مبطَّنة بالفراء لمعطفٍ ضخم. كان وقت الغروب، وكانت الشمس باهتة منخفضة في الأفق، تصاعدت أنفاسنا في الهواء الذي كانت درجة حرارته تحت الصفر. سرعان ما ألقى ثلاثتنا التحية، ثم اندفعنا عبْر الثلوج إلى الباب الأمامي؛ حيث وقفنا قُرابة خمس دقائق بينما استعادت المحقِّقة سيفيلي المفتاحَ من أحد جيوبها. كانت هناك سيارة في الممر، واحدة من تلك السيارات القديمة من طراز لينكولن، ربما كانت كبيرة جدًّا بالنسبة إلى مرأب السيارة الواحدة الملحق بالمنزل. أخبرتنا المحقِّقة، بمجرد دخولنا المنزل، أن آخرَ ما سمِعته أن المنزل عبارةٌ عن ملكيةٍ لم تتمَّ المطالبة بها في هذه المرحلة لأن إيلين جونسون ماتت دون وصية، وبلا أقارب مباشرين.


سألت جوين: «هل هناك أضواء؟» وأجابت المحقِّقة سيفيلي بضغطةٍ من يدها على أقربِ مفتاح، وهو ما أغرق المطبخ بإضاءة شديدة فوق رءوسنا.


قالت: «لم يُوقَف تشغيل المرافق بعد. وأعتقدُ أنهم يُبقون الحرارةَ منخفضة؛ لكيلا تتجمَّد الأنابيب.»


نظرتُ في أرجاء المطبخ، وفُوجئتُ برؤية مرطبانِ زبدة فول سوداني مفتوحٍ على طاولة المطبخ المُبلطة، وداخلها سكين عالق. لم أكن أحبُّ إيلين جونسون، لكن هذا لا يعني أنني ابتهجتُ بموتها وحيدة.


سألت جوين: «هل قدَّم أيٌّ من الضباط الذين عاينوا مسرح الجريمة تقريرًا؟»


«كلَّا. الطبيبُ الشرعي فقط. قرَّر أنها مِيتةٌ طبيعية. نوبةٌ قلبية. وعلى حدِّ علمي، لم يعُد أحدٌ منذ إخراج الجثة من هنا.»


«هل كنتَ هنا؟»


«أجل. تلقيتُ المكالمة. كانت الجثة في غرفة النوم، في منتصف المسافة بين خزانة ملابسها والفِراش. يمكنني أن أريك إذا أردت؟ كانت الجثة هنا بمفردها لأكثر من أسبوع. عرفتُ أنها كانت جثة هامدة بمجرد وصولي إلى هذا المطبخ.»


قالت جوين: «آه، آسفة. مَن الذي أبلغ عن ذلك؟»


«أخبرتنا إحدى الجارات بالشارع المقابل أن بريدها كان يتراكم. ذلك أنَّ صناديق البريد الخاصة بهم متجاورة. وعندما جئتُ لأتحرَّى الأمر، كان الباب الأمامي مفتوحًا، فدخلتُ. وعلمتُ على الفور أن أمرًا سيئًا قد وقع.»


«هل أبلغَت الجارةُ عن أيِّ شيءٍ آخر؟ أيِّ نشاط مشبوه في الجوار؟»


«ليس على حدِّ علمي. لم نَعُدَّ هذا موتًا مشبوهًا رغم ذلك، ومن ثمَّ لم نستجوبها قط. إذا كنتِ ترغبين في استجواب الجارة بنفسكِ، فعلى الرُّحب والسَّعَة. ربما غدًا؟ هل تمضين الليلةَ هنا؟»


قالت: «أجل. قد أرغبُ في التحدُّث إلى الطبيب الشرعي أيضًا. هذا يعتمد على ما سنجده هنا في المنزل.»


كنت أشاهدُ الاثنَين يُجريان هذه المحادثة، لكنني بدأتُ أنظر في أرجاء المطبخ أيضًا. كانت هناك وحدتا رفوف فوق الجدار الخلفي للمطبخ، ربما كانتا مخصَّصتَين لأدوات الطهي، أو المواد الغذائية، لكن إيلين ملأتهما برواياتٍ صغيرة للجيب. رُحتُ أتفحَّصُ أغلفة الكتب، الكثير من روايات إليزابيث جورج، وروايات آن بيري، وهما اثنتان من كُتَّابها المُفضَّلين، ولكن كان هناك أيضًا بعضُ الكتب التي صنَّفتُها على أنها في فئة التشويق الرومانسي، التي تتجه نحو الرومانسية، وهو أمرٌ ادعت إيلين جونسون أنها كانت تحتقره.


قالت المحقِّقة سيفيلي: «سيكون ذلك جيدًا»، ثم أضافت: «ولذا، يسعدني البقاءُ معكما، ومساعدتكما في إلقاء نظرة في أرجاء المكان. كما يُسعدني بالقدْر نفسه أن أترك لكِ المفتاح وأدعكِ تأخذينه، فقط ما دمتِ ستُعيدينه إلينا في الصباح.»


قالت جوين: «لست بحاجةٍ إلى البقاء. لقد قمت بما يكفي.»


«رائع إذن. سأتركك هنا، ويمكنك أن تُعرِّجي على مركز الشرطة في أي وقتٍ في الصباح.»


«يبدو هذا جيدًا». ألقى كلانا تحيةَ الوداع ووقفنا نشاهد المحقِّقة وهي تسير عائدةً عبْر الثلوج.


استدارت جوين نحوي وقالت: «مستعد؟»


«بالتأكيد. هل يجب أن تكون لدينا خطة للهجوم أم مجرد إلقاء نظرة في الأرجاء؟»


«فكَّرتُ أنه يمكنك التركيزُ على الكتب، بينما ألقي أنا نظرة على كلِّ ما عدا ذلك.»


قلتُ: «بالتأكيد.»


دخلنا إلى ما كان من المفترض أنه غرفة طعام، ووجدت جوين مفتاح الإضاءة الذي أضاء ثُريَّا وامضة. كانت كلُّ الأسطح مُغطاة بالكتب، معظمها مُكدَّسة بأسلوب عشوائي على الأرض أو على طاولة غرفة الطعام المستطيلة. قلتُ: «ربما سأحتاج إلى بعض المساعدة بشأن الكتب.»


«لست بحاجةٍ إلى فحصها، ولكني أبحثُ فقط عن أي شيءٍ خارج عن المألوف. أنا ذاهبة إلى غرفة النوم في الطابق العلوي.»


مكثتُ في غرفة الطعام. كان من الصعب إلقاءُ نظرة على مجموعة الروايات البوليسية الموجودة لدى إيلين جونسون دون التفكير في قيمتها. كان لديها الكثيرُ من الكتب التي لا قيمةَ لها، أكوام من الكتب التي تكتظُّ بها أسواق الجملة في حالةٍ مثيرة للجدل، ولكن سرعان ما تعرَّفتُ على طبعةٍ أولى من رواية «ما بعد الموت» بقلم باتريشيا كورنويل، وطبعةٍ أولى من رواية «الصدى الأسود» بقلم مايكل كونلي. تساءلتُ عمَّا سيحلُّ بهذه الكتب، ثم ذكَّرتُ نفسي بأنني لست هنا في رحلة عمل.


«مالكوم.» كانت تلك جوين تهتف من الطابق الثاني.


هتفتُ مجيبًا: «نعم.»


«هل يمكنك القدوم إلى هنا؟»


صعدتُ الدرَج، كان متكدِّسًا أيضًا بالكتب على طول حافة كلِّ درجة، ووجدتُ جوين في غرفة النوم، تحدِّق إلى زوجَين من الأصفاد المتدلية من مسمار. أشرتُ إليهما.


قالت جوين سريعًا: «لا تلمس أيَّ شيءٍ. أعتقدُ أننا يجب أن نحصُل على بصمات الأصابع.»


«هناك أصفاد على الحائط في «مصيدة الموت». إنها تلعب دورًا حيويًّا في المسرحية.»


قالت: «أعرف. لقد شاهدتُ الفيلم مرة أخرى البارحة. وانظر إلى الأرض.»


كانت هناك لوحة مبروَزة — صورة لفنار — متَّكئة على الحائط. «هل تعتقدين أن تشارلي أحضر الأصفاد، وأنزل تلك الصورة، وعلَّق الأصفاد، حتى نكون على يقين فحسب من أن هذا تكريمٌ ﻟ «مصيدة الموت»؟»


قالت جوين: «بالفعل»، ثم التفَّت لتنظر نحو الخزانة. «لعله كان يختبئ، في تلك الخزانة على الأرجح، ربما ارتدى قناعًا، ثم قفز خارجًا وأخافها حتى الموت.»


قلتُ: «هذا غريب. فعلى حدِّ علمنا، هذه هي المرة الأولى التي يضع فيها شيئًا في مسرح الجريمة للإشارة إلى القائمة على وجه التحديد.»


«إنها أيضًا المرة الأولى التي يقتل فيها شخصًا تعرفه.»


كنا نقف معًا وننظر نحو الخِزانة. قالت جوين: «لقد رأيتُ ما يكفي، بصراحة. أريدُ فقط تصوير هذه الأصفاد وبصمات الأصابع.»


«ربما كان يرتدي قفازات.»


«لن نعرف حتى نفحص، ولكن، نعم، من المحتمَل أنه كان يرتدي قفازات.»


نظرتُ في بقية أنحاء الغرفة بينما أخرجَت جوين هاتفها وحدَّقت فيما بدا كأنه رسالة نصية تلقَّتها للتو. كان هناك سرير قديم ذو أربعة أعمدة، غير مُحكَم الصنع، ومغطًّى بغطاء سرير من الشنيل الوردي. وكانت الأرضيات المصنوعة من الخشب الصلب قد أُلقيَ عليها بسجادٍ منسوج، بهت لونُه على مرِّ السنين. وكانت تلك الموجودة في أسفل السرير مغطاة بالفراء.


قلت: «هل كان لديها حيوانٌ أليف؟»


قالت جوين: «لا أتذكَّر أنني قرأتُ عن ذلك في التقرير.»


حاولتُ أن أعود بذاكرتي إلى الوراء حين اعتادت إيلين جونسون المجيء إلى «أُولد ديفيلز»، ولم أتذكَّر أنها أبدت اهتمامًا بنيرو مطلقًا. في اعتقادي أنَّ شقيقتها كانت تمتلك كلبًا أو قطة، ولم تُنظِّف البساط قط. في الواقع، لم يكن هناك شيءٌ نظيف في المنزل. ذهبتُ ونظرتُ إلى صورةٍ مبروَزة على الحائط فوق المكتب. كان الإطار أبيض، وقد تحوَّلت حافتُه العلوية إلى أسودَ لامعٍ مع كلِّ ما عليها من أوساخ. كانت الصورة الموجودة في الإطار لعائلةٍ في إجازة؛ أبٍ يرتدي قميصًا للجولف، وأمٍّ ترتدي فستانًا قصيرًا منقوشًا ونظَّارة ذات إطار سميك. وكان هناك أربعةُ أطفال، ولَدان أكبران وفتاتان صغريان. كانوا يقفون أمام شجرة ضخمة، على الأرجح شجرة السكويا، في مكانٍ ما في كاليفورنيا. اتَّكأتُ على الحائط في محاولةٍ لتحديد أيُّ الفتاتين اللتين في مُقتبل المراهقة هي إيلين، لكن الصورة كانت ضبابية قليلًا، وقد بهتَت مع الزمن. ومع ذلك افترضتُ أن أصغرهما هي إيلين، تلك التي تضع نظَّارة وتحمل دُميةً إلى جانبها. كانت الطفلةَ الوحيدة التي لا تبتسم.


قالت جوين: «مُستعد؟»


«بالتأكيد.»


عندما وصلنا إلى أسفل الدَّرج، أمعنتُ النظر في غرفة المعيشة، التي تصطفُّ على جانبيها الرفوف. قلتُ: «هل يمكنني إلقاء نظرة على الكتب هنا سريعًا؟» وهزَّت جوين كتفيها وأومأت.


كان من الواضح أنَّ شقيقة إيلين قارئةٌ أيضًا، وأنَّ معظم الكتب التي تملأ رفوف غرفة المعيشة كانت تخصُّها. كان هناك الكثيرُ من الكتب الواقعية والروايات التاريخية. وكان قد خُصِّص رفٌّ كامل لجيمس ميتشينر. ولكن كانت هناك أيضًا خِزانة كتب طويلة مُكدَّسة في زاوية، تبدو كما لو كانت قد أحضرتها إيلين. أحدُ رفوفها كان مليئًا بمجموعة عتيقة يعلوها الغبار من ثقَّالات الورق الزجاجية. أما البقية، فكانت مكتظَّة بمزيدٍ من روايات الغموض المرتَّبة وفقًا للمؤلِّف. كنتُ متفاجئًا برؤية الأعمال المُجمعة لتوماس هاريس، وهو كاتبٌ كانت إيلين قد حدَّثَتني في إحدى المرات عنه بأنه «منحرف مُبالَغ فيه». لقد فُوجئتُ أيضًا برؤية نسخة من «المُغْرِق» حتى رأيتُ أنها كانت قابعةً بين «غريبان على متن قطار» ونسخة من «مصيدة الموت». انتابتني القُشَعريرة. كانت جميع الكتب موجودة هناك — كلُّ الكتب الثمانية من قائمتي — بالترتيب. أحضرتُ جوين إلى هنا، واتسَعَت عيناها. ثم التقطت صورةً بهاتفها.


قالت: «أتعتقد أنه أحضرَ هذه الكتب هنا بنفسه أم إنها كانت موجودة هنا مسبقًا؟»


«أعتقدُ أنه هو مَن أحضرها على الأرجح. ربما كان لدى إيلين كلُّ هذه الكتب، لكني أشكُّ في ذلك.»


قالت: «هل تعتقد أننا سنكون قادرين على معرفة أيِّ شيءٍ من هذه النُّسخ؟»


قلتُ: «ربما، لقد ابتاعهم من مكانٍ ما. ربما من متجري، أو ربما من مكانٍ آخر. عادةً، عندما تشتري كتابًا مُستعملًا، يكون هناك سعرٌ مكتوب بالقلم الرصاص على الصفحة الأولى، وأحيانًا يكون هناك ملصقٌ باسم التاجر.»


«لا أريدك أن تلمسها، لكن هل يمكنك أن تخبرني بأي شيءٍ بالنظر إلى أغلفة الكتب؟»


استعرضتُ جميعَ الكتب الثمانية من قائمتي، بينما هي قابعةٌ هناك لتشكِّل معًا مصدرَ اتهام واضح. وكانت الوحيدة التي برزت من مكانها هي رواية «سبق الإصرار». عرَفتُها؛ لأنها كانت كتيبًا ورقيَّ الغلاف صدرَ في المملكة المتحدة في طبعةٍ ترويجيةٍ بالتزامن مع مسلسل تلفزيوني قصير منذ نحو عشر سنوات. وهذه النُّسخة وصلَت بالتأكيد من المتجر؛ لأنني تذكَّرتُ كم كنت أمقتُ تلك الطبعة. ذلك أنني أكره كلَّ أغلفة الكتب الترويجية بوجه عام. أخبرتُ جوين أنني أعتقد أنني استطعتُ أن أميِّز كتابًا على أنه أحد الكتب التي كانت لديَّ في المتجر.


قالت: «حسنًا، جيد». استطعت سماعَ الإثارة في صوتها. «بعد أن أفحصها بحثًا عن البصمات، سأصوِّرها ويمكننا أن نتصفَّحها معًا. هيا لنسجِّل الوصول إلى الفندق.»


•••


كانت قد حجزت لنا غرفتين في فندق «هامبتون إن آند سويتس» على بُعد ميل واحد من وسط مدينة روكلاند. وكان على الجانب الآخر من الشارع مطعمُ ماكدونالدز. كنت قلقًا من أن ينتهيَ بنا الأمر بتناول العشاء هناك، لكنها ذكَرَت مكانًا تحبه في شارع مين. «لقد حجزتُ لشخصين ولكن … إذا كنت تفضِّل الذهابَ إلى مكان آخر …»


قلتُ: «كلَّا. يُسعدني أن أتبعك.»


سجَّلنا الوصول ثم التقينا مرة أخرى في الرَّدهة بعد ساعة، وتوجَّهنا إلى المدينة. كنا في نهاية الموسم، وفُوجئتُ حين رأيتُ أن العديد من المطاعم تبدو مفتوحة. أوقفنا السيارةَ مباشرةً أمام مبنًى من القِرميد مُؤلَّفٍ من طابقَين على بُعد خطواتٍ قليلة فقط من مَدْخَل «ذا تاون تافرن»، الذي يشير إلى نفسه على أنه «مطعم للبيرة والمَحار». كانت ليلة الأحد وكان المكان خاليًا كما توقَّعنا، على الرغم من جلوس زوجَين في الحانة. أخذتنا النادلة، وهي امرأةٌ شابة ترتدي سترةً من طراز «برونس»، إلى مقصورة.


قالت جوين: «هل هذا جيد؟»


«بالتأكيد. قلت إنك كنت هنا من قبل؟»


«يمتلك أجدادي منزلًا على بحيرة ميجونتيكوك، وهي ليست بعيدة عن هنا. آتي إلى الساحل الأوسط أسبوعين على الأقل كلَّ صيف. بصراحة، جَدي هو الذي يُبجِّل هذا المكان لأنهم يصنعون المَحار المطهو في الفرن بالطريقة التي يحبُّها.»


حضرت النادلة، وطلبت شراب الشعير المخمَّر اللاذع ماركة «جريتي ماكدوف» على الطريقة الإنجليزية، وشطيرة مَحار. وطلبت جوين زجاجة من البيرة ماركة «هاربون» وسمك الحدُوق.


قلتُ: «ألا يوجد محَّار مطهو في الفرن؟»


التفتَت إلى النادلة. «هل يمكننا الحصول على ستِّ محاراتٍ مبدئيًّا؟»


بعد أن غادرَت النادلة، قالت جوين: «بالنسبة إلى جَدي. سأخبره بذلك.»


سألتُ: «أين يُقيمون بقيةَ العام؟»


«شمال ولاية نيويورك، على الرغم من أنهم يُواصلون الحديثَ عن الانتقال هنا على مدار العام. لكن سيتعيَّن عليهم شراءُ منزل جديد. فمنزلُ البحيرة لا يصلح للإقامة شتاءً. هل زرت هذا الجزء من ولاية مين من قبل؟»


«ذهبتُ إلى كامدن. مرة واحدة. إنَّها قريبة من هنا، أليس كذلك؟»


«المدينة المجاورة، نعم. متى كان ذلك؟»


«لا أعرفُ بالضبط. قبل عشر سنوات. كانت مجرد إجازة». لقد ذهبتُ مع كلير، بالطبع، عندما كنا نقوم كثيرًا برحلاتٍ برِّية في جميع أنحاء نيو إنجلاند.


كانت الجِعَة الخاصة بنا قد وصلت مع سلَّةٍ من الخبز. احتسى كلٌّ منا رشَفاتٍ، ثم قالت جوين: «هل يمكنني أن أسألك عن زوجتك؟ هل تمانع؟»


قلتُ: «كلَّا، لا أمانع»، وحاولتُ أن أبدوَ طبيعيًّا. لكنني كنت على علمٍ بأننا فقدنا التواصل البصري عبْر الطاولة.


«متى تُوفِّيَت؟»


«منذ خمس سنواتٍ، وإن كنت لا أشعر أن كل هذا الوقت قد مرَّ.»


قالت جوين وهي تمسح بعضَ الرغوة من شفتها العليا بإصبعها: «أنا متأكِّدة. لا بد أنَّ ذلك كان فظيعًا. موتُها في سنٍّ مبكرة. والطريقة التي ماتت بها.»


«يبدو أنك قمت ببعض التحريات.»


«أجل. قليلًا. عندما حصلتُ على اسمك لأول مرة، عند عثوري على القائمة، تحرَّيتُ عنك.»


«هل عرَفت باستجوابي في التحقيق في جريمة قتل إريك أتويل؟»


«نعم، عرفتُ ذلك.»


«كنت سأقتله، لو سنحَت لي الفرصة. لكن لم يكن هذا أنا.»


«أعرفُ ذلك.»


«لا بأس إذا لم تفعلي. أعلم أنكِ تؤدِّين عملك، وأعلم أنك تتساءلين عن العلاقة التي تربطني بكل جرائم القتل هذه. الحقيقة أنني ليست لديَّ أيُّ علاقة، أو على الأقل لا توجد علاقة من الأساس على حدِّ علمي. فبعد وفاة زوجتي، قلتُ لنفسي إنني سأواصلُ حياتي بمفردي، أقوم بعملي، وأقرأ الكتب. أريدُ حياةً هادئة.»


قالت: «أنا أصدِّقُك»، ونظرَت إليَّ بعاطفةٍ لم أستطِع تفسيرها تمامًا. بدَت وكأنها تأثُّر. أو ربما كان إحساسًا بالشفقة.


«متأكِّدة؟»


«حسنًا، مسرح الجريمة هنا، ومقتل إيلين جونسون، يغيِّر الأمور بالفعل. إنه مختلفٌ عن الجرائم السابقة. إنه يشير إليك مباشرةً، مباشرةً إلى القائمة.»


«أعلم أنه كذلك. إنَّ ذلك يمنحني شعورًا غريبًا جدًّا.»


«أخبرني بالمزيد عن براين موري. هل كان يعرف إيلين جونسون؟»


قلتُ: «كان يعرفها بالفعل. حسنًا، لا أعرفُ ما إذا كان قد تحدَّث إليها، لكنه عرَفها بالتأكيد لأنَّ براين يحضُر جميعَ ندواتنا، كما تحضُر إيلين أيضًا، اعتادت أن تحضُر.»


«كيف انتهى بكما الأمر بشراء المتجر معًا؟»


«كنا صديقَين، لم نكن صديقَين مقرَّبين، لكنه كان يأتي إلى المتجر كثيرًا، وكنا نتناول مشروبًا من حينٍ إلى آخر. عندما قرَّر المالكُ السابق البيع، لا بد أنني أخبرتُ براين عن ذلك، عن كيف كنت سأشتريه إذا كان لديَّ المال. أعتقدُ أنه عرَض أن يُشاركني على الفور. طلب من محاميه أن يُحرِّر عَقدًا ينصُّ على أنه سيوفِّر المقدار الأكبر من رأس المال وسأتولى أنا الإدارة. كان هذا اتفاقًا مثاليًّا. وما زال. ليست له أيُّ علاقة بجرائم القتل هذه.»


«كيف تعرف ذلك؟»


ارتشفتُ الجِعةَ الخاصة بي. «إنه مُدمنٌ للكحول، يواصل أنشطته كالعادة، ولكن بصعوبة. يكتبُ كتابه السنوي خلال شهرين تقريبًا، ويأخذ بقيةَ العام إجازة لاحتساء الكحول. يبلغ من العمر ستين عامًا لكنه يبدو في السبعين من عمره، وفي كلِّ مرة نتسكَّع معًا يخبرني بالقصص نفسِها. أنا فقط لا أرى ذلك. حتى لو كان لديه نوايا إجرامية لسببٍ ما، فسيكون من المستحيل تحقيقُ ذلك. إنه لا يقود سيارته حتى. بل يستقل سياراتِ الأجرة للذهاب إلى كل مكان.»


«حسنًا.»


«هل تُصدقينني؟»


«سوف أنظرُ في أمره، لكن أجل، أصدِّقك. في الواقع، اعتدتُ أن أقرأ كتبَه، عندما كنت مراهقة. كانت إليس فيتزجيرالد أحدَ الأسباب التي جعلتني أرغبُ في دخول مجال تطبيق القانون.»


«الكتب الأولى كانت جيدة.»


«لقد أحببتُها. أتذكَّر أنه كان بمقدوري قراءة كتابٍ بأكمله في يوم واحد.»


جاء المَحار الخاص بنا، وبقية طعامنا بعده بمدةٍ وجيزة. لم نَعُد نتحدَّثُ عن مسرح الجريمة أو براين موري أو أي شيءٍ شخصي ولو من بعيد. تناولنا الطعام، وراجعت جوين خطَّتها لليوم التالي. كانت تعتزم الذَّهاب إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي المحلي الترتيب مع الضابط المعاين لمسرح الجريمة لإجراء تحقيق في منزل إيلين جونسون. أرادت أيضًا التحدُّث مع الجيران الذين ربما شاهدوا شخصًا غريبًا، أو على الأقل سيارة غريبة، قبيل وفاة إيلين.


قالت: «يمكنني أن أبحثَ لك عن حافلة تعيدك إلى بوسطن. أو يمكنك العودة معي، ولكن قد لا يمكننا ذلك حتى وقتٍ متأخر من بعد الظهر.»


قلتُ: «سأنتظر. ما لم تعتقدي أنه ستكون هناك ليلةٌ أخرى. أحضرتُ معي كتابًا.»


قالت: «كتاب آخر من القائمة؟»


«بالفعل، لقد أحضرتُ «سبق الإصرار».»


بعد العشاء، قادت بي السيارةَ عائدَين في صمتٍ إلى الفندق، ثم وقفنا معًا في الضوء القاسي للرَّدهة الفارغة. قالت: «شكرًا لمجيئك معي، أدركُ أنَّ الأمر ربما يكون مصدر إزعاج لك.»


قلت: «إنه أمرٌ رائع حقًّا، أن أخرج من المدينة …»


«وأن تأتيَ إلى مسرح جريمة قتل …»


قلتُ: «أجل.»


وقفنا مرتبكَين لحظة. تساءلتُ هُنيهةً عمَّا إذا كانت جوين لديها أي اهتمام رومانسي بي. إنني أكبُرها بعشر سنواتٍ فقط، وأعرفُ أنني لستُ دميمًا. كان شَعري بأكمله قد أصبح رماديًّا الآن، بل يميل أكثرَ إلى اللون الفضي، لكنني تركتُه كما هو. كنت نحيفًا ولديَّ خطُّ فكٍّ لائق. ولديَّ عينان زرقاوان. تراجعتُ خطوةً إلى الوراء. شعرتُ بذلك الجدار الزجاجي اللامع بيننا، ذلك الجدار الذي منعني من الاقتراب من أي شخصٍ باستثناء الأشباح. لا بد أنها شعرت بذلك أيضًا؛ لأنها تمنَّت لي ليلة سعيدة.


عُدتُ إلى غرفتي في الفندق وبدأتُ أقرأ.


الفصل السادس عشر


ما أثار إعجابي بشأن رواية «سبق الإصرار»، عندما صادفتُها أولَ مرة بعد أن أنهيتُ دراستي الجامعية، هو الإصرار البارد للقاتل.


نكتشف في الصفحة الأولى من الرواية أن إدموند بيكلي قد قرَّر قتلَ زوجته المتسلِّطة ذات النزعة الانتقامية. كان طبيبًا ويمكنه الوصولُ إلى مجموعةٍ من الأدوية. على مدار النصف الأول من الكتاب، يحوِّل زوجته تدريجيًّا إلى مدمنة للمورفين. وذلك عن طريقِ خلط الشاي الخاص بها بعقار يسبِّب لها نوباتٍ من الصداع المزمن، ثم يُعالجها بالأفيون. ثم يقطع المورفين عنها، بما يكفي حتى تبدأ في تزويرِ توقيعه على الوصفات الطبية كي تتمكَّن من شرائه بنفسها. ومن ثمَّ، يصبح من الواضح لأهالي قريتهم أنها قد أصبحَت مدمنة. والباقي سهل؛ ففي إحدى الأمسيات يُعطيها ببساطةٍ جرعةً زائدة. ويصبح من المستحيل توجيهُ أصابع الاتهام إليه على الجريمة.


قرأتُ معظمَ الكتاب في تلك الليلة، ثم انتهيتُ منه في صباح اليوم التالي. كان من الصعب التركيزُ ولكن كانت هناك أوقاتٌ في الرواية — في الواقع مضحكة للغاية — حين انجرفتُ في القصة. وكما هو الحال دائمًا، عُدتُ بذاكرتي إلى آخرِ مرة قرأتُ فيها الكتاب، كم كنت صغيرًا، وكيف كان ردُّ فعلي مختلفًا تجاه الكلمات نفسِها. عندما بدأتُ العمل في متجر «ريدلاين» للكتب في ميدان هارفارد بعد المدة التي قضيتُها في الكلية، أعطتني شارون أبرامز، زوجةُ المالك، قائمةً مكتوبة بخط اليد لكتبها المفضَّلة، وكانت جميعها روايات بوليسية فيما عدا واحدة. لقد فقدتُ تلك القائمة منذ مدة طويلة، لكنني كنتُ قد حفظتها. وإلى جانب «سبق الإصرار» كانت قد أدرجَت «ليلة حفل العشاء» و«الخيَّاطون التسعة» بقلم دوروثي إل سايرز، و«ابنة الزمن» بقلم جوزفين تاي، و«ريبيكا» لدافني دو مورييه، وأول كتابين لسو جرافتون، و«الحمَّام الطقسي» لفاي كيلرمان، و«اسم الوردة» لأومبيرتو إكو، على الرغم من أنها قالت إنها لم تُكملها قط: «إنني فقط أحب البداية كثيرًا.» وكان كتابها المُفضَّل الآخر هو كتاب «المنزل الكئيب» لتشارلز ديكنز. أعتقدُ أنه يمكنك القول إنه يحتوي على عناصرِ غموضٍ أيضًا.


أذكر أنني تأثَّرتُ كثيرًا بحقيقة أنها كتبت هذه القائمة من أجلي لدرجةِ أنني قرأتُ كلَّ شيءٍ مدرَج بها في غضون أسبوعين تقريبًا، حتى إنني أعدتُ قراءةَ الكتب التي كنت على دراية بها. وبقراءة «سبق الإصرار» آنذاك أتذكَّر أنَّ نظرتها القاتمة للإنسانية، كانت قد أشعرتني بالمؤازرة. إنها ساخرة في الأساس، حيث تمزق فكرةَ الرومانسية إلى أشلاء. وعندما قرأتُ الكتاب في فندق «هامبتون إن» في روكلاند، شعرتُ كأنها قصة رعب هذه المرة. بيكلي، المهووس بالحياة التي لا يستطيع أن يعيشها، يقتل زوجته بطريقة وحشية، وهو ما يدمِّر حياته. ويصبح مصابًا إلى الأبد بفعل القتل.


قبيل الظهيرة مباشرةً، أرسلت جوين رسالةً نصية تخبرني بأنها ستتأهَّب لمغادرة مين في موعدٍ أقصاه الرابعة. رددتُ على رسالتها قائلًا بأنها ينبغي لها أن تأخذ كلَّ الوقت الذي تحتاج إليه. وكنت قد قررتُ السير في المدينة. كان يومًا مشمسًا، ودرجات الحرارة أعلى قليلًا مما كانت عليه مؤخرًا، وكنت قد حفظتُ أمسِ الطريقَ إلى المدينة.


سجَّلتُ مغادرتي من الفندق، وسألتُ مكتب الاستقبال عمَّا إذا كان بإمكانهم الاحتفاظُ بحقيبة ظهري طَوال وقت النهار، ثم مشيتُ إلى وسط مدينة روكلاند. زرتُ متجرًا صغيرًا لبيع الكتب المُستعملة، وهناك اشتريتُ نسخةً من كتاب «الصقر تحت المطر» بقلم تيد هيوز. أخذتُ الكتاب معي إلى المطعمِ نفسِه حيث تناولنا العشاءَ أنا وجوين أمسِ وجلسنا في البار. حصَلتُ على جِعةٍ ووعاء من حساء البطلينوس الذي قُدِّمَت معه لفائفُ بيضاء ناعمة. قرأتُ الشعر وحاولتُ إفراغَ ذهني من هموم الأيام القلائل الماضية. لم يكن قلقي مقتصرًا على أنَّ جوين ستركِّز اهتمامها في النهاية على دوري في وفاة إريك أتويل ونورمان تشيني، ولكن هذا التحقيق أثار ذكرياتٍ متعلقةً بكلير، والسنة التي أعقبَت وفاتها، والتي اعتقدتُ أنني سأطرحها جانبًا إلى الأبد. بعد أن أنهيتُ تناول الحساء، طلبتُ زجاجةً أخرى من الجِعة. وكان التلفزيون الوحيد يعرض — صورةً فقط دون صوت — حلقةً قديمة من مسلسل «تشيرز»، وهي إحدى الحلقات الأولى لكوتش وديان.


رنَّ هاتفي في جيبي مُحدِثًا طنينًا وافترضتُ أنها جوين، تتصل لتخبرني بأنها مستعدةٌ للمغادرة، لكن اتضح أنَّ المتصل كان مارتي كينجشيب.


قلتُ: «مرحبًا.»


«أتسمح بدقيقة من وقتك؟»


قلتُ: «بالتأكيد»، وفكَّرتُ في الخروج من المطعم، لكنني كنت الشخصَ الوحيد في البار، وكان النادل يفرغ صناديق النبيذ بعيدًا عن المكان الذي أجلس به.


«لقد بحثتُ لك عن تشيني، إنه شخصٌ بغيض، دعني أخبرك.»


«ماذا تقصد؟»


«أقصد، إذا كنت تبحث عمن أراد موته، فالأجدر بك أن تحصُر مَن لم يرغب في موته. فإنه على الأرجح قد قتل زوجته.»


«ماذا تقصد ﺑ «على الأرجح»؟»


«اندلعَ حريقٌ في المنزل، وقد تمكَّن من الفِرار منه بينما لم تفعل هي. قدَّم صِهرُ تشيني، شقيقُ زوجته، شكوى قال فيها إنه متأكِّد من أن تشيني قد دبَّر الأمر، وحاصر زوجته في غرفة النوم. لقد أخبر ضباط التحقيق في ذلك الوقت أن شقيقته مارجريت، زوجة تشيني، كانت تعتزم الانفصال عن نورمان، وأنَّ نورمان يعرف ذلك. لقد خانها أكثرَ من مرة وكان لديها الدليل، ومن ثمَّ كانت ستحصُل على نصف المال على الأقل إن لم يكن أكثر.»


«هل كانا من الأثرياء؟»


«كان لديهم بعضُ المال بالتأكيد. لقد كان يمتلك محطتَين لخدمة السيارات، ولكن حُقِّق معه أيضًا بتهمة غسل الأموال. وقد وصلَ التحقيق إلى طريقٍ مسدود رغم ذلك.»


«لصالح مَن كانت تتم عملياتُ غسل الأموال؟»


«أوه، جماعة محلية لبيع المخدرات. لا بد أنه تخطَّى الحدودَ في مرحلةٍ ما؛ لأن إحدى محطات الخدمة الخاصة به توقَّفت، وأصيب موظفٌ بالرصاص. لم يعتقد أحدٌ أنه كان سطوًا عاديًّا. لقد كان على الأرجح انتقامًا. وكان هذا قبل ستة أشهر فقط من وفاة زوجته. كما قلت، كان هناك عددٌ كبير من الناس يريدون التخلُّص من نورمان تشيني. لقد كان تفاحة فاسدة.»


«ماذا حدث له بعد أن احترق المنزل؟»


«باع محطتَي الخدمة الخاصة به واشترى منزلًا في بلدة صغيرة في نيو هامبشير. بالقرب من منتجعات التزلج. لكن أحدهم وجده هناك وقتله. ربما شقيقُ الزوجة.»


«لماذا تقول ذلك؟»


«لستُ أنا مَن يقول ذلك، لكنه الشرطي الذي تحدَّثتُ إليه. لقد تعرَّض للضرب حتى الموت في منزله، وكانت هناك مقاومة. من المُحتمل ألا يكون لهذا علاقةٌ بالمخدرات. إذا كان قد استُهدِف من قِبل تاجر مخدراتٍ ما، فإن شخصًا ما كان ليصعد إلى هناك ويُطلق النار عليه فحسب. لقد كان شخصًا غيرَ محترف، مما يعني أنه ربما كان صِهرَ الزوج.»


«ولكن ألم يُقبَض عليه قط؟»


«أعتقد أنه كانت لديه حُجَّة غياب.»


«ماذا كان اسمه؟»


«نيكولاس برويت. إنه أستاذ في اللغة الإنجليزية بجامعة نيو إسيكس. أعلم ذلك حقًّا … إنه لا يبدو بالضبط قاتلًا.»


«هذا يعتمد على نوع الكتاب الذي ترغب في قراءته.»


ضحك مارتي. «بالضبط. إنه حتمًا قاتلٌ في كتاب المفتش مورس. أما في الحياة الواقعية، فليس بالكثير.»


قلتُ: «شكرًا على ما قمت به، مارتي.»


«هل تمزح معي؟ لقد كانت هذه أكثرَ متعة حَظِيتُ بها منذ حمَّام الأمس. وليست هذه سوى البداية. سوف أواصلُ البحث من أجلك.»


قلتُ: «حقًّا؟ سيكون ذلك رائعًا.»


سعَل مارتي، ثم قال: «لا أعني التطفل، ولكنك لست في مشكلةٍ ما، أو شيءٍ من هذا القبيل؟»


«كلَّا، الأمر كما أخبرتُك تمامًا. لقد سألني مكتب التحقيقات الفيدرالي عن هذا الرجل الذي لم أسمع به من قبل، وأخبرني أن لديه مجموعةً من الروايات البوليسية المستعملة، الكثير منها مع مجموعة من فواصل الكتب من أُولد ديفيلز.»


«هل صدَّقتهم بشأن ذلك؟»


خفضتُ صوتي وحاولتُ أن أبدوَ هادئًا. «لا أعرف مارتي. ليس حقًّا. فقبْل وفاتها، عادت كلير إلى المخدرات … أنت تعرف كلَّ شيءٍ عن ذلك. ربما كانت تعرف نورمان تشيني ويعتقدون أنني ربما كنت أطارده لأنه زوَّدها بالمخدرات، أو شيء من هذا القبيل. هذا ما أظنه. ما كان يجب أن أطلب منك قط أن …»


قال مارتي بسرعة: «لا، لا، لا. عليهم اللعنة. أعلم أنه لا علاقة لك بهذا الأمر، لكن كان عليَّ أن أسأل.»


«بصراحة، لم أكن لأقلقَ بشأن ذلك، لكن عندما بدأت أفكِّر في أنَّ للأمر علاقةً بكلير، لم أنفكَّ أُقلِّبه في ذهني مرارًا وتكرارًا.»


«سأواصلُ البحث في شأن هذا الرجل، لكن لم يظهر شيءٌ عن كلير. ولن يظهر كذلك، مال. أنا متأكِّد من ذلك.»


قلت: «شكرًا يا مارتي. ما حصلتُ عليه رائع. أنا مَدينٌ لك بشراب.»


«دعنا نفعل ذلك في وقتٍ قريب. سأجمع مزيدًا من الأخبار من أجلك، وسوف أسلِّمك تقريري. ماذا عن يوم الأربعاء؟»


قلتُ: «هذا مناسب.» وجعلنا الأمر رسميًّا. الساعة السادسة في مطعم «جاك كرو».


بعد أن انتهيتُ من المكالمة، جاء النادل ليتفقَّد الجِعَة الخاصة بي. وطلبتُ قلمًا بدلًا من ذلك، ثم دوَّنتُ اسم نيكولاس برويت على منديل الحانة. كان جسدي ينبض بالإثارة. بدا نيكولاس برويت صحيحًا بطريقةٍ ما. إذا كان نورمان تشيني قد قتل شقيقة برويت، فسيكون لديه دافعٌ حتمي. وكان أستاذًا للُّغة الإنجليزية، مما يعني أنه على الأغلب على دراية برواية «غريبان على متن قطار». شعرتُ كأنني وجدتُه. وجدتُ تشارلي!


قررتُ أنه عندما نجتمع معًا أنا ومارتي من أجل الشراب، سأكون بحاجةٍ إلى أن أخبره بأن يوقف تحرياته عن تشيني. لقد كان محقِّقَ شرطة متقاعدًا. وكان طلبي منه بأن ينظر في جريمةٍ لم تُحلَّ، مثل التلويح بقطعةٍ من اللحم أمام كلب يتضوَّر جوعًا. وكان عليَّ أن أتأكَّد من أنه قد توقف عن البحث.


لم تكن الساعة قد بلغَت الثانيةَ بعد، لكنني لم أعُد أشعر بالرغبة في الجلوس في الحانة. خرجتُ وتجوَّلتُ في شارع روكلاند الرئيسي، حيث المباني المبنيَّة من القِرميد المليئة بمتاجر الهدايا المغلقة والقليل من المطاعم المفتوحة. شددتُ الوشاحَ حول عنقي ورُحتُ أنظر خارجًا باتجاه الميناء، الذي يطوِّقُه مرفأ بطول ميلٍ يبرُز خارجًا على سطح المحيط. كان الجو شديدَ البرودة لدرجةِ أنَّ قِطَع الجليد اللبني طفَت في مياه البحر. وبعيدًا كان الماءُ يتلألأ في ضوء الشمس. كنت أقفُ هناك، وكان نسيم المحيط يخترق طيَّات ملابسي مباشرةً، عندما رنَّ هاتفي مرةً أخرى. هذه المرة كانت رسالةً نصية من جوين تقول إنها عادت إلى الفندق، وعلى استعدادٍ للمغادرة. أخبرتُها أنني سأكون هناك بعد نصف الساعة وبدأتُ أسير عائدًا.


•••


في طريق العودة إلى بوسطن، أخبرتني جوين عن يومها الذي قضَته في الجدل مع قسم الشرطة المحلي، الذي يبدو أنه لا يَعُد وفاةَ إيلين ذاتَ أولوية. ومع ذلك، تمكَّنت من الحصول على فريق من المحقِّقين الشرعيين لتفقُّد المنزل، ولا سيَّما التركيز على الأصفاد والكتب الثمانية في خزانة الكتب في الطابق السفلي.


سألتُها عمَّا إذا كنت سأحصل على فرصة لإلقاء نظرة على الكتب، وربما أعرف مصدرها.


«جمَعوها معهم بوصفها أدلةً، لكنني سأرسل الصورَ إليك. هل تعرف إن كانت قد ابتِيعَت من أُولد ديفيلز أو لا؟»


«ربما، إذا نظرت إليها. جميع الكتب التي ينتهي بها الأمر على الرف يُوضع سعرها في الركن الأيمن العلوي من الصفحة الأولى. من خلالي، أو من خلال أحد الموظفين لديَّ. لكن بعض الكتب لا تصل إلى الرفوف أبدًا، حيث تُباع عبْر الإنترنت مباشرةً، وإذا لم أتذكَّر نسخةً معينة من كتابٍ بعينه، فلن أستطيع التعرُّف إليه.»


«لكن إذا جاء تشارلي إلى متجرك واشترى الكتب، أو بعضها، إذن …»


«هذا يعني أنه زَبون.»


قالت جوين: «صحيح.»


كنا قد عبَرنا للتو من ولاية مين إلى نيو هامبشير، وكان الظلام قد حلَّ. كان وجه جوين يضيء من حينٍ إلى آخرَ بأضواء السيارات المارة.


«نسيتُ أن أسأل، هل كان هناك أي شهود؟»


قالت: «ماذا تعني؟»


«أعني، هل عثرتَ على شاهدٍ قد رأى شخصًا ما، أو سيارةَ شخصٍ ما، خارجَ منزل إيلين جونسون في وقت قريب من وقوع الجريمة؟»


«أوه، هذا ما تعنيه. كلَّا. لقد استجوبتُ الجارة التي تقطن في الجهة المقابلة من الشارع، والتي أفادت بأن بريد إيلين لم يُستلَم، لكنها لم ترَ شيئًا. إنها عجوز، وأشكُّ في أنها تستطيع حتى رؤية أي شخصٍ في الشارع.»


قلتُ: «إذن لم يُحالفك الحظ هناك.»


«لست متفاجئة، إذا كان هناك قاسمٌ مشترك آخرُ بين كل تلك الجرائم — إلى جانب قائمتك — فهو عدم وجود شهود. لا توجد أدلة على الإطلاق، حقًّا. لا وجود لأيِّ أخطاء.»


«لا بد من أن هناك شيئًا ما.»


«كان هناك سلاحُ جريمة تُرك في موقع قتل جاي برادشو.»


«هل كان أحدُ ضحايا جرائم قتل الأبجدية؟»


«نعم، لقد تعرَّض للضرب حتى الموت داخل مرأبه. وبطريقةٍ ما، يُعَد قتله غريبًا بعض الشيء. لقد كان الأمر فوضويًّا؛ فقد قاوم، وكان هناك الكثير من الدماء. كان مرأبه مليئًا بالأدوات، التي كان من الممكن أن يكون أيٌّ منها سلاحَ القتل، ولكن اتضح أنَّ السلاح الذي استخدمه القاتل، على الأقل في البداية، كان مضرب بيسبول.»


«كيف يعرفون أنَّ المضرب لم يكن موجودًا في المرأب، وأنه أُحضِر إلى هناك؟»


«إنهم لا يعرفون، على وجه اليقين، ولكن لم يكن هناك أدواتٌ رياضية أخرى في منزل برادشو. وكل الأدوات في مرأبه كانت أدواتِ نجارة. هذا ما كان عليه — نجَّارًا — على الرغم من أنه اتُّهم قبل عشر سنواتٍ بمحاولة اغتصاب بينما كان يُركِّب أرففَ كتبٍ لامرأة مطلَّقة. منذ ذلك الحين لم يقُم بعمل يُذكر. كان يحتفظ بلافتةٍ أمام منزله في جميع الأوقات، معلِنةً عن «أدواتٍ مُستعمَلة للبيع»، ووفقًا لصديقه الوحيد، فقد كان يُمضي معظمَ اليوم في مرأبه. كان من السهل استهدافُه. كان مضرب البيسبول هو الدليلَ الوحيد الذي عُثِر عليه، والذي بدا كأنه لا ينتمي إلى مرأبه.»


«هل كان مميَّزًا؟»


«ماذا، المضرب؟»


«نعم، هل كان هناك شيءٌ غير عاديٍّ حيال المضرب؟ هل كان من حِقبة الخمسينيَّات أو شيءٍ من هذا القبيل؟ هل يحمل توقيع ميكي مانتل؟»


«لا، كان جديدًا، وكان يحمل علامةً تجارية تُباع في كل متجر للمُعدَّات الرياضية تقريبًا. لم يذهب إلى أي مكان. كما أنه لم يوجِّه الضربةَ القاضية في واقع الأمر. ضُرب برادشو بمضرب البيسبول، لكنه قُتل بمطرقةٍ ثقيلة على رأسه مباشرةً. آسفة على الصورة.»


عندما توقَّفَت جوين أمام متجر الكتب، قالت: «ها أنت ذا»، ثم أضافت بسرعة: «أوه، ربما أردت الذَّهابَ إلى منزلك. أنا لم أسألك حتى.»


قلتُ: «هذا جيد. ربما ينبغي لي تفقُّد الأمر هنا على أي حال، كما أنني أقطن على بُعد بضعةِ مبانٍ فقط.»


«شكرًا لمجيئك. حالما أحصلُ على صور تلك الكتب، هل يمكنني إرسالها إليك؟»


قلتُ: «بالتأكيد.»


كان المتجر مفتوحًا مدة خمس عشرة دقيقة أخرى، وكان بإمكاني رؤية براندون خلف مكتب الاستقبال، وأمامه كتابٌ قد ألقي مفتوحًا. دخلتُ عبْر الباب الأمامي ورفع عينيه ناظرًا إليَّ.


قال: «يا زعيم.»


«مرحبًا، براندون.»


أمال الكتابَ الذي كان يقرؤه حتى أتمكَّن من رؤية الغلاف. لقد كانت رواية «نداء الوقواق» بقلم روبرت جالبريث، الذي كُشِف منذ وقتٍ ليس ببعيد عن أنها في الواقع جيه كيه رولينج. قال: «جيد»، وعاد إلى القراءة.


«لقد وصلتُ للتو. هل حدث أيُّ شيءٍ في أثناء غيابي؟»


أخبرني كيف جاءت امرأةٌ ترتدي معطفًا من الفرو بعد ظهر أمس واشترت مجلداتٍ جديدةً بقيمة مائتي دولار، واتفقت على شحنها إلى عنوانها في ماليبو. وأخبرني أنه يظن بأنه قد أصلح الصنبور أخيرًا في حمَّام الموظفين الذي كان يُسرِّب دائمًا.


قلتُ: «شكرًا.»


سمعتُ مواء نيرو الحزين، وانحنيت لأحيِّيه.


قال براندون: «أظن أنه يفتقدك عندما لا تكون هنا»، وشيء ما في هذه الكلمات جعلني أشعر بإحدى نوبات الحزن العميق التي تعتريني فجأةً من حينٍ إلى آخر. وقفتُ فجأة وسبح الضوءُ أمام عينيَّ. أدركتُ أنني كنت جائعًا. كان الوقت متأخرًا، ولم أكن قد تناولتُ الطعام منذ الغداء في روكلاند.


عُدتُ إلى المنزل سيرًا على الأقدام وركبتُ سيارتي، ثم قُدتُها بمحاذاة النهرِ إلى سومرفيل؛ المدينة التي عشتُ فيها مع كلير. جلستُ في حانة «آر إف أوسوليفان» — وهو مكانٌ لم أذهب إليه منذ سنوات — أحتسي الجينيس، وآكلُ شطيرة برجر في حجم كرة البيسبول، وكلاهما من الأصناف التي تشتهر «آر إف أوسوليفان» بتقديمها. بعد ذلك، توجَّهتُ بالسيارة إلى مكتبة سومرفيل العامة، وسررتُ عندما رأيتُها لا تزال مفتوحة. ذهبتُ إلى الطابَق الثاني ووجدتُ كمبيوترًا يوجد به متصفِّح للإنترنت، أدخلتُ الاسم الذي أعطاني إياه مارتي سابقًا، «نيكولاس برويت».


لم يكن أستاذًا للغة الإنجليزية في جامعة نيو إسيكس فحسب، بل كان قد نشَر مجموعةَ قصص قصيرة بعنوان «سمكة صغيرة». كانت هناك صورتان له استطعتُ أن أجدهما على الإنترنت، صُورته بوصفه مؤلِّفًا للكتاب، بالإضافة إلى صورةٍ عفوية له من حفل عشاء لأعضاء هيئة التدريس. كانت تنطبق عليه تقريبًا السماتُ التي عليها أستاذٌ للغة الإنجليزية في الجامعة، طويل القامة ومُنحني الأكتاف، مع بطنٍ ناتئٍ قليلًا وشَعر عالق في المقدمة كما لو كان يُمرِّر أصابعه من خلاله باستمرار. كان شعره أسودَ مائلًا إلى البُني، لكن لحيته المُشذَّبة بعناية كان يتخلَّلها اللونُ الرمادي. في صُورته مؤلِّفًا، وهو منظر جانبي التفَّ فيه بمقدار ثلاثة أرباع درجة، وكان يُحدِّق في اتجاه الكاميرا وعلى وجهه تعبيرٌ بدا وكأنه ينشدُ أن أصدِّقه. بدا وكأنه يقول: «خُذني على محمل الجِد، قد أكون عبقريًّا فحسب». ربما أكونُ قاسيًا، لكن هذا ما رأيتُه. لطالما كنت متشكِّكًا في كُتَّاب الأدب، بالنظر إلى محاولاتهم للخلود. هذا هو السبب في أنني أفضِّل كُتَّاب الإثارة والشعراء. أحبُّ الكُتَّاب الذين يعرفون أنهم يخوضون معركةً خاسرة.


على الرغم من وجودِ الكثير من المعلومات عبر الإنترنت حول نيكولاس برويت، المعروفِ بين المقرَّبين منه بنيك، بدا أنَّ هناك القليل جدًّا من المعلومات حول حياته الشخصية. لم أستطِع التأكُّد مما إذا كان متزوجًا أو لديه أطفال. وأدلُّ شيءٍ قرأتُه عنه كان على موقع إلكتروني يتيح للطلاب تصنيف أساتذتهم دون الكشف عن هُويتهم. أشار الجزءُ الأكبر من التعقيبات إلى أنه أستاذٌ جدير بالاحترام، وأحيانًا لا يمنح درجاتٍ بسهولة، ولكن كتب أحدُ المستخدمين: «لأكُن صادقًا، كان الأستاذ برويت يُصيبني بالفزع. لقد كان مُولعًا جدًّا بشخصية «ليدي ماكبث». لا أعرفُ لماذا أصرَّ على تمثيل كل أجزاء المسرحية التي ظهرَت فيها.»


لم يكن هذا بالشيء الكثير، لكنه كان يعني شيئًا ما. كنت قد وضعتُ بالفعل تصوُّرًا كاملًا لِما قد تسبَّب في تحوُّل نيكولاس برويت إلى تشارلي. أتصوَّر أن مارجريت — شقيقة برويت — تزوَّجَت من نورمان تشيني، الذي تبيَّن أنه ليس مجردَ شخص بغيض فقط، بل أيضًا مجرم، رجل قتل أخت برويت وأفلت من العِقاب. يُقرِّر برويت قتل نورمان تشيني، لكنه يعلم أنه إذا فعل ذلك، فسيكون المشتبَه به الرئيسي. ومن ثمَّ، يفكِّر أنه ربما يمكنه استئجار شخصٍ ما لقتل تشيني، فينتقل إلى موقع «دوكبرج» ويجد رسالتي عن «غريبان على متن قطار». إنه أستاذٌ في اللغة الإنجليزية ويعرف هذا الكتاب جيدًا؛ إنه يعرف ما أقترحه، ومن ثمَّ نتبادل الأسماء والعناوين. يقتل إريك أتويل. وتسير الأمور على ما يرام؛ ليس فقط لأنه يُفلت من العقاب، ولكن لأنه يستمتع بهذا حقًّا. إنه يمنحه القوة التي طالما كان يتوقُ إليها. وعندما يموتُ نورمان تشيني، بينما يكون برويت بعيدًا في مكانٍ ما، لاختلاق حُجَّةِ غياب، يشعر بمزيدٍ من السلطة. يمنحه القتل شعورًا جيدًا. فيقرِّر أنَّ عليه معرفةَ مَن أبرم الاتفاقَ معه، ومَن قتل تشيني عنه بالوكالة. لن يكون الأمرُ عسيرًا. وبشيءٍ من التطفُّل، يكتشف أن إريك أتويل قد جرى استجوابه من قِبل الشرطة فيما يتعلَّق بحادث السيارة الذي أودى بحياة زوجة مالكوم كيرشو. وليس هذا فحسب، بل أيضًا أن مالكوم كيرشو يعمل في متجر لبيع كتب الغموض والألغاز. حتى إنه نشر مرةً قائمةً بثماني رواياتٍ أدبية عن جرائم قتل كاملة. وكان من بينها «غريبان على متن قطار».


تمضي السنوات، ولا يستطيع برويت أن ينسى كيف شعر بأنه على قيد الحياة عندما أزهق روحًا. وفي كلِّ فصلٍ دراسي عندما يُدرِّس «ماكبث»، يشعر بأن شهوته لسفك الدماء تنمو أكثرَ فأكثر. ويُقرِّر أنه بحاجةٍ إلى فِعل ذلك مرةً أخرى؛ ارتكاب جريمة قتل مجددًا. ومن ثمَّ، مسترشدًا بقائمة جرائم القتل الكاملة الثماني، يبدأ في البحث عن الضحايا. وربما حتى سيجعل هذه الصلة واضحة؛ حيث إنه بهذه الطريقة قد يلتقي مالكوم كيرشو أخيرًا.


كان الأمر منطقيًّا تمامًا، وشعرتُ بمزيج من الإثارة والرهبة. كنت بحاجةٍ إلى مقابلة نيك برويت ومشاهدة ردِّ فِعله. لكنني أردتُ أولًا قراءة مجموعته القصصية. سجَّلتُ الدخول إلى شبكة «مكتبة منيوت مان» لمعرفةِ مكان توفُّر الكتاب، على أملِ أن يكون هنا في سومرفيل، لكنه لم يكن موجودًا. ومع ذلك، كانت هناك نسخة مُدرجة على أنها متاحة في مكتبة نيوتن العامة. لم تكن المكتبة مفتوحة الآن ولكنها ستفتح أبوابها في تمام العاشرة من صباح اليوم التالي.


الفصل السابع عشر


بدأتُ أعيدُ قراءةَ «التاريخ السري» في صباح اليوم التالي في المتجر. كنت قد تعبتُ من الانتظار. انتظار مكتبة نيوتن العامة أن تفتح حتى أتمكَّن من الحصولِ على نسخةٍ من كتاب «سمكة صغيرة» لنيكولاس برويت، انتظار مكالمة من جوين، وانتظار مزيدٍ من المعلومات من مارتي كينجشيب حول مقتل نورمان تشيني.


قرأتُ المقدمة والفصل الأول، وانجرفتُ على الفور في هوس الراوي بزُمرةٍ صغيرة من طلاب الكلاسيكيات في كلية هامبدن الخيالية. وعلى غِرار ريتشارد بابن، كنتُ دائمًا مفتونًا بالمجموعات المتآلفة، والعائلات المتماسكة، والروابط الأخويَّة. ولكن على عكس ريتشارد، لم أجد البتَّة مجموعةً للانضمام إليها، وكان أقربُها زملائي بائعي الكتب القديمة، ولكن في أغلب الأحيان، عندما نجتمع، أشعرُ وكأنني محتالٌ في وسطهم.


ارتفعَت درجة الحرارة في ذلك اليوم وراح الثلج يذوب في جميع أنحاء المدينة. كانت البِرَك تتشكَّل، وكانت المزاريب تفيض، وكان المُشاة في الخارج يتوافدون في جموعٍ هائلة. لقد كان صباحًا صاخبًا، حيث كان هناك تدفقٌ مستمر من متصفِّحي الكتب يتقاطر على الأرضية الخشبية الصلبة.


قبل الظهر بقليل، أخبرتُ إيميلي أنني ذاهبٌ إلى المنزل لتناول طعام الغداء ويمكنها تولِّي مسألة البيع مكاني. كنت قد أوقفتُ سيارتي في الخارج على بُعد متر، ومن ثمَّ ركبتُ سيارتي وسلكتُ طريقَ «ستورو درايف» إلى نيوتن، ثم سلكتُ بعضَ الطرق الخلفية للوصول إلى المكتبة الرئيسية، وهي عبارة عن هيكلٍ ضخم من الطوب بالقرب من حي كومنولث. عثرتُ على رواية «سمكة صغيرة» في الطابق الثاني من المكتبة وأخذتُ المجلد النحيف ذا الغلاف الورقي إلى كرسيٍّ جلدي ناعم في ركنٍ من أركان المكتبة بالقرب من قسم الشعر. اطلعتُ بسرعة على قائمة عناوين القصة في صفحة المحتويات، باحثًا على ما أعتقد عن شيءٍ قد يشير إلى قصةِ جريمة، أو شيءٍ به جريمةُ قتل، أو شيء من الحقد والأذى، لكن معظم العناوين بدت إما عامة وإما أدبية بوعي ذاتي. «حفل الحديقة». «ما آلت إليه الأمور». «ومن هنا الأهرامات». «قُبلة أفلاطونية». لم يسترعِ انتباهي شيءٌ؛ ولذا قرَّرتُ قراءة القصة التي اختِير اسمها عنوانًا للكتاب، «سمكة صغيرة». ما إن بلغتُ منتصف القصة حتى أدركتُ أنها لم تكن مفيدةً كثيرًا. في القصة، يتذكَّر طالبٌ جامعي في المرحلة الأخيرة بكلية بودوين كيف أخذه والده في رحلةِ صيد في شمال ولاية نيويورك عندما كان في العاشرة من عمره. الدروس المستفادة من الرحلة — إعادة السمكة الصغيرة إلى الماء مرةً أخرى هي أوضحها — قد تردَّد صداها مع علاقة الراوي الحاليَّة. لم تكن القصة مثيرةً للإعجاب. على الأقل ليس بالنسبة إليَّ، وقد توقفتُ عن قراءتها في منتصفها. ثم استعرضتُ بقيةَ القصص في المجموعة، ولم أجد الكثير. بصراحة، لا أعرف بالضبط ما كنت أبحث عنه، لكن ربما قصة واحدة فقط تشير إلى موقفٍ مضطرب تجاه الانتقام أو العدالة. قلَّبتُ الصفحات حتى وصلتُ إلى مقدمة الكتاب لأرى ما إذا كان هناك إهداء، وكان هناك إهداءٌ بسيط: «إلى جيليان». نهضتُ وتجوَّلتُ حتى وجدتُ جهازَ كمبيوتر شاغرًا، ثم فتحتُ إطار متصفح وكتبتُ جيليان ثم جامعة نيو إسيكس. كان الاسم الأكثرُ تَكرارًا هو جيليان نجوين، التي كانت تعمل أستاذًا للغة الإنجليزية في نيو إسيكس قبل حصولها على وظيفةٍ في كلية إيمرسون، هنا في بوسطن. حفظتُ اسمها، وقررتُ أن أتصل بها، ولكن ليس قبل أن أكتشف المزيدَ عن نيك برويت.


ثم قلبتُ الصفحات حتى وصلت إلى الغلاف الخلفي للكتاب ولاحظتُ وجودَ صورةٍ للمؤلِّف تختلف عن تلك التي رأيتُها على الإنترنت. كانت هناك أيضًا صورةٌ جانبية التفَّ فيها بمقدار ثلاثة أرباع درجة — من الواضح أن برويت كان يعتقد أنَّ منظره الجانبي جيدٌ — ولكن في هذه الصورة كان يرتدي قبعةً، قبعة فيدورا المصنوعة من اللَّباد، وهي نوعُ القبعة التي كان يرتديها المحقِّقون في الأفلام القديمة. بمجرد أن رأيت ذلك، فكَّرتُ في الرجل في نهاية الشارع الذي رأيتُه ليلة السبت، الرجل الذي اعتقدتُ أنه يلاحقني. كان يرتدي قبعةً شبيهة بهذه القبعة.


قبل مغادرتي، بحثتُ في صفحات الكتاب لمعرفةِ ما إذا كان يحتوي على ملصقِ أمان. لم أجِد، وفكَّرتُ في الذهاب إلى الحمَّام وإخفاء الكتاب تحت قميصي. لكن المكتبة كانت مكتظة، والناسُ يأتون ويذهبون، وقررتُ ببساطة الخروجَ والكتيب في يدي، كما لو كنت قد استعرتُه بالفعل. لم أعتقد أنهم سيشعرون بغيابه، وبدا من الحكمة ألا يُسجَّل في بطاقتي المكتبية أنني استعرتُ كتاب نيكولاس برويت.


مشيتُ عبْر أجهزة الاستشعار — لم تُطلَق أيُّ إنذاراتٍ — وخرجتُ إلى حيث الأجواءُ الدافئة لوقتِ ما بعد الظهيرة.


عندما عُدتُ إلى المتجر، أرسلتُ بريدًا إلكترونيًّا إلى جوين لمعرفةِ ما إذا كانت قد حصلَت على صورٍ فوتوغرافية للكتب التي رأيناها في منزل إيلين جونسون. ثم حاولتُ قراءةَ المزيد من «التاريخ السري» لكني لم أستطِع التركيز. وانتهى بي الأمر أن أذرَع المتجرَ جَيئةً وذهابًا، محاولًا معرفةَ ما يجب القيام به بعد ذلك، بينما أرتِّب الأرفف.


بعد أن وصل براندون ليبدأ مناوبته لوقتِ ما بعد الظهيرة، قررتُ أنه يمكنني على الأرجح العودةُ إلى المنزل. كان اليوم هو الثلاثاء، وكان يومًا هادئًا، وكنت أنتظرُ التحدُّثُ مع جوين، وهو أمرٌ أفضِّلُ ألا أفعله في مكانٍ قد يسمعني فيه الناس. وضعتُ كتاب «التاريخ السري» في حقيبتي وسألتُ براندون عما إذا كان يُمانع في أن يكون بمفرده.


عبَس، وقال: «كلَّا، أنا بخير.»


«حسنًا إذن. اتصِل بي إذا طرأ شيءٌ ما.»


«سأفعل.»


انخفضَت درجة الحرارة، بحيث تحوَّل كلُّ الثلج المُذاب الآن إلى جليد، وتناثر الترابُ والمِلح على الأرصفة. كان وقتُ الظهيرة ساطعًا، مما ذكَّرني بأنَّ أوقاتَ النهار صارت أطولَ بالفعل، على الرغم من أنَّ الشتاء سيستمر بلا هوادةٍ مدةَ شهرين آخرَين على الأقل. لم أكن شخصيًّا أُمانع في ذلك، لكن يمكنني قراءة وجوه المارة خلال طريقي إلى المنزل. كانت وجوههم شاحبة وكئيبة، مستسلِمة لهذه المدينة الرمادية، وطريقهم الطويل الذي يشقُّونه بصعوبةٍ في هذه الأجواء بانتظارِ فصل الربيع.


وبحكم العادة رُحتُ أطلُّ من خلال النوافذ الزجاجية لفندق «بيكون هيل» إلى داخل حانتهم المريحة والدافئة، دائمًا ما أتساءل عمَّا إذا كان شريكي براين مقيمًا لديهم. كان موجودًا بالداخل اليوم، مرتديًا إحدى ستراته المألوفة من طراز هاريس تويد، مرتكزًا على الجانب البعيد من البار البيضاوي. وقفتُ في الشارع مترددًا بشأنِ إن كان ينبغي لي الانضمام إليه عندما رأيتُه يرفع رأسه الكبير الأشعث ويلاحظني من خلال الزجاج.


قلتُ، وأنا أجلسُ في المقعد المجاور له: «مرحبًا، براين»، وشعرتُ بالفضول تجاه كأس المارتيني نصف المملوء على البار مع بصمة أحمر الشفاه على حافته.


قال: «تيس هنا»، وبمجرد أن قالها، التفتُّ لأرى تيس موري، زوجته على مدى السنوات العشر الماضية، عائدةً — كما افترضتُ — من الحمَّام، وهي تضع أحمرَ شفاهٍ جديدًا على شفتَيها.


قلتُ، عائدًا إلى الوراء حتى أسمح لها باستعادة مقعدها: «أوه، آسف تيس.»


«كلَّا، اجلس هناك. يُسعدنا دائمًا وجودُ مَن يخفِّف الصدام بيننا، أليس كذلك بري؟» وأزاحت كأس المارتيني الخاص بها تجاهها، بينما جلستُ أنا بينهما. كنت أرى تيس أقلَّ بكثير مما أرى براين، وكان من غير المعتاد أن تخرج لتناول الشراب معه، لا سيَّما في وقتٍ مبكر من بعد ظهيرة يوم الثلاثاء. كانت زوجتَه الثانية ولا بد أنها كانت أصغرَ منه بعشرين عامًا على الأقل. قال الجميعُ إنها كانت مسئولة الدعاية لديه، وكان هذا هو سببَ تعارفهما، لكنني علمتُ أنَّ ذلك لم يكن صحيحًا. كانت مسئولة الدعاية، أو اعتادت أن تكون في السابق عندما كانت تعمل بدوام كامل، ولكن ليس لديه. لقد التقيا في العام الوحيد الذي حضَر فيه بوشركون، وهو المؤتمر السنوي لكُتَّاب الجريمة. لم يكن يذهب عادةً، لكنهم جعلوه ضيفَ الشرف وهذا ما دفعه إلى ذلك.


أخبرني براين عدةَ مرات أنَّ الطريقة الوحيدة التي نجَح بها زواجُهما هي أن تيس تُمضي ستة أشهر في منزلهما في لونجبوت كي من دونه، بينما يمضي هو الأشهُرَ الستة الأخرى في كوخهما في شرق ولاية مين من دونها. وفي بعض الأحيان يلتقيان مصادفةً في بوسطن.


قلتُ: «لماذا لستَ في فلوريدا الآن، تيس؟»


«ألم تسمع بالخبر؟ براين، أرِه ذراعك.»


استدرتُ، ورفع براين ذراعه اليسرى، مستقرًّا في جهازٍ يبدو عضوًا آليًّا على نحوٍ غامض. «أوه، لا.»


قال: «إنَّه ليس بالأمر المهم. لقد وقعتُ قبل أسبوع وأنا أتنحَّى عن نفس مقعد البار هذا. لم أشعر بشيء إلا بالبقية المتبقِّية من كبريائي وهو يُغادر جسدي. ولكن على ما يبدو، حدث كسرٌ في موضعَين، وستُفاجأ بمدى صعوبة أن تكون مخمورًا بيدٍ واحدة في مثل سني.»


«هل تكتب الآن؟»


«سلَّمتُ روايتي الجديدة قبل عيد الميلاد مباشرةً، لكنَّ لديَّ نسخًا لأحرِّرها، وعلبَ حساءٍ لأفتحها؛ ولذا فإن تيس تبذل التضحيات.»


قالت تيس: «حاولتُ إقناعه بالقدوم إلى فلوريدا، لكنك تعرف كيف يبدو هذا الأمر، كنا نعتزم الاتصال بك يا مال لنطلب منك احتساءَ مشروبٍ معنا. والآن ها أنت ذا.»


قال براين: «إنه يعرف أين يجدُني»، ثم أنهى شرابه الذي دائمًا ما كان تقريبًا سكوتش وصودا في كوب ويسكي زجاجي مع مكعبَين من الثلج.


طلبتُ لنفسي جِعةً من نوع ليفت هاند ستاوت، واستطعتُ إقناعَ براين وتيس بشراء مشروب لكليهما على حسابي. سكوتش آخر لبراين وجراي جوس مارتيني لتيس.


قالت تيس: «كيف تسير أحوال العمل؟ كنت أودُّ أن أسأل براين لكنه لا يعرف أبدًا.»


قلتُ: «كما هو. ليس سيئًا على الإطلاق.»


«ماذا يُباع هذه الأيام؟»


على الرغم من أنها لم تَعُد تعمل مسئولةَ دعاية — آخرُ ما سمِعتُه عنها أنها تمتلك متجر مجوهراتٍ صغيرًا في فلوريدا — فإنها ما زالت تحبُّ أن تسمع عن أحوال العمل. لقد أحببتُ تيس ودافعتُ عنها في عددٍ من المناسبات أمام أشخاص آخرين في مجال الصناعة، بعضهم رآها على أنها فتاةٌ استغلالية لم تكن حتى تتمتع باللياقة لقضاء الكثير من الوقت مع زوجها الثريِّ الأكبر سنًّا. لكنها كانت دائمًا لطيفةً معي، ولقد أخبرني براين عدةَ مرات كم كان يُقدِّر زواجَهما، وكيف أنها فهمت أهميةَ العزلة بالنسبة إليه. وكيف أحبَّته على طريقتها الخاصة.


مكثتُ لتناول كأسَين من الجِعة، مدركًا طوال الوقت أنَّ هاتفي قد يرِنُّ، أو يطِنُّ برسالةٍ من جوين. عندما طلبا العشاء قلتُ إنني سأغادر، وإنَّ لديَّ طعامًا في المنزل لأعُدَّه، وكانت هذه كذبة، لكن براين كان قد بدأ يتذمَّر قليلًا وأردتُ الخروج قبل بدء خُطبه الطويلة.


قبل أن أغادر قلتُ: «هل سمِعت عن إيلين جونسون؟»


قال براين: «مَن؟»


«إيلين جونسون. لقد اعتادت أن تأتيَ إلى المتجر كلَّ يوم قبل أن تنتقل إلى مين. صاحبة نظَّارات قنينة الكوكا».


قال براين: «بالتأكيد». وفُوجئتُ أنَّ تيس، على يميني، كانت تومئ برأسها أيضًا.


«لقد ماتت على إثرِ نوبة قلبية.»


«كيف علِمت بذلك؟»


كدتُ أخبره، أخبرُ كلا الأمرَين على ما أعتقد، بشأن العميلة مالفي والقائمة، لكنني أحجمتُ لسببٍ ما.


قلتُ كاذبًا: «أخبرني زَبون آخر. اعتقدتُ فقط أنك قد تكون مهتمًّا.»


قالت تيس: «بئس المصير لها»، واستدرتُ نحوها متفاجئًا.


قلتُ: «هل كنتِ تعرفينها؟»


«بالتأكيد. لقد حاصرَتني في إحدى ندوات براين لتخبرني كم كان مبتذلًا. قلتُ لها إنني زوجتُه، وانفجرَت ضاحكة، وسألتني إذا كنتُ قد قرأتُ كتبه قبل أن أتزوَّجه. لن أنسى ذلك أبدًا».


كان براين يبتسم. «لقد كانت مُحقَّة في الواقع. إنني أتذكَّرها الآن. أخبرَتْني مرةً بأن كاتبها المفضَّل كان جيمس كرملي، ومن ثمَّ اعتقدتُ أنها لا يمكن أن تكون سيئةً إلى تلك الدرجة. انتقلت إلى روكلاند، في مين، أليس كذلك؟»


«كيف علمتَ بذلك؟»


«أخبرتني إيميلي، على الأرجح، في المرة الأخيرة التي مررتُ فيها على «أُولد ديفيلز». إنها تحتفظ بسجلٍّ لكلِّ العملاء المتسبِّبين في المشكلات من أجلي.»


قلتُ: «أها»، وانزعجتُ قليلًا أنَّ براين، الذي كان يرى إيميلي على الأرجح كلَّ ثلاثة أشهر، بدا أنه يتمتع بعلاقةٍ أفضلَ معها مقارنةً بي.


قادتني تيس الى الخارج، وتساءلتُ عن السبب. لكن عندما وصلنا إلى الرصيف، قالت: «هذا الحادث الغبي غيَّره تمامًا. إنه مذعور من كل شيءٍ الآن. المشي، النهوض من السرير، فِعل أيِّ شيء. يمكنني البقاء معه ولكن ليس إلى الأبد. لديَّ المتجر في فلوريدا ولا يمكنني التعامُل معه طوال الوقت، ولست متأكِّدة من أنه يستطيع التعامُل معي.»


«ربما ينبغي أن تحصلي على بعض المساعدة؟»


«بالضبط. هذا ما قلتُه له مائة مرة، لكنه لا يريد سماعه. انظر، إذا شاركتَنا العشاء في ليلةٍ ما، هلَّا تطرح الأمر من أجلي؟ ربما إذا سمِع ذلك من شخص آخر …»


قلتُ لها: «بالتأكيد».


«شكرًا مال. إنني أقدِّر لك ذلك. لا تُسِئ فهْمي، سأفعل أيَّ شيءٍ في إمكاني فِعله من أجل براين، وسيفعل أيَّ شيءٍ في إمكانه من أجلي، لكن مساعدته على الخروجِ من حوض الاستحمام لم يكن جزءًا من الاتفاق». ودفعَت خَصلة من شعرها الداكن الطويل خلف إحدى أذنيها، ثم انحنت وقبَّلتني على شفتيَّ قبل أن تجذبني كي تُعانقني. لقد فعلَت هذا من قبل، حتى أمام براين، الذي لم يبدُ أنه يمانع في ذلك بتاتًا.


ارتجفَت تيس بين ذراعَي بينما كنا نتعانق. قالت وهي تُفلتني: «كيف تتحمَّل هذا الطقس؟». وبينما كنت أسير إلى المنزل استطعت أن أشمَّ رائحتها على جلدي؛ عطرًا ليمونيًّا ورائحةَ زيتون من المارتيني الخاص بها.


تناولتُ حبوبَ الإفطار على العشاء في تلك الليلة، وقرأتُ المزيد من «التاريخ السري»، وانتظرتُ اتصالَ جوين. أرسلتُ إليها رسالةً نصيةً أخرى قبل أن أخلد إلى النوم، قلتُ فيها إنني أتمنَّى أن يكون كلُّ شيءٍ على ما يُرام. وكان وجهُها هو ما فكَّرتُ فيه وأنا مُستلقٍ في الفراش، وليس وجه زوجتي.


الفصل الثامن عشر


انطلقَ جرسُ الباب بعد تمام الثامنة من صباح اليوم التالي. كنتُ مستيقظًا بالفعل وأرتدي ملابسي، وشرَعتُ في تحضير بعض القهوة.


ضغطتُ على جهاز الاتصال الداخلي (الإنتركم) وجاء صوتٌ ذكوري يقول إن اسمه العميل بيري، ويسأل عما إذا كان بإمكانه الصعود. في المدة التي استغرقَتها خُطى الأقدام في صعود الدرَج بصوتٍ عالٍ، كان لديَّ وقتٌ كافٍ للتفكير فيما يجب أن أفعله عند طرح الأسئلة. وضعتُ عدَّة افتراضاتٍ سريعة. إنهم هنا إما لاعتقالي أو لاستجوابي بشأن وفاة إريك أتويل أو نورمان تشيني أو كليهما. ربما كان السبب في عدم ردِّ جوين على رسائلي في اليوم السابق هو أنني أصبحتُ مشتبهًا به في جريمة قتل.


ذهبتُ إلى باب شقتي وفتحتُه. كان العميل بيري طويلَ القامة ذا كتفَين منحنيتَين ويرتدي بدلةً مقلَّمة. أظهر هُويته من مكتب التحقيقات الفيدرالي، وأعاد تقديم نفسه، قائلًا إنه جاء من مكتب نيو هافن ولديه بعضُ الأسئلة. وكانت تقف خلفه امرأةٌ أقصرُ بكثير، ترتدي بدلة أيضًا. قدَّمها على أنها العميلة بيريز من مكتب بوسطن. دعوتُ كليهما إلى الداخل، وأخبرتهما أنني على وشْك صنْع القهوة، وسألتُهما إذا كانا يريدان بعضًا منها. قال العميل بيري إنه لا يُمانع. أما العميلة بيريز، التي كانت تنظر الآن من النافذة، فلم تقُل شيئًا.


بدأتُ في صنْع القهوة وشعرتُ بهدوءٍ على نحوٍ مفاجئ. لقد تبدَّد كلُّ الأدرينالين الذي غمرني بعد سماعِ صوتِ الجرس مع وصولهما. كنتُ خفيفًا، كما لو كنت مُخدَّرًا تقريبًا، عندما سرتُ مسافةً قصيرة إلى الكرسي ووجَّهتهما إلى الأريكة.


عدَّل العميلُ بيري بنطالَ بدلته فوق الركبتَين قبل أن يجلس. كانت لديه يدان ضخمتان، مرقَّطتان مع تقدُّم العمر، ورأسٌ كبير مطوَّل مع فكَّين عريضين. تنحنَح قائلًا: «آمُلُ أن تتمكَّن من إلقاء بعض الضوء على علاقتك بجوين مالفي.»


قلتُ: «حسنًا.»


«هل يمكنك إخبارنا متى قابلتَها أول مرة؟»


قلتُ: «بالتأكيد. لقد اتصلَت بي في متجر الكتب — في «أُولد ديفيلز» حيث أعمل — يوم الخميس الماضي وسألَت عمَّا إذا كان يمكنها الحضورُ وطرح بعض الأسئلة. هل هي بخير؟»


قال: «ما الأسئلة التي أرادت طرحها عليك؟» لم تتكلَّم العميلة بيريز بعد، لكنها أخرجَت دفترَ ملاحظاتٍ صغيرًا مزوَّدًا بسلك حلزوني ونزعَت غطاء القلم.


«كان لديها أسئلةٌ حول قائمة كنتُ قد أعددتُها، منشورة في مدوَّنة منذ عدة سنوات.»


أخرجَ بيري دفترَ ملاحظاته وألقى نظرة عليه. «تُدعى ثماني جرائم كاملة؟» كان بإمكاني سماعُ ما بدا في صوته نبرةَ ازدراء.


قلتُ: «هذا صحيح.»


«وبماذا كانت تتعلق أسئلتُها؟»


كان لديَّ انطباعٌ بأنهم يعرفون بالفعل كلَّ شيءٍ عن المحادثة التي دارت بيني وبين جوين، لكنني قررتُ إخبارهما بأي شيءٍ يريدان معرفته. حسنًا، أيُّ شيء قلتُه بالفعل لجوين. ولذا، بدأتُ بشرح كيف لاحظَت العميلةُ مالفي وجودَ صلة بين القائمة التي كتبتُها عام ٢٠٠٤ والعديد من الجرائم الأخيرة. ذكرتُ كيف أنني في البداية، كنت أعتبر أنَّ تلك الصلةَ مشكوكٌ فيها، وربما كانت مصادَفة، وأيضًا كيف وجدنا الكتب الثمانية من قائمتي في منزل إيلين جونسون في روكلاند.


جاءَ هذا السؤالُ من العميلة بيريز، وهو أولُ ما سمعتُها تتفوَّه به: «هل استغربتَ أن تطلب منك العميلة مالفي مرافقتها في عملٍ رسمي لمكتب التحقيقات الفيدرالي؟ لزيارة مسرح جريمة مُحتمَلة؟» انحنت إلى الأمام وهي تتحدَّث، وانضغطَت أزرار سترتها قليلًا كما لو أنها اكتسبَت وزنًا مؤخَّرًا. لا يمكن أن يتجاوز عمرها الثلاثين، مع شعرها الأسود القصير ووجهها المستدير الذي تُهيمن عليه عينان كبيرتان وحاجبان كثيفان.


قلتُ: «لم أستغرب. أظنُّ أنها اعتقدت جِديًّا أنه بما أنني كتبتُ القائمة، وبما أنني قرأتُ جميع الكتب الموجودة فيها، فقد كنتُ الخبيرَ بالأمر. لقد ظنَّت أنني قد أتمكَّن من ملاحظةِ شيءٍ ما في منزل إيلين جونسون. كما أنني كنت أعرفُها. أعني، كنت أعرفُ إيلين جونسون.»


«إذن ماذا اكتشفت؟ من زيارتك لمنزلها؟»


«ما اكتشفتُه — ما اكتشفناه، أنا والعميلة مالفي — كان تأكيدًا على أن شخصًا ما يستخدم قائمتي بالفعل لارتكابِ جرائمِ قتلٍ، ومن المُحتمل جدًّا أن الأمر يتعلق بي …»


قال العميل بيري، وفكَّاه يرتجفان: «من المُحتمل جدًّا؟»


«لقد كانت إيلين جونسون شخصًا أعرفه، شخصًا اعتاد القدوم إلى المتجر طوال الوقت. من الواضح أن موتها يدلُّ على تورُّطي. ليس تورطي على نحوٍ مباشر، ولكن حقيقة أنَّ مَن يفعل هذا إما يعرفني، أو يريدني أن أعرف عن هذا الأمر، أو ربما يحاول توريطي بطريقةٍ ما.»


«هل ناقشت كلَّ هذا مع العميلة مالفي؟»


«نعم، لقد تحدَّثنا عن كل الاحتمالات.»


نظر العميلُ بيري إلى دفتر ملاحظاته. «فقط للتأكيد، ناقشت جرائم قتل روبن كالاهان وجاي برادشو وإيثان بيرد؟»


قلتُ: «نعم.»


«وهل ناقشتُما مقتل بيل مانسو؟»


«الرجلُ الذي قُتل بالقرب من قضبان السكة الحديدية؟ … نعم، فعلنا.»


قال، وهو ينظر إليَّ: «ماذا عن إريك أتويل؟»


«تحدَّثنا قليلًا عن إريك أتويل؛ بسبب علاقته بي. لكننا لم نُناقشه كضحيةٍ في هذه السلسلة بعينها من الجرائم.»


«وماذا كانت علاقته بك؟»


«إريك أتويل؟»


«أجل.»


قلتُ: «من الواضح أنها كتبَت كلَّ هذا. لا أعرف لماذا لا يمكنك التحدُّث معها فحسب أو الرجوع إلى ملاحظاتها.»


قالت العميلة بيريز: «نريد فقط أن نسمع منك». وقد لاحظتُ أنه في أي وقتٍ تتحدَّث فيه كان العميل بيري يتزحزح فوق أريكتي، على نحوٍ غير مريح، كما لو كان يعاني حِكَّة ويشعر بالحرج الشديد من حكِّها.


«كان إريك أتويل على علاقةٍ بزوجتي وقتَ وفاتها. لقد جعلها مدمنةَ مخدِّرات، وفي الليلة التي ماتت فيها في حادث سير كانت تقود سيارتها عائدةً من منزله.»


«وقد قُتل إريك أتويل، أليس كذلك؟»


«رميًا بالرصاص، نعم. حسب ما فهمت، فإنَّ الشرطة ظنَّت أنها كانت عمليةَ سطو. وكان من الواضح أنَّ العميلةَ مالفي لم تكن تعتقد أن له أيَّ علاقة بقائمة «جرائم القتل الكاملة».»


قال العميل بيري: «حسنًا، مرةً أخرى. هل ناقشتما وفاةَ ستيفن كليفتون؟»


توقَّفتُ، مصعوقًا لحظة. كان ستيفن كليفتون هو اسمَ مدرس العلوم الذي تحرَّش بكلير مالوري في السابق عندما كانت في المدرسة الإعدادية. لم أسمع جوين تذكُره قط. هززتُ رأسي وقلتُ: «كلَّا، لا أعرفُ هذا الاسم.»


«لا؟»


قلتُ: «إنه ليس مألوفًا.»


قال العميل بيري: «حسنًا»، وقلبَ صفحةً في دفتر ملاحظاته. لم يبدُ مهتمًّا بأنني لم أسمع عن ستيفن كليفتون. سأل: «هل سبق للعميلة مالفي أن أفْضَت إليك بشكوكها حول مَن قد يكون مسئولًا عن جرائم القتل هذه؟»


قلتُ: «لا. أعني، هذا هو سببُ قدومها إليَّ. كانت تحاول معرفةَ ما إذا كان هناك أيُّ شخص في حياتي — أيُّ زبائن أو موظَّفين سابقين — قد أشتبه بهم.»


«وهل كان هناك أحد؟»


قلتُ: «لم يكن هناك أحدٌ. لا. على الأقل، لا أحد يمكنني التفكير فيه. ربما كانت إيلين جونسون أغربَ زَبون اعتاد القدوم إلى المتجر، لكن من الواضح أنها غيرُ مذنبة.»


«أخبرتُ العميلةَ مالفي أنَّ لديك حاليًّا موظفَين اثنين يعملان لديك؟»


«هذا صحيح. براندون ويكس وإيميلي بارساميان. الشخص الآخر الوحيد الذي يعمل أحيانًا في المتجر هو براين موري، المالك الشريك لي.»


كتب كِلا العميلَين في دفترِ ملاحظاتهما. وضربَت الرياحُ نافذة شقتي. سألتُ: «هل هي بخير؟» وخرجَت الكلمات من تلقاء نفسها.


نظر العميلُ بيري إلى الأعلى وشفته السفلى بين أسنانه. قال: «أُوقفَت العميلةُ مالفي عن العمل لدى الوكالة. أريدُ أن أخبرك أنها أُبلغت بأنها لم تَعُد قادرةً على الاتصال بك.»


قلتُ: «أوه. لماذا؟»


نظر العميلان أحدهما إلى الآخر، ثم قالت العميلة بيريز: «أخشى أننا لا نستطيع التحدُّث عن ذلك. وأيُّ معلوماتٍ يمكنك تقديمُها من الآن فصاعدًا ينبغي تقديمها فقط إليَّ أو إلى العميل بيري.»


أومأتُ. نظر أحدُهما إلى الآخر مرةً أخرى، وقالت بيريز: «هل أنت على استعدادٍ للمجيء معي إلى المكتب والإدلاء بإفادة كاملة؟»


•••


تبعتُ العميلةَ بيريز إلى تشيلسي في سيارتها، وكانت هي مَن استجوبني، في غرفة فخمة صغيرة بها جهاز تسجيل بالإضافة إلى كاميرتين مثبتتَين عاليًا في السقف. بدأنا من البداية: أصلُ القائمة، والكتب التي اخترتها، وجوين مالفي، والأسئلة التي طرحتها. أرادت أن تعرف كلَّ شيء عن تفاعلنا معًا، كل التفاصيل التي تحدَّثنا عنها. لم تسأل العميلة بيريز عن إريك أتويل مرةً أخرى، أو عن ستيفن كليفتون، وقد شعرتُ بالارتياح، على الرغم من أنه خطرَ لي أنها ربما كانت تحتفظ بأوراق اللُّعبة بين يدَيها وتُبقي نواياها طيَّ الكتمان. استغرقَت المقابلة طَوال الصباح، وشعرتُ بالذنب على نحوٍ غريب، كما لو كنت أخونُ جوين مالفي مع هذه العميلة الجديدة، وأخبرها بكلِّ ما تحدَّثنا عنه. ظللتُ أتساءل لماذا أُوقفَت من قِبل الوكالة، وما علاقة ذلك بقائمتي، وما الذي كان يحدُث. قُرب نهاية المقابلة، سألتُ العميلة بيريز للمرة الأخيرة إذا كان بإمكانها إخباري بأي شيءٍ أكثرَ من ذلك عن العميلة مالفي.


«توجد إجراءاتٌ علينا اتباعُها في سياق التحقيق، وهو ما لم تلتزم به العميلة مالفي. هذا كلُّ ما يمكنني قوله حقًّا.»


قلتُ: «حسنًا.»


«قبل أن تذهب، عليَّ أن أسألك إن كنت تشعر بأنك في حاجةٍ إلى حماية الشرطة لك؟» وأخذت تُدير ما بدا كأنه خاتم زواج.


قلتُ، متظاهرًا بأنني كنت أفكِّر في الأمر: «كلَّا، لا أعتقد. لكنني سأكون حذِرًا.»


قالت: «شيءٌ أخير قبل أن أدعَك تذهب. أعلمُ أنك قدَّمت حُجَّة غيابٍ لجوين مالفي عن تاريخ وفاة إيلين جونسون، لكنني كنت أتمنَّى أن تفعل الشيء نفسَه، أو تحاول فِعل الشيء نفسه، بالنسبة إلى جرائم القتل الأخرى.»


قلتُ: «يمكنني المحاولة.»


أرسلتني إلى المنزل مع قائمةٍ بالتواريخ الدقيقة لمقتل روبن كالاهان وجاي برادشو وإيثان بيرد وبيل مانسو. جلستُ إلى الكمبيوتر الخاص بي لإلقاء نظرةٍ على مفكِّرتي، ولكنني شعرتُ بالإرهاق فجأة، ولم أستطِع التعامل مع الأمر في تلك اللحظة. نهضتُ، وشعرتُ على الفور بدُوار خفيف، وأدركتُ أنَّ الشيء الوحيد الذي كنت قد تناولته طوالَ اليوم هو فطيرة توت العُلَّيق الدنماركية المُغلَّفة بالبلاستيك أثناء مقابلتي الصباحية. ذهبتُ إلى مطبخي وصنعتُ لنفسي شطيرتين من زبدة الفول السوداني والمربى، وأكلتُهما مع كأسَين كبيرتين من الحليب. كانت الساعة الواحدة والنصف. وكان النبأُ السار هو أنني كنت سأتناول مشروبًا مع مارتي كينجشيب في حانة جاك كرو في السادسة ذلك المساء. كنت أعلم أنه سيُحضر لي المزيدَ من المعلومات عن وفاة نورمان تشيني، وربما المزيد من المعلومات عن نيكولاس برويت. في غضون ذلك، كنت بحاجةٍ إلى معرفةِ ما يجب القيام به من الآن وحتى ذلك الموعد في تمام السادسة. لم يكن الأمر يستحقُّ الاتصال ببرويت بنفسي. ليس بعدُ على أي حال. ثم تذكَّرت الإهداءَ في كتابه للقصص القصيرة: «إلى جيليان». دخلتُ على الإنترنت وأجريتُ مزيدًا من البحث عن جيليان نجوين، التي من المُحتمل أن تكون مَن أهدى إليها الكتاب. كانت أستاذًا مساعدًا في نيو إسيكس، وكانت تُدرِّس في المقام الأول مقرراتٍ تمهيديةً للطلاب الجُدد. وفي كلية إيمرسون، حيث تعمل الآن، تدرِّس بعضَ فصول الأدب، لكنها تدرِّس الشِّعر أيضًا في قسم الكتابة الإبداعية. رحت أبحث في جوجل عن بعضٍ من أشعارها. وكما هو الحال غالبًا مع الشعراء المعاصرين، لم أكَد أفهم ما كنت أقرؤه، على الرغم من وجودِ قصيدةٍ واحدة نُشرت في صحيفةٍ تُسمى «أنديفايدر» بعنوان «بعد ظهر الأحد في بي إي إم». كان «بي إي إم» هو متحف بيبودي إسيكس الواقع في سيلم، ماساتشوستس، وهي بلدة مجاورة لنيو إسيكس. كانت القصيدةُ نفسها تدور إلى حدٍّ كبير حول معرضٍ يتعلَّق بالفن الشعبي الفيتنامي، على الرغم من وجود «ضمير غائب» في القصيدة، وهو رفيقٌ للمتحدِّث، الذي «رأى فقط الفراغ السلبي، الجسد المنحني». تساءلتُ عما إذا كان هذا الرفيق هو نيكولاس برويت، وإذا كان كذلك، فأنا أشكُّ في أن برويت وجيليان نجوين لا يزالان معًا. حتى إنني استطعتُ فكَّ شفرةِ القصيدة على أنها نقد.


كان هناك رقم هاتف مُدرَج للأستاذة نجوين في صفحة هيئة التدريس في إيمرسون، وقد اتصلتُ به، ولم أكن أتوقَّع حقًّا أن تلتقط السماعة، لكنها فعلَت ذلك بعد أن رنَّ الهاتف مرتَين.


«آلو؟»


سألتُ، على أملِ أن أكون قد نطقتُها على نحوٍ صحيح: «هل هذه الأستاذة نجوين؟»


«آها.»


قلتُ مستخدِمًا تلقائيًّا اسمَ المالك السابق لأُولد ديفيلز: «مرحبًا، أنا جون هالي. كنت أتساءل عما إذا كان بإمكاني التحدُّث معك عن نيكولاس برويت.»


ساد الصمتُ، وللحظة ظننتُ أنها ربما أغلقت الهاتف، لكنها قالت بعد ذلك: «كيف حصلتَ على اسمي؟»


«أخشى أنني لا أستطيع أن أكون محدَّدًا للغاية بشأنِ أسبابِ رغبتي في التحدُّث معك، باستثناء القول إن السيد برويت قيدُ النظرِ في وظيفةٍ مرموقة، ومن المهم جدًّا أن نستوفيَ التحقيق الكامل عنه». حتى عندما قلتُ الكلمات، كنتُ أعلم أنها لم تكن مقنِعةً تمامًا.


«تحقيق كامل من أجل ماذا؟»


«انظري، أنا هنا في بوسطن، وعاملُ الوقت مهم للغاية. هل هناك أيُّ طريقة يمكن أن نلتقيَ بها بعد ظهر اليوم؟ إما في مكتبكِ أو ربما يمكننا أن نلتقيَ لتناول القهوة.»


قالت: «هل ذكَرني نيك مرجعًا؟»


«أعتقدُ أنه ذكركِ، لكنكِ لن تُقدَّمي مرجعًا رسميًّا. أيُّ شيء سوف تخبرينني به عنه سيكون سريًّا للغاية.»


ضحكَت قليلًا: «يدهشني كثيرًا إذا طُلب مني تقديمُ أي نوع من المرجعية. حسنًا، لقد أثرتَ اهتمامي.»


«سوف تُسدينني معروفًا كبيرًا إذا التقينا.»


قالت: «حسنًا. يمكنني مقابلتك بعد ظهر اليوم إذا كنتَ لا تُمانع في القدومِ إليَّ.»


قلتُ: «على الإطلاق.»


«هناك مقهًى في داون تاون كروسينج. مقهى لادر. هل تعرفه؟»


«كلَّا، لكنني سأجده.»


«لديَّ دوامُ عمل حتى الثالثة. هل تناسبك الثالثة والنصف؟»


الفصل التاسع عشر


تقع المنطقة المعروفة باسم «داون تاون كروسينج» في بوسطن على الجانب الآخر من بوسطن كومون. وقد اعتادت المتاجر الكبيرة أن ترتكز عليه، ولا سيَّما فيلين وميسي، على الرغم من أنَّ كلا المبنيَين فارغٌ حاليًّا. وما تبقَّى هو مزيجٌ من متاجر الأحذية الرياضية وبائعي الهوت دوج، بالإضافة إلى القليل من الحانات والمطاعم على أملِ أن تتمكَّن المدينة بنجاح من إعادة تسمية المنطقة باسم منطقة لادر، وهو شيءٌ كانوا يحاولون القيامَ به منذ بضع سنوات الآن.


من الواضح أنَّ مقهى «لادر» كان قد وافقَ على تغييرِ العلامة التجارية. يقع «لادر» بين متجرٍ للأقمشة وحانة رياضية، وهو عبارة عن غرفةٍ ضيقة ذات سقف مرتفع، بها نُدُل يضعون وشومًا على أجسامهم، وتحتوي جدرانُها على رسومٍ تبسيطية. وصلتُ إلى هناك مبكرًا، واشتريتُ كوبًا كبيرًا من القهوة بالحليب، وجلستُ في مكانٍ يحظى بإطلالةٍ على الأبواب الأمامية. كنت أظن أن جيليان نجوين، عندما تصل، سيكون لديها العديدُ من الأسئلة حول سبب سؤالي إياها عن صديقها السابق. قرَّرتُ أنني سأخبرها بأقلِّ قدرٍ ممكن، باستثناء أنه من المفترض أن يكون مُحرِّرًا لمختارات مُقبِلة من ناشر كبير، وأنه كانت هناك بعض الأسئلة حول حياته الشخصية. وإذا ضغطَت عليَّ، فسأخبرها أنني كنت أعمل لدى شركةِ تحرياتٍ خاصة تُجري تحقيقًا للخلفية. وكنت آمُل ألا تطلب مني بطاقتي.


في تمام الساعة الثالثة والنصف عبَرت امرأةٌ البابَ فأدركتُ أنها جيليان. كانت ضئيلةَ الجسم، مُتدثِّرةً بسترةٍ منتفخة بها غطاءُ رأس. لا بد أنها لاحظتني وأنا أنظر إليها؛ لأنها اتجهَت نحوي على الفور، وقدَّمتُ نفسي.


قالت: «لديَّ نحو عشرين دقيقةً فقط»، وتساءلتُ إن كانت قد أصبحَت أكثر حذرًا منذ مكالمتنا الهاتفية.


عرَضتُ عليها أن أشتريَ لها فنجانًا من القهوة، ولكنها طلبت شاي أعشاب. وقفتُ في الطابور مرةً أخرى وأحضرتُ لها شاي الأعشاب. كان من المستحيل بالنسبة إليَّ ألا أفكِّر في كلير، التي اعتادت دائمًا الحصول على شاي الأعشاب في المقاهي، وكيف كان دفعُ ثلاثة دولاراتٍ أو أكثر مقابل كيس شاي وبعض الماء الساخن يدفعني عادةً إلى الجنون.


عندما عُدتُ إلى الطاولة، قلتُ: «شكرًا جزيلًا مجدَّدًا على مقابلتي. أعلم أن هذا يبدو غريبًا للغاية، لكن طُلب مني إجراء تحقيق أو فحص للخلفية، ويجب أن يحدث ذلك بسرعة كبيرة؛ لأن الناشرين يريدون اتخاذَ قرار على الفور».


اشْرأبَّ عنقُها عند ذكرِ كلمة ناشرين، وكنت أعلم بردِّ فعلها هذا. قالت: «أوه. ما الذي …»


«في الواقع، لا يمكنني أن أخبرك باسم دار النشر، لكنه كان مرشَّحًا للعمل محرِّرًا لمختاراتٍ كبيرة، وعلى ما يبدو، أعرب شخصٌ ما في مكانٍ ما عن قلقه حيال حياته الشخصية، وعن أن ذلك قد يُعرقل اضطلاعه بهذا العمل».


كانت جيليان على وشْك تناوُل رشفةٍ من الشاي الخاص بها، لكنها أعادت وضْع الكوب على الصحن. «قلتَ إن هذه المحادثة ستكون سرِّية تمامًا.»


قلتُ: «أوه، بالتأكيد. مائةً بالمائة. فأنا لن أقدِّم تقريرًا مكتوبًا أبدًا.»


«لم أرَ أو أتحدَّث إلى نيك منذ أكثرَ من ثلاث سنوات، ليس منذ أن تركتُ نيو إسيكس. من الواضح أنك تعلم بالفعل أنني قدَّمتُ ضده طلبًا بعدم التعرُّض، وإلا فلماذا تتحدَّث معي، أليس كذلك؟»


قلتُ: «صحيح.» ثم أضفتُ: «كم من الوقت استمرَّت علاقتكما؟»


نظرَت نحو السقف. «أقل من عام. أعني، كنا على علاقة فعليًّا أقلَّ من عام. كنتُ أعرفه منذ عامٍ قبل أن نبدأ في المواعدة، وبعد أن انفصلتُ عنه أخيرًا، كنت ما زلت في نيو إسيكس مدة ستة أشهر أخرى أو نحو ذلك.»


«وهل يمكنكِ إخباري ما الذي دفعكِ إلى تقديم طلبٍ بعدم التعرُّض؟»


تنهَّدَت. «لم يؤذِني قط أو يهدِّدني بالعنف الجسدي، ولكن بعد الانفصال، كان يتصل بي طوال الوقت، ويظهر أينما كنت، وفي مرة — كانت مرةً واحدة فقط، ولكن هذا هو سبب استصداري أمرًا بعدم التعرُّض — كان قد ثمِل كثيرًا واقتحم منزلي.»


قلتُ: «يا إلهي.»


«الفكرة هي … أعتقد أنه في الواقع رجلٌ محترم، لكنه كان ثملًا. هل تعرف … أمَا زال يشرب الكحول؟ آخر مرة تحدَّثتُ فيها معه، أخبرني أنه لم يشرب الكحول منذ أكثرَ من شهر.»


«سأتيقَّنُ من ذلك. إذن لم يكن عنيفًا معك البتَّة؟»


«لا. قطعًا لا. كان لحوحًا فحسب، في واقع الأمر. لقد اعتبرني حُبَّ حياته.»


قلتُ: «لقد أهدى كتابه إليكِ.»


قالت: «يا إلهي.» وغطَّت وجهها كما لو أنها تشعر بالإحراج. «أعرفُ. وكان ذلك بعد أن انفصلنا. انظر، لا أريد أن أكون حائلًا أمام حصول نيك على وظيفةٍ ربما يحتاج إليها. كانت لي تجرِبةٌ سيئة معه، ولكن إذا توقَّف عن الشرب، فربما سيكون عندئذٍ مناسبًا جدًّا لها. إنه شخصٌ واسع المعرفة والاطلاع.»


«إذن، من خلال معرفتك به، ألا تعتقدين أنه يستطيع ارتكابَ أيِّ نوع من أنواع العنف؟ ألم تشعري قط أنه سيسعى إلى الانتقام بعد الانفصال؟»


بدَت مرتبكةً قليلًا جراء السؤال، وتساءلتُ عمَّا إذا كنتُ قد تماديت. همَّت بالكلام، وتوقَّفَت، ثم قالت: «لم أرَ قط جانبًا عنيفًا منه، لكنه … كان مهتمًّا جدًّا بالعنف من وجهة نظرٍ أدبية. لقد كان منجذبًا إلى قصص الانتقام. لكن ذلك … كان مجردَ اهتمام مِهني، على حدِّ علمي. إنه أستاذ لغة إنجليزية نموذجي حقًّا. مثقفٌ ومُحبٌّ للكتب.»


أردتُ أن أسألها عمَّا إذا كانت تعرف أيَّ شيء عما حدث لشقيقته، أو بعد ذلك، زوج أخته السابق، نورمان تشيني. لكنني شعرتُ أنني في مأزق. كانت جيليان نجوين تدرسني بطريقةِ شخصٍ يدرُس بها شخصًا آخرَ قد يتعيَّن عليه وصفه في وقتٍ لاحق. قلتُ: «أعلم أن هذه الأسئلة تبدو غريبة. على ما يبدو، وليكن هذا بيني وبينك فقط، تقدَّم شخصٌ ما إلى دار النشر واتهم نيكولاس برويت بارتكاب عمل عنيف.»


قالت: «أوه»، وأخذَت رشفةً من الشاي.


«لم يرَ الناشرون أنَّ الاتهام أو موجِّه الاتهام جديرٌ بالثقة، ولكن فقط للتأكد …»


قالت جيليان وهي تعتدل في كرسيها: «يا إلهي! أنت تعتقد أنني ذلك الشخص.»


قلتُ: «أوه، لا، لا، على الإطلاق. لدينا اسمُ موجِّه الاتهام. نحن نبحث فقط عن أي نوع من الأدلة المساندة.»


قالت وهي تضع كوبها جانبًا: «حسنًا، انظر، عليَّ الذهاب. كما أنني ليس لديَّ أيُّ شيءٍ آخر لأُضيفه.»


نهضَت، وفعلتُ مثلها. «شكرًا لك، لقد كنتِ خيرَ عون لي». كان من الواضح أنني فقدتُ ثقتَها، لكنني قررتُ أن أجرِّب حظي. «فقط شيءٌ أخير. هل كان نيك برويت يمتلك سلاحًا، على حدِّ علمكِ؟»


هزَّت رأسها وهي ترتدي سترتها الضخمة التي انزلقَت داخلها انزلاقًا. ثم قالت: «أعني، كلَّا. باستثناء البنادق الأثرية، لكني لا أعتقد أنها تعمل.»


«البنادق الأثرية؟»


«إنه يجمع البنادق. ليس لإطلاق النار، ولكن فقط المسدسات القديمة. أيُّ شيءٍ ظهر في فيلم قديم من أفلام الجريمة. إنها هوايته.»


•••


وضعَت النادلة الجِعة أمامنا؛ «ستيلا» من أجل مارتي، و«بلهافن» من أجلي. كنا في مقصورة خلفية في حانة جاك كرو، التي بدت مثل غرفته الصغيرة التي يقيم فيها، حيث ذكَّرني ذلك بالمقاعد في الكنيسة الجنوبية القديمة. وارتشف كلانا الجِعة.


قلتُ: «من الجيد رؤيتُك يا مارتي». كنت أراه إلى حدٍّ ما مؤخرًا، لكنه بدا لي أكبرَ سنًّا. كانت قصَّة شعره الأبيضِ أكثرَ هشاشةً من أي وقتٍ مضى، وكان الجِلد أسفلها مُنقَّطًا بالبُقع الداكنة. وكانت أصابع يديه ذات المفصل الكبير مثنيَّةً بطريقةٍ تُوحي بالتهاب المفاصل.


قال، وهو يتكئ خارج مقصورتنا لإلقاء نظرةٍ على الحانة المزدحمة: «لقد نسيتُ أمرَ هذا المكان. آخر مرة جئنا إلى هنا تناولنا ناتشوز عليه ملفوف بروكسل.»


قلتُ: «حقًّا؟ أنا لا أتذكَّر ذلك.»


«لن أنسى ذلك أبدًا. مَن الذي يضع ملفوفَ بروكسل على الناتشوز؟»


قلتُ: «الآن أتذكَّر. دعنا نلتزم بالجِعة الليلة.» وقرعنا كأسينا معًا.


قلتُ: «هل من جديد؟» كنت مترددًا في نفسي إن كان ينبغي أن أخبره أنني جمعتُ معلوماتٍ عن نيك برويت بطريقتي، ولا سيَّما ما سمِعتُه عن مجموعة الأسلحة، لكنني لم أقرِّر بعد.


قال مارتي: «يوجد القليل. لا أدري إن كان سيساعدك أم لا، ولكن نيك برويت ليس قديسًا.»


«لا؟»


«لقد اعتُقل مرتين؛ مرةً بسبب القيادة تحت تأثير الشراب، ومرةً بسبب السُّكر وإثارة الشَّغب والفوضى، وإليك هذه؛ كان ذلك بعد طقسٍ ديني عشيةَ عيد الميلاد. أُلقيَ القبضُ عليه وهو يحاول سرقةَ صندوق من تلك الشموع البيضاء الصغيرة التي يوزِّعونها. كما صدر في حقه أمران بعدم التعرُّض، انتظر.» مدَّ يده إلى جيب سترته الصوف، وأخرج دفترَ ملاحظاتٍ صغيرًا ذا سلك حلزوني بالإضافة إلى نظَّارةٍ للقراءة. «الأول كان من قِبل جودي بلاك بيري. كان هذا في ميتشجان، عندما كان طالبَ دراساتٍ عليا. قالت إنها ضبطَته وهو ينظر من نافذة منزلها ويتعقَّبها في أنحاء الحرم الجامعي. والآخر صدر في وقتٍ أقربَ من ذلك. منذ ثلاث سنوات فقط، قدَّمته جيليان ن-ج-و-ي-ن. لا أريدُ أن أثير سخطَها بمحاولة نطقها. وكانت من الرتبة نفسِها. صديقة سابقة لها تدَّعي أنه لم يدَعْها وشأنها. لقد اقتحم منزلها.»


«إذن، لا يوجد شيءٌ عنيف في سجلِّه؟ لا شيء يتعلق بالسلاح؟»


«لا. لكن هذا يكفي، أليس كذلك؟ إذا كان نيك برويت هو مَن أراد موت تشيني، فإنه سيطلب من شخصٍ آخرَ القيام بذلك. إنه ليس قاتلًا حقًّا رغم أنه من الواضح كونُه مختلسًا للنظر ورجلًا لا يستطيع تحمُّل تأثير الخمور. علاوةً على ذلك، لقد نظرتُ في حُجَّة غيابه وهي حجة دامغة.»


«حُجَّة غيابه عندما قُتل نورمان تشيني؟»


«أجل.» نظر مارتي إلى دفتر ملاحظاته مرةً أخرى. «كان ذلك في شهر مارس من عام ٢٠١١. كان نيك برويت في ولاية كاليفورنيا في لقاءٍ عائلي. تُحقِّق من ذلك. ولكن كما قلت، لا أعتقد أنه من النوع الذي سيضرب صهره حتى الموت، لكنه قد يكون من النوع الذي يجعل شخصًا ما يفعل ذلك من أجله. أو ربما طلب من شخصٍ ما أن يؤدِّب نورمان تشيني فحسب، لكنَّ الأمر تجاوز الحدَّ. في كلتا الحالتين، فقد أفلتَ من العقاب. تخميني هو، إذا كنت تريد حقًّا أن تعرف، فمن الممكن أن تحاول استخراجَ المعلومات منه، وتحمله على تقديمِ نوعٍ من الاعتراف. أعرفُ نوعه، وإذا ضغطتَ عليه قليلًا، فأعتقد أنه سيستسلم. لا أُملي ذلك عليك، ولكني أخبرك رأيي فحسب.»


قلتُ: «فهمت. كلَّا، كلُّ ما أحتاج إليه هو المعلومات. ولقد قدمتَ إليَّ معلوماتٍ مفيدة يا مارتي، شكرًا لك.»


«بل شكرًا لك أنت. في الواقع، شعرت بأنني ذو فائدة هذا الأسبوع. للمرة الأولى فيما يبدو وكأنه منذ الأزل. أمَا زال مكتب التحقيقات الفيدرالي يستجوبك بشأنِ جريمة قتل تشيني هذه؟»


تناولتُ رشفةً طويلة من الجِعَة الخاصة بي، متسائلًا مرةً أخرى، عن مقدارِ ما سأقوله لمارتي. قلتُ: «لا، لم يفعلوا. يبدو أن الأمر كلَّه يتعلق بقائمةٍ أنشأتُها على مدوَّنة «أُولد ديفيلز» منذ نحو مائة عام.»


«أوه، حقًّا؟»


«نعم. هل سبق لك أن ذهبتَ إلى مدوَّنتنا؟»


قال مارتي: «لا أعرف حتى ماذا تقصد بالمدوَّنة.»


«لم أعُد أفعل ذلك، ولكن عندما بدأتُ العمل في «أُولد ديفيلز»، كانت تلك المدوَّنة مكانًا على الإنترنت حيث كتبتُ مقالاتٍ صغيرة. وتقييمات الكتب الجديدة. وقوائم بالمؤلِّفين المفضَّلين لديَّ. أشياء من هذا القبيل. كتبتُ مرةً عن جرائم القتل الثماني المفضَّلة لديَّ في الكتب، ورأى شخصٌ ما في مكتب التحقيقات الفيدرالي وجودَ رابط بين قائمتي واثنين من جرائم القتل التي ارتُكِبَت مؤخرًا ولم يتوصلوا إلى حلٍّ لها. كانت روابطَ واهيةً إلى حدٍّ ما؛ ولذا لا أعتقد أنهم سيتابعون ذلك.»


قال باهتمام واضح: «عمَّ سألوك أيضًا؟»


«وفاة شخص في ولاية كونيتيكت، حيث عُثر على شخصٍ بالقرب من قضبان قطار ركَّاب. وسألوني عن مذيعة الأخبار تلك، روبن …»


قال مقاطعًا: «روبن كالاهان، بالتأكيد. إنَّ زوجها هو مَن فعل ذلك. لا أصدقُ أنهم لم يعتقلوه بعد».


قلتُ: «هل تعرف ذلك؟»


«لا، لا علم لي، ولكن، حسنًا، كانت هي مَن ألَّفَت الكتاب الذي يتحدَّث عن فائدة الزنى للزواج. أعتقدُ أنني أميلُ إلى القول بأنه يتعيَّن عليهم إلقاء نظرة فاحصة على الزوج.»


ضحكتُ. «نعم، إذن، أعتقد أنني بالغتُ في رد فعلي.»


«لا أعرفُ إن كنتَ قد بالغت في ردِّ فِعلك. يبدو أنهم هم مَن بالغوا في رد فعلهم. هل سألوك عن كلِّ هذه القضايا؟»


بإمكاني القول إنه أصبح مهتمًّا أكثرَ فأكثر، ولم أكن أرغبُ في توريطه. لقد ذكَّرني بالكلب الذي يحمل عظمة، وإذا أخبرتُه بكل شيءٍ عن جرائم القتل المحاكية لقائمتي، فسيبدأ في النظر في الأمر. فضلًا عن أنني قد أعطيتُه بالفعل اسمَ نورمان تشيني.


«سألوني فقط عمَّا إذا كان لي أيُّ علاقة بهم؛ بنورمان تشيني، أو هذا الرجل الموجود في ولاية كونيتيكت، أو روبن كالاهان. ونفيتُ ذلك. سألتُك عن نورمان تشيني لأنه بدا — ولسببٍ ما — أنهم مهتمُّون به أكثرَ. بصراحة، لم يكن أمرًا مهمًّا رغم ذلك. على الأقل أتمنَّى ألا يكون مهمًّا. أمَا زالت ابنتك قادمةً للزيارة؟»


سأل متجاهلًا سؤالي عن سيندي: «ما الكتبُ التي ذكرتها في تلك القائمة؟»


أخبرتُه، متظاهرًا بأنني أجد صعوبةً في تذكُّرها. لكنني لم أذكر «غريبان على متن قطار»، رغم ذلك. دوَّن مارتي، الذي كان يبحث دائمًا عن ترشيحاتٍ بشأن الكتب، بعضَ العناوين في دفتر ملاحظاته الصغير.


قال: «جرائم الأبجدية. أحبُّ وقْع الاسم. في هذه الأيام أعتقد أنني أحبُّ أن أقرأ لأجاثا كريستي أكثرَ مما أحبُّ أن أقرأ لجيمس إلروي. لا أعرفُ لماذا، لكن ربما أصبحت مرهفَ الحسِّ.»


«هل كنتَ تقرأ لأجاثا كريستي؟»


«نعم، كما قلت لي، هل تذكُر؟ لقد قرأتُ للتو «عشرة هنود صغار».»


قلتُ بشيءٍ من التلقائية: «ثم لم يبقَ أحدٌ»، كان هذا هو العنوان الأقل إزعاجًا الذي بِيعَ الكتاب تحته الآن.


«صحيح، هذا هو. إنها جريمةٌ كاملة حقًّا. من المؤسف ألا يحاول المزيدُ من القتلة محاكاةَ هذا الكتاب.»


قلتُ: «أن يقتل المرءُ نفسه بعد ارتكاب جرائم القتل، أهذا ما تقصده؟». لم أتذكَّر أنني قلت له أن يقرأ لأجاثا كريستي، لكنني متأكِّد من أنني فعلت ذلك. لقد بدا الأمر من شيَمي.


طلبنا جِعةً أخرى وتحدَّثنا عن الكتب وتحدَّثنا قليلًا عن عائلته. سألني عما إذا كنتُ أرغب في البقاء لتناول جِعة ثالثة، لكنني قررتُ الانسحاب. كما هو الحال دائمًا مع مارتي، أحببتُ قضاء الوقت معه، ولكن بعد وقت لا تتبقَّى لدينا أشياءُ لنقولها، وكنت أشعر بالحزن والوحدة. لطالما شعرتُ أن الوجود مع الناس — على العكس من أن تكون وحيدًا — يمكن أن يجعلك تشعر بالوحدة على نحوٍ أقوى.


سألني وأنا أرتدي سترتي: «هل ستفعل أيَّ شيءٍ بشأن نيك برويت؟»


قلتُ: «كلَّا. ليس إلا إذا قرَّر مكتب التحقيقات الفيدرالي التحدُّث معي مرةً أخرى. إذا فعلوا ذلك، أعتقد أن بإمكاني أن أذكره، وأخبرهم إنني أطلعتُ شرطيًّا سابقًا على جريمة قتل نورمان تشيني وكيف بدا برويت مشتبهًا به.»


قال مارتي: «لا تذكر اسمي. إذا كنتَ لا تُمانع.»


«كلَّا، بالطبع لا. في الواقع، لن أذكره على الإطلاق. أعتقد أنه قد تملَّكَني الفضول فحسب، كان هذا كلَّ شيء. لقد شعرتُ بالحيرة لأنهم أقاموا بعض الصلة بيني وبين هذه الجرائم.»


قال مارتي: «ظننتُك ستخبرني أن الأمر يتعلق بنيرو»، ثم أنهى جِعته.


قلتُ: «هاه؟».


«أوه. اعتقدتُ أنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي أتى يُمطرك بالأسئلة حول نورمان تشيني بسبب قطِّك نيرو. في المتجر.»


قلتُ، محاولًا أن أبدوَ هادئًا نسبيًّا: «لماذا؟»


«كنت أقرأ تقاريرَ الشرطة وكان نورمان تشيني يمتلك قطًّا، قطًّا برتقاليَّ اللون مثل نيرو، فُقد بعد جريمة القتل. قرأتُ ذلك … ثم اعتقدت أن هذا قد يكون هو الرابط.»


قلتُ: «هذا مضحك.»


«إنه مشهورٌ قليلًا، هذا النيرو، هل تعلم ذلك؟»


«أعلمُ أنه كذلك. نصفُ الناس الذين يأتون إلى متجرنا يأتون لرؤيته. أخبرَتني إيميلي أنَّ لديه صفحته الخاصة على «الإنستجرام»، على الرغم من أنني لم أرَها من قبل. لا، لم يتطرَّقوا إلى قطي بالسؤال. وهو ليس من ولاية فيرمونت، على أي حال». ضحكتُ، ورأيتُ في ذهني أنَّ الأمر بدا مزيَّفًا ومصطنَعًا.


قال مارتي: «قد أبقى هنا مدةً أخرى.»


شكرتُه مرةً أخرى وخرجتُ في أجواء الليل. كانت درجة الحرارة قد انخفضَت خلال الوقت الذي قضيتُه مع مارتي، وسرتُ إلى المنزل بحذر، متجنِّبًا رُقع الجليد الأسود على الأرصفة الضيقة. عندما وصلتُ إلى شارعي، لم أرَها على الفور، بينما هي منتظرةٌ في ظل شجرة الزيزفون الميتة أمام منزلي، لكنني شعرتُ بها. كان هذا هو الشعور الذي اعتراني مؤخرًا، ذلك الشعور بأنني كنتُ مراقَبًا.


عند الدرَج الخاص بي، خرجَت من الظلال وقالت: «مرحبًا مال.»


الفصل العشرون


قلتُ: «مرحبًا، جوين.»


«لا تبدو متفاجئًا برؤيتي.»


«لا أعتقد ذلك. لقد تحدَّثتُ مع عميلَين آخرين من مكتب التحقيقات الفيدرالي اليوم، وأخبروني أنك أُوقفت عن العمل.»


قالت وهي تتقدَّم إلى الأمام حتى أصبحَت الآن في ضوء الشارع: «إلى مَن تحدَّثت؟». كان بخار أنفاسها يتصاعد في الليل البارد، لكنني لم أكن متأكِّدًا من رغبتي في دعوتها إلى الداخل.


«عميل من نيو هافن …»


«بيري، أليس كذلك؟»


قلتُ: «انظري، إنني فقط لست متأكِّدًا من أنه ينبغي لي أن أتحدَّث معك حقًّا.»


«لا عليك، إنني أتفهَّم تمامًا. لا أريدُ منك شيئًا، لكنني كنت أتمنَّى أن نتحدَّث على الأقل، مدةً وجيزة فقط، وأشرح ما حدث. كنتُ سأتصل بك، لكني لم أستطِع فِعل ذلك. هل يمكنني الصعود؟ أو هل يمكننا تناول مشروبٍ في مكانٍ ما؟ في أي مكان باستثناء حيث نقف الآن.»


سلكنا الشارعَ الذي أقطن فيه سيرًا على الأقدام حتى وصلنا إلى «تشارلز» وجلسنا في مقصورةٍ في مقهى سيفنز، حيث طلب كلٌّ منا جِعة نيوكاسل براون آلي. خلعَت جوين مِعطفها، لكنها احتفظَت بوشاح سميك من الصوف ملفوفٍ حول رقبتها. كانت وجنتاها وطرَفُ أنفها لا يزالان تشوبهما الحُمرة بسبب وقوفهما بالخارج.


قالت: «ماذا تريد أن تعرف؟»


«هل أُوقفتِ عن العمل؟»


«نعم، ما زلتُ قيد النظر.»


«ما السبب؟»


أخذَت رشفةً من قنينة الجِعة الخاصة بها، ثم لعِقَت الرغوةَ من شفتِها العليا. «عندما قدَّمتُ ما عرَفتُه لرؤسائي … حسنًا، ليس ما عرَفتُه بالضبط، ولكن ما شككتُ به، بأنه ثمة رابط بين العديد من الجرائم التي لم تُحلَّ في منطقة نيو إنجلاند، طُلب مني عدمُ متابعة القضية. لقد أخطأتُ حين أخبرتُهم بما قادني إليك في البداية. الأمر هو … كنت أعرف مَن أنت بالفعل. لقد سمعتُ اسمك، على أي حال؛ لأنني عرَفتُ زوجتك ذات مرة. كنتُ أعرف كلير.»


كانت عيناها تنظران إليَّ ولكنهما لا تُطالعانني، ثم استقرَّتا في مكانٍ ما حول ذقني. قلتُ: «كيف عرَفتِ كلير؟».


«كنت أعرفها لأن والدي كان أحدَ مُعلميها في المدرسة الإعدادية. ستيف كليفتون.»


كنتُ بحاجةٍ إلى اتخاذِ قرار. كنت بحاجةٍ إلى أن أقرِّر ما إذا كنت سأتظاهر بالغباء، أو إذا كنت سأخبرها بالحقيقة، معظمها، على أي حال. أعتقدُ أن النظرة التي بدت على وجهها هي ما جعلني أقرِّر أنني بحاجةٍ إلى أن أكون صادقًا. لقد بدَت مذعُورة، وأدركتُ أنها إذا اتخذَت قرارًا بأن تكون صادقة معي، فيجب عليَّ أن أردَّ الجميل.


«أجل، أعرفُ كلَّ شيءٍ عنه.»


«ما الذي تعرفه؟»


«أعرفُ أنه تحرَّش بكلير على مدار عامَين عندما كانت في المدرسة الإعدادية. لقد أفسدَ حياتها».


«هل أخبرَتكَ عن ذلك؟»


«نعم.»


«ماذا قالت لك بخصوص هذا؟ إذا كنت لا تُمانع في سؤالي. إنني أتفهَّم شعورك إذا كنتَ …» ثم توقَّفَتْ عن الكلام، وأدركَتْ مدى صعوبة الأمر بالنسبة إليها.


قلتُ: «لأصدُقك القول، لم نتحدَّث كثيرًا عن التفاصيل. لقد طرَحَتِ الأمر في وقتٍ مبكر من علاقتنا، وقالت إنه من المهم بالنسبة إليَّ أن أعرف، لكنها دائمًا ما قلَّلَت من شأن ذلك. على الأقل أمامي.»


كانت جوين تُومئ برأسها. «ليس عليك أن تخبرني بالضبط ما قالته لك. أنا أفهم.»


قلتُ: «لماذا لا تحملين اسمه الأخير؟ لماذا لستِ جوين كليفتون؟»


«كنتُ بالطبع، لسنوات، ولكن تغيَّر اسمي بمقتضى القانون. مالفي هو اسم والدتي قبل الزواج.»


قلتُ: «هذا منطقي». ثم أضفتُ: «هل تعرفين كلير حقًّا؟»


«نعم، أتذكَّرها. كنت أصغرَ منها بنحو خمس سنوات، لكنها اعتادت القدومَ إلى المنزل — اعتاد العديد من طلاب والدي القدومَ إلى المنزل — وأتذكَّرها لأنها لعِبت معي البوجل عدة مرات. وبعد ذلك، في وقتٍ لاحق، عندما كنت في المدرسة الثانوية، اعترف لي والدي بما فعله، وكان اسمها أحدَ الأسماء التي أخبرني بها».


«هل أخبرك بما فعل؟»


زمَّت جوين شفتَيها وأخذت تزفر. «في هذه المرحلة، كانت كلير قد تخرَّجَت بالفعل، لكنَّ طالبةً أخرى، أو طالبتَين ربما، تقدَّمتا واتهمتاه بلمسهما على نحوٍ غير لائق. وعرَف الجميع بالأمر. كنا نقطن في البلدة نفسِها التي يُدرِّس فيها. كانت واحدة من تلك المواقف المحرجة بالفعل حيث كان مدرسًا في المدرسة الإعدادية نفسِها التي التحقتُ بها، مع أنه لم يدرِّس لي قط. لقد استقال — أُجبر على الاستقالة — ولا بد أنه كان هناك نوعٌ من التسوية القانونية لأنه لم يمثُل أمام القضاء قط. وإلا فلم يكن هناك دليلٌ كافٍ. ذات ليلة، جاء إلى غرفتي …» توقَّفَت عن الكلام وضغطَت بإصبعها السبابة على عينها اليسرى للحظة.


قلتُ: «ليس عليك أن تخبريني بكل هذا.»


«جاء إلى غرفتي وأخبرني بأسماء الفتيات اللاتي تحرَّش بهن، بما في ذلك اسم كلير، وقال إنه فعل ذلك لحمايتي. وأنه لم يرغب قط في فعل أيِّ شيءٍ بي، ومن ثمَّ فعل ذلك مع فتياتٍ أخريات.» هزَّت كتفيها وزمَّت شفتيها معًا فيما بدا وكأنه نصف ابتسامة.


قلتُ: «يا إلهي!»


قالت: «أجل. ولذا، لم أنسَ اسمَ كلير مطلقًا، وتذكَّرتُ فيما بعدُ أنني سمعتُ كيف ماتت، وبحثتُ عن نعيها ووجدتُ اسمك. وهكذا عرَفتُ عنك أيضًا.»


«ماذا عنكِ وعن والدك؟»


«تلك المرة حين جاء وتحدَّث معي كانت آخر مرة تحدَّثنا فيها. غادر المنزل بعد ذلك، وانفصل هو وأمي ولم أرَه مرة أخرى البتة. لقد قُتل، كما تعلم.»


«هل قُتل؟»


«لم يثبت ذلك رسميًّا، لا. لكن، نعم، أعتقد أنه كذلك.»


«كيف؟»


قالت: «ألا تعلم؟»


كنتُ أشرب من قنينة الجِعة الخاصة بي رغم أنها كانت فارغة. «هل تعتقدين أنني قتلتُه؟»


هزَّت كتفيها مرةً أخرى ومنحتني تلك الابتسامة الغريبة. اكتسَت وجنتاها وأنفها بالشحوب وغاب عنهما اللون، وكالعادة وجدتُ صعوبةً في قراءة وجهها، وشحوبه، ورتابة عينيها. «لا أعرف حقًّا يا مال، لكن في هذه المرحلة لا أعرفُ ماذا أصدق. هل تريد حقًّا أن تسمع ما أعتقده؟»


«بالطبع.»


«حسنًا. لقد قُتل إريك أتويل، وأنا أعلم أنك لم تكن في الولاية، لكن هذا لا يعني أنه لم يكن بإمكانك ترتيبُ ذلك. لقد دهسَت سيارةٌ والدي عندما كان على دراجته. كانت حادثة اصطدام وهروب، لكنني افترضتُ دائمًا أن شخصًا ما قد قتله بسببِ ما فعله. ومن المفترض أن يبدوَ ذلك منطقيًّا. ستكون عمليتا القتل هاتان منطقيتَين، ستكونان مبرَّرتَين، خصوصًا بالنسبة إلى زوج كلير مالوري.»


قلتُ: «سأعترفُ بأنني لا أشعر بالأسى تجاه أيٍّ منهما»، وحاولتُ رسمَ ابتسامةٍ على وجهي، وكنتُ متأكِّدًا أنها بدت في غرابة ابتسامتها.


«ولكن هذا كلُّ ما ستعترف به؟»


«ما علاقة إريك أتويل أو والدك بقائمتي، وجرائم القتل الأخرى؟»


«لا أعرف. ربما لا شيء. بعد مقتل والدي، فكَّرتُ فيك مرةً أخرى. وكنت قد سمعت أيضًا عن وفاةِ إريك أتويل، واعتقدتُ أنه قد تكون لك علاقةٌ بذلك أيضًا. لم أكترث، مع أنني كنت أتدرَّب في ذلك الوقت لأكون عميلةً في مكتب التحقيقات الفيدرالي. كنت أعرف أن شخصًا ما قتل والدي، وكنتُ آمُل في الواقع أن يكون شخصًا لديه سببٌ لفعل ذلك، وليس شخصًا دهسه عن طريق الخطأ، ثم هرب. أردتُ أن يكون موته من أجل الثأر. وافترضتُ أنه كان كذلك. بصراحة، إنه شيءٌ يساعدني على النوم ليلًا. وارتأيتُ أنه من المحتمل أن تكون أنت. كانت هناك فتياتٌ أخريات وقعن ضحايا لوالدي، لكن كلير هي التي أتذكَّرها دائمًا، ربما لأنها كانت لطيفةً معي ولن أنسى ذلك أبدًا.


وبينما كنتُ أجمع المزيد من المعلومات عنك، اكتشفتُ أمرَ القائمة. لقد حفظتُها، على ما أعتقد، عن ظهر قلب سنواتٍ عديدة، وفكَّرتُ على الفور — فكَّرتُ في جرائم الأبجدية — بعد أن سمعتُ عن الريش الذي أُرسِل إلى مركز الشرطة.»


«هل اعتقدتِ أنني ارتكبتُ كلَّ تلك الجرائم؟»


تحرَّكَت إلى الأمام على مقعدها الخشبي. «كلَّا، كلَّا. لم أفعل. لا أعرفُ ما الذي اعتقدتُه حقًّا، باستثناء أن شيئًا ما كان يحدُث، شيئًا قد تكون له علاقة بوالدي، وبك. لقد استحوذ عليَّ هذا الأمر، حتى إنني اعتقدت أنَّ وفاة والدي ربما كانت مرتبطة ﺑ «التاريخ السري».»


قلتُ: «كيف؟»


«لأنه، بطريقةٍ ما اختار ملابساتِ وفاته.»


«لأنه كان يركب الدراجة كثيرًا؟»


«آها. كان يركب دراجةً طوال الوقت، خصوصًا بعد الطلاق، بعد أن انتقل إلى العيش في شمال ولاية نيويورك. لم أعلم ذلك عن تجربةٍ شخصية، لكني قرأتُ تقريرَ الشرطة عن وفاته. كان دائمًا يركب الدراجةَ بمفرده، وخصوصًا على التلال، على الطرق الهادئة. وقد صدمَته سيارةٌ تسير في الاتجاه الآخر. ولذا، نعم، فكَّرتُ في رواية «التاريخ السري». إذا أراد أحدُهم قتله، فإن دهسه أثناء ركوبه الدراجةَ سيصبح من أسهلِ ما يكون. سيبدو الأمر وكأنه حادث، حسنًا، حادث فرَّ منه شخصٌ ما، لكنه لن يبدوَ بالضرورة جريمةَ قتل.»


«هل أخبرتِ رئيسك بكل هذا؟»


«ليس في البداية. عندما طرحتُ الأمر عليه لأول مرة، أخبرتُه عن قائمتك، ومدى ارتباطها بجرائم قتل الطيور، وبيل مانسو في كونيتيكت، وكيف أردتُ متابعتَها، لكنه لم ينخدع بذلك. لقد أخطأتُ في الإشارة إلى أن هناك أيضًا صلةً بوفاة والدي، وكان ذلك حين قيل لي إنني مُنعت من مباشرة التحقيقات، وإنه سيُسلِّم الأمرَ إلى عملاء آخرين إذا رأوا ذلك مناسبًا. كنت في إجازةٍ الأسبوعَ الماضي عندما استجوبتُك، وعندما ذهبنا إلى روكلاند. اتصل شخصٌ من مكتب الطب الشرعي في مكتبي بدلًا من أن يُهاتفني مباشرةً، وبهذه الطريقة كُشف أمري، ومن ثمَّ أوقفوني عن العمل. إذا علموا أنني هنا الآن، فسأُطردُ بالتأكيد.»


«إذن لماذا أنتِ هنا؟»


قالت: «أظن …» ثم توقَّفَت. «أظن أنني شعرتُ بأني مَدينة لك بالحقيقة. وربما لأحذِّرك أيضًا. إنهم يعرفون كلَّ ما أعرفه. أنت مشتبَهٌ بك.»


«لا بد أنكِ تظنين أنني مشتبهٌ فيه أيضًا.»


«لم أعُد أعرف ماذا أظن بعد الآن. هل أظن أنك قتلتَ إيلين جونسون في مين، أو بيل مانسو، أو روبن كالاهان أو إيثان بيرد؟ لا أعتقد ذلك حقًّا. لكن هذا مجرد شعور. أعلم أنك لا تخبرني الحقيقةَ كاملة. إذا كان عليَّ أن أتوصَّل إلى نظرية، وأنا أعلم أنها ستبدو سخيفة، فإنني أعتقد أنك ربما أقنعتَ شخصًا بأن يفعل شيئًا بإريك أتويل، وربما حتى بوالدي، والآن هذا الشخص … أيًّا مَن كان …»


قلتُ: «تشارلي، أتذكرين؟»


«صحيح، تشارلي. انظر، أنا لم أنَم منذ أيام. أردتُ التحدُّث معك، وقد تحدَّثنا. لا شيءَ آخر يسَعني فِعله بشأن هذا التحقيق، ليس إذا كنتُ أرغب في الاحتفاظ بعملي. هلا تبقي هذا اللقاء سرًّا؟»


«بالطبع.»


تناولَت رشفةً من جِعتها التي كانت لا تزال ممتلئة حتى ثلاثة أرباعها. «وإذا كانت لك أيُّ علاقة بوفاة والدي …»


«لم أفعل.»


«ولكن إن كنت فعلت ذلك … فلتعلم أنه لا أحدَ على وجه الأرض قد حزن على مقتله.»


نهضَت فجأةً وقد اصطدمَت فخذاها بالطاولة التي كانت بيننا.


قلتُ: «هل أنتِ بخير؟»


«أنا بخير. إنني فقط منهَكة.»


«ماذا ستفعلين الآن؟»


«سأذهبُ إلى المنزل، وسأحاول أن أنسى كلَّ هذا.»


رافقتُها إلى سيارتها، متسائلًا عما إذا كان ينبغي لي أن أعرض عليها المبيت الليلةَ على أريكتي، لكنني قررتُ أنَّ هذه فكرةٌ سيئة لعدة أسباب. بالإضافة إلى أنني لا أعتقد أنها كانت ستُقبل. ولم أكن عن نفسي متأكِّدًا من أنني أريدها هناك. لم تكن صادقةً معي، ولم أكن مقتنعًا بأنها صادقة تمامًا الآن.


وقفنا في مهب الريح الصافرةِ لحظةً، عند سيارتها الإكوينوكس، الواقفة بالقرب من فندق «ذا فلات أوف ذا هيل». بدأت جوين ترتجف. قالت: «أمَا زلتَ تُعيد قراءة الكتب؟»


قلتُ: «كنت أقرأ «التاريخ السري».»


«فجأة، يكتسب هذا العُنوان أهميةً جديدة تمامًا.»


ضحكتُ. «إنه كذلك، على ما أعتقد.»


«أيُّ أفكار جديدة؟»


«من الكتب؟»


«من أي شيء.»


«هل يمكنني إخبارك بشيءٍ لن تُخبري أحدًا به إلا إذا كان عليك ذلك؟»


«لم يكن من المفترض حتى أن أكون هنا لأتحدَّث معك؛ ولذا، أجل، لا تقلق بشأن ذلك.»


قلتُ: «حسنًا. إنه مجرد اسمٍ ظهرَ فجأة. لن أقول كيف. ولكن إذا حدث لي أيُّ شيءٍ، فربما تُلقي نظرة على شخصٍ اسمه نيكولاس برويت.»


أعادت الاسم على مسمعي، وتهجَّيتُه لها.


«مَن يكون؟»


«أستاذ لغة إنجليزية. إنه على الأرجح لا شيء، لكن …»


قالت: «حسنًا. لنأمُل أن تكون على ما يُرام، وألا أضطرَّ إلى النظر في اسمه.»


ودَّع بعضُنا بعضًا، ولم يُبادر أيٌّ منا بالمصافحة أو العناق. ثم عُدتُ إلى شقتي سيرًا على الأقدام، وأنا أفكِّر في كل شيءٍ قلناه للتو معًا.


كنتُ في المنزل منذ عشرين دقيقة، مستيقظًا تمامًا، عندما فكَّرتُ في المغادرة مرةً أخرى، والقيادة إلى نيو إسيكس، ومواجهة نيك برويت في تلك الليلة. حصلتُ على عُنوانه عبْر الإنترنت عن طريق البحث في دليل «الصفحات البيضاء» الإلكتروني، ثم وجدتُ منزله في زيللو، وهو مكانٌ ينشر معاملاتٍ عقارية. كان يُقيم في مسكنٍ لأسرة واحدة في ضواحي نيو إسيكس، في حيٍّ بالقرب من الجامعة. يمكنني فقط الوقوفُ أمام بابه وطرقُه. إذا كان نيك هو تشارلي، وشعرتُ بما يؤكِّد أنه هو تقريبًا، فعندئذٍ سيعرفني بمجرد رؤيتي. ربما يمكنني التحدُّث معه فحسب، ومعرفةُ ما يريده، وأطلب منه التوقف. لكن إذا ذهبتُ إلى منزله في تلك الليلة، فمن يدري كيف كان سيتصرف. مَن يدري إن كنت سأجده بمفرده حتى.


قررتُ أن أقودَ إلى نيو إسيكس في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي، حيث أراقب منزله، أراقبه مدةً من الوقت. قد يفيدني ذلك.


الفصل الحادي و العشرون


في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي، وقبل أن أتوجَّه بسيارتي إلى نيو إسيكس، ذهبتُ إلى «أُولد ديفيلز». خرج نيرو من القبوِ عبْر البابِ المخصَّصِ له ليحيِّيني، وهو يسير بجُرأة، ورأسه مرفوع. حملتُه ورحت أُهدهِدُه بين ذراعيَّ، وحككتُ تحت ذقنه. لقد سألتُ نفسي من قبلُ إن كان الأمر يستحق إنقاذه، وأعتقد أنه كان كذلك. لا أعرفُ إن كانت هناك بالفعل طريقةٌ لتقييم سعادة الحيوان، لكنني أعتقد أنه يحب حياتَه في المتجر. أنزلتُه، والتقطتُ إحدى شعراته من معطفي الصوف. تُرى، هل جمعوا شَعره من منزل نورمان تشيني في تيكهيل أثناء التحقيق في حادث مقتله؟ هل كانوا سيعتبرون الأمر مهمًّا أم غير ذي صلة؟ لم أكن أعرف حقًّا.


تركتُ ملاحظة، مع قائمة بالأشياء التي يجب القيامُ بها لإيميلي وبراندون، ثم خرجتُ مجدَّدًا إلى أجواء الصباح البارد.


أصبحتُ في نيو إسيكس بعد أكثرَ من ساعة بقليل، كنت أتسكَّع على طول الرصيف المقابل للمكان الذي يعيش فيه نيك برويت، وهو منزلٌ صغير مربع ذو سقفٍ منحدر. كانت الساعة الثامنة صباحًا، وشعرتُ بأني لافتٌ للنظر. كان شارع كورنينج سكنيًّا بالكامل تقريبًا، وكان لجميع المنازل ممرَّاتُ سياراتٍ. وكانت سيارتي هي السيارةَ الوحيدةَ المتوقِّفة بمحاذاة الرصيف. كان هناك متجرٌ على الناصية بالخلف يبعُد نحو مائة ياردة. استدرتُ وتوقَّفتُ أمامه، وأطفأتُ محرِّك سيارتي. لا يزال لديَّ زاويةُ رؤية لمنزل برويت، وإذا تساءل أيُّ شخصٍ عن سبب جلوسي في سيارتي، يمكنني القول إنني كنتُ على وشْك الدخول إلى المتجر.


بدأ البخار يتكاثف داخل سيارتي، ومسحتُ رقعةً صغيرة في الجزء السفلي الأيمن من الزجاج الأمامي حتى أتمكَّن من مشاهدة المنزل بينما أجلس مرتخيًا في مقعدي. أخذتُ رشفاتٍ صغيرةً من قهوتي الموجودة في الترمس. كانت هناك سيارةٌ متوقِّفة في ممر سيارته — سيارة رياضية قد تكون من طراز بورش — لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه لا يزال في المنزل. كان يعمل في الجامعة، على بُعد بضع بناياتٍ فقط. إذا كان يُدرِّس صفًّا صباحيًّا، فبإمكانه السير بسهولة إلى هناك.


وبينما كنت منتظرًا، رحت أراجعُ قائمةَ الكتب في ذهني، رابطًا إياها بجرائم القتل. ما لم تكتشف جوين مالفي إحداها، فإنَّ تشارلي قد ارتكب جرائم قتلٍ موصوفة في أربعة من الكتب الثمانية في قائمتي، ربما خمسة. الأولى بالطبع كانت معي، إريك أتويل ونورمان تشيني. جرائم القتل بالوكالة من «غريبان على متن قطار». ثم أعاد تشارلي إنشاء الحبكة من رواية «جرائم الأبجدية»، مستبدلًا بأسماء الناسِ أسماءَ الطيور. أما بيل مانسو، فقد قُتل باستخدام فكرة «تعويض مزدوج». قُتلت إيلين جونسون بالطريقة نفسِها التي قُتلت بها زوجةُ الكاتب المسرحي في رواية «مصيدة الموت». وهل من الممكن أن يكون ستيفن كليفتون قد قُتل باستخدام طريقة القتل في رواية «التاريخ السري»؟ كيف عرَف تشارلي حتى بأمر كليفتون؟ لكن بالطبع قد عرَف. كان يعرف عني وعن زوجتي. كم كان من الصعب اكتشافُ أنَّ كلير مالوري قد ذهبَت إلى مدرسةٍ إعدادية حيث اتُّهم معلمٌ بسلوكٍ غير لائق مع طلابه. كان أمرًا غير وارد، لكنه لم يكن مستحيلًا. هكذا يتبقَّى ثلاثة كتب وثلاث جرائم قتل. «لغز المنزل الأحمر»، «سبق الإصرار»، و«المُغْرِق». على حدِّ علمي، واحدة أو أكثر من هؤلاء قد حدثَت بالفعل، لكنني شككتُ في ذلك بطريقةٍ ما.


في نحو الساعة الحادية عشرة خرجتُ من السيارة، وتمطَّيتُ، ثم دخلتُ متجرَ البقالة. كان واحدًا من تلك الأماكن التي تبيع الحليب ومواد البقالة الأساسية، ولكنه موجودٌ فقط بسبب تذاكر اليانصيب والسجائر. اشتريتُ جرانولا وزجاجةَ مياه مُغبرَّة من الرجل الموجود خلف دُرج النقود ودفعتُ نقدًا. وبينما كنت عائدًا باتجاه سيارتي، رأيتُ امرأةً شابة ترتدي الجينز وحذاءً برقبةٍ عالية تصل إلى الركبة تتجه نحو الباب الأمامي لمنزل برويت. ضغطت على جرس الباب عندما عدتُ إلى مقعد السائق. مرَّرتُ يدي عبْر زجاج السيارة الأمامي من الداخل لأراقب المرأةَ بينما تنتظر، وهي تهتز قليلًا على كعبيها. قرَعَت الجرس مرةً أخرى، ثم حاولت الطَّرْق، ثم نظرَت عبْر أحد الألواح الزجاجية المستطيلة التي تُبطِّن جانبَ الباب. في النهاية، استسلمَت ونظرَت إلى هاتفها، ثم استدارت عائدةً إلى الشارع.


نزلتُ من السيارة وبدأتُ أتبعها. اعتقدتُ أنها إذا كانت تبحث عن نيك برويت، فستجده في النهاية، وإذا تبعتُها، فسأجده أيضًا.


كانت تمشي بسرعة، مُوشِكةً على الركض من حينٍ لآخر؛ ولذا سرَّعتُ خُطاي. وفي نهاية شارع منزل برويت، استدارت يسارًا في طريق جلوسيستر، متسلِّقة تلًّا قصيرًا باتجاه جامعة نيو إسيكس، ودخلَت في النهاية مبنًى من طابقين من القِرميد على حافة الحرم الجامعي. كانت هناك لافتة فوق المظلة تشير إلى قاعةِ بروكتر. هُرِعتُ إلى الأبواب الزجاجية المزدوجة، واندفعتُ إلى مدخلٍ على طرازِ رَدهة، محاولًا الإمساكَ بخيال المرأة المتقهقرة، وكان وقعُ حذائها يُسمع على طول قاعة طويلة إلى اليسار. نظر إليَّ رجلٌ ملتحٍ خلفَ مكتب استعلاماتٍ، وابتسمتُ وأومأتُ إليه برأسي كما لو كنت قد رأيتُه مئات المرات، ثم تبعتُ المرأة في الرَّدهة المضاءة بالفلوريسنت. كانت تندفع عبْر الباب الثالث على اليسار. أخبرتني لافتةٌ صغيرة أنها كانت في الفصل «١ج»، ورحت أمعنُ النظرَ من خلال نافذة داخلية من الزجاج المقوَّى بالأسلاك. كلُّ ما استطعتُ رؤيته هو الصفُّ الخلفي المنحني لمقاعدَ من طراز مقاعد الاستاد، نحو اثني عشر طالبًا منتشرين على مكاتبهم. اندفعتُ من خلال الباب ودلفتُ إلى الداخل، متخذًا لنفسي مقعدًا في نهاية الصف الخلفي. كانت غرفة كبيرة منحدرة نحو الأمام. ربما كانت تتَّسع لنحو مائة طالب، وقد خمَّنتُ أن ٦٠ بالمائة من المقاعد قد شُغلت. كانت المرأة التي كنت أتبعها قد خلعت سترتها السوداء وقبَّعتها الصوفية وأصبحت تقف الآن في صدارة الغرفة وتبدو متوتِّرة.


قالت: «لسوء الحظ، لن يكون الأستاذ برويت قادرًا على حضور فصل اليوم. سأكون هنا بقيةَ الوقت في حالة وجود أي أسئلة لدى أيٍّ منكم، ولكن ما لم تسمعوا خلاف ذلك، فإن فصل صباح الجمعة هو نفسه كما هو مقرَّر، كما أن واجب القراءة كما هو لم يتغيَّر».


في منتصف إعلانها، بدأ جميعُ الطلاب يدخلون أجهزةَ الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم في حقائب ظهورهم، ويرتدون معاطفَهم مرةً أخرى. نهضتُ أيضًا وغادرتُ الغرفة سريعًا، سرتُ عائدًا إلى أسفل المدخل، ثم إلى الخارج، على أملِ أن أحدًا لم يلحظ وجودي. تجوَّلتُ في اتجاه مقعدٍ ذي إطلالة على المحيط الأطلسي، الذي تلوَّن بلونٍ رمادي غامق تحت سماءٍ بلون الرصاص. جلستُ لحظةً، منعطفًا بجسدي بزاوية بحيث أتمكَّن من رؤية واجهة قاعة بروكتور، كان الطلاب يتدفَّقون الآن إلى الخارج، ويتحركون بسرعةٍ خشيةَ ظهور أستاذهم فجأة وحرمانهم من إجازة الصباح.


كان ما حدث واضحًا. لم يحضُر برويت إلى فصله، ولم يردَّ على الرسائل النصية أو المكالمات على هاتفه الخلوي. توجَّهَت مساعِدتُه إلى منزله القريب لمعرفةِ إن كان في المنزل أم لا. تملَّكني شعورٌ سيئ لكنني أخمدتُه. كان برويت سِكيرًا من نوعٍ ما، على الأقل هذا ما أبلغتُ به جيليان نجوين. ربما كان يُعاني آثارَ السُّكْر. ربما يحدث هذا النوع من الأمور طوال الوقت، وتتمكَّن أحيانًا مساعِدتُه من إيقاظه من خلال الطَّرق على بابه.


أبقيتُ عيني على بروكتور هول، وقد تملَّكَني الفضول لمعرفةِ ما الذي ستفعله مساعِدته عندما غادرت المبنى، وتساءلتُ في نفسي عمَّا إذا كانت ستعود إلى منزل برويت. ثم تذكَّرتُها وهي تقول إنها ستلزم قاعةَ الدرس طَوال مدة الصف المُلغى. نهضتُ وبدأتُ أسير أسفلَ التل باتجاه شارع منزل برويت. كان جسدي يخبرني بأن أعود إلى سيارتي وأن أقود عائدًا إلى المنزل. حدث شيءٌ ما. وتبادر إلى ذهني بيتٌ من الشعر — «شخصٌ ما قد مات، حتى الأشجار تعرف ذلك» — واستغرق الأمر مني هُنيهةً لأتذكَّر أنه كان بيتًا شِعريًّا لآن سيكستون، من قصيدةٍ عن وفاة أحد والديها، على ما أظن. عندما اقتربتُ من منزل برويت، تفحَّصتُ صفَّ الأشجار على امتداد شارع كورنينج. كانت جميعًا بلا أوراقٍ بالطبع، وبدَت في مواجهة السماء المظلمة أنها مجرد أشكال سوداء، خدوش قلم رصاص. كان من الصعب تخيُّلها وهي مليئةٌ بالأوراق في يوم صيفي. أجل، «شخصٌ ما قد مات». لكن لم يكن كافيًا معرفةُ ذلك فحسب.


عندما وصلتُ إلى منزل برويت، عبرتُ ممرَّ السيارات الخاص به، مرورًا بسيارته. كنت أرتدي قفازاتٍ وفتحتُ البابَ الخشبي المؤديَ إلى فِناء منزله الخلفي المُسيَّج. شغَلَت الثلوج الرقيقة الهشَّة المتراكمة أرجاءَ الساحة المربعة. كانت هناك شواية مغطَّاة بقماش القنب، لكن لا شيء آخر. أوراق الأشجار التي لم تُكنس، والتي استحالت سوداءَ الآن، كانت تصطفُّ على حافة السياج البعيد.


صعدتُ ثلاث درجاتٍ أوصلَتني إلى مصطبةٍ صغيرة وباب خلفي. ومن خلال زجاج النافذة تمكَّنتُ من رؤيةِ مطبخٍ يكسو أرضيتَه مشمَّع مُشطرجٌ. وخلفه كان هناك ما يُشبه غرفةَ طعام مع طاولة طويلة. كان الباب مغلقًا، وطرَقتُ على الزجاج. كنتُ على وشْك اختراق النافذة، لكن كان هناك صفٌّ من أُصص النباتات القديمة على السطح. جلستُ القرفصاء، ورُحتُ أرفع كلًّا منها على حدة. وأسفل أصيص به نباتُ إكليل الجبل كان يرقد مفتاحٌ فِضي واحد. أمسكتُ به بين أصابع قفازي، ثم وضعتُه في الباب الخلفي، فانفتح البابُ وأصبحتُ في الداخل. صحتُ في المنزل الخالي: «مرحبًا»، ثم انتظرتُ الرد. سرتُ عبْر المطبخ المرتَّب إلى غرفة الطعام متباطئًا، مما سمِح لعينيَّ بالتكيُّف مع الأجزاء الداخلية المعتِمة. كانت جميع الستائر قد أُسدِلَت. كان بإمكاني النظرُ من خلال حجرة الطعام إلى غرفة الجلوس بالمنزل، حيث توجد أريكة طويلة. كان برويت جالسًا هناك على أحدِ طرَفَي الأريكة، قدَماه مسطَّحتان على الأرض، ويداه على جانبَي فخِذَيه، ورأسه مائلٌ للخلف، مستلقيًا على وسادة الأريكة. كان ميتًا. عرَفتُ ذلك بمجرد النظر إليه، كيف كان ساكنًا، كيف كانت رقبته مكشوفةً ورأسه بهذه الزاوية غير المريحة.


وبقدرِ ما كنتُ مصعوقًا من منظر جسده، صعقني بالقدرِ نفسِه ما عناه ذلك من أن برويت لم يكن تشارلي. كنت متيقنًا من أنه هو، ومن الواضح أنني كنتُ مخطئًا. كان هناك على ما أظن احتمالٌ ضئيل أن برويت ربما كان تشارلي حقًّا، وأن الشعور بالذنب تجاه ما فعله قد جعله يحتسي الشراب حتى الموت. لكنني كنتُ أعرف في قرارة نفسي أن الأمر لم يكن كذلك. لقد قُتل برويت على يدِ تشارلي الذي سبقني بخطواتٍ عديدة.


كانت هناك رائحةُ ويسكي قوية جدًّا منبعثة من الغرفة، ورأيتُ القنينة على الأرض مائلةً على جانبها فوق السجادة الفارسية الرقيقة. عكستُ القليل من الضوء الموجود في الغرفة، الذي انبعث من كابل سلكي يُغلِّف شكلها المثلثي. تعرَّفتُ على العلامة التجارية — كان ويسكي اسكتلنديًّا — لكنني لم أستطِع تذكُّر اسمها بالضبط. كانت هناك أيضًا رائحةٌ أخرى، رائحة جعلتني أفكِّر في المستشفيات. اقتربتُ قليلًا بحيث وقفتُ في إطار الباب. ومن هناك استطعتُ رؤيةَ قيءٍ جافٍّ أسفل الجزء الأمامي من سترة برويت.


نظرًا إلى معرفتي بأنني لن أذهب أبعدَ من ذلك في الغرفةِ مع وجود جثة برويت هناك؛ ألقيتُ نظرةً خاطفة في الأرجاء. لا عجبَ في وجود العديد من رفوف الكتب. في إحدى الزوايا، كان هناك تلفزيون كبير بشاشة مسطَّحة وما بدا أنه نظام استريو قديم. وعلى الحائط فوق الأريكة، كان هناك ملصقٌ مسرحي كبير بداخل إطار، معلنًا عن إنتاج مسرحية «حكاية الشتاء» لشكسبير، وقد تضمَّن رسمًا تخطيطيًّا لدبٍّ على رأسه تاج. لاحظتُ أنه باستثناء الزجاجة الموضوعة على الأرض أمام الأريكة، لم أرَ أيَّ علاماتٍ أخرى لخمورٍ في المنزل.


تراجعتُ ببطءٍ إلى غرفةِ الطعام، ثم المطبخ. نظرتُ حولي بحثًا عن الخمور أيضًا، لكن لم أرَ أيًّا منها. فتحتُ ثلاجته. كانت شحيحة من الداخل، ولكن كان هناك ستُّ عبوات من الجِعة على الرف العلوي، ولكن بالنظر إليها عن كثَب أدركتُ أنها ليست مشروباتٍ كحولية. أغلقتُ باب الثلاجة متسائلًا عمَّا إذا كان الأمر يستحق إلقاءَ نظرةٍ أكبر حول المنزل، أو إذا كان من الغباء البقاءُ مدةً أطول. كنت أعرف ما حدث هنا بالطبع على الرغم من أنني لم أعالجه بالكامل بعدُ. إنه كتابُ «سبق الإصرار». في هذا الكتاب تُقتل امرأةٌ مدمنة للمخدرات بجرعة زائدة منها، مما يجعل الأمر يبدو كأنه حادث. كان برويت مدمنَ كحول متعافيًا على نحوٍ واضح، لكن تشارلي جعله بطريقةٍ ما يشرب مرةً أخرى، وجعله يشرب كميةً قاتلة. أو على الأقل جعل الأمر يبدو كما لو أنه شرب.


ملأت المطبخَ فجأةً أصواتُ نقيقٍ مثل الصراصير، وتسارعَت دقاتُ قلبي بأقصى سرعة. لقد كان هاتف برويت، يُشحن بجوار محمصة الخبز على طاولة المطبخ. ذهبتُ ونظرتُ إلى الشاشة. كان الشخص الذي يُهاتفه يُدعى تمارا ستراهوفسكي، وقد خمَّنتُ أنها كانت مساعِدتَه في التدريس، تتفقَّده مرةً أخرى. كم من الوقت سيمرُّ قبل أن تتصل بالشرطة وتطلب التحقُّق من سلامته؟ لم يكن لديَّ أيُّ فكرة. بحثتُ سريعًا في أرجاء المنزل مدةَ خمس دقائق.


كان للمطبخ بابان، وذهبتُ من خلال الباب الآخر. كان هذا الباب يؤدي إلى رِواق خلفي ونصف حمَّام وغرفة كانت مكتبَ برويت. كان هناك مكتبٌ قائم، وقد وُضع عليه كمبيوتر محمول مفتوحًا، والمزيد من الرفوف معظمها مليءٌ بنسخٍ لا نهاية لها من كتابه «سمكة صغيرة». علمتُ من زيارتي لمنزل براين موري أن المؤلِّفين يحصلون على عددٍ من إصداراتهم الخاصة، ولكن ليس بتلك الكمية الموجودة هنا. شغَلَت رواية «سمكة صغيرة» رفَّين للكتب وكانت هناك أكوامٌ على طول الأرض. بدا أنها بالمئات. تساءلتُ عما إذا كان قد اشترى نسخًا من كتبه، ربما لزيادة المبيعات. ومن المكتب توجَّهتُ بسرعة إلى قاعةٍ جانبية مؤدية إلى الدرَج. في الجزء العلوي من مَهبِط الدَّرج ألقيتُ نظرةً على غرفة نوم برويت، كانت أكثرَ فوضويةً من أي غرفة في الطابق السفلي. ومحتوياتها أكثر بعثرةً. كانت هناك كومةُ ملابسَ على الأرض، وسرير غير مرتَّب، وملصق مسرحي آخر مرسوم باليد بداخل إطار على الحائط. كان هذه المرة لمسرحية «الليلة الثانية عشرة». تمكَّنتُ من إلقاء نظرةٍ أفضلَ على هذا الملصق. كان من إنتاج مسرح جامعة نيو إسيكس، وكان المُخرج هو نيكولاس برويت. وقبل مغادرة غرفة النوم، ألقيت نظرةً خاطفة على أعلى مكتبه، المليء بصور مُبروَزة، معظمها لقطاتٌ عائلية قديمة، على الرغم من أنني تعرَّفت إلى صورةِ جيليان نجوين، وهي تقف مع برويت أمام ما بدا وكأنه ترميمٌ لمسرح جلوب في لندن.


خرجتُ من الباب الخلفي وأعدتُ المفتاحَ أسفل أصيص إكليل الجبل. ثم عُدتُ إلى سيارتي وقُدتُ عائدًا إلى المنزل في بوسطن.


الفصل الثاني و العشرون


لم أعُد إلى «دوكبرج» منذ عام ٢٠١٠، عندما رتَّبتُ لجريمتَي القتل بالوكالة. لكنني كنتُ أفكِّر في أنني بحاجةٍ إلى زيارة الموقع مرةً أخرى الآن، فقط في حالِ تمكَّنتُ من الاتصال بتشارلي. على حدِّ علمي، لا يزال لديَّ إشارةٌ مرجعية بالموقع على كمبيوتر العمل. كان الوقت في بدايةِ ما بعد الظهيرة، وسرتُ من المنزل إلى «أُولد ديفيلز». في كل مرة طرَفتُ بعيني فيها، كان بإمكاني رؤية جسدِ نيك برويت الهامد، جالسًا بهدوء على أريكته، ورأسه مائلٌ إلى الخلف، وفمُه يتدلَّى مفتوحًا.


اندفعتُ خلال الباب. كانت إيميلي وراء دُرج النقود تسجِّل عمليةَ بيع، وسمعتُ براندون قبل أن أراه. قال بصوته الجهوري: «العصابة بأكملها هنا». كان جاثمًا على يساري، يبحث في أحد الرفوف السفلية، محاولًا على الأرجح العثورَ على كتابٍ لطلبٍ عبْر الإنترنت.


قلتُ: «فقط مدةً من الوقت. آسف لأنني تركتُكما بمفردكما كثيرًا مؤخرًا».


«ما الذي يجري معك؟» قالها براندون وهو يقف الآن ممسكًا بنسخةٍ من كتاب جون لو كاريه «الجاسوس المستجير من البرد».


قلتُ: «بصراحة، لم أكن على ما يُرام». كانت تلك الكذبة الأولى التي قفزَت إلى رأسي. «فقط متعب للغاية وأشعر بقليلٍ من الألم. لا أعرف سببه».


قال براندون: «حسنًا، لا تأتِ إلى هنا وتنشر العدوى في كل مكان. إي وأنا سنتكفَّل بالأمر، أليس كذلك، إي؟»


لم تُجِب، لكنني رأيتُ إيميلي تنظر لأعلى من وراء المكتب. كان العميل الذي تساعده عميلًا شبه منتظم، لم أستطِع تذكُّر اسمه بتاتًا، لكنه كان مداومًا على شراء كلِّ جديد لمايكل كونولي من متجرنا، وكان يتَّجه الآن نحوَ باب الخروج.


قلتُ: «لديَّ بعضُ العمل لأنجزه في مكتبي، ثم سأعود رأسًا إلى المنزل، أعدك»، وشقَقتُ طريقي إلى هناك حين بدأ براندون يخبر إيميلي كيف أُصيبت والدته مرةً بنزلة بردٍ عامًا كاملًا.


كان نيرو جالسًا على كرسيِّ مكتبي، ملتفًّا على شكل دائرة، لكنه استيقظ عندما دخلت، ومدَّ ظهره، ثم قفز على الأرض. جلستُ وفتحتُ جهاز الكمبيوتر الخاص بي. شعرتُ بالقلق فجأةً من أن أكون قد حذفت الإشارةَ المرجعية الخاصة بموقع «دوكبرج» الإلكتروني — الشيء الذكي الذي يجب القيام به، حقًّا — ولكن بمجرد أن دخلت إلى الإنترنت، كانت موجودة هناك. سجَّلتُ الدخول، وذهبتُ إلى القسم المسمَّى مُقايضات، وألقيتُ نظرةً سريعة على آخرِ خمسين إدخالًا أو نحوِ ذلك. كانت الأشياء المعتادة؛ عُروض عمل والمقابل المدفوع فيها إما خدمة جنسية أو مخدرات. كانت هناك أشياءُ شاذة بالطبع؛ رجل يتطلع إلى مقايضةِ مجموعة أحذية زوجته بالكامل (ثمانية أزواج على الأقل ماركة «جيمي تشوز») مقابل تذكرة لحفل «سبرينجستين» الموسيقي الذي نفِدَت تذاكرُه. لم أرَ أيَّ شيءٍ يشير إلى «غريبان على متن قطار». لم أكن متفاجئًا. فلم يكن تشارلي بحاجةٍ إلى الاتصال بي؛ لأنه فعل ذلك بالفعل، بطريقةٍ ما. كان يعرف بالضبط مَن أنا. ومع ذلك، كان الأمر يستحقُّ إرسالَ رسالة إليه على أمل أنه كان يشاهد هذا الموقع الإلكتروني الآن.


أنشأتُ هُوية مزيفة جديدة، مطلِقًا على نفسي اسم فارلي ووكر، ونشرتُ رسالة. «عزيزي المحب لرواية «غريبان على متن قطار»، أودُّ أن أقترح مقايضةً أخرى. أنت تعرف من تكون». حدَّقتُ في الرسالة مدة خمس دقائق تقريبًا بعد نشرها، متسائلًا عما إذا كان الرد سيأتي على الفور، لكن لم يحدث شيء. سجَّلتُ الخروجَ من «دوكبرج» وأجريتُ بحثًا سريعًا عن جامعة نيو إسيكس لمعرفةِ ما إذا كان هناك أيُّ شيءٍ قد ظهر في الأخبار. لم أكن متفاجئًا عندما لم أجد شيئًا. فحتى لو اكتُشفت جثةُ نيك برويت، التي على الأرجح لم تُكتشف بعد، عندئذٍ سيكون الخبر بصعوبةٍ جديرًا بالاهتمام. سيبدو الأمر كأنه جرعة زائدة عرَضية من مدمنِ كحول عاد إلى مُعاقرة الشراب. وتُعد هذه جريمةَ قتلٍ كاملة، إلا إذا كان تشارلي قد أخفق في شيءٍ ما. لن يشكَّ أحدٌ أنها جريمة قتل.


تساءلتُ كيف فعل ذلك. وكان أفضلُ ما هداني إليه تخميني أنه ذهب إلى باب برويت حاملًا زجاجةَ ويسكي ومسدسًا، وأرغمه على الشرب. ربما وضع مخدرًا في الويسكي أيضًا.


كان السؤال الأهم الذي طرَحتُه هو كيف استهدف تشارلي برويت في المقام الأول. فالأشخاص الوحيدون الذين عرَفوا أنني مهتمٌّ به هم مارتي كينجشيب وجيليان نجوين. بالطبع، كان برويت على صلةٍ بنورمان تشيني. وإذا كان تشارلي قد رتَّب لوفاة تشيني، فسيكون على صلة أيضًا ببرويت. تذكَّرتُ فجأة الكتاب، «سمكة صغيرة»، وأنني تركتُه هنا في المتجر. كانت إيميلي الآن قد عادت إلى مكتبها، لتتعامل مع الطلبات عبْر الإنترنت على الأرجح، ومن ثمَّ ذهبتُ إلى دُرج النقود. وكان كتاب «سمكة صغيرة» هناك حيث تركتُه. أدركتُ أنَّ وجودَ نسخةٍ مكتبية من هذا الكتاب في حوزتي يعني إدانتي؛ لذا قررتُ عدمَ ترْكهِ في مكانه.


قال براندون: «جاءك زائرٌ ليلة أمس.»


رفعتُ عينيَّ. وقلتُ: «آه حقًّا؟»


«زوجة براين موري — هل تُدعى تيس؟ — كانت هنا تبحث عنك.»


قلتُ: «أوه، هل قالت ماذا تريد؟»


«كلَّا. قالت إنها كانت تزورنا فحسب؛ لأنها لم تزُرْنا منذ مدة، لكن يمكنني القولُ إنها كانت مُحبطة بعضَ الإحباط لأنك لم تكن هنا. إنها لا توجد عادةً في بوسطن، أليس كذلك؟ ليس عندما يكون الجوُّ شديدَ البرودة إلى هذه الدرجة، أليس كذلك؟»


قلتُ: «براين كسر ذراعه. رأيتُهما قبل ليلتين، ويبدو أن عليها المكوثَ هنا الآن لمساعدته في كل شيءٍ.»


قال براندون: «أوه يا رجل، هذا مضحك»، على الرغم من أنني لم أكن متأكِّدًا من أنه كان كذلك حقًّا.


لم أكن متفاجئًا كثيرًا من زيارةِ تيس للمتجر. فقد كانت تعمل في مجال الكتب على أي حال، مسئولةَ دعاية. وكنتُ متأكِّدًا أنها سئمَت من مجالسة زوجها. ومع ذلك، لم أستطِع منْع نفسي من التفكير في الطريقة التي عانقَتني بها عناقَ الوداع بعد أن تناولنا المشروبات في فندق بيكون هيل.


سألتُ: «هل ابتاعت أيَّ شيء؟»


«كلَّا. لكنها أعادت ترتيبَ كلِّ أعمال براين موري لنا.»


قلتُ: «لست متفاجئًا.»


قبل مغادرتي، دوَّنتُ الرابطَ المُعقَّد لموقع «دوكبرج» على قطعةٍ من الورق؛ حتى أتمكَّن من تفقُّد الموقع من جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي في المنزل. ثم أمسكتُ كتاب «سمكة صغيرة»، وأخبرتُ براندون وإيميلي أنهما قد يكونان بمفرديهما مدةً من الوقت، وتوجَّهتُ إلى المنزل. في الخارج، بدأَت رقائقُ الجليد الصغيرة تدور في الهواء. عاصفة أخرى — ليست كبيرةً جدًّا — كانت تُنذر بالوصول في تلك الليلة. ظللتُ أفكِّر في تيس موري، كيف حضرت إلى المتجر. هل رأت نسختي من كتاب نيك برويت؟ وإذا كانت قد رأتها، فماذا في ذلك؟ ومع ذلك، فقد أزعجَتني الفكرة.


فتحتُ الباب الخارجي وصعدتُ الدَّرج إلى شقتي في العليَّة. في الداخل، كان الجو باردًا فجأة، وأدركتُ أنني تركتُ النوافذ مواربة، وهو شيء لم أتذكَّر القيام به على الإطلاق. أغلقتُها، ثم توجَّهتُ من فوري إلى جهاز الكمبيوتر الخاص بي للتحقُّق من موقع «دوكبرج». لم يكن هناك ردٌّ. بحثتُ عن «تيس موري». خطر ببالي أنني لم أكن أعرفُ أيَّ شيء عنها تقريبًا إلى جانبِ حقيقةِ أنها كانت الزوجةَ الأصغر سنًّا لشريكي في العمل، وأنها كانت تعمل في الدعاية عندما التقَيا أولَ مرة. وجدتُ مَن اعتقدتُ أنها هي على صفحة «لينكد-إن»، على الرغم من عدم وجودِ صورة. كانت قد أدرجَت إحدى دُور النشر الكبرى مكانَ عمل سابق، بالإضافة إلى شركة تُدعَى «سنيمان بابليسيتي»، وتذكَّرتُ أن سنيمان كان اسمها قبل أن تغيِّره إلى موري. كان مكان عملها الحالي هو «تريجر تشيست» في لونجبوت كي بولاية فلوريدا، متجر المجوهرات الصغير الذي تُديره الآن. تساءلتُ عمَّا إذا كانت قد تركَت العمل في مجال الكتب بسبب ارتباطها ببراين موري. لقد كانت فضيحةً صغيرة عندما تزوَّجا، في الغالب لأنها هدمَت زواجه، ولكن أيضًا لأنها كانت أصغرَ منه بكثير، وأكثرَ جاذبية بكثير. حقيقةُ أنهما بقيَا متزوجَين أكثرَ من عشر سنواتٍ لم تُغيِّر رأيَ أيِّ شخص بأنها كانت طامعةً في ثروته.


تذكَّرتُ قصةً كنت قد سمعتُها عنها، ربما من كاتب آخرَ من كُتَّاب الجريمة المحليِّين. كان ذلك عندما كانت تيس لا تزال تعمل في مجال الدعاية، لكنها كانت قد بدأت للتو في مواعدة براين. لقد كانت في حفل كوكتيل في ثريلرفيست في مدينة نيويورك عندما أدلى شخصٌ ما بملاحظةٍ مُهينة عن براين، كيف أنه لم يَعُد يُعير قصصَ الإثارة الأخيرة التي يؤلِّفها الاهتمامَ المطلوب لسنوات. لم يكن هذا اتهامًا في غير محلِّه، في رأيي، لكن يبدو أن تيس صفعَت الشخص الذي قال ذلك بصوتٍ عالٍ، ثم اندفعت بعيدًا. أتذكَّر أن أيًّا مَن أخبرني بهذه القصة، يبدو أنه رواها لإظهارِ ما كانت عليه تيس من جنون، لكنني سمعتُها بوصفها قصةً أكَّدَت حُبَّها الكبير لبراين. وأعتقدُ أنهما كانا يحظيان بزواجٍ جيد.


تحقَّقتُ من هاتفي لمعرفةِ ما إذا كانت بيانات تيس موري موجودةً عليه. وقد كان؛ وجدتُ كلًّا من عنوان بريدها الإلكتروني ورقم هاتفها الخلوي. أرسلتُ إليها رسالة:


«مرحبًا تيس، أنا مالكوم في حالِ لم تتعرَّفي على الرقم. سمعتُ أنكِ كنتِ في المتجر وسألتِ عني. دعينا نتناول العشاء قريبًا، ثلاثتنا. سيكون من دواعي سروري أن نلتقيَ ونتحدَّث.»


أغلقتُ شاشةَ هاتفي بعد إرسال الرسالة، ولكن حالما أنزلتُ الهاتف، رنَّ، وكانت هناك رسالةٌ من تيس: «أجل! تعالَ لتناول العشاء ليلة الغد!»


كتبتُ إليها مجددًا أُخبرها أنني يُسعدني القدوم وسألتُها عن الموعد وعمَّا يمكنني إحضاره معي.


جاء الردُّ: «السابعة، ونفسك!» لدرجةِ أنني تساءلت على الفور كيف كان لديها الوقتُ حتى لكتابة الكلمات. وبعد علامات التعجب، وضعَت قلبًا أحمرَ.


ذهبتُ إلى الثلاجة للحصول على جِعة. كان لديَّ بعضُ البيض والجُبن، وقررتُ إعدادَ عجَّة البيض على العشاء، على الرغم من أنني لم أشعر بأي نوع من الجوع منذ رؤيةِ جثة برويت في الصباح. وضعتُ مجموعةً من الأقراص المضغوطة لمايكل نيمان في مشغل الأقراص المضغوطة القديم، واستمعتُ أولًا إلى الموسيقى التصويرية لفيلم «نهاية العلاقة» (ذي إند أوف ذي أفير). صنعتُ العجَّة وأكلتُ نصفها، ثم فتحتُ زجاجةَ جِعة أخرى. ذهبتُ إلى رف الكتب الخاص بي ووجدتُ القسم الذي أحتفظُ فيه بكتب براين موري. كان لديَّ كلُّ كتبه تقريبًا. كلُّ الأعمال الأخيرة بالتأكيد؛ لأنَّ براين أقام حفلات طرح كُتُبه في «أُولد ديفيلز»، وكان دائمًا يُهدي كتابًا إليَّ. ولكن كان لديَّ أيضًا معظم الكتب القديمة ذات الأغلفة الورقية، وهي روايات إليس فيتزجيرالد الأولى التي بدأتُ في قراءتها عندما كان عمري نحو عشر سنوات. لم أكن مضطرًّا إلى الحصول على تلك الكتب تحديدًا من «أنيز بوك سواب»؛ لأن أمي كانت من محبي إليس فيتزجيرالد، وكانت قد ابتاعت كلَّ الكتب بنفسها. كانت الروايات الأولى جيدة حقًّا، مثل روايات روس ماكدونالد المضحكة. وقد كان أمرًا جللًا إلى حدٍّ ما في ذلك الوقت كونُ المحقِّقة أنثى، وصارمةً صرامةً لا هوادةَ فيها. لقد أخبرني براين عدةَ مرات أنه في المسوَّدة الأولى لرواية إليس فيتزجيرالد الأولى «شجرة السموم»، كان إليس رجلًا. أخبره وكيله أن الكتاب جيد، ولكنه مألوف بعض الشيء. ومن ثمَّ، جعل إليس امرأةً دون تغيير أي شيءٍ آخر، وبِيع الكتاب.


سحبتُ النسخة الورقية من رواية «عَينُ الهدف». كان هذا هو خامس كتاب لإليس فيتزجيرالد وقد فاز بجائزة إدجار. بالنسبة إلى المعجبين، كان هذا إما كتابهم المفضَّل في السلسلة، أو أقل الكتب تفضيلًا لديهم. وبالنسبة إليَّ كان هذا هو المفضَّل لديَّ، على الأقل كان كذلك عندما قرأتُه أولَ مرة حين كنت مراهقًا. في نهاية الكتاب السابق في السلسلة «دم معتدل»، قُتل صديق إليس الحاضر الغائب، بيتر أبلمان، على يدِ أحدِ أفراد مافيا بوسطن. وفي «عينُ الهدف»، تُنفِّذ إليس انتقامَها، فتقتل بوحشية كلَّ مَن تورَّط عن بُعد في وفاة أبلمان. الكتابُ له القليل من القواسم المشتركة مع الكتب الأخرى في السلسلة. لا يوجد عملاء مهرِّجون، أو نِكات إليس؛ لديه الكثير من القواسم المشتركة مع إحدى روايات باركر لريتشارد ستارك.


أخذتُ «عينُ الهدف» وزجاجةَ جِعةٍ جديدة واتجهتُ إلى أريكتي. كان الكتابُ قد قُرئ مراتٍ عديدةً حتى إن بعض الصفحات كانت تنزلق بعيدًا عن الغلاف المتشقِّق البالي. كان الغلاف المُجعَّد أسودَ اللون، وعليه صورة مسدس قد فُتحت أسطوانته لتكشف عن ستِّ خزناتٍ فارغة حيث كان الرصاص. فتحتُ صفحة العنوان، ولم أُفاجأ برؤية اسم والدتي بخط يدها في الركن الأيمن العلوي. مارجريت كيرشو، وتاريخ شرائها للكتاب. كان ذلك في شهر يوليو من عام ١٩٨٨. إذن، كنت في الثالثة عشرة من عمري، وكان من شبه المؤكَّد أنني سوف أقرأ هذا الكتاب بمجرد أن أضع يدي المتواضعة عليه، ربما فور انتهاء أمي منه. أعتقدُ أنني أتذكَّرها وهي تخبرني بأنَّ الكتاب كان عنيفًا للغاية. أنا متأكِّد من أن هذا جعلني أكثرَ حرصًا على قراءته بنفسي.


كان الكتاب قد أُهديَ إلى زوجة براين موري الأولى، ماري. لم أكن أعرفُها قط، لكن براين أخبرني مرةً أنَّ السبب في أنه قد أهدى كلَّ كتبه تقريبًا إليها هو أنها سوف تستاء عدة أيام إذا لم أفعل. وقد أخبرني أن طلاقه منها كان جيدًا لعدة أسباب، ولكن السبب الأغلب أنه قد أصبح الآن حرًّا في إهداء كتبه إلى أناسٍ آخَرين في حياته.


بدأتُ في قراءة الكتاب وتعلَّقتُ به على الفور. يبدأ الكتاب بأليس وهي تلتقي بزعيم مافيا بوسطن في حانة فندق الريتز وتُسلِّمه لائحةَ أسماء: «إما أن تعاقبهم، وإلا فسأتولى الأمر بنفسي. الأمر عائدٌ إليك». يسخر منها، ويخبرها بأنها عليها أن تنسى وتمضيَ قُدمًا. بقيةُ الكتاب تتضمَّن تركيزَ سعيها وراء هؤلاء المسئولين عن مقتل صديقها. إنه مشوِّق وعنيف، ويصادف أن إليس مصابةٌ بذُهانٍ طفيف. بعد كل عملية قتل، تضع أحمرَ الشفاه وتقبِّل الميت على خدِّه تاركةً بصمة. ينتهي الكتاب بها في فندق ريتز مرةً أخرى، وهي تحتسي نبيذَ شاردونيه مع رئيس المافيا، الذي يعتذر عن التقليل من شأنها، ويتفقان معًا على أن التوازن قد عاد. لقد حقَّقت انتقامها. يسألها عن أحمر الشفاه، فتقول: «اعتقدتُ أن ذلك سيُبهج الشرطة، لا شيء يعجبهم أكثرَ من قاتلٍ بعلامة مميَّزة. فذلك يجعلهم يعتقدون أنهم في فيلم لكلينت إيستوود».


انتهيتُ من الكتاب بعد منتصف الليل بقليل، وواصلتُ التفكير في العلامات المميَّزة. في نهاية المطاف، كان هذا ما تدور حوله جرائمُ قتل تشارلي، تاركةً علامةً من نوعٍ ما، دلالة تخبر العالم أنَّ القاتل كان أهم من الضحية. لعلَّ ما ألهم تشارلي هو الشعور بالانتقام، أو العدالة، عندما طلب مني قتل نورمان تشيني. ولكن الآن كان الأمر يتعلق به. وبقائمتي. وبي أيضًا، على ما أعتقد. أيُّ نوع من الأشخاص هو ليضع نفسَه فوق ضحاياه؟ أيُّ نوعٍ من الأشخاص هو ليُصبح مهووسًا بقائمة للكتب؟


إحدى نصائح المؤلِّف التي يُشاركها براين هي أنه عندما لا تتمكَّن من استخلاص شيءٍ ما في حبكة كتابك، اخلُد إلى الفراش واترك عقلك الباطن يُمسك به. قررتُ أن أفعل ذلك، أن أحاول الحصول على قسطٍ من النوم أخيرًا؛ وربما حتى بعض الإجابات.


الفصل الثالث و العشرون


قضيتُ صباحَ اليوم التالي أتصفَّح جميعَ كتب براين موري. حتى إنني قرأتُ سريعًا أحدثَ رواياته، «مُت قليلًا» التي تحلُّ فيها إليس فيتزجيرالد لغزَ جريمةِ قتلٍ ارتُكبت على يدِ عصابةٍ ما في مدرسةٍ ثانوية محلية. كانت الرواية قديمةَ الطراز لا تُساير عصرها، حتى إنَّ المرء لَيشعر بالإحراج عند قراءتها. كان براين يكره البحث، وشعرتُ أن كلَّ ما فعله للتحضير لكتابةِ كتابه الأخير هو مشاهدةُ عرضٍ مزدوج لفيلم «فتيان في الحي»، وفيلم ميشيل فايفر الذي كانت تُدرِّس فيه للأطفال داخل المدينة.


بعد الظهيرة مباشرةً تلقَّيتُ مكالمةً هاتفية من العميلة بيريز تُذكِّرني بأنني لم أُفصح بعدُ عن أماكنِ وجودي وتحرُّكاتي في الأوقات المتزامنة مع أوقات وقوع جرائم القتل.


قلتُ لها: «آسف. لقد انشغلتُ. هل يمكننا إنجازُ الأمر الآن؟ أعطيني التواريخَ وسأرى ما إذا كنتُ سأعرفُ أين كنت بالضبط وقت وقوع الجرائم؟»


قالت: «لا بأس».


فتحتُ مفكِّرتي على الكمبيوتر المحمول الخاص بي، وبدأنا في مراجعة التواريخ؛ سألَتني أولًا عن إيلين جونسون.


قلتُ: «لقد أرسلتُ تلك المعلومات إلى العميلة مالفي. كنتُ في لندن عندما ماتت. في الثالثَ عشر من سبتمبر، أليس كذلك؟»


قالت العميلة بيريز: «هذا صحيح»، ثم سألتني عن روبن كالاهان، التي قُتلت رميًا بالرصاص في السادس عشر من أغسطس عام ٢٠١٤. لم يكن في مفكِّرتي أيُّ شيءٍ في ذلك الأسبوع باستثناء حقيقة أنني كنتُ سأذهب إلى العمل في ذلك اليوم. أخبرتُ العميلة بيريز بذلك، وسألتني عمَّا إذا كان بإمكان أيِّ شخص أن يشهد لك بذلك. كان يومُ السادس عشر من أغسطس يومَ جمعة، ومن ثَمَّ أخبرتُها أن كِلا الموظفَين لديَّ كانا على الأرجح يعملان في ذلك اليوم، وأنها مُرحَّبٌ بها إن أرادَت استجوابهما. بعد ذلك، سألتني عن جاي برادشو، الرجلِ الذي ضُرب حتى الموت في مرأبه في دينيس بمدينة كيب. اتضح أنَّ ذلك حدث في الحادي والثلاثين من شهر أغسطس.


قلتُ: «سافرتُ إلى لندن في ذلك الأحد.»


«متى؟»


«كانت الرحلة في الساعة السادسة وعشرين دقيقة؛ ولذا ربما غادرتُ متجهًا إلى المطار في تمام الثالثة».


قالت: «هذا مبكر جدًّا.»


قلتُ: «أعلم هذا. أحبُّ الوصول إلى هناك مبكرًا إذا استطعت ذلك. أُفضِّلُ أن يكون لديَّ وقتٌ إضافي هناك على أن أتأخَّر».


أما عن القضيتَين الأُخريَين اللتين سألتني عنهما — بيل مانسو، وإيثان بيرد — فلم يكن لديَّ حُجَّة غيابٍ قوية، على الرغم من أنهما وقَعتا على الأرجح في أيامٍ كنتُ فيها في «أُولد ديفيلز».


قلتُ: «آسف، لا أستطيع مساعدتَكِ أكثرَ من ذلك.»


«لقد كنتَ متعاونًا، سيد كيرشو. أودُّ منك أن ترسل إليَّ أرقامَ الرحلات الدقيقة لرحلتك إلى لندن؛ إذا كانت في حوزتك.»


«بالتأكيد»، قررتُ عدم تذكيرها بأنني قد أرسلتُ بالفعل أرقامَ هذه الرحلات إلى العميلة مالفي.


«وفقط حتى نكون دقيقين ونحيط بكل التفاصيل، وأنا أعلم أنه قد مضى وقتٌ طويل، لكن هل يمكنك إخباري أين كنت في السابع والعشرين من أغسطس عام ٢٠١١؟»


قلتُ: «سأرى. ما الذي حدث في ذلك التاريخ؟»


«كان هذا هو التاريخ الذي قُتل فيه ستيفن كليفتون في حادثِ درَّاجة بالقرب من مدينة ساراتوجا سبرينجز.»


«لقد ذكرتِ اسمَه من قبل. لا أعرف مَن هو. لم تقُل العميلة مالفي أيَّ شيءٍ عنه.»


قالت بيريز: «لقد كانت جريمةُ قتلِه مذكورةً في مذكراتها.»


أخذتُ أقلِّبُ للخلف خلال مفكراتي على الإنترنت. وفكَّرتُ في اختلاقِ شيءٍ ما، لكنني قلتُ بدلًا من ذلك: «على الأرجح كنت أعمل في ذلك اليوم، لكن بصراحة كان ذلك منذ وقتٍ طويل. إنَّ مفكِّرتي لا تحتوي على أي شيءٍ.»


«لا بأس سيد كيرشو. ليست مشكلة، لكنني فكَّرتُ أن أسأل.»


قلتُ: «حسنًا، شكرًا.»


اعتقدتُ أنَّ هذه ستكون نهايةَ المكالمة الهاتفية، لكن العميلة بيريز سعَلَت، ثم قالت: «أعلم أنني طلبتُ منك هذا بالفعل، ولكن عندما جاءت العميلة مالفي إليك، هل اقتنَعَت من فورها بوجودِ صلةٍ بين قائمتك والجرائم التي لم تُحلَّ؟ أودُّ أن أسمع ردَّك مرة أخرى.»


«لم أكن مقتنعًا، ليس على الفور، ولكن ربما كان لذلك علاقةٌ بعدم رغبتي في الاعتراف بوجودِ صلة. إنه شعورٌ سيئ كما تعلمين، تكتبين قائمةً خرقاء ثم تكتشفين أنَّ شخصًا آخرَ يستخدمها لارتكابِ جرائمِ قتلٍ حقيقية.»


«أنا متأكدة من ذلك.»


«لقد أخبرتني عن جرائم الطيور أولًا، وكيف ربطتها ﺑ «جرائم الأبجدية».»


«كتاب أجاثا كريستي؟»


«صحيح. بدا الأمر مبالَغًا فيه، صراحةً. لكن بالنسبة إلى الرجل الذي قُتل على سكَّة القطار — بيل مانسو — فإن تلك الجريمةَ بدَت كما لو كانت تُحاكي رواية «تعويض مزدوج»، إلا أنني — كما قلت — لم أصدِّق ذلك حقًّا حتى وجدنا الكتب في منزل إيلين جونسون. وعندئذٍ اتَّضحَت الصلة. وكان من الواضح أن القاتل أرادني أن أعرف ذلك. أو أراد لذلك أن يشير إليَّ على ما أعتقد. لا أعرفُ حقًّا. لقد تحدَّثنا نحن الاثنين كثيرًا عن ذلك.»


«مَن؟ أنت والعميلة مالفي؟»


«أجل. فكَّرنا في ما كان الشخص، أو تشارلي حسبما أطلقنا عليه، يُحاول تحقيقَه بجرائم القتل. واعتقدنا أنه كان يحاول حقًّا محاكاةَ روح جرائم القتل الأصلية بدقةٍ من الكتب.»


«هل يمكنني أن أسألك عن إحدى ملاحظاتها؟ لقد دوَّنَت الأسماء الثلاثة لما أسمَته «جرائم الطيور»، ثم كتبَت: «مَن كان المُستهدف الفعلي؟» هل تعرف ماذا يعني ذلك؟»


«في «جرائم الأبجدية»، تُرتكب سلسلةٌ من جرائم القتل حتى يبدوَ الأمر كما لو أن معتوهًا يرتكب سلسلةَ جرائم. لكن القاتل لم يكن لديه سوى ضحيةٍ واحدة في ذهنه يريد موتها حقًّا. أما جرائم القتل الأخرى، فكانت مجرد غطاء.»


«إذن هل تعتقد أن ذلك قد يكون هو الحالَ مع جرائم الطيور؟»


«لستُ متأكِّدًا، لكنه احتمالٌ وارد.»


«لعله من المحتمل أن تكون كلُّ هذه الجرائم — كل تلك الجرائم المرتبطة بقائمتك — هي مجردَ غطاء لجريمة قتل واحدة.»


قلتُ: «بالتأكيد، إنه احتمالٌ وارد، ولكن لو أن الأمر كذلك، فإنَّ ما ارتُكب من جرائمَ كثيرٌ جدًّا على إخفاء جريمة واحدة.»


«أجل». كانت هناك وقفةٌ طويلة، وتساءلتُ لحظةً هل انقطَعت مكالمتنا، أم إنها كانت تفكِّر فحسب.


قالت أخيرًا: «إذن، إذا كان عليك أن تُخمِّن، أيٌّ من جرائم الطيور الثلاثة تعتقد أنها كانت الضحيةَ المقصودة؟»


«إذا كنتِ مُصرَّة، فسأقول روبن كالاهان لأنها أشهرُ الثلاثة، وقد أثارت استياءَ الكثير من الناس.»


قالت: «هذا ما أعتقده». ثم كانت هناك وقفة أخرى. «هل تمانع إذا عاودتُ الاتصال بك إن كان لديَّ أيُّ أسئلة أخرى؟»


قلتُ: «بالطبع لا»، وودَّع كلٌّ منا الآخَر.


اتصلتُ ﺑ «أُولد ديفيلز». وردَّت إيميلي.


«أما زلتَ تشعر بالتوعُّك؟»


«الأمر ليس فظيعًا، لكنه ليس برائع.»


«ابقَ في المنزل. كلُّ شيءٍ على ما يرام هنا.»


كنتُ على وشْك إنهاء المكالمة، لكنني قررتُ أنه — بما أن إيميلي على الخط — يمكنني أن أطرحَ عليها بعضَ الأسئلة.


قلتُ: «هل يمكنني أن أسألكِ عن بعض الأسماء وبمقدوركِ إخباري إذا كنتِ قد سمعت بها؟»


قالت: «آه، بالتأكيد.»


«إيثان بيرد.»


صمتَت بُرهةً، ثم قالت: «لم أسمع به.»


«جاي برادشو.»


«لا.»


«روبن كالاهان.»


«أجل، بالطبع. إنها مذيعةُ الأخبار المجنونة التي قُتِلَت. أنا واثقةٌ من أنها ستُصبح موضوعَ أعلى كتب الجريمة الحقيقية مبيعًا في نهاية المطاف.»


«لماذا تقولين إنها كانت مجنونة؟»


«لا أعلم، أعتقدُ أنني سمعتُ ذلك. لقد كتبَت كتابًا عن الزنى، أليس كذلك؟»


قلتُ: «صحيح.»


بعد إنهاء المكالمة، فكَّرتُ أكثرَ في احتمالِ أن تكون روبن كالاهان الضحيةَ المقصودة لجرائم قتلِ الطيور الثلاث. وحتى لو لم تكن هناك ضحيةٌ مقصودة واضحة، فلا بد من وجود شخصٍ ما فكَّر فيه تشارلي أولًا. كان يعلم أنه يريد محاكاةَ جرائم الأبجدية، وكان يعلم أنه لن يستخدم الأبجدية. إذا قرَّر أنه يريد قتْل روبن كالاهان، فإن طريقة تغطيته للجريمة ستكون بالعثور على ضحيَّتَين أُخريين بأسماءٍ تُشير إلى طائرٍ ما. وكانت روبن كالاهان ضحيةً طبيعية؛ بمعنى أنها أثارت استياءَ الناس. لقد دعَت إلى الزنى، وأفسدَت زِيجتَين على أقل تقدير.


نمتُ بعد الظهر على الأريكة. وحلمتُ بأنني كنتُ مطارَدًا مرةً أخرى، كما كنت أحلُم دائمًا. حتى عندما كنتُ صغيرًا، كنت أرى هذه الأحلام التي أكتشف فيها فجأةً أن والديَّ وأصدقائي وأساتذتي جميعهم صاروا وحوشًا، وبأنني كنتُ بحاجةٍ إلى الهروب منهم. في أسوأ الأحلام، كنت أجدُ نفسي عاجزًا عن الحركة، ساقاي ثقيلتان، وقدَماي عالقتان بالأرض. في حُلمي، بعد ظهرِ ذلك اليوم، كان الشخص الوحيد الذي لم أكن أهرُب منه هو جوين مالفي. لقد كانت إلى جانبي، وكنا نحاول الهروبَ معًا من الحشد القاتل. وعندما استيقظتُ، ركضتُ إلى الحمَّام معتقدًا أنني قد اتقيَّأ، لكنني لم أفعل.


ارتديتُ ملابسي لتناول العشاء، أدخلتُ قميصي الأزرق ذا المربَّعات في بنطالٍ غامق قصير من القطن، ثم ارتديتُ سترتي المُفضَّلة، سُترة من الكشمير باللون الأسود ذات رقبة عالية، آخِرَ هديةٍ تلقيتُها من كلير في عيد الميلاد قبل وفاتها. وقفتُ أمام مرآةٍ تصل إلى الأرض، وفي ذهني سألتُ كلير كيف أبدو. قالت: «تبدو رائعًا. أنت تبدو رائعًا دومًا». تخيَّلتُها تُمرِّر أصابعها متخلِّلةً شعري الرمادي القصير.


سألتُها: «ماذا يجب أن أفعل؟ بشأن جرائم القتل هذه؟»


قالت: «إنها فَوْضاك. وعليك إصلاحها.»


كان هذا شيئًا اعتادَت قوله، مع أنها عندما تقول ذلك، كانت تشير دائمًا إلى نفسِها. كان هذا ما قالته بعد أن اعترفَت لي بأنها تورَّطَت في المخدِّرات مرةً أخرى. أخبرتُها بأنه يمكنني المساعدة، فقالت: «آه، كلَّا. إنها فَوضاي اللعينة وعليَّ إصلاحُها بنفسي». اعتدتُ أن أفكِّر في أن هذه السمة الخاصة بها — طريقة اعترافها بإخفاقاتها — كانت شخصًا جيدًا، لكنني الآن لستُ متأكِّدًا. لقد كانت حياتها فوضويَّة، ولكن كان أهم شيء بالنسبة إليها هو تجنُّب المواجهة، وعدم إزعاج الناس، وإلقاء كلِّ اللوم على نفسها. كان لا بأس عندها من إيذاء نفسها، لكنها كانت ستبذل قُصارى جهدها حتى لا تؤذيَ أيَّ شخص آخر.


لقد كان توجُّهها الرئيسي هو الحاجةَ إلى تجنُّب الصدامات. وذلك حتى لا تدَع مجالًا أمام الآخرين للاعتناء بها.


«إنها فوضاي اللعينة.»


لكنها كانت مخطئة.


الفصل الرابع و العشرون


غادرتُ المنزلَ دون أن أتحقَّق من الطقس، ووجدتُ أن الثلوج قد ازدادت. كانت الثلوج الآن تتساقط في كتلٍ كثيفة، تلتصق بالأشجار والشجيرات، لكنها تذوب على الأرصفة والطرق.


قبل أن أتوجَّه إلى منزل براين في ساوث إند، ذهبتُ إلى متجرِ نبيذٍ في شارع تشارلز، وابتعتُ قِنِّينةً من نبيذ «بتيت سيراه». كنت في منتصف الطريق خارج المتجر عندما استدرتُ. ابتعتُ زجاجة من «زواك»، وهو مشروبٌ كحولي عُشبي مجَري أحبُّه. ثم سِرتُ إلى «أُولد ديفيلز»، حيث كان براندون وإيميلي يستعدَّان لإغلاق المتجر بحلول الليل. وقبل أن أدخل إلى المتجر، وقفتُ بالخارج في الثلج لحظةً، أحدِّقُ عبْر النافذة إلى الوهج الدافئ لمتجر الكتب من الداخل. كان براندون يتحدَّث إلى أحد الزبائن، وعلى الرغم من أنني لم أستطِع سماع الكلمات نفسِها، استطعتُ سماع الدويِّ العميق لصوته طَوال المسافة خروجًا إلى الشارع. كانت إيميلي في الخلفية تتحرك ذهابًا وإيابًا خلف طاولة الدفع. كانت ليالي الجمعة ونهار السبت هي الأوقاتَ التي كنا فيها نحن الثلاثة — موظَّفي متجر «أُولد ديفيلز» لبيع الكتب — نعمل على الأرجح، وشعرتُ بالغرابة من كوني بالخارج أنظرُ إلى الداخل. كان العالم يواصل تقدُّمه، على ما أعتقد.


اندفعتُ عبْر الباب وحيَّيتُ براندون بأن عرَضت عليه قنينةَ الزواك.


قال بصوتٍ عالٍ مطيلًا الكلمة: «مااااذا؟»


قلتُ: «عرضٌ للسلام. أشعر بالضيق لأنني تغيَّبتُ كثيرًا مؤخرًا. أنتم يا رفاق مَن أنجزتُم كلَّ الأعمال».


قال: «أجل، أنجزناها»، وعاد ليُري إيميلي.


رحَّبتُ بالزبونة، وهي امرأةٌ شابة تعرَّفتُ عليها مُؤلِّفةَ رواياتٍ بوليسية محلية، كانت قد قدَّمَت ندوةً في متجرنا العام الماضي. وقد زاغ اسمُها مني فجأة.


قالت: «كيف تسير الأمور؟». كان لديها عينان قاتمتان كبيرتان ومتقاربتان، في وجهٍ نحيل. وقد جعَلَتها فَرْقةُ شعرها الأسود الناعم في المنتصف تبدو كما لو أنها شخصٌ ربما رسَمه إدوارد جوري.


قلتُ: «الأمور على ما يُرام. ما الجديدُ لديك؟»


قبل أن تتمكَّن من الرد، سحب براندون إيميلي من المكاتب الخلفية وراح يُناديني. قال: «أنت أيضًا يا جين». وفجأةً تذكَّرتُ اسمها بالكامل: جين برندرجاست. كانت قد كتبَت روايةَ غموض تُدعى «البومة ستنحدر». سِرنا إلى حيث كان براندون يسكُب جرعات الشراب في أكواب الماء الصغيرة التي نحتفظ بها في الخلف.


قلتُ مخاطبًا جين: «جئتِ لتصفُّح بعض الكتب، وانتهى بكِ الأمر إلى الحصول على جرعة شراب».


قال براندون: «إنها أحدُ أفراد العائلة»، وتوهَّج وجهُ إيميلي التي كانت تحمل الآن شرابها بحُمرة داكنة. نظر براندون إليها ثم إليَّ وقال: «أوه.»


قالت إيميلي: «أنا وجين يرى أحدُنا الآخَر.»


قلتُ: «ذلك يُفسِّر لماذا تضَعين دائمًا كتبَ جين على الطاولة الأمامية». والآن بدَت جين محرجةً أيضًا، واعتذرَت، وقلتُ إنني كنتُ أمزحُ فقط. شربنا نحن الأربعة. قلتُ: «نَخب أُولد ديفيلز.»


اقشعرَّت إيميلي وسألتني ما هو زواك. قلتُ إنني لم أكن أعرفُ حقًّا، ولكنه بدا مناسبًا للطقس، مثل شيء قد يُحضره لك أحدُ سكان سانت برنارد إذا كنتَ محاصرًا بانهيارٍ جَليدي. بقيتُ مدةً أطول قليلًا، لكنني رفضتُ شرابًا آخر. كانت الساعة تقترب من السابعة، وقت إغلاق المتجر، وكذلك الوقت الذي كان من المفترض أن أكون فيه في ساوث إند. لم أرغب فجأةً في الذَّهاب. شعرتُ بالأمان في المتجر، ولم أكن أعرفُ فحسب ما الذي سيحدث في منزل براين وتيس. أرسلتُ رسالةً نصِّية إلى تيس، وأخبرتُها أنني سأكون هناك قرب السابعة والنصف، ثم ساعدتُ براندون وإيميلي في إغلاق المتجر. بقيَت جين في الجوار، في انتظار أن تُنهيَ إيميلي مناوبتها.


بحلول الوقت الذي كنت أسير فيه عبْر بوسطن كومون باتجاه ساوث إند، ازدادَت درجة الحرارة انخفاضًا، وكان الثلج قد بدأ يلتصق بالممرَّات المرصوفة. مرَرتُ بمنطقة التزلج «فروج بوند»، كانت مضاءةً ومليئة بالمتزلِّجين، ثم عبَرتُ شارع تريمونت، ثم شارع ذا بايك، وصولًا إلى ساوث إند. ورغم الطقس، كانت ليلة الجمعة وكانت حشودُ الناس في الخارج تملأ المطاعم والحانات. كانت عائلة موري تعيش في منزلٍ من القرميد ذي واجهة قوسية في شارعٍ سكَني. وكان بابهم الأمامي مطليًّا باللون الأزرق الداكن. ضغطتُ على جرس الباب وسمعتُ رنينًا من الداخل.


قالت تيس وأنا أناولها زجاجةَ النبيذ: «شكرًا لك يا مال»، وتمنَّيتُ لو أحضرتُ لها شيئًا أكثرَ تشويقًا. «تعالَ، اغتنم بعضَ الدفء. يَعُدُّ براين المشروبات في الطابق العلوي.»


صعدتُ السُّلَّم الضيق، كانت الجدران مُزيَّنة بأغلفةٍ مبروَزة من سلسلة إليس فيتزجيرالد. وعند أعلى الدرَج استدرتُ ودخلتُ غرفةَ المعيشة الكبيرةَ في الطابق الثاني. كان براين يقف مُحدِّقًا إلى المِدفأة، حيث بدَت النارُ كما لو كانت قد اشتعلت للتو. قلتُ: «مرحبًا، براين.»


التفتُّ. كان يحمل كأسًا من الويسكي بيده السليمة. قال: «ماذا يمكنني أن أُحضر لك؟» وقلتُ له إنني سوف أحتسي ما يتناوله. من خِزانةٍ في مستوى الخَصر، سكب الويسكي من الدورق الزجاجي البلوري في كأسٍ زجاجيَّةٍ قصيرة، مضيفًا مكعبَ ثلجٍ صغيرًا من دلو، وأحضره إليَّ. على طاولة القهوة بين أريكتين كان هناك قالبٌ خشبي به جُبن ومقرمشات. جلسنا، ووضع مشروبه حتى يتَّكئ ليحصل لنفسه على بسكويت.


قلتُ: «كيف حال ذراعك؟»


«إذا قُدِّر لك أن تعيش قدْرَ ما عشتُ، فسيتَّضح لك أن كلَّ ما هنالك أنك سوف تعتاد فحسبُ على أن يكون لك ذراعان، ولن يكون من السهل أن تفقد إحداهما. حتى ولو مؤقتًا.»


«تيس تُقدِّم يدَ العون.»


«حسنًا، نعم، إنها تساعد بالفعل، لكنها لا تدَعني أنسى هذه الحقيقة. كلَّا، أنا أمزح. من الجيد وجودها هنا. أخبِرني عن المتجر. كيف حالُ البيع؟»


تحدَّثنا عن المتجر بعضَ الوقت، ثم صعدَت تيس الدرَج وجلسَت على حافة الأريكة التي جلس عليها براين. كانت ترتدي المئزر وكان وجهُها أحمرَ لامعًا كما لو كانت تنظر داخل أواني الطهي. كان كلبُ عائلة موري — وهو كلبُ صيدٍ مرقَّط يُدعى همفري — قد تبِع تيس إلى الغرفة، وبعد أن تشمَّم يدي الممدودةَ مدةً وجيزة بدأ يحوم حول لوح الجُبن.


قال كلٌّ من براين وتيس في آنٍ واحد: «همفري»، فعاد ليجلس على فخذَيه، وراح يضرب الأرض بذيله.


قلتُ: «ماذا لدينا على العشاء؟» وأخذتُ أتفحَّصهما وهي ترد. كانت عينا تيس مشرقتَين كما لو كانت متحمِّسة لأمرٍ ما. راقبها براين بالطريقة التي قد يُراقب بها نادلًا، باهتمام طفيف، إلى أن يحتاج بالطبع إلى مشروبٍ آخر.


قالت تيس قبل أن تغادر: «فلتحتسيا مشروبًا آخَر، كلاكما، ثم انزلا إلى الطابق السُّفلي لتناول العشاء». وضغطَت على كتفي عندما مرَّت بي في طريقها نحو الدرَج، ثم ضربَت على فخذها وتبِعها همفري خارج الباب.


قلتُ: «سأحصل لنا على واحدة»، وأخذتُ كأس براين الفارغةَ وكأسي إلى خِزانة المشروبات الكحولية. وسكبتُ سكوتش في كأسه بمقدار إصبعَين وأقل قليلًا في كأسي. أضفتُ الثلج إلى كلٍّ من مشروبَينا ثم أعدتُهما.


قال براين: «سوف أُخرجُ الصنف الرائع لاحقًا. لديَّ قِنِّينة تاليسكار عمرُها خمسةٌ وعشرون عامًا في مكانٍ ما هنا.»


قلتُ: «لا تُبدِّدها عليَّ. فهذا مذاقه جيد.»


«حسنًا، نحن نشرب سكوتش منتصف الأسبوع وما لم أكن مخطئًا، فاليوم هو الجمعة، على الأقل هذا ما قالته تيس. سأخرج شيئًا أفضلَ لاحقًا.»


قلتُ: «هل فكَّرت يومًا في تأليف كتابٍ عن احتساء الخمور؟»


«ذكر لي وكيلُ أعمالي هذا الأمر عدة مرات. ليس لأنه يعتقد بأن هناك مَن سيشتريه، ولكن لأنه يعتقد بأنني على الأقل قد أستفيد قليلًا من الوقت الذي أضيِّعه في احتساء الشراب.»


قلتُ: «قبل أن أنسى، لقد أعدتُ قراءةَ «عين الهدف» للتو.»


قال: «وما الذي دفعك إلى فِعل هذا؟». ولكنني استطعتُ أن أستشفَّ من وجهه أنه كان مسرورًا.


«كنتُ أتصفَّح كلَّ النسخ التي لديَّ من كتبك، وفتحتُها للتو وبدأتُ في قراءتها. ولم أتوقَّف حتى انتهيتُ منها.»


«نعم، بالنظر إلى الماضي أعتقد أن إليس كان ينبغي لها أن تقتل المزيد من الأشخاص. أحببتُ تأليفَ هذا الكتاب. كما تعلم، لا يزال لديَّ قرَّاء يُرسلون إليَّ رسائل ليُخبروني أنهم يتظاهرون بأن الكتاب غيرُ موجود. وأتلقَّى رسائلَ تُخبرني أنه الشيء الجيد الوحيد الذي كتبتُه على الإطلاق.»


«حسنًا، لا يُمكنك إرضاءُ الجميع طَوال الوقت.»


«إنها الحقيقة. أتذكَّر عندما كتبتُ «عَين الهدف» أنني عرَضتُها على وكيل أعمالي أولًا. وكيلي في ذلك الوقت، هل تتذكَّر بوب دراشمان؟ لقد أخبرني أنه لم يستطِع ترْكها من يده، لكنهم لن ينشروها أبدًا. لم تكن إليس قاتلةً قاسية القلب؛ هكذا قال لي. سوف تخسر نصف قرَّائك. أخبرتُه أنني قد أخسر النصف، لكنني سأستعيد ضِعف هذا العدد. وقد طلب مسوَّدةً ثانية، ليست شديدةَ الوحشية، ومن ثمَّ أضفتُ بالطبع جريمةَ قتل أخرى.»


قلت: «أيُّ واحدة؟»


«لا أستطيع التذكُّر. كلَّا، بل أتذكَّر. أعتقد أنه الرجل الذي احتجزته في الفريزر وتركته هناك. أجل، كانت تلك هي؛ لأن بوب اعترف بأنه أحبَّ ذلك المشهد عندما قرأ الكتاب الأخير. على أي حال، أخبرتُه أن يرسل المسوَّدة إلى دار النشر وإلا فسوف أبحث عن وكيل آخر، ومن ثمَّ أرسلها. نشروها، وخمَّن ماذا، واصل العالم مسيرته.»


«وعلى الأرجح ضاعفتَ عدد قرائك.»


«لا علم لي بذلك، لكني لم أفقد الكثيرَ منهم. وحصلتُ على جائزة إدجار، وهذا ما كان.»


«إنه كتابٌ جيد.»


قال: «شكرًا على ذلك يا مال.»


«ألم ترغب قط في تأليفِ كتابٍ آخرَ في السياقِ نفسِه؟ كتاب انتقام آخرَ لإليس؟»


«كلَّا، ليس حقًّا. الأمر أنه ليس عليك القيامُ بذلك سوى مرةٍ واحدة، وبعد ذلك يعرف القارئ أن إليس بها هذا الجانب. لكن إذا دخلَت في فورة قتلٍ في كل مرة تفقد فيها شخصًا تحبُّه، فستكون شخصًا آخرَ. كلَّا، ذلك يحدُث مرة واحدة فقط. إنَّ قلبها ينفطر فتسعى إلى الثأر، وهي تعلم أنها لا تستطيع أبدًا أن تدعَ هذا الجانب منها يسيطر عليها مرةً أخرى. ومع ذلك، فقد ألَّفتُ كتابًا دونها في إحدى المرات، هل أخبرتُك بذلك من قبل؟»


كان قد أخبرني بالطبع، لكني أخبرتُه أنني لا أعتقد ذلك.


«نعم، لقد كتبتُ روايةً منفردة. أظن أن ذلك كان بعد مُضيِّ عامين على رواية «عين الهدف». كان كتابَ انتقامٍ آخَر لكن هذه المرة كان البطلُ رجلًا. شرطيٌّ من جنوب بوسطن تتعرَّض زوجته للاغتصاب والقتل على يدِ مجموعةٍ من البلطجية الأيرلنديين. فيتتبَّعهم ويقضي عليهم جميعًا. لقد كتبتُه في غضون أسبوعَين تقريبًا، ثم قرأتُه مرةً أخرى، وأدركتُ أنني قد أعدتُ كتابةَ «عَين الهدف» كليًّا. ومن ثمَّ، وضعتُه في دُرجي ونسيتُ أمره.»


«أما زلتَ تحتفظ به؟»


قال وهو يحكُّ جانبَ أنفه المطاطي: «يا إلهي، كان ذلك حين كنتُ أعيش مع ماري في نيوتن؛ لذا مَن يدري إن كنت سأجده بعد الانتقال أم لا. لكن، أجل، لا أذكر أنني ألقيتُ به؛ ولذا فهو موجود هنا في مكانٍ ما.»


قالت تيس، قادمةً إلى الغرفة: «هل تتحدَّث عن ماري؟». لم تَعُد ترتدي المئزر، وبدَت كأنها قد وضعَت بعضَ مساحيق التجميل.


قال براين: «أجل، الأيام الخوالي. هل العشاء جاهز؟»


«العشاء جاهز.»


نزلنا إلى الطابق الأرضي، وتناولنا الطعام على ضوء الشموع على طاولة غرفة الطعام الموضوعة أمام نافذةٍ ناتئة من الحائط، تُطلُّ على الشارع. وكان الكلب همفري قد تلقى طعامًا على سبيل المكافأة، وكان مشغولًا بمضغِها في فِراشه عند الزاوية. كانت تيس قد أعدَّت ضلوعًا قصيرة مطهية، وبيننا نحن الثلاثة استهلكنا ثلاثَ زجاجاتٍ من النبيذ قبل أن تُحضر الحلوى، التي كانت فطيرة كليمنتين.


قلتُ: «هل صنعتِ ذلك؟»


«يا إلهي! كلَّا. أنا أطبخ لكنني لا أخبز. من يريد نبيذ بورت؟»


قال براين وهو ينظر إليَّ: «لا نريد. دعونا نحتسِ بعضًا من ذلك الويسكي الذي تحدَّثتَ عنه سابقًا. التاليسكار.»


قالت تيس: «يمكنكم تناولُ ذلك. أما أنا، فسأتناول بورت.»


قلتُها ونهضتُ واقفًا: «هل يمكنني إحضاره من أجلك؟» واصطدمت فخذي قليلًا بحافة الطاولة.


«شكرًا لك يا مال، سيكون ذلك رائعًا. يوجد بورت في قبْوِنا. بري، أخبره أيُّ زجاجة ينبغي أن يُحضرها. والويسكي في الطابق العلوي، على ما أعتقد.»


تلقَّيتُ التوجيهات ونزلتُ إلى الطابق السفلي أولًا للبحث عن نبيذ بورت. لم أنزل بالأسفل هنا من قبل؛ كان القبو شبه مشطَّب، والجدران مغطَّاة بالألواح الصخرية، لكن الأرضية مصبوبة بالأسمنت فقط. وعلى امتداد أحد الجدران كانت هناك خِزانةُ كتب ضخمة. ذهبتُ لإلقاء نظرةٍ عليها، ووجدتُ أنها مليئةٌ بالكامل بكتب براين موري، وجميع النسخ المختلفة، بما في ذلك الطبعات الأجنبية من سلسلة إليس فيتزجيرالد. وقفتُ أحدِّق بها لحظةً، مُدركًا أنه كان لديَّ الكثير لأشربه على العشاء. وقد جعَلني ضوءُ القبو الخافت أشعر وكأنني في حُلم. كانت المحادثة على العشاء مُسلِّية، لقد استخدمني كلٌّ من تيس وبراين جمهورًا مستمِعًا لإهاناتهما المتبادَلة العدوانية بعض الشيء، التي تميل إلى المغازَلة قليلًا. لكن بينما كنتُ أتمايل أمام رفِّ الكتب، ممسكًا بما بدا أنه إصدارٌ ورقي روسي من «حتى تؤدي دَور الشرير»، ظللتُ أفكِّر فيما تحدَّثتُ عنه أنا وبراين أثناء تناول الشراب، حول مدى استمتاعه الواضح بكتابة رواياته عن الانتقام العنيف. وكيف كتب كتابًا آخَر ولم ينشره مطلقًا. كنت أرغبُ في العودة إلى تلك المحادثة.


كان الجانب الآخر من القبو مليئًا برفوف النبيذ التي تمتدُّ من الأرض إلى السقف. لقد أخبرني براين أن أبحث عن زجاجة تايلور فلادجيت تاوني بورت، التي ينبغي أن تكون في أعلى اليمين. سحَبتُ عدة زجاجاتٍ قبل أن أجد الزجاجة المناسبة وأُحضرَها إلى المطبخ بالطابق العلوي، حيث كانت تيس تُكدِّس الأطباق في مغسلتهم الضخمة.


قلتُ: «من أجلك.»


لم أُفاجَأ تمامًا عندما شكرتني بعد أن أخذت الزجاجة، ثم وضعتها على المنضدة وجذبتني لتُعانقني. قالت: «سررتُ بوجودك هنا مال، أتمنَّى أن تكون مستمتعًا أيضًا.»


قلتُ: «بالطبع.»


وضعَت يدها على فكِّي وأخبرتني كم كنت لطيفًا. «اذهب وأحضِر لبراين الويسكي الخاصَّ به قبل أن يُفيق. سأفتح زجاجة البورت.»


صعدتُ الدرَج ودخلتُ غرفة المعيشة. كان كلُّ ما تبقَّى من النار بِضع جمراتٍ مشتعلةٍ في كومة من الرماد. كانت الغرفة لا تزال دافئة. مشيتُ إلى خِزانة الخمور، وانحنيتُ وفتحتُها. وفي الداخل كان هناك نحوُ اثنتَي عشرة زجاجة، كل أنواع الويسكي بقدرِ ما أستطيع القول. وجدتُ قِنِّينة التاليسكار وأخرجتُها. وكانت هناك زجاجةٌ مثلَّثة من الويسكي خلفها تُسمى «ديمبل بينش». لقد كان السكوتش نفسَه الذي وُجِد قدمَي نيك برويت. كنت متأكِّدًا من ذلك. كان شكل الزجاجة فريدًا من نوعه؛ إذ كانت زجاجةً ثلاثية الجوانب، وكلُّ جانب مُنبعجٌ قليلًا. ويحيط بالزجاجة سلكٌ رقيق. رُحتُ أبحث أكثر في الخِزانة ووجدتُ أن هناك زجاجتَين أُخريَين من السكوتش نفسِه، وكلتاهما مغلقتان، كان هذا على الأرجح سكوتش منتصف الأسبوع الخاص ببراين، الذي وضعه في دورقه فوق الخزانة.


نهضتُ، وأنا لا أزال ممسكًا بزجاجة التاليسكار، أتمنَّى لو كنتُ أقلَّ سُكرًا، وأتمنَّى أن أتمكَّن من معرفةِ ما سأفعله بعد ذلك بالضبط. سمعتُ أحدهم يدخل الغرفة، لكن كان هذا همفري فحسب، يتنفَّس بصعوبة، ويتَّجه نحو الجُبن والمقرمشات التي لا تزال على طاولة القهوة.


الفصل الخامس و العشرون


بينما الويسكي بيننا، استمعتُ إلى براين يروي قصةَ عطلة نهاية الأسبوع التي أمضاها وهو يشرب حتى الثُّمالة مع تشارلز ويلفورد في ميامي. كان براين يعرف أنني من مُحبي فيلم «بدعة البرتقال المحروق»، ومن ثمَّ أخبرني قصة ويلفورد عدة مرات. وكانت القصة تتغيَّر قليلًا في كلِّ مرة.


أنا لستُ متذوِّقًا خبيرًا للسكوتش، ولكن يمكنني القول بأن تاليسكار هو صنفٌ جيد. ومع ذلك، رفعتُ الكأس إلى شفتي وارتشفتُ أقلَّ كمية فحسب. كنتُ بحاجةٍ إلى التفكير في مدلول تلك الزجاجات من «ديمبل بينش» التي رأيتُها في الخِزانة في الطابَق العلوي. هل يُعقل أن يكون براين موري هو تشارلي؟ وحتمًا كانت إجابتي على الفور هي لا. كان من هؤلاء الرجال الذين يمكنهم التحدُّث ببراعة وبطريقة مقنعة، ولكنهم لا يتمكَّنون في الواقع من إنجاز الكثير من الأشياء. لا يقود سيارته، ولا يستطيع الطهي. وأنا متأكِّد من أنه لا يتَّخذ ترتيبات سفرِه أو يُقدم الضرائب المستحَقة عليه، أو يحسب فواتيره الخاصة. كلُّ ما في مقدوره هو الكتابة ومُعاقَرة الشراب والتحدُّث. سيكون من المستحيل أن يُخطِّط لجرائمِ قتل فعلية، ثم يُنفِّذها.


ولكن ماذا لو كان قد قدَّم المساعدة؟


وبينما كنا نحتسي الشراب، استطعتُ رؤيةَ المطبخ، حيث كانت تيس تقوم بالتنظيف وهي تُدندن لنفسها. بدَت سعيدة، مسترخيةً تقريبًا. ثم كانت هناك فترةُ توقُّف مؤقتة في سرد قصة براين، وقلتُ: «هل سبق لك أنْ قرأتَ منشورات المدوَّنة التي كتبتُها ونشرتُها على الموقع؟»


قال: «أيُّ موقع؟»


«موقعنا الإلكتروني. موقع «ذا أُولد ديفيلز». المدوَّنة المرفَقة به.»


قال متذكِّرًا: «أوه، حسنًا». لطالما أزعجتُه على مَرِّ السنين حتى يكتب شيئًا لها، مجرد ترشيح لكتابٍ من حينٍ لآخَر، أو قائمة بالكتب المُفضَّلة لديه، لكنه لم يفعل قط. «ماذا بشأنها؟»


«هل تتذكَّر قائمةً كنتُ قد كتبتُها، قبل بضع سنواتٍ، قبل حتى أن تُصبح مالكًا، تُدعى «ثماني جرائم كاملة»؟»


راح يحُكُّ عينه من الداخل، وأخذتُ أتفحَّصه. قال أخيرًا: «تلك القائمة، نعم أتذكَّر. أعتقدُ أن المرة الأولى التي عرَفتُ فيها اسمك كانت من قراءة تلك القائمة. أتدري ما فكَّرتُ فيه وقتها؟»


«كلَّا.»


فكَّرتُ: «لا أصدِّقُ أنَّ هذا الوغد لم يُدرِج كتابًا واحدًا من كتبي.»


ضحكتُ. «هل هذا حقًّا ما فكَّرتَ به؟»


«بالتأكيد. إنك تصل إلى مرحلةٍ في حياتك المهنية تكون فيها كلُّ قائمة بأفضلِ عشرة كتب أو كلُّ قائمة بأفضل الكتب في نهاية العام بمنزلة إهانةٍ شخصية إذا لم تكن جزءًا منها. لكن الفكرة أنه … ليست الفكرة، إن لم تَخُنِّي الذاكرة، أنك لم تُدرج أحدَ كتبي، بل أنك لم تُدرج كتاب «موسم الحصاد». أعني، يا إلهي! مال، هيا.» كان يبتسم الآن.


قلتُ: «ساعدني. إنها تلك الرواية حيث كارل …»


«كارل بويد، صحيح.»


تذكَّرتُ ذلك الكتاب. كان من أوائل كتبه. كان الشرير، كارل بويد، مختلًّا عقليًّا يسعى إلى الانتقام من كلِّ مَن قلَّل من شأنه. وقد شمل ذلك العديدَ من الناس. إن لم تخُنِّي الذاكرة، كان كارل صيدلانيًّا. كان يختطف ضحاياه قبل قتلهم، ويحقنهم بمادة الصوديوم بنتوثال، أو شيء مُشابه، لحملهم على قول الحقيقة. ثم يسألهم عن أسوأ مخاوفهم، ويطلب منهم وصْفَ المِيتة التي تُرعبهم أكثرَ من غيرها. فعلى سبيل المثال، قد يعترف شخصٌ بأنه يُعاني رُهابَ الأماكن المغلقة، ومن ثمَّ كان كارل بويد يدفنه حيًّا داخل صندوق.


قلتُ: «كيف نسيتُ هذا الكتاب؟»


«على ما يبدو أنك نسيته.»


«لم يكن ليُناسب تلك القائمةَ التي كنتُ أُعدُّها، على أي حال. كانت تلك القائمة لجرائم القتل الكاملة على وجه التحديد. جرائم قتل لا يمكن حلُّ لغزها.»


«عمَّ تتحدَّثان؟» كانت تيس قادمةً من المطبخ، وهي تمسح يدَيها المبلَّلتَين أسفل فخِذَيها.


قلتُ: «القتل»، في الوقت نفسِه الذي قال فيه براين: «عدم الاحترام.»


قالت تيس: «أوقات سعيدة، كنتُ أفكِّر في تحضير قدرٍ من القهوة، وأردتُ أن أعرف مقدارَ ما يجب أن أصنعَه. براين، نعم، أعلم أنك غيرُ مهتم».


قلتُ: «سأتناول البعض.»


«عادية؟ أم منزوعة الكافيين؟»


قلتُ: «سأتناولُ الصِّنف الحقيقي»، وتساءلتُ عما إذا كنت قد تلعثمت قليلًا في كلمة «صنف».


استدارَت عائدةً إلى المطبخ وقال براين: «لا يوجد شيء من هذا القبيل، حقًّا.»


قلتُ: «ماذا تقصد بالشيء؟»


قال: «إنني أتحدَّثُ عن القائمة التي كتبتها، لا يوجد شيءٌ اسمه جريمة قتل كاملة.»


«في الأدب، أم في الحياة الواقعية؟»


«في كِلَيهما. هناك متغيِّراتٌ كثيرة جدًّا على الدوام. دعني أخمِّن ما كان لديك في تلك القائمة. «غريبان على متن قطار»، أليس كذلك؟»


قلتُ: «صحيح». كان براين قد انتصَب في جِلسته قليلًا الآن، وبدا أنه أقلُّ سُكْرًا.


«بالطبع، أدرجتُها. أتذكَّر حقًّا هذه القائمة الآن، والأمر لا يتعلق فقط بكَوني لم أكن فيها. إنَّ «غريبان على متن قطار»، ولا أقصد الإهانة لبات هايسميث، هي فكرةٌ غبية لجريمة قتل كاملة. ما الذي يجعلها ذكية؟ أن تطلب من شخصٍ غريب أن يقتل بالنيابة عنك؟ وبهذه الطريقة يمكنك الحصول على حُجَّةِ غيابٍ دامغة ومتينة؟ مستحيل. ففي اللحظة التي تستعين فيها بشخصٍ غريب كي يقتل شخصًا ما بالنيابة عنك، فربما تكون أنت أيضًا بصددِ تسليم نفسك إلى الشرطة. إنه أمرٌ لا يمكن التنبؤ به. إذا كنتَ ستقتل شخصًا ما، فاقتُله بنفسك. لا يمكنك الوثوقُ بشخصٍ آخر حين يتعلق الأمر بالقتل.»


«ماذا لو كنتَ تعرف يقينًا أن هذا الشخص لن يُسلمك أبدًا؟»


لوَى براين قسَمات وجهه، خافضًا حاجبَيه وهو يزمُّ فمَه، وقال: «انظر، انا لا أدَّعي بأنني خبيرٌ في علم النفس، لكنني أعرفُ شيئًا واحدًا، وهو الشيءُ الوحيد الذي أُذكِّر نفسي به مِرارًا وتَكرارًا عندما أكتبُ كتابًا. لا أحدَ يعرف ما يدور في ذهن غيره أو في قلبه». ولمس رأسه وصدره. «إنهم فقط لا يفعلون. ولا حتى زوجان مضى على وجودهما معًا خمسون عامًا. هل تعتقد أن أحدهما يعرف ما يفكِّر فيه الآخَر؟ إنهما لا يعرفان. لا أحدَ منا يعرف شيئًا».


«إذن فأنت لا تعرف ما تفكِّر فيه تيس الآن؟»


قال رافعًا حاجبَيه مستهترًا: «حسنًا، أعرفُ بعض ما يجول في خاطرك الليلة، ولكن هذا فقط لأنها قد أخبرتني.»


«لا يهم.»


«لا، لا يهم. حسنًا، فيمَ تفكِّر، إلى جانبِ محاولةِ تذكُّر عدد مَلاعق القهوة اللازمة لتحضير قدر؟ لا أعرفُ حقًّا. حسنًا، هذا ليس صحيحًا بالمرة. أنا أعرفُ بعضًا مما تُفكِّر فيه. على سبيل المثال، من المُحتمل أنها تُحصي مشروباتي وتتساءل عند أي مرحلة ستُقرِّر أن تُخبرني أنني تناولتُ ما يكفي. إنها تفكِّر على الأرجح في بنطالٍ من الجينز قيمته ثلاثمائة دولار تريد شراءه. وهي تُفكِّر فيك يا صديقي.»


«ماذا تقصد؟»


«منذ أن التقينا بك مصادفةً في الحانة تلك الليلة، وهي تتحدَّث دون توقفٍ عن دعوتك هنا على العشاء.»


قلتُ: «إنَّ لديها مخطَّطًا»، متذكِّرًا ما قالته لي عن رغبتها في إقناع براين بالحصول على شخصٍ كي يُساعدها في شئون المنزل.


«لدى تيس دائمًا مخطَّط.»


استطعتُ أن أشمَّ رائحة القهوة الآن قادمة من المطبخ، رائحة مريرة قاتمة جعلَتني أشعر بمزيدٍ من الصحو بمجرد أن شمَمتُها.


أزعجَني التطرُّق في المحادثة إلى تيس. كنت أعرفُ براين منذ مدةٍ طويلة، ولقد رأيتُه مخمورًا مراتٍ عديدة، لكن الطريقة التي كان يتصرَّف بها الآن، كما لو كان لديه سرٌّ يُخفيه، كانت شيئًا جديدًا بالنسبة إليَّ. لطالما كان شخصًا يُخبرني بما يدور في ذهنه.


قلتُ: «ما مخطَّطها الليلة؟»


«لديَّ فكرة، ولكن كما قلتُ سابقًا، فنحن لا نعرف حقًّا ما يدور في رأس أحدهم.»


سمعتُ صلَّال الخزف واستدرتُ لأرى تيس قادمةً نحو الطاولة، وهي تحمل صينية تحتوي على فنجانَي قهوة، بالإضافة إلى السكَّر والقشدة. وضعَت أحدَ الفنجانَين والصحن الخاص به أمامي، ثم جلسَت تتنهَّد بينما هي تفعل ذلك.


قلتُ: «شكرًا لك، شكرًا»، وأنا أضيفُ بعض الكريمة إلى قهوتي وأخذتُ رشفة.


قال براين: «هل تريد إضافةَ بعض الويسكي الأيرلندي إلى تلك القهوة؟ لديَّ البعضُ هنا في مكانٍ ما. فقط لا تُضِف إليها سكوتش.»


قلتُ: «إنها رائعة كما هي.»


قالت تيس: «حقًّا. فيمَ كنتما تتحدَّثان؟» راحت تُضيف الكريمة وتقلِّب قهوتها. وكانت شفتاها ملطَّختَين قليلًا بنبيذ البورت الذي كانت تشربه، وكان شعرها الذي عادةً ما يتدلَّى على جانبَي وجهها، مدفوعًا للوراء خلف أذنَيها.


قال براين: «أخبِرْها أنت. لا بد لي من الذَّهاب لقضاء حاجتي». وضعَ يده السليمة على الطاولة ونهضَ واقفًا. راقبتُه أنا وتيس، في انتظارِ أن نرى مدى ثباته، لكنه بدا بخير وهو يسير إلى خارج الغرفة.


قالت تيس، بعد أن سمِع كِلانا باب الحمَّام يُغلق: «هل ذكرت أيَّ شيء عن استحضارِ مَن يُساعدني في شئون المنزل هنا؟»


قلتُ: «كلَّا، لم أفعل، نسيتُ أننا تحدَّثنا عن ذلك.»


قالت: «لا بأس. أيُّ شيءٍ ستذكره له الليلة لن يتذكَّره في الصباح، على أي حال. ولكني أشعر بالفضول، ما الذي كنتما تُثرثران به هنا. لقد بدا براين متحمسًا تقريبًا.»


«كان يتحدَّث كيف أنَّ أحدًا لا يعرف ما يجول في خاطر غيره، وكيف أننا لا نعرف بالضبط ما يجول في خاطر غيرنا.»


قالت وهي تنفُث في قهوتها: «أتعتقد أن هذا صحيح؟». كانت لديها خطوطٌ صغيرة حول شفتَيها، كما لو كانت مدخِّنة يومًا ما. كانت لديَّ صورةٌ مبهمة لرؤيتها تُدخِّن سيجارة، لكن ليس منذ سنوات.


«نعم، في الواقع. إنني أفكِّر في الأمر كثيرًا، كيف أننا لا نعرف أبدًا حقيقةَ الناس. لكنني لا أعرف دائمًا إن كان الأمر ينطبق عليَّ وحدي، أم إن الجميع هكذا.»


قالت: «ماذا لو أنك وحدَك هكذا؟»


«أعتقدُ أنني أجد صعوبةً في التعرُّف على الناس. ليس ظاهريًّا. فأنا جيدٌ في هذا. لكن عندما أقتربُ من شخصٍ ما، فإنني حينَها أشعر أنه يتلاشى. هذا حين أنظر إليه وأجد فجأةً أنني ليس لديَّ أيُّ فكرة عما هو عليه حقًّا، أو عمَّا يفكِّر فيه حقًّا.»


قالت: «هل كان هذا هو شعورك تجاه زوجتك؟»


قلتُ تلقائيًّا: «كلير؟»


ضحكَت تيس. «ما لم تكن متزوجًا أكثرَ مما أعرف عنك.»


فكَّرتُ لحظةً، محاولًا أن أتذكَّر إن كنتُ قد تناقشتُ بشأن كلير مع تيس في الماضي أم لا. أو حتى لو كنت قد ناقشتُ كلير مع براين. قلتُ أخيرًا: «ماذا كان السؤال؟»


«آه، لقد أزعجتُك بسؤالي. أنا آسفة.»


«لا، لا. أنا فقط ثمِلٌ قليلًا.»


«اشرب قهوتك. سوف يساعد ذلك.»


أخذتُ رشفةً أخرى. ثم، بتلقائيةٍ شديدة حقًّا، تركتُ القهوة تنزلق مرةً أخرى من فمي إلى الفنجان. أصبحتُ مصابًا بهوس الارتياب، أعلم هذا، لكن إذا كان لدى تيس أو براين، أو كِلَيهما نوايا لإلحاق الأذى بي، فإنَّ وضع المخدِّر في طعامي أو شرابي سيكون منطقيًّا للغاية.


«لقد شعرتُ بالقرب من كلير أكثرَ مما شعرتُ به تجاه أيِّ شخص من قبل أو بعد ذلك. لكن في بعض الأحيان لم أكن أعرفها.»


كانت تيس تُومئ برأسها. «هكذا هو شعوري تجاه براين، أعني الشعورَ بالقُرب؛ ثم بين الحينِ والآخَر يقول شيئًا أو أقرأ شيئًا كتَبه، وأتساءل إن كنتُ أعرفُ أيَّ شيءٍ عنه من الأساس. إنه شعورٌ عام. ما الذي جعلكما تخوضان في ذلك؟»


فكَّرتُ مرةً أخرى، وأنا قلِقٌ من أنَّ عقلي كان يعمل ببطءٍ شديد. «كنا نتحدَّثُ عن قائمةٍ كتبتُها مرةً. حول جرائم القتل الكاملة. وكان براين يقول كيف أن المرء لا يمكنه الوثوقُ في أي شخص لارتكاب جريمة قتل بالنيابة عنه، وأن المرء لن يعرف حقًّا ما الذي يُفكر فيه غيره.»


ظلَّت تيس هادئةً لحظةً وهي تُفكِّر. «أعتقدُ أن المرء إن استعان بشخصٍ آخر لارتكاب جريمة قتلٍ بالنيابة عنه، فسيكون أفضلُ شخص هو شريكَ حياته؛ زوجًا كان أو زوجة.»


قلتُ: «أجل. هل تفعلين ذلك لبراين؟»


«أعتقد أن الأمر سيعتمد على كُنْه الشخص الذي يريد مني قتْلَه. لكنني سأفكِّر في الأمر. تلك فحسبُ نوع الزوجة التي أنا عليها. يعتقد الناس أن براين انفصل عن ماري وتزوَّجني لأنني كنتُ أصغرَ سنًّا، لكن لم يكن الأمر كذلك على الإطلاق. فعلى الرغم من أننا نقضي الكثيرَ من الوقت متباعدَين، أنا وبراين، فنحن قريبون جدًّا كما تعلم. أقربُ مما كان عليه إطلاقًا مع أي شخص. إننا مخلصان. سأفعلُ أيَّ شيءٍ من أجله، وسيفعل أيَّ شيءٍ من أجلي.»


انحنَت نحوي وهي تتحدَّث، وكان بإمكاني شمُّ رائحةِ القهوة في أنفاسها ممزوجةً بالنبيذ.


قلتُ: «بالحديث عن براين …» تراجعَت في جِلستها إلى الوراء، وأمالت رأسها كي تستمع.


قالت: «إنه بخير، على ما أعتقد. من المُحتمل أنه يمنحنا أنا وأنت بعضَ الوقت لنكون بمفردنا معًا.»


«هل أنتِ متأكِّدة؟ ربما يجب علينا تفقُّدُه؟» شعرتُ بالتوتر فجأة. ربما كان كلُّ هذا من تأثير الكحول، لكنني شعرتُ كما لو كنتُ في مسرحية، وأنَّ الأمسية قد خُطِّط لها بحيث تنتهي بي وحيدًا مع تيس نحتسي القهوة.


لمسَت ركبتي بأصابعها ثم نهضَت. «أنت على حق. سأذهب لإحضاره وسأخبره بأن الوقت قد حان للذَّهاب إلى الفراش. لكن عليك أن تبقى يا مال. أعني ذلك. ما زالت الليلة في بدايتها. دعنا نجلس هناك ونتناول مشروبًا آخرَ». وأمالت رأسها للإشارة إلى أريكتَين صغيرتين إحداهما في مواجهةِ الأخرى، بجوار خِزانة كتب طويلة، مما يُشكِّل ركنًا مريحًا بين غرفة الطعام والمطبخ المفتوح.


قلتُ: «حسنًا»، ثم نهضَت وخرجَت من الغرفة. جلستُ لحظةً، محاولًا معرفةَ ما يجب القيامُ به. كانت هناك موسيقى تصدُر من المطبخ، إيلا فيتزجيرالد تُغني «ضوء القمر في فيرمونت». شممتُ قهوتي التي لم أشربها، ثم تناولتُ رشفةً صغيرة أخرى. ثم التقطتُ قهوةَ تيس وجرَّبتُها. إنها مثل قهوتي، كانت تضع فيها الكريمة فقط، ودون سكَّر، لكن طعمها كان مختلفًا اختلافًا ملحوظًا. أخذتُ أتنقَّل بين الاثنتين، وأتساءلُ عمَّا إذا كنتُ سأصابُ بالجنون. إذا أرادت أن تُسمِّمني، كان بإمكانها وضعُ شيءٍ ما في نبيذي، أو حتى في الطعام. ومع ذلك، ربما أرادت الانتظارَ حتى نهاية الوجبة. وقفتُ متجاوزًا الأرائكَ ودخلتُ المطبخ. يمكنني الآن سماعُ صوت تيس، وهي تتحدَّث إلى براين في الرَّدهة بالأسفل، لكن لم أستطِع تبيُّن الكلمات. كان المطبخ نظيفًا. لم أكن أعرف بالضبط ما كنت أبحث عنه، مجرد شيءٍ من شأنه أن يُثبِّت ما كنتُ أشكُّ فيه بالفعل. دُعيتُ إلى هنا لسببٍ ما.


ذهبتُ ونظرتُ إلى الحوض العميق المصنوع من الفولاذ المقاوِم للصدأ. كان فارغًا. في رفِّ الأطباق كان هناك عددٌ قليل من الأواني والمقالي، وكان بإمكاني سَماع صوت الإيقاع المنتظم لغسَّالة الأطباق، وإن كنت لم أستطِع رؤيتها. بجانب وعاء القهوة، الذي كان ضوءُه الأحمر مضاءً، كان هناك لوحُ تقطيعٍ، وفوق لوح التقطيع كانت هناك قطعةُ خشبٍ أسطوانية ثقيلة جدًّا. التقطتُها وبدَت كما لو كانت سلاحًا في يدي. ربما كانت مِرقاقَ عجين، وإن كانت تختلف عن أيِّ مرقاق عجين قد شاهدتُه من قبل.


«عمَّ تبحث، يا مال؟»


وقفَت تيس عند مدخل المطبخ. قلتُ: «أوه، لا شيء. إنني معجبٌ بمطبخك فحسب. كيف حال براين؟»


«إنه نائمٌ في غرفة الضيوف بالطابق السفلي. أو، كما أحبُّ أن أُسمِّيَها، غرفة نوم براين. إنه يقضي هناك لياليَ أكثرَ مما يقضي في الطابق العلوي.»


وضعتُ مرقاق العجين على لوح التقطيع. وقلتُ: «سأذهبُ.»


«أنت متأكِّد؟»


«نعم. فأنا ثمِلٌ قليلًا على ما أعتقد، ولم أنَم جيدًا مؤخرًا. سوف أذهبُ إلى المنزل فحسب.»


قالت: «إنني أتفهَّم، لا يُعجبني ذلك لكنني أتفهَّم. دعني أحضِر معطفك.»


وقفتُ في الرَّدهة وانتظرتُ ما بدا كأنه دهر، ثم أحضرَت لي تيس معطفي الشتوي مطويًّا تحت ذراعها. اقتربَت مني وقالت: «ماذا لو أخبرتُك أنه ليس مسموحًا لك بالمغادرة». كان صوتها مختلفًا. أكثر ملاطفةً، وأكثر هدوءًا.


انتزعتُ معطفي بيدي اليسرى واندفعتُ إلى الخارج بيميني، على أملِ أن أُفقِدَها توازنَها مدةً كافية حتى أخرجَ من الباب. تعثَّرَت للخلف، ثم سقطَت، لترقد في وضعِ الجلوس على الأرضية الخشبية الصُّلبة. قالت: «أوو، ما هذا؟ اللعنة، يا مال؟»


«ابقَيْ مكانكِ.» هزَزتُ المعطف الذي أصبح في حوزتي الآن، متسائلًا عمَّا إذا كانت تُخبِّئ سلاحًا فيه. لربما تُخفي مرقاق العجين.


تدحرجَت تيس قليلًا على جانبها لتضع ساقَيها أسفلها. قالت: «ماذا حلَّ بك؟»


غمرني الشكُّ، لكنني قلتُ: «أعرفُ ما فعَلتِه بنيك برويت»، على أملِ أن يُساعد نطقُ الاسم بصوتٍ عالٍ في تأكيد ذلك.


نظرَت إليَّ، وشعرها الآن ينسدل على جانبَي وجهِها، وقالت: «ليس لديَّ أيُّ فكرة عمن تتحدَّث. مَن هو نيك برويت؟»


«قتَلتِه منذ ليلتَين. رأيتِ كتابه في متجري، وأدركتِ أنني كنتُ أحقِّق في أمره بسبب علاقته بنورمان تشيني. وهكذا وصلتِ إليه أولًا. وجعلتِه يحتسي معك ويسكي «ديمبل بينش». ربما دفعتِه إلى الإفراط في الشراب».


كانت تيس تُحدِّق إليَّ، وعيناها مرتبكتان، وعلى فمِها نصفُ ابتسامة، كما لو كنتُ في أي لحظة سأكشفُ عن الجزء الأخير لمزحةٍ ما. «ألا تُريدينني أن أعرف بالأمر، أن أعرف عن مخطَّطكِ؟ أليس هذا هو سببَ وجودي هنا؟»


بدَت تيس الآن جَزِعة، قالت: «مال، سوف أنهضُ. ليس لديَّ أيُّ فكرة عمَّا تتحدَّث. أتُراه شيئًا بينك وبين براين؟ هل هذه مزحة؟»


قلتُ: «إنكِ تعرفين تلك القائمة التي ذكرتُها.»


«قائمة جرائم القتل؟»


«شخصٌ ما يستخدم تلك القائمةَ لقتل الناس في الواقع. أعلم أنني أبدو مجنونًا. لكنني لستُ كذلك. لقد تواصل معي مكتبُ التحقيقات الفيدرالي وتحدَّثوا إليَّ. اعتقدتُ أن الأمر ربما تكون له علاقةٌ بك. أو ببراين.»


قالت: «لماذا؟»


«لماذا كانت قهوتنا مختلفة؟ لماذا أخبرتِني للتو أنني لا أستطيع المغادرة؟»


خفَضَت رأسها وضحكت قليلًا. «من فضلك، ساعدني على النهوض. أعدُك بأنني لن أقتلك.»


انحنيتُ، وأخذَت يدي وساعدتُها في النهوض. «كان مذاقُ قهوتنا مختلفًا؛ لأن قهوتي منزوعة الكافيين وقهوتك كانت عادية. والسببُ في أنني قلتُ إنك لا تستطيع المغادرةَ هو أنني كنتُ أحاول إغواءك.»


قلتُ: «أوه.»


«عرَف براين، أو باتَ يعرف، أعني، أنني كنت سأحاول سواء هذا أو ذاك. وهو لا يُمانع ذلك. لقد انتهى ذلك الجزءُ من حياتنا، والآن بما أنني هنا في بوسطن مدةً من الوقت … إنه معجبٌ بك.» هزَّت كتفَيها. «وأنا كذلك».


قلتُ: «آسف.»


«لا تتأسَّف. إنها مجرد سخافة، هذا كلُّ شيء. أحاولُ أن أجعلك تقضي الليلة معي، وأنت تعتقد أنني أحاولُ قتلك.»


قلتُ وأنا أشعر بالحرج فجأة: «لم أكن قد حصلتُ على القسط الكافي من النوم».


«هل هذا صحيح؟ ما قلته بشأن القائمة؟»


قلتُ: «إنه كذلك. هناك شخصٌ يستخدمها لقتل الناس. وأنا متأكِّد من أنه شخصٌ يعرفني.»


«يا إلهي! هل أنت على استعدادٍ لتُخبرني بذلك؟ إن الوقت ليس متأخرًا إلى هذه الدرجة حقًّا.»


قلتُ: «ليس الآن، حسنًا؟ أعتقد حقًّا أن عليَّ الذَّهاب. آسفٌ لأنني دفعتك. آسفٌ أنني …»


قالت وعانقَتني وهي تضغط بشدة: «لا بأس»، ظننتُ أنها ستُحاول تقبيلي كذلك، لكني أعتقد أن تلك اللحظة قد ولَّت. ابتعدَت وقالت: «أتمنَّى لك مسيرةً آمنة إلى المنزل. هل تريد مني أن أطلب لك سيارة أجرة، أو أي شيء؟»


قلتُ: «كلَّا، شكرًا. وفي المرة القادمة التي نلتقي فيها، سأخبرك بالمزيد عمَّا يجري.»


«سوف أتمسَّك بذلك الوعد.»


بعد أن انغلق البابُ خلفي، وقفتُ في الخارج على عتبةِ منزلهما الأمامية لحظةً. كان الشارع هادئًا، والثلج ملتصقًا بكل شيءٍ. سمعتُ صوتَ الموسيقى من بعيد، ورأيتُ أشخاصًا يخرجون من حانةٍ في الزاوية. أخذتُ الدرجات الثلاث نزولًا إلى الرصيف واستدرتُ يسارًا، مدركًا أنني كنتُ أسيرُ على الثلج البكر، مخلِّفًا ورائي علاماتٍ جديدة. لم أكن قد اجتزتُ حتى نصف بناية عندما سمعتُ الخطوات ورائي، مسرعة، واستدرتُ لأرى تيس تتحرَّك بسرعة، بلا معطف وهناك شيءٌ في يدها. لا بد أنني أجفلت؛ لأنها توقَّفَت على بُعد ثلاثِ أقدام مني، ومدَّت إليَّ يدَها بكتاب.


قالت وهي تلهث قليلًا: «نسيتُ. يريدك براين حقًّا أن تحصل على هذه. إنها نسخةٌ سبقَ إعدادها قبل النشر تخصُّ روايته الجديدة. لا تقُل له إنني أخبرتُك، لكنه سوف يُهديها إليك.»


الفصل السادس و العشرون


عُدتُ إلى المنزل بعد ساعة، باردًا رطبًا، ومتقطِّع الأنفاس من اجتياز شارعي الشديد الانحدار وسط الجليد المتراكم.


خلعتُ معطفي، وحذائي وجواربي، واستلقيتُ على الأريكة في الظلام. كنت بحاجةٍ إلى التفكير. إن لم يكن السببُ شيئًا آخر، فإن المشيَ الطويل إلى المنزل قد عمل على إفاقتي، وظلَّت صورٌ من الليلة الهزلية التي قضيتُها للتو في منزل براين وتيس تتكرَّر في ذهني. بدا سخيفًا الآن أنني اتهمتُ تيس بقتل نيك برويت والآخَرين من القائمة، لكن عندما قلتُ ذلك، عندما كنت هناك، مقتنعًا بأن قهوتي قد تسمَّمَت، كان الأمر منطقيًّا تمامًا. تساءلتُ عمَّا كانت تفعله تيس الآن. هل أيقظت براين وأخبرته كيف دفعتُها أرضًا واتهمتُها بالقتل؟ هل اعتقدَت أنني أُصِبتُ بالجنون؟ قرَّرتُ أنني سأتصل بها أولَ شيء في الصباح، ربما أفضي إليها أكثرَ بقليل عمَّا كان يحدُث مؤخرًا. كما فكَّرتُ قليلًا في عرْضها، حول سبب دعوتي إلى منزلهما في المقام الأول. في ظروفٍ مختلفة، لربما كنتُ في الفراش مع تيس موري الآن.


نهضتُ جالسًا، وسقط كتاب براين موري من حضني، ووقع على الأرض. أشعلتُ المصباح، ثم تناولتُ الكتاب، ونظرتُ إليه أولَ مرة. كان العُنوان «الهواء البرِّي»، وأظهر رسمُ الغلاف، مثل رسمِ العديد من أغلفته، ظَهْرَ إليس فيتزجيرالد وهي تنظرُ خارجًا نحو أحدِ المناظر الطبيعية، أو مسرح الجريمة. على هذا الغلاف، كانت تنظر إلى شجرةٍ واحدة في خطِّ الأفق، وسِربٌ من الطيور يُقلِع من أغصانه، بينما يرقد أحدُ الطيور في حقلٍ مغطًّى بالثلج. على الأرجح ميتًا.


التفتُّ إلى الصفحة التي يُكتب فيها الإهداءُ عادةً، وكان كلُّ ما فيها هو: «الإهداء سيأتي لاحقًا»، وهي جملةٌ يكتبها المحرِّرون للإشارة إلى أن نصَّ الإهداء غير متاح بعدُ. تساءلتُ عمَّا إذا كان براين سيُهدي الكتاب إليَّ بعدما يكتشف أنني ظننتُ أنَّ زوجته قاتلة.


بدأ الكتابُ بخط الحوار: «سأل ميتش: «ماذا ستتناولين؟». تردَّدت إليس. كانت إجابتها كأسًا من النبيذ — كانت دائمًا كأسًا من النبيذ — لكنها قالت هذه المرة: «ماء الصودا والتوت البري، شكرًا».»


فكَّرتُ في قراءة البقية، لكنني قررتُ أنني بحاجةٍ إلى الحصول على قسطٍ من الراحة بدلًا من ذلك. وضعتُ الكتاب على طاولة القهوة، وأطفأتُ المصباح، وتقلَّبتُ على جانبيَّ على الأريكة، وأغمضتُ عينيَّ. استغرقتُ نحو خمس دقائق. ظلَّ عقلي يدور سريعًا، مُراجِعًا أحداثَ الأيام القليلة السابقة مِرارًا وتَكرارًا. ثم تذكَّرتُ الرسالة التي تركتُها على موقع «دوكبرج» محاولًا إعادةَ الاتصال بتشارلي، وتساءلتُ إن كان قد وصلَني الرد. ذهبتُ وأحضرتُ الكمبيوتر المحمول الخاصَّ بي، وأعَدتُه إلى الأريكة، وسجَّلتُ الدخولَ باسم فارلي واكر، وهو اسمي المستعار الجديد. أشارت نقطةٌ زرقاء إلى أنني تلقَّيتُ ردًّا على رسالتي الأخيرة. نقرتُ عليها وقرأتُها: «مرحبًا، صديقي القديم». كان هذا كلَّ ما قيل.


كتبتُ أردُّ: «هل أنت مَن أظنُّ أنه هو؟»


لم يكن هناك طابَعٌ زمني على الرسالة، ومن ثمَّ لم أعرف متى تلقَّيتُها. ومع ذلك انتظرتُ، محدِّقًا إلى الشاشة. وفي اللحظة التي كنتُ فيها على وشْك الاستسلام، ظهرَت رسالة جديدة: «هل تعرف حتى اسمي، مالكوم؟»


كتبتُ مجددًا: «لا أعرفُ، لِمَ لا تُخبرني؟»


«ربما سأفعل، ولكن يجب أن ننتقل إلى محادثةٍ خاصة أولًا.»


حددتُ المربعَ الذي يجعل المحادثة خاصة. كان قلبي ينبض، وكان فكِّي مشدودًا جدًّا لدرجةِ أنه بدأ في الخفقان.


كتبتُ: «لماذا؟»


«لماذا ماذا؟ لماذا استمرَرتُ في شيءٍ أنت مَن بدَأَه؟ أعتقدُ أن السؤال الأفضل هو لماذا توقَّفت؟»


«توقَّفتُ لأنه لم يكن هناك سوى شخصٍ واحد أردتُ موته. وبمجرد موته لم يكن هناك سببٌ للاستمرار في القتل.» كانت هناك فترة توقُّف طويلة، وشعرتُ بالتوتر فجأةً من أن يكون تشارلي قد سجَّل الخروج. كنت أرغب في التحدُّث إليه أكثر. كان هذا أيضًا سخيفًا، لكنني شعرتُ بالأمان بطريقةٍ ما، عندما رأيتُ الكلمات التي كان يكتبها على الشاشة. هذا يعني أنه لم يكن يفعل أيَّ شيءٍ آخرَ، على ما أعتقد.


كتب أخيرًا: «آسفٌ على التأخير. فأنا بحاجةٍ إلى أن أكون هادئًا حيث أكون.»


«أين أنت؟»


«سوف أخبرك، لكن ليس الآن. فذلك سيُفسد بقيةَ المحادثة وأنا سعيدٌ حقًّا بإجراء هذه المحادثة».


شيءٌ ما في لهجته بدأ يُقلقني، وكتبتُ: «إنك مجنونٌ لعين، أنت تعلم ذلك.»


وِقفة قصيرة. ثم: «اعتقدتُ أنني كذلك أيضًا. فبعد أن قتلتُ إريك أتويل من أجلك، شعرتُ بسعادةٍ مذهلة لدرجةِ أنني كنتُ مقتنعًا بأنني كنتُ وحشًا. كان هذا كلَّ ما يمكنني التفكيرُ فيه. أطلقتُ عليه خمسَ رصاصاتٍ، والطلقة الخامسة هي التي قتلَته. أصابت الطلقة الأولى معِدته. كان يُعاني ألمًا شديدًا، ولكن بعد أن أخبرتُه لماذا سيموت، رأيتُ كل هذا الألم يتحوَّل إلى خوف. رأيتُ المعرفة على وجهه، معرفةَ أنه على وشْك الموت. هل رأيتَ ذلك مع تشيني؟»


كتبتُ مجيبًا: «كلَّا.»


«هل عرَف سبب موته؟»


«لا أعلم. أنا لم أخبره.»


«ربما لهذا السببِ لم تستمتع بالأمر كما استمتعتُ أنا. ربما لو كنتَ رأيت هذا في عينيه، معرفته بما كان يحدُث له ولماذا، عندئذٍ كنتَ ستفهم.»


كتبتُ: «لم أشعر بأيِّ متعة في ذلك. بينما شعَرتَ أنت. وهذا فرقٌ كبير بيننا.»


كتب: «لهذا السببِ أعتقد أنك أنت المجنون، تكتب قائمةً تحتفي بفنِّ القتل، ثم أقرِّرُ تنفيذَ ما تقترحه هذه القائمة، لأخلقَ فنًّا حقيقيًّا، ولا يعني هذا لك شيئًا؟»


«هناك فرقٌ بين الخيال والواقع.»


كتب تشارلي: «ليس بقدرِ ما كنتَ تعتقد. هناك جمالٌ في كِلَيهما، وأنا أعرفُ أنك تعرف ذلك.»


كتبتُ الكلمات التالية: «لم يكن هناك أيُّ جمال عندما قتلتُ نورمان تشيني»، ثم حذفتُها. كنتُ بحاجةٍ إلى التفكير لحظة. كنتُ بحاجةٍ لجعل تشارلي يثق بي، ليُخبرني بهُويته أو مكانه.


كتبتُ: «هل يمكننا أن نلتقيَ؟»


جاء الردُّ على الفور: «أوه، لقد التقينا.»


«متى؟»


«أعرفُ إلامَ ترمي من وراء ذلك. وتوفيرًا للوقت فحسب، لن أخبرك بهُويتي. ليس الآن، هكذا. هناك المزيد مما يتعيَّن القيامُ به. إنه لَأمرٌ مدهش كيف تستمر في قيادتي إلى ضحايا جُدد مثاليِّين. لقد سلَّمتَني نيك برويت على طبقٍ من فِضَّة.»


«لم يكن مُدانًا بأي شيء.»


«لقد كان مُدانًا بشيءٍ ما، صدِّقني. اعتقدتُ أنه سيكون من الصعب حملُه على الشراب بنفسه حتى الموت، ولكني أعتقد أنه استمتع بذلك تقريبًا. كان الشراب الأول هو الأصعب، ثم استمر في شربِ كلِّ ما أعطيتُه له. لقد بدا سعيدًا تقريبًا.»


«لا أظن أنني أستطيعُ حملك على تسليم نفسك قبل أن تفعل أيَّ شيءٍ آخر.»


كتب كما تمنَّيتُ أن يفعل: «فقط إذا ذهبتَ معي.»


أجبتُ: «بالطبع. أنت وأنا معًا. سنقول الحقيقة كاملةً.»


كانت هناك وِقفةٌ طويلة، وظننتُ أنني قد فقدتُه. أو لعله كان يُفكِّر في الأمر بالفعل. ثم كتب أخيرًا: «إنه أمرٌ مُغرٍ، لكنني لم أنتهِ بعد. الأمر هو أنك قدَّمتَ لي ضحيتَين أُخريَين، أحداهما ستموت، والأخرى ستختفي، تمامًا مثل «لغز المنزل الأحمر». يمكنك المساعدة إذا أردت.»


شعرت بالبرودة تسري في أوصالي.


أجبتُ وأنا أهمُّ بالوقوف: «دعني أفكِّر في الأمر». ارتديتُ ملابسي بسرعة، وعُدتُ لارتداء جواربي الرطبة مرةً أخرى، ولبستُ حذائي. كنت أرتجف. سيكون في طريقه الآن إلى منزل براين وتيس. هذا إن لم يكن هناك بالفعل. أمسكتُ بهاتفي الخلوي واتصلتُ من فوري برقم تيس، معتقِدًا أن بإمكاني تحذيرَها من السماح لأي شخص بالدخول إلى المنزل. حُوِّلتُ مباشرةً إلى البريد الصوتي، ولم أترك رسالة. فكَّرتُ في الاتصال برقم الطوارئ، لكنني علِمتُ بطريقةٍ ما أنني إذا أجريتُ تلك المكالمة، فسوف تأتي الشرطة ولن تجد شيئًا، وسأكون عالقًا في شرحِ سبب إجرائي للمكالمة في المقام الأول. قلتُ لنفسي إن هذا هو القرار الصائب.


•••


في الخارج، كانت الثلوج تتساقط أكثرَ مما كانت عليه طوال الليل. صعدتُ التلَّ إلى حيث كانت سيارتي متوقِّفة. كانت الطرقُ مروِّعة، لكنني ما زلت أعتقد أنه يمكنني الوصول بالسيارة إلى «ساوث إند» أسرعَ مما لو ذهبتُ سيرًا على الأقدام.


انعطفتُ وقُدتُ بسرعةٍ كبيرة أسفل التل، وانزلقَت السيارة في الأسفل عندما استخدمتُ المكابح، وأخذت تنعطف جانبًا. رفعتُ قدمي عن المكابح وبدأتُ في النقر عليها، لكن السيارة واصلَت السيرَ، تنزلق من تلقاء نفسها خلال الضوء الأحمر وإلى شارع تشارلز. استعددتُ للارتطام، لكن لم يكن هناك سائقون آخَرون في الشارع. فقط عددٌ قليل من المُشاة، بما في ذلك زوجان توقَّفا على الرصيف لمشاهدة حادثتي الوشيكة.


عندما توقفَت السيارة أخيرًا، كانت منحرفةً قُطريًّا، ولكنها متَّجهةٌ بطريقةٍ أو بأخرى في الاتجاه الصحيح. عدَّلتُ وضعيتها وواصلتُ القيادة، أبطأ هذه المرة، مُحدِّثًا نفسي بأن الانحراف عن الطريق هو أسوأ شيءٍ يمكن أن يحدُث. وما لم يكن يحاول فقط إخافتي، فإنَّ تشارلي قد حدَّد فعلًا هُوية ضحيَّتَيه التاليتَين. إذا تمكَّنت من الوصول إلى هناك أولًا، فسيُمكنني على الأقل تحذيرُهما. لكنني كنتُ أتساءل أيضًا إن كان تشارلي هناك بالفعل أم لا. ربما كان في منزلهما عندما كنا نُجري المحادثة على «دوكبرج»، يكتب من هاتفه. هذا من شأنه أن يُفسِّر أخطاء الكتابة. حاولتُ التركيز على عجَلة القيادة وعدم التفكير فيه. كان الثلجُ يتوجَّه الآن مباشرةً إلى الزجاج الأمامي. وكانت المَسَّاحات الخاصة بي تعمل، ولكنَّ الجليد كان يتراكم على طول الحافات، وأخذ الضبابُ يتكوَّن على الزجاج الأمامي. شغَّلتُ خاصيةَ إذابة الجليد طوال الطريق، أنزلتُ نافذتي وأخرجتُ رأسي، وأنا أقود على طول حافة الكومون في أرلينجتون بهذه الطريقة. ثم وصلتُ تريمونت، وكان الزجاج الأمامي قد صفا قليلًا. كنتُ أعلم أنني لا أستطيع الانعطاف إلى شارع منزل عائلة موري الأحادي الاتجاه، ومن ثمَّ خطَّطتُ بالفعل لترك السيارة عند الزاوية، وقطعِ ما تبقَّى من الطريق سيرًا على الأقدام. لكن بعد ذلك مررتُ بشارعهم وقرَّرتُ مواصلةَ القيادة، حتى أسلك يميني التاليَ وأرى إن كان بإمكاني الالتفافُ إلى الخلف.


كان جسدي يؤلِمُني، وأجبرتُ نفسي على إرخاء قبضتي فوق عجَلة القيادة. لم يكن الجليد قد جُرِف مؤخرًا من الشارع الجانبي حيث كنت، وكانت عجلاتي تدور بينما أتحرَّك سريعًا. وبأسرعِ ما استطعتُ انعطفتُ يمينًا ثم يمينًا مرةً أخرى؛ على أملِ أن يضعَني ذلك في الشارع الجانبي لمنزل عائلة موري. بدا الاتجاه صحيحًا، على الرغم من أن جميع الشوارع السكنية في «ساوث إند» بدَت لي متشابهة. قلَّلتُ السرعة، ونظرتُ من نافذتي لأرى إن كان بإمكاني رؤيةُ منزل عائلة موري ببابه الأزرق أم لا. كنت قد قطعتُ نحوَ ثلاثةِ أرباع الشارع عندما رصدتُه. وعلى عكس معظم منازلِ المدينة المبنيَّة من القرميد، كان الضوءُ لا يزال متوهِّجًا من نوافذه المواجهة للشارع. حاولتُ ألا أفكِّر فيما قد يَعنيه ذلك، وما قد أجده عندما أدخلُ المنزل.


أوقفتُ السيارةَ أمام محبسِ مطافئ، وأطفأتُ المحرِّك وخرجتُ من السيارة في ثلاثِ بوصاتٍ من الثلوج الذائبة. وبمجرد أن عبَرت الشارعَ باتجاه منزل عائلة موري، سمِعتُ أحدهم يصرخ «لا يمكنك الوقوف هناك»، واستدرتُ لأرى امرأةً تقف تحت ضوء الشارع مع كلبها على بُعد أربعة منازل تقريبًا. لوَّحتُ لها وواصلتُ السير.


وصلتُ إلى الباب، وفجأةً تمنَّيتُ لو كان لديَّ أيُّ نوعٍ من الأسلحة، أيُّ شيءٍ حقًّا، وكدتُ أفكِّر في العودة إلى سيارتي لإحضار رافعة الإطارات من صندوق السيارة. لكنني لم أرغب في إضاعةِ المزيد من الوقت. جرَّبت الباب وكان مُوصَدًا، ثم ضغطتُ على جرس الباب بينما رُحتُ أطرقُ الباب في الوقت نفسه، متسائلًا ماذا سأفعل إذا لم يردَّ أحد. وأخذتُ أمسح النافذة الثمانيَّة الأضلاع في منتصف الباب عندما سمعتُ وقْع أقدامٍ على الجانب الآخر. وفُتح البابُ على مصراعيه.


الفصل السابع و العشرون


قالت تيس بصوتٍ أجشَّ، وهي تمدُّ يدَها وتُمسك بسُترتي من الداخل، جاذبةً إياي إلى الداخل: «مال».


قلتُ: «هل كلُّ شيءٍ على ما يُرام هنا؟» لكنها كانت تغلق الباب. ثم دفعَت نفسَها باتجاهي وتبادلنا القُبُلات. قبَّلتُها بدوري، بسبب شعوري بالارتياح لكونها هنا، وما زالت على قيد الحياة، من جانب، ومن جانبٍ آخر لأن ذلك منحَني شعورًا جيدًا. كما أنني لم أرغب أيضًا في إخبارها على الفور أنني عُدتُ لاعتقادي أنها في خطر. سيبدو ذلك سخيفًا.


توقَّفنا عن التقبيل والعناق. شعرتُ أنها ثقيلةٌ بين ذراعَي، وسألتُها مرة أخرى: «هل كلُّ شيءٍ على ما يرام هنا؟»


كفَّت عن العناق متراجعةً، وقالت: «لماذا تقول ذلك وتُكرِّره؟» كان صوتُها غليظًا، وطرفَت بعينها سريعًا.


قلتُ: «تبدين فقط … هل أنت ثمِلة.»


قالت: «ربما. وماذا في ذلك؟ أنت ثمِل». ابتعدَت عني، وترنَّح جسدُها كلُّه وكأنها على وشْك السقوط. تحرَّكتُ بسرعة وأخذتُها من ذراعها، وقُدتُها إلى إحدى الأريكتَين المتقابلتين خارج مدخل المطبخ مباشرةً. جلس كلانا.


قالت وهي تضع يدَها على كتفي وتتَّكئ عليَّ: «أشعر بشعور غريب». كان لأنفاسها مرارةٌ برائحة القهوة.


قلتُ: «أخبريني ماذا كنتِ تفعلين منذ أن غادرتُ.»


«متى غادرتَ؟»


«قبل ساعتين. ربما أقل. لست متأكِّدًا بالضبط.»


«أوه، أجل. كنتُ ألعقُ جروحي؛ لأنه، كما تعلم … وتناولتُ المزيدَ من القهوة، ثم شعرتُ بتعبٍ شديد، وكنتُ ذاهبة إلى الطابق العلوي أتهيَّأ للنوم، لكنني فكَّرتُ في أنني قد آخذ قيلولة صغيرة هنا على هذه الأريكة، ثم سمعتُ الباب، وها أنت ذا هنا.»


«هل جاء أيُّ شخص آخر؟»


«هل جاء أيُّ شخص آخر؟ هنا؟ كلَّا. فقط أنت. هل تريد أن نتبادل القُبلات مرةً أخرى؟»


انحنيتُ إليها وقبَّلتُها، آمِلًا أن نُبقِيَ الأمر قصيرًا، لكنها فتحَت فمها وضغطَت عليَّ بقوة. كانت عيناي مفتوحتَين لكن شعرها كان ينسدل كالأمواج، وللحظةٍ لم أستطِع رؤيةَ أيِّ شيءٍ. توقَّفتُ عن تقبيلها وأنزلتُ رأسها إلى صدري.


قالت: «هذا لطيف»، ثم تمتمَت بشيءٍ لم أستطِع فهمه.


كنا هكذا مدةَ دقيقة. بإمكاني القول إنها كانت تغفو على صدري، وتركتُها تغفو بينما كنت أنظر حولي إلى ما يمكنني رؤيته. بدا الأمر تمامًا كما كان عندما غادرتُ، كان فنجانا القهوة لا يزالان على طاولةِ غرفة الطعام أمام النافذة الكبيرة، ومصباح واحد لا يزال مُضاءً بجانب الطاولة. والذي أمكَنني رؤيتُه من المطبخ كان مُضاءً بإضاءةٍ أسفل الخِزانة. كان المنزل هادئًا على الرغم من أنني اعتقدتُ أنني سمعتُ شخير براين في غرفة الضيوف في الطابق السفلي. لم أكن متأكِّدًا. ولكن إن صحَّ هذا، فهذه علامةٌ جيدة. كان لا يزال على قيد الحياة.


عرَفتُ أن تشارلي كان في المنزل.


وضعتُ سيناريو بالفعل. لقد تبِعني إلى هنا الليلة، على الأرجح كان ينتظر في الخارج بينما كنتُ في الداخل أتناول العشاءَ مع براين وتيس. وعندما غادرتُ، ربما كان يُخطِّط لملاحقتي، أو ربما كان يخطِّط لاقتحام منزل تيس وبراين. ولكن سنحَت الفرصة بعد ذلك. حين هُرِعَت تيس إلى الخارج لإعطائي كتابَ براين، تاركةً الباب مفتوحًا وراءها والقُفل مفتوحًا. تسلَّل تشارلي إلى الداخل. ثم ماذا؟ لقد كان مختبئًا في المنزل، وبطريقةٍ ما تمكَّن من وضْع شيءٍ ما في قهوة تيس، على الأرجح الشيء نفسه الذي استخدمه في إعداد الويسكي لبرويت. لم أصدِّق أنها كانت ثمِلة، أو أنها كانت في حالة سُكْرٍ أكثرَ مما كانت عليه عندما غادرتُ قبل ساعتين. كلَّا، لقد خُدِّرَت. ثم وصلتُ أنا قبل أن يفعل تشارلي أيَّ شيءٍ آخر لها. والآن كنا هنا جميعًا في المنزل معًا. أين كان تشارلي بالضبط؟ أين سأكون لو كنتُ مكانه؟


أزحتُ تيس عن صدري ببطءٍ، ووضعتُها على الأريكة، ثم وقفت.


قالت تيس: «إلى أين أنت ذاهب؟» لكن صوتها كان منخفضًا ومُغمغمًا. وضعَت يدها تحت خدِّها وتنفَّسَت بعمقٍ من أنفها، وعيناها ما زالتا مغلقتَين. مشيتُ بهدوءٍ قدْر استطاعتي إلى المطبخ. كان هناك بابٌ جانبي يؤدي إلى رَدهة الطابَق الأول، ومن هناك يمكنك الوصولُ إلى نصف حمَّام، وإلى غرفة الضيوف حيث كان براين نائمًا. كانت هناك أيضًا خزانة، إن أسعَفَتني ذاكرتي. ذهبتُ إلى المنضدة ووجدتُ مرقاق العجين الذي لاحظتُه سابقًا، والتقطتُه في يدي اليمنى. فكَّرتُ في الحصول على سكِّينٍ عوضًا عن ذلك، لكنني أحببتُ الشعور بمرقاق العجين في يدي. لقد كان قطعةً ثقيلة من الخشب، ومن الواضح أنها عديمة الفائدة إذا كان تشارلي يحمل مسدسًا. لكنها أفضلُ من لا شيء، وشعرتُ بتحسُّن مع وجوده في يدي.


فكَّرتُ في البقاء في المطبخ، أن أقف هناك فحسب مُطلًّا على كلٍّ من الباب الجانبي الدوَّار، والفتحة الكبيرة المؤدية إلى غرفة الطعام وغرفة المعيشة. يمكنني الوقوف هنا طَوال الليل، في انتظارِ أن يخطوَ تشارلي أولًا. لكنني كنت قلقًا أيضًا بشأن تيس. أيًّا ما كان في جسمها، فقد يكون كافيًا لقتلها. قلتُ بصوتٍ عالٍ، تمنَّيتُ لو أنه كان صوتي الطبيعي، باتجاه المطبخ الفارغ: «أعلم أنك هنا».


لا شيء.


انتظرتُ ما بدا لي خمسَ دقائق أخرى، وبدأتُ أتساءل عمَّا إذا كنتُ مصابًا بجنون الارتياب فحسب. ربما كانت تيس قد واصلت الشرب فقط بعد أن غادرت، وكانت ثمِلة، وهذا كلُّ ما في الأمر. وربما كان تشارلي يعبث معي في هذه المرحلة، محاولًا التلاعُبَ بي حتى أندفعَ إلى هنا من أجل لا شيء. عُدتُ ببطءٍ إلى غرفة المعيشة. لم تكن تيس قد تحرَّكَت. كانت لا تزال متقوقعةً على نفسها فوق الأريكة، ويدها تحت وجهها. جثمتُ على ركبتي واستطعتُ سماعَ تنفُّسها المنتظِم. استدرتُ يسارًا نحو الرَّدهة، مدرِكًا أن الأرضية القديمة كانت تُصدر صريرًا تحت وقع كلِّ خُطوة. بعد أن تجاوزت الدَّرج، دفعتُ باب الحمَّام لأفتحه. كان هناك ما يكفي من الضوء المنبعث من مصباح الرَّدهة لأرى أنه خالٍ.


ثم سمعتُ وقْع خطواتٍ خلفي، وتجمَّدَت أوصالي.


توقَّفَت الخطوات، لكنني سمعتُ أنفاسًا ثقيلة. استدرتُ، وشددتُ قبضتي على المرقاق. وقف همفري كلب الصيد ينظر إليَّ مستغربًا. رفعتُ يدي الخالية، وتقدَّم ليتشمَّمها، ثم فقدَ الاهتمام واستدار عائدًا نحو غرفة المعيشة.


استدرتُ مرةً أخرى، مقرِّرًا أنني بحاجةٍ إلى إلقاء نظرة على براين، الذي ينام في غرفة الضيوف، والتأكُّد من أنه كان بمفرده. ثم ربما يمكنني مغادرةُ المنزل؟ ربما لم أكن بحاجةٍ إلى البقاء هنا.


«ما اسمُ الكلب؟»


جاء الصوتُ من خلفي. تعرَّفتُ عليه بالطبع، واستدرتُ لأراه واقفًا في أسفل الدرَج، وضوءُ البهو يأتي من خلفه بحيث كان وجهه في الظِّل.


كان يحمل مسدسًا إلى جانبه دون اكتراثٍ، لكن عندما تقدَّمتُ خطوةً نحوه، نحو مارتي كينجشيب، رفعَه ووجَّهه نحو صدري.


الفصل الثامن و العشرون


قلتُ: «همفري».


قال: «هاه. مثل الممثِّل؟»


«أظنُ ذلك. لا أعرف.»


«يا له من كلب حراسة.»


قلتُ: «أجل». كان هناك شيءٌ في يد مارتي الأخرى، واستغرق الأمر مني لحظةً لأدرك أنه هاتفٌ محمول. لقد بدا غيرَ ملائم لمارتي. كنتُ قد تناولتُ الشراب معه عدة مرات، ورأيُته في ندواتٍ في متجري، ولكن بطريقةٍ ما، لم أستطِع تذكُّرَ رؤيته قط وهو ينظر إلى هاتفٍ محمول. كما أنني لم أرَه مطلقًا يحمل مسدسًا، بَيد أنَّ الهاتف المحمول بدا غريبًا عليه أكثرَ من المسدس.


قلتُ: «منذ متى وأنت هنا؟ هل كنتَ تكتب على هذا الشيء؟ على موقع «دوكبرج»؟» حرَّكتُ رأسي في إشارةٍ إلى الهاتف.


قال: «نعم. ليس سيئًا، أليس كذلك؟ بأصابعي المنتفخة مثل أصابع النقانق. مهلًا، انظر، دعنا نجلس». أشار بالمسدس. «ربما حول الطاولة. يمكنك وضْع كلِّ ما تُمسكه بيدك، ولن أُضطرَّ إلى توجيه هذا إليك. ثم يمكننا إجراء محادثة لطيفة.»


قلتُ: «حسنًا.»


استدار وسار نحو الطاولة. تخيَّلتُ نفسي أركضُ مندفعًا وأصطدم به بمجرد أن يستديرَ ومعه السلاح، وأطرحُه أرضًا. لكنَّ كلَّ ما فعلتُه كان اللَّحاق به، وجلسنا معًا إلى الطاولة، في المقعدين نفسيهما حيث كنتُ أجلسُ أنا وتيس قبلها بساعاتٍ قليلة. دفع مارتي ظهره بِضع أقدام، ثم وضع المسدس على فخذه.


«ما هذا الذي تحمله؟»


قلتُ واضعًا إياه فوق الطاولة: «إنه مرقاقُ عجين.»


«هل أخذتَه من هنا، أو أحضرته معك؟»


«كلَّا، أخذتُه من هنا.»


كان هناك مصباحُ سقفٍ معلَّقٌ فوق المنضدة لا يزال مضاءً، وكان بإمكاني رؤيةُ وجه مارتي على نحوٍ أفضلَ بكثير في ضوئه. لقد بدا على الهيئة نفسِها التي اعتاد أن يبدوَ عليها دائمًا؛ بشرة شاحبة، أشعث، وكأنه نسي أن ينام مؤخرًا، لكن كان هناك شيءٌ مختلف قليلًا بشأن عينَيه. أريدُ أن أقول إنهما كانتا أكثرَ قوة، وأكثرَ حيوية، لكن لم يكن هذا كلَّ شيء. لقد كانتا أكثرَ نزوعًا لأن تكونا مبتهِجتَين. ربما لم يكن يبتسم لكنَّ عينَيه كانتا كذلك.


قال: «اعتقدتُ أنك قد تأتي إلى هنا بقوة قتالية أكبر. على الرغم من أنني أدركُ أنَّ هذا ربما ليس من شيمك. هل استدعيتَ الشرطة؟»


قلتُ بسرعة: «أجل. سيكونون في طريقهم الآن.»


عبَس. «دعنا لا يكذب أحدُنا على الآخَر. دعنا نَقُل الحقيقة وبعد ذلك، يمكننا معًا معرفةُ وجهتنا التالية. أعلم أنك تفكِّر في أن فرصتك الوحيدة هنا هي الانقضاضُ عليَّ، لكنها ليست كذلك. سأكون منطقيًّا. وبصراحة، أنا لست شابًّا، ولكن ما تلك الكلمة التي يستخدمونها بتعالٍ لوصفِ شخص كبير السن عندما يُمكنه التحرُّك على قدميه؟»


قلتُ: «رشيق.»


«صحيح، رشيق. هذا ما أنا عليه. وإذا قرَّرتَ الاندفاعَ نحوي فجأة، فسوف أضع رصاصةً لعينةً في وجهك مباشرةً.»


وابتسم.


قلتُ: «حسنًا.»


«إنني فقط أُحذِّرك مسبقًا. فأنا لا أريدُ أن تُراودك أيُّ أفكار سخيفة.»


رفعتُ كلتا يديَّ وقلتُ: «سأبقى هنا.»


«حسنًا. أنا أثقُ بك. الآن يمكننا التحدُّث. ما زلتُ أفكِّرُ في الشيء الذي كتبتَه لي للتو عن الخيال والواقع. كيف كانت قائمة جرائم القتل الخاصة بك من الخيال، وكيف أن هناك بعضَ الاختلاف. أعتقد أنك مُحقٌّ في ذلك يا مال، لكنني أعتقد أنك ترى الأمر بطريقةٍ خاطئة. فالخيال أفضلُ بكثير من الواقع. أنا أعلم ذلك. لقد كنت على قيد الحياة مدةً طويلة. وهل تعرف من أين تعلَّمتُ ذلك، بشأن الخيال؟ لقد تعلَّمتُه منك. لقد دفعتَني إلى القراءة، وأدخلتَني في جريمة قتل. لقد غيَّر ذلك حياتي إلى الأفضل. مهلًا، هل تعتقد أن لديهم جِعةً هنا؟ لا أمانعُ في شرب جِعَة باردة أثناء حديثنا.»


قلتُ: «أنا متأكِّد من أنه لديهم.»


نظر عبْر الطاولة باتجاه المطبخ، حيث تلألأَت الثلاجة الكبيرة في الإضاءة الخافتة. «أيمكنك أن تُحضر لنا مشروبَين؟ هل يمكنني أن أثق في أنك لن تُحاول القيام بشيءٍ غبي؟»


قلتُ: «بالتأكيد.»


نهضتُ وسِرتُ إلى المطبخ بينما صوَّب مارتي المسدس في اتجاهي. مررتُ بالأريكتين؛ كان الكلب همفري الآن متمدِّدًا على الأريكة المقابلة لتيس، وكلاهما نائمٌ وغير واعٍ. فتحتُ الثلاجة، باحثًا في الأرجاء، ورأيتُ زجاجتَين من جِعة هنكن مدفونتَين باتجاه الخلف، ووجدتُ فتَّاحةَ زجاجاتٍ في أحد الأدراج، وفتحتُ غِطاءَيهما.


قال مارتي مبتسمًا عندما وضعتُها أمامه: «أوه، هنكن. هذه مفاجأةٌ سارة.»


أخذ رشفة، وكذلك فعلتُ. كان فمي جافًّا ولزجًا، وكان طعم الجِعة جيدًا، على الرغم من الظروف. قال مارتي: «نعم، لقد غيَّرتَني مرتين، يا مال، هل تعرف ذلك؟» كما لو أنَّ المحادثة التي بدأناها كانت لا تزال تدور في ذهنه بينما كنت أُحضر الجِعة. «لقد عرَّفتَني على القتل، وعرَّفتني على القراءة. ومن ثمَّ أصبحَت حياتي أفضل.»


قلتُ: «أشكُّ في أنني عرَّفتُك على القتل.»


ضحِك. «أوه، لقد فعلت. كنتُ شرطيًّا. لكن هذا لا يجعلني قاتلًا.»


•••


إجمالًا، أعتقد أننا تحدَّثنا ثلاث ساعاتٍ في تلك الليلة. وكان مارتي هو أكثرَ مَن تحدَّث، وكان صوته يزداد خشونةً كلما طالت مدةُ حديثه، ولكن على الرغم من ذلك، بدا أن السنوات تتلاشى عنه وهو يَروي قصته. كان من الواضح أنَّ ما قام به قد جلب له حياةً جديدة. لكن ذلك لم يكن كافيًا. لقد كان بحاجةٍ أيضًا لإخبار شخصٍ ما عن ذلك.


أخبرني كيف أنه قبل خمس سنوات، في عام ٢٠١٠، العامِ الذي قضَت فيه كلير نحْبَها، كان لا يزال ضابطًا في قسم شرطة «سميث فيلد»، يُفكِّر في التقاعد، ويعيش مع زوجةٍ خائنة. وأنه في مناسبتَين متفرقتَين على الأقل وضع مسدسًا محشوًّا في فمه في وقتٍ متأخِّر من الليل. حتى إنه فكَّر في التخلُّص من زوجته أولًا للتأكد فقط من أنها لن تستمتع بعد رحيله. الشيء الوحيد الذي أوقَفه حقًّا هو طِفلاه، وحقيقة أنه كان عليهما التعايُش مع ذلك بقيةَ حياتهما. ومع ذلك، كان يفكِّر في الأمر كلَّ يوم تقريبًا.


في الوقت نفسِه تقريبًا، كان مارتي جزءًا من فرقة عملٍ صغيرة كانت قد أوقعَت بعصابةِ بِغاءٍ من الهواة تُدير أعمالها من مغسلةٍ في سميث فيلد. كانوا قد أعلَنوا عن خدماتهم على موقع «كريجسليست»، بل وأيضًا على موقعٍ أكثرَ غموضًا يُدعى «دوكبرج». كان مارتي قد شرَع في متابعة كِلا الموقعَين في وقتٍ متأخِّر من الليل، متسائلًا عمَّا إذا كان يجب أن تكون له علاقةٌ عاطفية خاصة به، متسائلًا عمَّا إذا كان يمكنه ترتيبُ شيءٍ كهذا عبْر الإنترنت، وما إذا كان الأمر سيُحدِث فرقًا. كان ذلك حيث وجَدني، على موقع «دوكبرج»، أبحثُ عن رفيقٍ مُعجب ﺑ «غريبان على متن قطار». لم يكن قد قرأ الكتاب — لم يكن مارتي قارئًا، بعد — لكنه شاهدَ الفيلم وهو طفل ولم ينسَه قط. روبرت واكر. فارلي جرانجر. «أنا أنفِّذ لك جريمتَك وأنت تُنفِّذ جريمتي». لقد ردَّ على استفساري. بل إنه فكَّر حتى في مطالبتي بقتل زوجته، لكنه أدرك أنه لن يُفلِتَ من العقاب أبدًا، حتى لو كانت لديه حجَّةُ غياب. لكن كان هناك شخصٌ يريد موتَه أكثرَ حتى من زوجته الخائنة. إنه نورمان تشيني صاحب شركة صغيرة في هوليوك؛ كان يمتلك ثلاثَ محطات خدمة، لم تكن أيٌّ منها معروفةً بجودة خدمة السيارات التي تُقدِّمها، ولكن جميعها معروفة بأنها مرتبطة بتجارة المخدِّرات المحلية. لم يُثبتوا مطلقًا أيَّ شيءٍ ملموس على تشيني، لكن كان من الواضح أنه يغسل الأموال على الأقل، وربما كان يوزِّع المخدرات في محطاته. أمَّا ما لفَت انتباهَ مارتي فهو وفاةُ مارجريت تشيني زوجةِ نورمان شِبه المنفصلة عنه، في حريق منزل. علم جميع رجال الشرطة المحليِّين أن تشيني فعَل ذلك من أجل أموال التأمين، وملكية المنزل مدى الحياة المخصَّصة للزوجة، وأنه فرَّ بعد ذلك هاربًا إلى نيو هامبشير. لقد أفلتَ بفَعلته.


بعد أن تلقَّى اسم إريك أتويل وعُنوانه مني عبْر رسالة، أعطاني اسم نورمان تشيني وعُنوانه في المقابل.


قبل إطلاق النار على إريك أتويل في ساوثويل، أجرى مارتي بعض البحث، فقط للتأكُّد من أنه لم يقتل قدِّيسًا ما. واكتشف بالطبع أنَّ أتويل كان معروفًا بكونه حُثالة. فقد اعتُقل عدة مراتٍ بسبب مخالفاتٍ بسيطة: القيادة وهو في حالة سُكر، حيازة مادةٍ محظورة. ولكن كانت هناك أيضًا ثلاثةُ أوامر متفرقة بعدم التعرُّض رُفعَت ضد أتويل، من ثلاث نساءٍ منفصلاتٍ، زعَمن جميعًا مُعاملتهن بفحش.


لم يكن قتلُ أتويل صعبًا. تعقَّبه مارتي مدةَ يومين، وعلِم أنه في وقتٍ متأخِّر من بعد الظهيرة، غالبًا ما يُغادر أتويل منزله ويذهب في نزهاتٍ طويلة وشاقَّة، مرتديًا سمَّاعات الرأس، مستخدمًا مساراتِ المشي المنعزلةَ المتعددة بالقرب من مزرعته. وباستخدام مسدسٍ كان مارتي قد أخذه أثناء تفتيش منزل مهجور قبل عامين، تبِعه الى منطقة مشجَّرة من ساوثويل وأطلق عليه النار خمسَ مرات.


قال مارتي: «هل تعرف هذا المشهد في «ساحر أوز»؟ عندما ينتقل الفيلم من الأبيض والأسود إلى الألوان؟»


قلتُ: «بالطبع.»


«هذا ما كان عليه الحال بالنسبة إليَّ. لقد تغيَّر العالم. وأعتقدُ أنني افترضتُ فحسبُ أن العالم قد تغيَّر بالنسبة إليك أيضًا. بعد أن سمعت عمَّا حدث لنورمان تشيني.»


قلتُ: «هذا لم يحدُث. حسنًا، لقد حدث بالفعل، لكنه كان على النقيض. لقد تجرَّد العالمُ من الألوان.»


عبَس واستهجن. «أعتقد أنني كنت مخطئًا. ومع ذلك، فقد استنتجتُ أنك ربما شعرتَ بنفس شعوري، وأنني ينبغي أن أعرف مَن أنت. حتى إنني ربما ألتقيَ بك.»


في الواقع، لم يكن من الصعب العثور عليَّ. فبعد أن أجرى بحثه السابقَ عن أتويل، علِم مارتي بتورُّط أتويل في وفاة كلير مالوري، وهي زوجةٌ لمدير متجرِ كتبٍ في بوسطن. وبمجرد أن حصل مارتي على اسمي، وجد مدوَّنتي، وعلى وجه التحديد وجد القائمةَ التي أعددتُها، «ثماني جرائم كاملة». حيث كانت «غريبان على متن قطار» تقبع في منتصف القائمة تمامًا. قرأ مارتي الكتاب، ثم قرأ بقيةَ الكتب المقترحة، وأخذ العالم يتَّسع أكثرَ أمامه. قبل أن يحدُث كلُّ هذا، كان في زواج بلا حُبٍّ انتهى بالطلاق. كان ابنه يُعاني إدمانَ المخدرات، وكانت ابنته لا تزال تقضي بعضَ الوقت معه، لكنه كان يعلم في أعماق نفسه أن هذا بمنزلة عملٍ روتيني بالنسبة إليها. أما الآن فقد اكتشف القتل، ومن ثمَّ والأروع من ذلك، اكتشف القراءة. وقَّع مارتي أوراق الطلاق، وتقاعد مبكرًا، وانتقل إلى بوسطن.


ليكون بالقرب مني.


في عام ٢٠١٢، بدأ يحضر الندوات، وفي النهاية تعرَّفنا. أظنُّ أنه اعتقد بأن مقابلتي ستكون كافيةً لكي نصبح صديقَين. ولربما حتى نتحدَّث في النهاية عما حدث، عن جرائم القتل التي ارتكبناها بالوكالة أحدنا عن الآخَر، لكن ذلك لم يحدُث. نعم، أصبحنا صديقَين. لكن هذا لم يكن كافيًا بالنسبة إليه. وكما قلتُ من قبل، بدأنا نقضي وقتًا أقلَّ معًا. وكان ذلك عندما جاء بفكرةِ تنفيذ جرائم القتل من القائمة التي كتبتُها. لقد كانت وسيلةً للتواصل معي؛ لأن الاجتماع على كأسَين من الجِعَة لم يكن ليُنجزَ الأمور. بعبارةٍ أخرى، لو كنتَ رفيقًا أفضل، لَما قُتِلَت حَفنةٌ برُمَّتها من الأشخاص. أو ربما هذا ببساطةٍ غير صحيح. فعندما قتل مارتي في المرة الأولى إريك أتويل، كان الأمر أشبهَ بفتح زجاجة شمبانيا. لم تكن السِّدادة لتعود مرةً أخرى إلى الزجاجة أبدًا. والآن لديه مجموعةٌ كاملة من أساليب القتل لاستخدامها في هُوايته الجديدة. كلُّ ما كان يحتاج إليه هو ضحية.


قبل أن تُقيم زوجته علاقةً غرامية، عندما كان مارتي كينجشيب لا يزال يعيش غربَ سميث فيلد، كانت قد قرأت الكتابَ الشائن لمذيعة الأخبار روبن كالاهان حول فوائد الزنى. كان يُدعى «الحياة طويلة جدًّا»، ونُشر بعد عامٍ من افتضاح أمرِ علاقتها الغرامية مع شريكها الإخباري المتزوج. لقد كانت موضوعًا دسمًا للصحف الصفراء، ساعدها في ذلك حقيقةُ أن كالاهان كانت شقراءَ مذهلة، ويبدو أنها غيرُ نادمة. لقد استغلَّت سُمعتها السيئة من خلال نشرِ كتابٍ ذهب بشكل أساسي إلى أن الزنى كان طبيعيًّا أكثرَ من الزواج الأحادي، وأن متوسط عمر الفرد قد زاد كثيرًا بحيث لم يَعُد من المنطقي أن يظلَّ الناس متزوجين إلى الأبد. قدَّمَت دوراتٍ من البرامج الحوارية، وسرعان ما قفز الكتاب أعلى قوائم الكتب الأكثر مبيعًا. ألقى مارتي كينجشيب باللوم على هذا الكتاب في علاقة زوجته فيما بعدُ بطبيب الأسنان الخاص بالعائلة. أنا متأكِّد من أنه لم يكن الشخصَ الوحيد — رجلًا كان أو امرأة — الذي لديه مشاعرُ سيئة تجاه روبن كالاهان. لكن مارتي كان شخصًا قد ارتكب جريمةَ قتلٍ من قبل، وأفلتَ من العقاب، وكان يتوق للمحاولة مرةً أخرى.


راح يبحث في قائمة جرائم القتل الكاملة التي نشَرتُها، ليرى إن كانت هناك أيُّ أفكار جيدة لكيفية الإفلات بجريمة قتل روبن كالاهان. كان يحبُّ بوجهٍ خاص روايةَ أجاثا كريستي «جرائم الأبجدية»، التي أُخفِيَت فيها جريمةُ قتل معيَّنة بين سلسلةٍ من جرائم القتل التي بدا كأنَّ مَن ارتكبها رجلٌ معتوه. ماذا لو استطاع فِعل الشيء نفسِه مع روبن كالاهان؟ ربما يقتل بضعةً من الأشخاص الذين لديهم جميعًا أسماءٌ متشابهة؛ أسماء طيور، على سبيل المثال. بل ظنَّ بعدها أنه يمكنه تركُ ريشةٍ واحدة في مسرح كلِّ جريمة. أو الأفضل من ذلك، إرسال ريشة واحدة بالبريد إلى الشرطة المحلية.


وكان هذا ما فعله. لقد قتل روبن كالاهان داخل منزلها، بعد أن استطاع الدخولَ عن طريق إظهار بطاقة هُويته الشُّرطيَّة القديمة. كما قتل إيثان بيرد، وهو طالبٌ محليٌّ وجده مارتي من خلال البحث في تقارير الشرطة بحثًا عن أسماءٍ مرتبطة بالطيور. كان قد أُلقي القبضُ على إيثان في حانةٍ رياضية في لويل لتهديده الساقيَ والإخلال بالأمن. وقد وجد جاي برادشو بالطريقة نفسِها؛ كان قد اعتُقل بتهمة الاغتصاب، لكن لم تثبُت إدانته قط. اتضح أنَّ برادشو قضى معظمَ أيامه في كيب جالسًا في مرأب منزله، محاولًا بيعَ الأدوات المستعملة. كان مارتي قد توقَّف في وضَح النهار، ثم ضرب برادشو حتى الموت بمضرب بيسبول كان قد أحضره، ومطرقةٍ ثقيلة كان قد استعارها.


بمجرد أن بدأ في التخطيط لجرائم الأبجدية، عرَف مارتي أنه لن يكون في مقدوره التوقفُ حتى ينتهيَ من القائمة. كان بيل مانسو اسمًا آخَر أخرجه من سجلَّات الشرطة، وهو رجلٌ قد حُقِّق معه في قضيةِ عنفٍ أُسري، وهو أيضًا شخصٌ اتهمَته إحدى الجارات باقتحام منزلها أثناء النهار، وسرقة ملابسها الداخلية. حدَث هذا كلُّه قبل خمس سنوات، لكن مارتي قرأ عن القضية، واكتشف أنَّ مانسو قد أُطلق سراحه؛ لأنه كان يُسافر دومًا بالقطار إلى مدينة نيويورك، وأنه قدَّم دليلًا على أنه كان مسافرًا على متن القطار في وقت الاقتحام. جعله القطار يُفكِّر في رواية «تعويض مزدوج»، وهو كتابٌ آخر في القائمة. كان مارتي قد قرأه بالطبع، لكنه حصل أيضًا على الفيلم من المكتبة المحلية. وقد أحبَّ الفيلم أكثرَ «لقد منَحني استحسانًا وإدراكًا جديدًا لفريد مكموري». قرَّر قتل بيل مانسو، ضربه حتى الموت، وترَكه على القضبان. ثم استقلَّ القطارَ بنفسه في صباح اليوم التالي، وكسر النافذة في الوقت المناسب تمامًا ليجعلها تبدو كما لو أن مانسو قد قرَّر القفز منها. كان يعلم أن ذلك لن يُفلح، فسرعان ما سيعرف مُحقِّقو مسرح الجريمة تقريبًا أنَّ مانسو قد قُتل في مكانٍ آخر، وأن جُثته قد نُقلت من مسرح الجريمة الأصلي. ولكن ما أثار حماسةَ مارتي هو أن شخصًا ما قد يكتشف الأمر، ويبدأ في الربط بين الكتابَين، وهذا سيقود إليَّ. بل وربما يعتقلونني. في كلتا الحالتين، كنتُ سأصبح متورطًا، وهذا ما كان يأمُل فيه.


لم يكن مارتي متأكِّدًا من كيفية الوصول إلى بيل مانسو، لكن عندما وصل إلى كونيتيكت، أصبح الأمر أسهلَ؛ لأنَّ مانسو كان يُحبُّ تناوُلَ الشراب في الحانة الأقرب إلى محطة القطار. كان مانسو يذهب مباشرةً بعد تنقُّله بالقطار إلى حانة «كوريدور بار آند جريل» في الساعة الخامسة والنصف من كلِّ يوم ثم يخرج مِن هناك متعثرًا في نحو الساعة العاشرة ليلًا، ليقود مسافة ميل ونصفٍ إلى مسكنه الريفي. قتله مارتي في ساحة انتظار السيارات بعصا شُرطيٍّ «أفضل بكثيرٍ من مضرب بيسبول، دعني أخبرك.» وترك جثَّته على القضبان. في اليوم التالي، استقلَّ القطار وحطَّم نافذةً بين العربات مستخدمًا العصا الفولاذية نفسها.


أربعُ جرائم قتل، ونَفِد صبرُ مارتي. لم يقل ذلك بعباراتٍ كثيرة، لكنه قرَّر أن الوقت قد حان ليكون أوضح. لقد حان الوقت لتوريطي.


ومثل كلِّ الزبائن المنتظمين في «أُولد ديفيلز»، ولا سيَّما أيُّ شخصٍ حضر ندوات كُتَّابنا، كان مارتي يعرف إيلين جونسون. لقد حاصرَته في مناسباتٍ عديدة لتُخبره بالكتب التي يجب أن يقرأها، والكتب التي كانت مضيعةً للوقت. أخبرته عن تلك السِّحاقية البذيئة التي امتلكَت الشقة التي عاشت فيها، وعن مدى قذارةِ مدينة بوسطن المثيرة للاشمئزاز، وكيف أنه لولاها لكان متجر «أُولد ديفيلز» قد توقَّف عن العمل منذ سنوات. وأخبرته عن حالة قلبِها، وكيف أخبرها أطبَّاؤها أنَّ عليها الانتقالَ إلى منطقةٍ أهدأ، والتأكُّد من عدم وجود أي شيءٍ يجهدها.


عندما عرَف مارتي أنها انتقلت إلى منزل أختها المتوفاة في روكلاند بولاية مين، زارها. اقتحم منزلها عندما كانت بالخارج — على الأرجح تُرهب موظفًا في مكتبةٍ ما محلية — واختبأ في خِزانة غرفة نومها. كان يرتدي قناعَ مهرجٍ ذي فم كبير شنيع ومليء بأسنان حادَّة، وعندما عادت إيلين جونسون إلى المنزل، انتظر بصبرٍ نافد. كان باستطاعته سماعُها تتجوَّل بالطابق السفلي، غافلةً عن وجوده. أخيرًا، صعدت إلى غرفة النوم في الطابق العلوي، وتوجَّهَت مباشرةً إلى الخِزانة، وفتحَتها. كلُّ ما كان عليه فعلُه هو الوقوفُ هناك، ثم التقدُّم خطوةً تجاهها. لقد استحال لونُها إلى اللون الأبيض، ثم ربَّتَت على صدرها، ثم كان بالضبط ما كان يأمُله. قضَت نحْبها جرَّاء أزمة قلبية.


قلتُ: «لماذا تركتَ الكتب؟»


«أردتُهم أن يأتوا إليك، على الأقل في مرحلةٍ ما. كنت أعلم أن مقتل إيلين جونسون كان مضمونًا تمامًا. من المستحيل أن يفكِّر أيُّ طبيب شرعي في وجودِ شبهة جنائية في وفاتها. ولذا، تركتُ الكتب؛ لأحرِّك الماء الراكد وأُربك المشهد. على أملِ أن يكون شخصٌ ما ممن يُطبِّقون القانون في مكانٍ ما ذكيًّا بما فيه الكفاية ليربط الأمورَ بعضَها ببعض.»


قلتُ: «شخصٌ ما فعلها.»


«وأصابك الذعر وهُرِعتَ إليَّ طلبًا للمساعدة. لم أكن أعتقد أن هذا سيحدث أبدًا، لكنني شعرتُ بسعادةٍ غامرة عندما حدث. كان من الجيد سماعُ صوتك وأنت تستجديني معروفًا.»


«كان بإمكانك إنهاءُ الأمر عند هذا الحدِّ. لقد حصلتَ على ما أردت.»


«لا. ما كنتُ أرغبُ فيه هو إكمال المشروع، لكنني أردتُك أن تكون معي طوال الرحلة. وهذا ما لدينا الآن، أنا وأنت. هل تريد أن تسمع البقية؟»


الفصل التاسع و العشرون


«بعد أن أخبرتَني أنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي قد زارك، عرَفتُ أن شخصًا ما قد لاحظ أخيرًا. كنتُ أعرف أنه كلما اقتربَت الأشياء منك، حاولتَ بسرعة معرفةَ مَن أكون. ولذا، فقط لتأخير المحتوم، سلَّمتُك نيك برويت».


أخبرني مارتي بصحة تقدُّم برويت بشكوى رسميةٍ ضد نورمان تشيني بعد حريق المنزل الذي قُتِلَت فيه زوجةُ تشيني، شقيقةُ برويت. ولهذا السبب؛ كان مارتي قد تحقَّق من برويت بالفعل قبل أن أطلب منه معلوماتٍ عن وفاة تشيني. كان برويت مدمن كحول متعافيًا لديه عددٌ قليل من الاعتقالات في سجلِّه، شخصٌ ما اعتقد مارتي أنه المرشَّح المثالي للقتل بناءً على رواية «سبق الإصرار». إذا مات برويت فجأةً بسبب تسمُّم الكحول، فمَن سيَشتبه في أنها كانت جريمةَ قتل؟ لقد كان لديه ماضٍ يمكن التحقُّق منه بوصفه شخصًا يُعاقر الكحول.


بعد أن تناولتُ أنا ومارتي المشروبات في حانة «جاك كرو» في ليلة الأربعاء تلك، ذهب مارتي إلى متجرٍ لبيع الخمور واشترى زجاجةَ سكوتش لأخذها إلى برويت في نيو إسيكس. «سمح لي بالدخول. لقد أظهرتُ له سلاحي بالطبع. أخبرتُه أنني بحاجةٍ إليه لتناول بعض المشروبات. وبمجرد أن بدأ، لم يستطِع التوقُّف. لم يكن من الصعب إقناعُه بشرب الزجاجة بأكملها تقريبًا. لقد مزجته مع البنزين السائل، فقط للتأكيد».


ابتسَم. «بعد أن كان برويت طريقًا مسدودًا، اعتقدتُ أنه يمكنني دفعُك نحو التفكير في أن براين موري، أو حتى تيس، أحدهما كان متورطًا. هل نجح الأمر؟ هل لاحظتَ حقًّا العلامةَ التِّجارية الخاصة بالسكوتش؟»


قلتُ: «نعم، لاحظتُها.»


قال مارتي كما لو كنتُ أثني على سترته: «يُسعدني ذلك.»


«ما مدى معرفتك ببراين وتيس موري؟»


«التقيتُ تيس الليلةَ فحسب. ولعبتُ معها قليلًا لعبةَ الغمَّيضة حول المنزل قبل أن تصلَ إلى هنا. أعرفُ براين جيدًا، فقط من خلال المتجر، لكن على مدار السنوات القليلة الماضية اعتدتُ التوقُّفَ عند حانة الفندق التي يُحبُّها، وتناوُل بعض الشراب معه. لقد رأيتُك بالفعل مع كِلَيهما ليلةَ الثلاثاء. كنت أعرفُ أن تيس قد عادت لأنَّ براين كُسرت ذراعه. والآن أصبح كلُّ شيءٍ مُعَدًّا. ستعثر الشرطة على جثةِ براين في منزله — أفكِّر في وضع وسادة على وجهه وإطلاق مسدس عليها — وستكون تيس قد اختفَت. يمكننا حتى أن نحزم حقيبةَ سفر من أجلِها. سيكونُ ذلك مثل «لغز المنزل الأحمر». جثة واحدة، قاتل واحد هارب. كلُّ ما نحتاج إليه هو مكانٌ جيد لإخفاء جثتها.»


قلتُ: «ما خطْبُها، أعني تيس؟» مُلقيًا نظرةً خاطفة على المكان الذي كانت لا تزال نائمةً فيه على الأريكة. لم تتحرَّك.


«وضعتُ بعضًا من البنزوديازيبين في القهوة التي كانت تشربها. كما وضعتُه في مشروبها الخاصِّ أيضًا، وأعتقد أن لديها بعضًا من ذلك. هناك احتمالٌ كبير أنها تناولَت ما يكفي للقضاء عليها، ولكن إذا لم يكن الأمر كذلك فلا أعتقدُ أنه ستكون هناك مشكلةٌ في إنهاء حياتها. شيءٌ لطيف مثل كيس بلاستيكي فوق الرأس سيَفي بالغرض.»


أعتقدُ أننا اعتدنا سَماعَ الشخير المنتظِم الصادر عن براين في غرفة النوم في الطابق السفلي، ولكن فجأة سمعنا شخيرًا صاخبًا، عنيفًا لدرجةِ أن نظر كلٌّ منا إلى الآخَر. التقط مارتي سلاحه من فوق فخذِه ووجَّه انتباهه في هذا الاتجاه. قال: «انقطاع التنفُّس أثناء النوم. أشكُّ في أنه سوف يُوقظُ نفسه، ولكن دعنا نذهبْ ونُلقِ نظرة.»


نهض واقفًا وسمِعتُ صوت طقطقة ركبتَيه. قال وهو يوجِّه سلاحه نحوي: «أنت أيضًا.» وقفتُ ناهضًا أنا أيضًا.


سِرنا معًا إلى غرفة نوم الضيوف في نهاية الرَّدهة، أنا أولًا، وخلفي مارتي. كان البابُ قد تُرك مواربًا، فاندفعتُ خلاله. كان الظلام في الداخل حالكًا، إلا من ضوءٍ خافت كان يأتي عبْر النافذة، واستطعتُ من خلاله رؤيةَ براين مستلقيًا على ظهره فوق الفراش. كانت تيس قد تركَت ملابسه عليه، لكن أزرار بنطاله كانت مفتوحة، وقد ارتخى حِزامه متدليًا. راقبتُ صدْره بينما كان يخفق قليلًا، يعلو ويهبط بسرعة، ثم أطلق شخيرًا مدوِّيًا آخَر. لا أعرفُ كيف لم يُوقظه ذلك.


قال مارتي من خلفي: «يا إلهي! دعنا نخلِّص هذا اللعينَ من مُعاناته.»


استدرتُ، في اللحظة نفسِها التي ضغَط فيها مارتي على مِفتاح الحائط، وغمر غرفةَ النوم فجأةً ضوءُ مصباح أرضي. فوق السرير الذي كان ينام عليه براين، كانت هناك لوحةٌ تجريدية كبيرة تشتمل على كتلٍ مكتنزة من اللونَين الأحمر والأسود.


قلتُ: «يمكنك الاستسلام الآن، يا مارتي.»


«وماذا أفعل؟»


«سلِّم نفسك. كلانا سيفعل ذلك. سنذهب معًا». كنت أعلم أن هذا أمرٌ بعيدُ المنال، لكن مارتي بدا متعبًا، وخطر لي أنه كان في نهاية هذه اللعبة بالذات. لربما، في أعماق نفسه، أراد أن يُقبض عليه.


هزَّ رأسه. «يبدو الأمر مرهِقًا، حيث يتعيَّن عليك التحدُّث إلى كلِّ هؤلاء الشرطيِّين، ثم المحامين والأطباء النفسيِّين. إنه لمن الأسهل الاستمرار. فنحن على وشْك الانتهاء هنا. ثماني جرائم كاملة. جرائم القتل المفضَّلة لديك، يا مال.»


«لقد كانت المُفضَّلة لديَّ في الكتب، وليس في الحياة الواقعية.»


ظلَّ مارتي هادئًا لحظة، واعتقدتُ أنه ربما كان يتنفَّس بصعوبةٍ إلى حدٍّ ما. للحظة، تخيَّلتُ أنه قد يسقط ميتًا فحسب بسببِ نوبةٍ قلبية مفاجئة. على الرغم من ذلك، نظر إلى الأعلى، وقال: «سأعترف بأن فكرة انتهاء الأمر برُمَّته ليست مزعِجة. أقول لك ما سأفعله من أجلك. سأحقِّق لك هذه الأمنية — ستحصل على براين — لأنني بصراحةٍ كنت أقوم بكل الأعمال الشاقة منذ أن اعتنيتَ أنت بنورمان تشيني. سأعطيك هذا السلاح، وكلُّ ما عليك فِعله هو أن تذهب وتضعَ وسادةً على وجهه وتُطلق النار عليها. لا أعتقد أن الجيران سيسمعون ذلك، وإن فعلوا، فسيظنون أنهم سمعوا شيئًا آخرَ. صوتًا كفرقعة سيارة، أو شيئًا من هذا القبيل.»


قلتُ وبسَطتُ يدي: «بالتأكيد.»


«أنا أعرفُ ما تُفكِّر فيه، يا مال. إذا أعطيتُك السلاح، يمكنك إبقائي تحت تهديد السلاح والاتصال بالشرطة، لكنني لن أدَعَ ذلك يحدُث. سألاحقك وسيتعيَّن عليك إطلاقُ النار عليَّ. ولذا، في كلتا الحالتَين، سيتعيَّن عليك إطلاقُ النار على شخصٍ ما. إما أن يكون براين، أو أنا. إنني أمنحك حقَّ الاختيار. وإذا وقع خيارك عليَّ، فلا بأس. فلديَّ بروستاتا بحجم كرة الويفل. لقد نِلتُ كفايتي. أعتقد أن هذه السنوات القليلة الماضية التي أمضيتُها في التعرُّف إليك، وممارسة هذه اللُّعبة الصغيرة، كانت كلُّها ممتعة.»


«ليس للجميع.»


«ها. أفترضُ ذلك. لكنك مثلي تعلمُ في أعماقِ نفسِك أنه لا شيءَ من هذا يهمُّ حقًّا. إذا سلَّمتُك هذا المسدسَ وأطلقتُ رصاصةً على رأس براين، فستُقدِّم له معروفًا على الأرجح. قد يُعجبك ذلك أيضًا. ثِق بي.»


قلتُ له وأنا أمدُّ يدي نحوه: «حسنًا.»


ابتسم. وكلُّ ما رأيتُه في عينَيه سابقًا من سعادة، كان قد ولَّى الآن. ورأيتُ ما كنت أراه دائمًا في عينيه. لطالما اعتقدتُ أن ما أراه كان طيبةَ قلب.


وضع السلاح في يدي. لقد كان مسدَّسًا دوَّارًا، وسحبتُ الزناد للخلف.


قال مارتي: «إنَّه مسدسٌ دوَّار مزدوج الحركة، لست بحاجةٍ في الواقع إلى سحبِ الزناد.»


نظرتُ إلى براين موري مُمدَّدًا على السرير، ثم استدرتُ عائدًا إلى مارتي وأطلقتُ النار في صدره.


الفصل الثلاثون


الفصل قبل الأخير من رواية «مقتل روجر أكرويد» يُدعى «الحقيقة الكاملة». يكشف الراوي — وهو طبيب البلدة الذي ارتكب جريمةَ القتل سرًّا — عمَّا فعله إلى القراء.


لم أعطِ أيًّا من فصولي في هذه الرواية عنوانًا. إنه تقليدٌ قديم على ما أعتقد، ويبدو مبتذلًا بعض الشيء، ماذا كنتُ سأُسمِّي ذلك الفصلَ الأخير؟ ربما شيء مثل «تشارلي يكشف عن وجهه». هل فهمتَ ما قصدتُه ﺑ «مبُتذَل»؟ لكن لو أني فعلتُ ذلك، لو أني أعطيتُ هذه الفصولَ اسمًا، فمن المؤكَّد أن هذا الفصل كان سيُسمى «الحقيقة الكاملة».


•••


في الليلة التي ماتت فيها زوجتي، كنتُ أتبعها في سيارتي متوجِّهًا إلى ساوثويل، إلى منزل إريك أتويل. لم تكن المرة الأولى التي أكون فيها هناك. وبعد أن اكتشفت أن كلير قد عادت إلى تعاطي المخدِّرات، وأنها على الأرجح متورِّطةٌ مع شخصٍ ما في «بلاك بارن إنتربرايسيز»، كنت قد مرَرتُ عدة مراتٍ بالمنزل الريفي المرمَّم. حتى إنني رأيتُ أتويل مرةً، على الأقل اعتقدتُ أنه هو. كان يركض على الرصيف غيرَ بعيدٍ عن منزله، مرتديًا زيَّ ركضٍ كستنائيَّ اللون. وأثناء ركضه، قام بحركات ملاكمة صغيرة، كان يلكُم كما لو كان روكي بالبوا.


في عشيَّة رأس السنة الجديدة في ذلك العام كنت قد قررتُ أنا وكلير البقاءَ في المنزل. أخبرتني أن هناك حفلًا صغيرًا في بلاك بارن، ولكن الآن بعد أن توقَّفت عن تعاطي المخدرات (على الأقل هذا ما أخبرتني به)، لم يكن هناك ما يدعوها للذَّهاب. شوَينا دجاجةً معًا في تلك الليلة. وأعددتُ بعضَ البطاطس المهروسة بينما أعدَّت هي بعضًا من ملفوف بروكسل المطهوِّ على البخار. شربنا زجاجةَ فيرمينتينو أثناء تناولِنا الطعام، ثم فتحنا زجاجةً ثانية بعد أن انتهينا من مهامِّ التنظيف. كنا قد بدأنا نسترخي في مكاننا لمشاهدة فيلم «الإشراقة الأبدية للعقل الطاهر»، أحد الأفلام المُفضَّلة لدى كلير. كان يُعجبني أيضًا. على الأقل، كان كذلك في وقتها. والآن، مجرد التفكير في الأمر يجعلني أشعر بالغثيان.


لا بد أنه قد غلَبني النعاس؛ لأنني عندما استيقظتُ كان الفيلم قد انتهى، وكانت الشاشة تعرِض خيارات قائمة مشغِّل أقراص الفيديو الرقمية. وعلى طاولة القهوة كانت هناك رسالةٌ من كلير.


«سأعودُ قريبًا. أعدُك، وأنا آسفة. أُحبُّك، كلير.»


علمتُ بالطبع أين ذهبت. وفي الخارج، لم تَعُد سيارتها السوبارو متوقِّفةً في شارعنا. استقلَلْتُ سيارتي التشيفي إمبالا وتوجَّهتُ إلى ساوثويل.


كان هناك حفلٌ صغير نوعًا ما مُقامٌ في منزل أتويل عندما وصلتُ إلى هناك. وكانت هناك خمس سياراتٍ في ممرِّ السيارات وسيارتان أُخرَيان على امتداد الشارع، بما في ذلك سيارة كلير. أوقفتُ سيارتي على بُعد نحو مائتَي ياردة، وجذبتُ سيارتي بإحكامٍ على جانب الطريق. كان هذا الجزء من ساوثويل قليلَ الكثافة السكانية. كانت في الغالب أراضيَ زراعيةً قديمة متدرِّجة الانحدار، تُقطعها الجدران الحجرية، وتتناثر بها منازلُ بملايين الدولارات هنا وهناك.


ترجَّلتُ من سيارتي، وخرجتُ إلى الليل البارد الصافي. كنت قد غادرتُ منزلي فجأةً لدرجةِ أنني لم أكن أرتدي ملابسَ مناسبة، كنتُ أرتدي فقط جاكيت قديمًا من الجينز فوق سترةٍ، وبنطالًا من الجينز. زرَّرتُ السترة حتى عنقي، ودسستُ يدي في جيبي، وسِرت على طول الطريق المؤدي إلى منزل أتويل. كانت هناك لافتةٌ صغيرة متواضعة مكتوبٌ عليها «بلاك بارن إنتربرايسيز» بجانب صندوق البريد. وقفتُ هناك لحظةً، أدرُس المنزلَ عن بُعد. كان هناك منزلٌ ريفي مطليٌّ باللون الأبيض، وتلوح في الأفق بجانبه حظيرةٌ ضخمة. لقد رأيتُها في النهار بالطبع، ولم تكن مطليَّة باللون الأسود. بل كانت أقربَ إلى اللون الرمادي الداكن، ولكن أُضفيَ عليها طابعٌ عصري لتتحوَّل إلى مساحةِ عمل مُنمَّقة، واستُبدِل بأبوابِها الأمامية زجاجٌ صُلب، واستُحيل الجزءُ الداخلي إلى مساحةِ عملٍ مفتوحة، وبها مكاتبُ مقسَّمة إلى وحداتٍ وطاولات بنج بونج.


طُفتُ حول المزرعة، مقتربًا من الحظيرة بما يكفي لأرى أنه رغم كونِها مضاءةً بوحدات الإضاءة الصناعية المعلَّقة، لم يكن أحدٌ بالداخل. كانت فاعليات الحفل مقامةً داخل المنزل. دُرتُ حول الحظيرةِ من الخلفِ لأقتربَ من الجزء الخلفي للمنزل، ولوهلة أذهلني المشهد. كان القمر أقربَ إلى البدر، ولم تكن هناك سُحبٌ في السماء. كانت مزرعةُ أتويل تقع على سلسلةٍ من التلال الصغيرة، ومن حيث وقفتُ، كان بإمكاني أن أرى الحقول المنحدرة بأكملها، وصولًا إلى صفٍّ من الأشجار الداكنة المغمورة بضوء القمر الفِضي. رُحتُ أحدِّقُ إليها بضع لحظاتٍ، وأنا أرتجفُ في سترتي الرقيقة، حتى تمكَّنتُ فجأةً من سماع ضحكاتٍ، واستطعتُ أن أشمَّ رائحةَ دخان السجائر المنبعث في الهواء. في الزاوية الخلفية للحظيرة كان بإمكاني رؤية السطح الخلفي، ومن الواضح أنه استراحةٌ ملحقة بالمزرعة. كان هناك رجلٌ وامرأة لم أتعرَّف إليهما يُدخِّنان السجائرَ ويضحكان بصخب، وقد حملَت الرياحُ العاصفة تفاصيلَ حديثهما معًا. شاهدتُهما يُنهيان سيجارتَيهما ثم يعودان إلى داخل المنزل. بعد أن اقتربت من أقرب نافذة، أمعنتُ النظر بالداخل.


هناك الكثير من الأشياء التي لن أنساها أبدًا بشأن تلك الليلة، لكن الصورة التي رأيتُها عبْر النافذة هي بالتأكيد واحدةٌ منها. قرابة العشرين شخصًا كانوا يتجمَّعون حول غرفة معيشة كبيرة مفروشة جيدًا. وفي وسطها توجد أريكةٌ جلدية محشوَّة، وهنا كان بإمكاني رؤيةُ كلير مرتديةً تنورة مضلَّعة قصيرة خضراء اللون، وبلوزة حريرية باللون الكريمي شعرتُ كأنني لم أرَهما من قبل. كانت تجلس بجوار أتويل، كتفاهما متلامستان، وكانت تحمل كأسًا من الشمبانيا في يدها. كانت الغرفة باهتةَ الإضاءة، ولكن كان بإمكاني أن أرى كومةً صغيرة من مسحوقٍ أبيضَ على طاولة القهوة ذات السطح الزجاجي، وكان أحدُ الضيوف جاثيًا بركبتَيه على الأرضية المفروشة بالسجاد يشدُّ خطًّا لنفسه. كانت موسيقى التكنو، ذلك النوع الذي قد تسمعه في ملهًى، تُدوِّي بصخَبٍ يرجُّ المنزل، وخلف الأريكة كان ثلاثة من الضيوف يرقصون. لكن ما لن أنساه أبدًا هو كيف بدت كلير؛ ليست ملابسها، ولا حتى كيف تجلس في مواجهة أتويل مباشرةً، حيث كانت إحدى يديه تلمس فخذَها العارية، بل ما لن أنساه هو بريقُ وجهها. كان ذلك تأثير المخدرات، ولكن كان هناك شيءٌ آخر أيضًا، وميضٌ من بهجة شهوانية خالصة. ظلَّت تضحك، وفمها مفتوحٌ على مِصراعَيه بطريقة بدَت غيرَ طبيعية، وشفتاها مبتلَّتان.


سِرتُ عائدًا إلى سيارتي، أدرتُ المحرك، ورفعتُ الحرارة طَوال الطريق. كنت أرتجفُ لكنني كنت أبكي أيضًا. ثم أصبحتُ غاضبًا، وأخذتُ أضربُ قبضتي على نحوٍ متكرر في سقف السيارة. كنتُ غاضبًا من كلير وأتويل بالطبع، لكني أعتقدُ أنني كنت غاضبًا من نفسي أكثرَ من أي شيء آخر. على الأقل في ذلك الوقت. ذلك أنَّ ما خطَّطتُ لفعله كان العودةَ إلى سومرفيل وانتظار زوجتي، على أملِ أن تعود سالمةً وبصحةٍ جيدة، وأن تعود لي وحدي يومًا ما.


ارتفعَت درجةُ حرارة السيارة، وهدأتُ. كان بإمكاني رؤيةُ سيارة كلير السبارو على طول الطريق، من حيث أوقفتُ سيارتي وقرَّرتُ الانتظار. علمتُ من تجرِبةٍ سابقة أنها لن تقضيَ الليلة هناك، وأنها ستعود قبل الصباح، ولو أن الوقت قد يكون متأخِّرًا. وعرَفتُ أنني سأغفرُ لها، وأنني سأفعلُ ما كانت تفعله أمي دائمًا مع والدي. كنت سأنتظر عودتها إليَّ. لكن كلما جلستُ في سيارتي مدةً أطول، حيث يُخرخر المحرِّك، وتُضخُّ الحرارة عبْر فتحات التهوية، تأجَّج غضبي ضد كلير. كنت أعرفُ أنها تتعاطى المخدرات، وأنها عند مرحلةٍ ما لم تستطِع تمالُكَ نفسها، لكنها أيضًا كانت تبدو سعيدةً جدًّا في غرفةِ معيشة أتويل، كانت تبدو مُفعَمة بالحياة.


كانت الساعة الثانية والنصف صباحًا عندما رأيتُ شخصين بجوار سيارة كلير. على ضوء القمر رأيتُهما مُقبلَين معًا ويتبادلان القُبَل، ثم فتحَت كلير الباب — تمكَّنتُ من رؤية المعطف الشتوي ذي القلَنسُوة فوق ساقيها العاريتَين — ودلفَت إلى الداخل بينما كان أتويل يركض عائدًا إلى منزله. أُضيئت أنوار المكابح، ثم استدارت إلى الخلف. لا بد أن تكون مصابيحها الأمامية قد التقطَت سيارتي في ظلِّ مجموعةٍ من أشجار الصنوبر، لكن لا بد أنها لم تُعِر لذلك انتباهًا. وانطلقَت بسرعة في الشارع باتجاه الطريق ٢.


تبِعتُها. كانت تقود السيارةَ بسرعةٍ على الطرق الخلفية، ولكن بمجرد أن أصبحَت على الطريق السريع عائدةً إلى بوسطن، أبطأت سرعتها إلى حد السرعة القانونية بالضبط. كانت لا تزال عشيةَ رأس السنة، وكانت الشرطة تشنُّ حملاتها بحثًا عن سائقين مخمورين. شيءٌ ما بشأن هذه الحقيقة أزعجَني، أنه على الرغم من كلِّ ما تناولته في تلك الليلة، وكل ما فعلته، كانت حريصةً بما يكفي على تجنُّبِ إيقاف الشرطة لها على جانب الطريق. بالطريقة نفسِها علمتُ أنها عندما عادت إلى الشقة التي كنا نعيش فيها معًا، كانت تتسلَّل بهدوءٍ إلى الباب، ولا تريد إيقاظي. وأنه عندما تحدَّثنا عمَّا حدث في صباح اليوم التالي، كانت تبكي وتقول إنها كانت شخصًا فظيعًا وتتوسَّل المغفرة. لقد أرادت الحياة المزدوجة، لكنها لم ترغب في المواجهة. كانت تلك هي طريقتها. أتذكَّر أنني كنت أفكِّر في أنني سأكون أكثرَ احترامًا لها إذا تركتني فحسب، إذا استسلمت لحقيقةِ أنها تُفضِّل أن تكون مع إريك أتويل، وأنها تُفضِّل أن تكون مدمنة. عندئذٍ، كنا لنحسمَ الأمر على الأقل.


كانت هناك بضعُ سياراتٍ أخرى على طول الطريق السريع المكوَّن من حارتَين، ولكن لم يكن هناك الكثير. بقيتُ بالقرب منها، ولم أشعر حقًّا بالقلق من أنها ستُلاحظ ذلك. فهي لم تُلاحظني على جانب الشارع خارج منزل أتويل وربما لن تُلاحظني الآن. قُدتُ على هذا الطريق عدةَ مرات، وكنا نقترب من جسرٍ عُلوي. لم يكن هناك سوى سياجٍ منخفض على طول الحافة. فجأة تخيَّلتُ كلير تفقد السيطرةَ على سيارتها، وتسقط من فوق الحافة، لتهبط على الطريق أدناه. ودون التفكير كثيرًا في الأمر، أسرعتُ متخطيًا كلير في حارة المرور. وللحظة كنا جنبًا إلى جنب، ونظرتُ إليها، لكن كل ما استطعتُ رؤيته هو جانبُ وجهها في الظلام. ربما كانت قد استدارت نحوي، لكن كان من الصعب معرفةُ ذلك. ماذا كانت سترى؟ وجهي في الظلام كذلك. هل كانت ستتعرف عليَّ؟


تجاوزتُها لكنني بقيتُ في مساري. كان الجسر يقتربُ بسرعةٍ وكنت أتخيَّل السيناريوهات. ماذا لو دفعتُها، متقدِّمًا بسيارتي في مسارها؟ هل ستدَعُنا نصطدم لنخرجَ معًا عن السيطرة، ونتجاوز الحافة؟ في أعماقي، علمتُ أنها لن تفعل ذلك. كانت زوجتي تتجنَّب الاصطدامات. لم يمنعها ذلك من تدمير حياتها، لكنني كنتُ أعلم أنني إذا انحرفتُ إلى مسارها، فسوف تنحرف لتتجنَّبني.


فعلتُها. قطعتُ الطريق عليها قُطريًّا عندما كنا نتحرَّك على طول الجسر، وفعلتُ بالضبط ما اعتقدتُ أنها ستفعله. سقطت من فوق الحافة.


•••


وعندما عُدتُ إلى المنزل، انتظرتُ وصولَ الشرطة. أتَوا في الثامنة صباحًا ليُخبروني أن زوجتي قد ماتت. كان ذلك بالطبع بمنزلةِ راحةٍ لي. فقد كنتُ قلِقًا من أنني ربما أصبتُها بطريقةٍ فظيعة. وكنت قلِقًا أيضًا من أنها ربما قتلَت شخصًا آخرَ عندما هبطَت سيارتها على الطريق أدناه. لكنها لم تفعل؛ ولهذا كنت ممتنًّا أيضًا.


•••


إنه لَأمرٌ مضحك أن تحزنَ على شخصٍ قتلتَه بنفسك. في البداية كان حزني مَشوبًا بقدْرٍ كبير من الإحساس بالذنب. ظللتُ أتساءل لو كنتُ تركتُ كلير ببساطة تقود سيارتها إلى المنزل في تلك الليلة فما الذي كان سيحدث بعد ذلك. ربما كانت ستطلب مني أن أُدخِلَها مركزًا لإعادة التأهيل، قائلةً إنها قد وصلَت إلى الحضيض، وأنها تريد أن تتعافى. أو ربما كانت ستستمرُّ في العودة إلى أتويل لتعاطي المخدرات، وكنت سأتركها تفعل ذلك. منتظرًا فحسب، على أملِ أنها قد تتغيَّر.


ساعدتني قراءةُ مذكراتها. كان هناك شريرٌ واضح في قصتي أنا وكلير، وكان هذا الشرير هو إريك أتويل. إنَّ العثورَ على طريقةٍ للتخلُّص منه قد جعلَتني أتخطَّى أسوأ أحزاني، ثم لعِب الوقتُ لُعبتَه. لم أتجاوز الأمر، لكنه أصبح أسهل. ابتعتُ المتجر وانغمستُ في العمل. على الرغم من أنني توقَّفتُ عن قراءة روايات الجريمة — كان الموتُ العنيف يلوح فيها على نحوٍ كبير — كنت أعرفُ ما يكفي لمساعدة زبائني. كنت بائع كتب، وكنت جيدًا في ذلك. وهذا كان كافيًا.


الفصل الحادي والثلاثون


رنَّ جرسُ الهاتف، ثم تحوَّل إلى البريد الصوتي. ضغطتُ إنهاءَ المكالمة على هاتفي المحمول، وكنتُ على وشْك تحطيم الهاتف عندما رنَّ. كانت جوين مالفي هي المتصلة.


«مرحبًا.»


قالت: «ما الذي يجري؟»


«هل وصلَتكِ أيُّ أخبار؟»


«أخبارٌ بشأن ماذا؟»


«هناك رجلٌ ميت في بوسطن. اسمه مارتي كينجشيب، وهو تشارلي. إنه تشارلي الذي نبحث عنه. لقد قتل روبن كالاهان، وإيثان بيرد، وجاي برادشو. وقتل كذلك بيل مانسو وإيلين جونسون، وقبل ليلةٍ واحدة قتل نيكولاس برويت في نيو إسيكس، بولاية ماساتشوستس.»


قالت: «تمهَّل، أين هو الآن؟ هل قلت إنَّه ميت؟»


«لقد اتصلتَ للتوِّ بالطوارئ وأعطيتهم العنوان. لا بد أنهم في الطريق.»


«مَن قتله؟»


«أنا قتلتُه. أطلقتُ عليه النار في وقتٍ متأخِّر من ليلة أمس. على الأرجح صَبيحة اليوم. كان سيقتل براين وتيس موري ويجعل الأمر يبدو مثل جريمة «لُغز المنزل الأحمر».»


«مَن هو؟»


«كان يعمل ضابطَ شرطة في سميث فيلد، بولاية ماساتشوستس. ثم تقاعد وذهب ليعيش في بوسطن. كما أنه قتل إريك أتويل. لقد فعَلها بالوكالة عني، أنا طلبتُ منه ذلك. هكذا بدأ الأمر برُمَّته. إنه خطئي حقًّا. لقد بدأتُ ذلك. كان مارتي معتوهًا، لكنني بدأتُ الأمر.»


«ينبغي أن تتريَّث، يا مال. أين أنت الآن؟ هل يمكنني أن آتيَ إليك؟»


فكَّرتُ في الأمر لحظةً وجيزة. فكَّرتُ في رؤية جوين مرةً أخرى. لكنني علمتُ أيضًا أنه لا توجد طريقةٌ للقيام بذلك دون أن ينتهيَ بي الأمر خلف قضبان السجن، وقد قرَّرتُ منذ وقت طويل أنني لن أسمح بحدوث ذلك عن طِيب خاطر.


قلتُ: «آسف، كلَّا. ولا يمكنني التحدُّث طويلًا. فبمجرد أن ننتهيَ هنا، سأتخلَّص من هذا الهاتف المحمول. لديَّ خمسُ دقائق. ما الذي تريدين معرفته؟»


سمعتُ نفَسًا حادًّا، ثم قالت: «هل تأذَّيت؟»


«كلَّا، أنا بخير.»


«هل كنت تعلم أنَّه هو طَوال الوقت؟»


«مارتي؟ كلَّا، لم أكن أعلم. لقد خطَّطنا لكل شيءٍ عبْر الإنترنت، ولم يمنح أحدُنا الآخر هُويَّته قط. لقد اكتشف مَن أكون، ثم وجد قائمتي، وشرَع في استخدامها. لم أكتشف هُويته سوى أمسِ فقط. ولو كنتُ أعرفُ من قبل، لكنتُ أخبرتُك.»


«قلت إنَّ نيكولاس برويت مات. هذا هو الاسم الذي منحتَني إياه، أليس كذلك؟ آخرَ مرة تحدَّثنا فيها؟»


«اعتقدتُ أنَّ برويت ربما كان تشارلي، لكنه لم يكن كذلك. لقد مات بسبب جرعةٍ زائدة من الكحول ونوع من المخدرات. عايني المنزل بحثًا عن بصمات كينجشيب. ستكون على الأرجح هناك.»


«يا إلهي!»


«انظري، عندما تتحدَّثين مع المحقِّقين في هذه القضية، فقط أخبريهم أنني اتصلتُ بكِ وأعطيتُكِ هذه المعلومات. لستُ بحاجةٍ إلى القول بأنك أتيتِ ووجَدتِني في بوسطن. أريدك أن تستعيدي وظيفتك.»


«لستُ متأكِّدةً من حدوث ذلك.»


«أعتقدُ أنَّ هذا ما سيحدث. سوف تنالين بعض التقدير وسيكون لكِ الفضلُ في اكتشاف الصلة بين القائمة وجرائم القتل. امنحيهم المعلومات التي ليست في حوزتهم. لقد قتل إريك أتويل بمسدَّس قال إنه أخذه من مسرح جريمة. أخبريهم أننا التقينا على موقعٍ إلكتروني يُسمى «دوكبرج». ستكونين على ما يُرام.»


«لديَّ الكثير من الأسئلة.»


«عليَّ الذَّهاب. آسف، جوين.»


«هل يمكنني أن أسألك سؤالًا آخرَ، إذن؟»


قلتُ: «بالطبع». كنتُ أعرفُ ماذا سيكون.


«ماذا حدث لوالدي؟ هل قتل مارتي ستيف كليفتون؟»


لا بد أنني تردَّدتُ بضعَ ثوانٍ لأنها أضافت: «أم كان هذا أنت؟ أريدُ أن أعرف.»


«بعد كلير … بعد وفاة زوجتي، كنت أجد صعوبةً كبيرةً في تذكُّر العام التالي. كانت لديَّ أحلام مروِّعة، وكان يملؤني شعور بالذنب، وربما كنت أسرفُ في الشراب.»


قالت: «حسنًا.»


«وخلال ذلك الوقت، كان لديَّ هذا الحُلم المتكرِّر، وأحيانًا أتساءلُ عمَّا إذا كان قد حدث بالفعل». كان الجوُّ باردًا حيث كنت أقف، لكن كان بإمكاني الشعورُ بالعَرق يتقاطر على مؤخرة عنقي بينما كنت أتحدَّث. «في هذا الحُلم صدمت والدك بسيارتي. خرَجتُ لأرى إن كان بخير، ولم يكن كذلك بالطبع، لكنه كان لا يزال على قيد الحياة. كانت ساقاه في اتجاه والجزء العلويُّ من جسده في الاتجاه الآخر. أخبرتُه مَن أنا وسبب وجودي هناك، ثم شاهدتُه يموت.»


قالت جوين بصوتٍ لم أستطِع قراءته: «حسنًا، شكرًا.»


قلتُ: «ما زال يبدو كأنه حُلم. كلُّ هذا يبدو وكأنه حُلم.»


«هل أنت متأكِّد أنك لا تستطيع مقابلتي؟ يمكنني القدوم إليك. سآتي بمفردي.»


قلتُ بعد لحظة: «لا. آسفٌ جوين، أنا فقط لا أستطيع. إنني فقط لا أعتقد أنه يمكنني التحملُ إذا هم اعتقلوني …»


«قلتُ لك إنني سآتي بمفردي.»


«ولا أريدُ أن أجيب عن أي أسئلة أخرى. لا أريد أن أسترجع الماضيَ أكثر مما كان عليَّ فِعله في الأيام القليلة الماضية. لقد كان على سبيل الحظ المحض أنني حظيتُ بتلك السنوات القليلة، على الرغم من أنني في أعماقي، كنت أعلمُ أنه لا يمكن أن يدوم. آسف، لا أستطيع رؤيتك مرةً أخرى. هذا مستحيل.»


قالت جوين: «لديك الخيار في هذا الشأن.»


«كلَّا. أنا حقًّا لا أملكُ الخيار. قد لا يبدو الأمر كذلك بالنسبة إليك، لكن خلال السنوات الخمس الماضية … انتابتني أحلامٌ رهيبة كلَّ ليلة. لقد تمكَّنتُ من الاستمرار؛ لأنَّ ذلك كان كلَّ ما استطعتُ أن أفعله، لكن لم يكن هناك أيُّ متعة فيه. لم أعُد خائفًا، لكنني متعب.»


ظننتُ أنني سمعتُ تنهيدةً على الطرَف الآخر من الخط.


قالت جوين: «هل هناك أيُّ شيءٍ آخر تودُّ أن تخبرني به؟»


«كلَّا.»


«حسنًا. لكن ما قلته لي هو الحقيقة؟»


قلتُ: «أجل. كلُّ ما قلتُه صحيح.»


الفصل الثاني والثلاثون


كلير مالوري


إريك أتويل


نورمان تشيني


ستيفن كليفتون


روبن كالاهان


إيثان بيرد


جاي برادشو


بيل مانسو


إيلين جونسون


نيكولاس برويت


مارتي كينجشيب


تلك أسماءُ الموتى. أسماؤهم الحقيقية. ما عدا مارتي كينجشيب.


لا أعرفُ لماذا غيَّرتُ اسمه لأغراضِ هذا السرد. ربما لأنَّ لديه أطفالًا، وهم مثل جميع الأطفال، أبرياء من جرائم آبائهم. وربما لأنه الوحيد الذي يستحق اللَّوم لما حدث. بالإضافة إليَّ بالطبع.


إنَّه لَأمرٌ طريف، أدركتُ الآن للتو أنَّ مارتي كينجشيب يمتلك الأحرف الأولى من اسمي. زلة فرويد، على ما أعتقد. وأفترضُ أيضًا أنَّ القُرَّاء المخضرمين ستكون لديهم قناعةٌ بأنه لا وجودَ لمارتي كينجشيب، وأن هناك فقط مالكوم كيرشو، وأنني ارتكبتُ جميع جرائم القتل بنفسي. هذا غير صحيح، أتمنَّى لو كان هذا صحيحًا، بطريقةٍ ما. كان ذلك سيصنع نهايةً حاذقة.


الحقيقة هي أنني مسئول عن كلِّ ما حدث. لقد نفَّذ مارتي معظمَ الأعمال، ولكنني كنتُ صاحبَ الفكرة. لقد بدأ كلُّ شيء بسببي.


هذه هي الحقيقة. لقد ارتكبتُ خطيئة السهو، لكن عندما أقول إنَّ شيئًا ما صحيح، فهو كذلك. صدِّقني.


•••


أنا في روكلاند، بولاية مين.


بعد أن أطلقتُ النار على مارتي كينجشيب (الذي بدا سعيدًا تقريبًا وهو يلمسُ الدم المتدفِّق عبْر سترته، قبل أن يرتجفَ ثم يقضيَ نحْبَه)، ذهبتُ أولًا إلى براين موري. كان قد استيقظَ عندما أطلقتُ الرصاصةَ بالطبع، رفعَ رأسه وغمغَم بشيءٍ ما. جلستُ بجانبه وأخبرتُه أنَّ ما سمِعه كان صوتَ زجاجة شمبانيا. فتقلَّب في سريره وبدأ يَشخِر مرةً أخرى.


ثم تفقَّدتُ تيس. لم يَعُد همفري يَشغَل الأريكة المقابلة لها. لقد سمِع صوت الرصاص واختفى. كما قال مارتي، «يا له من كلبِ حراسة.»


كانت تيس لا تزال تتنفَّس، وكانت ترقد على جنبها، ومن ثمَّ ظننتُ أنها ستكون بخير، إذا تقيَّأَت. هذا يعني أنني لستُ بحاجةٍ إلى الاتصال بالطوارئ على الفور. كنت سأتصل بهم في أقربِ ما يمكن، لكنني أردتُ فقط القليل من الوقت.


عُدتُ إلى شقتي وحزَمتُ حقيبتي. وضعتُ بها ملابس تناسب الطقس البارد، مع بعض أدوات الزينة، وصورة كلير المفضَّلة لديَّ. لقد كانت من شهر العسل الخاص بنا، أسبوعَين ممطرَين في لندن، أفضلِ أسابيع حياتي. التُقِطَت الصورة في حانة، وكانت كلير جالسة أمامي، وتعلو وجهها ابتسامةٌ طفيفة، غير متأكِّدة من رغبتها حقًّا في التقاط تلك الصورة لها، لكنها كانت سعيدة رغم ذلك.


فكَّرتُ في الذَّهاب إلى «أُولد ديفيلز» للمرة الأخيرة، حتى أودِّع نيرو، لكن الأمر سيستغرقُ وقتًا لم أكن متأكِّدًا من أنني أمتلكه. كنت بحاجةٍ إلى الاتصال بالشرطة وإخبارهم بوجود جثة في منزل براين وتيس موري. كنت أرغب في القيام بذلك سريعًا، بالطبع، بسبب تيس والمخدِّرات الموجودة في جسمها. لكنني أيضًا لم أرغب في أن يستيقظ براين في الصباح الباكر ليجد جثةً في غرفة نومه.


كانت السماء قد بدأت تُضيء بنور الصباح بينما كنت أقودُ سيارتي في نيو هامبشير. توقَّفتُ على الطريق السريع بجوار متجر بقالة يعمل على مدار الأربع والعشرين ساعة، وباستخدام النقود، اشتريتُ ما يكفي من الطعام المعلَّب والجِعة المعبَّأة في زجاجاتٍ تكفيني أسبوعًا. بعد أن حملتُ صندوق سيارتي في ساحة الانتظار، اتصلتُ برقم الطوارئ من هاتفي المحمول، وعرَّفتُ نفسي، وقلتُ إن هناك رجلًا ميتًا في ٥٩ شارع ديرينج في بوسطن. ثم اتصلتُ بجوين، وعندما عاودت الاتصال بي، أجرينا المحادثةَ التي كتبتُ عنها بالفعل. بعد ذلك، حطَّمتُ الهاتف المحمول بطوبةٍ وجدتُها في ساحة انتظار السيارات، ثم وضعتُ القطع في سلَّة المهملات خارج المتجر. إذا قرَّروا تتبُّعي، فأعتقد أنهم سيكتشفون أنني كنت مسافرًا شمالًا. لكنني لم أكن قلِقًا جدًّا بشأن ذلك.


كانت الثلوج تتساقط في الواقع بدرجةٍ أقلَّ بكثير في شمال المدينة. وكان هناك صقيعٌ أبيضُ فوق كلِّ شيء، صقيعٌ أكثر من الثلج، وفي ساعات الفجر بدَت السماءُ كرقعة شطرنج مؤلَّفة من سُحبٍ رقيقة. كان العالَم عديمَ اللَّون.


وصلتُ روكلاند بحلول منتصف النهار. فكَّرتُ في الانتظار مجدَّدًا في مكانٍ ما حتى حلول الظلام، لكنني قررتُ المخاطرةَ عوضًا من ذلك. وكان هناك منزلٌ واحد فقط يُطل على ملكيَّة إيلين جونسون القديمة، وتمنَّيتُ أن لا أحدَ ممن يعيشون في هذا المنزل يفضِّلون قضاءَ فترة الصباح في النظر عبْر النافذة. من زيارتي السابقة لمنزل إيلين، لاحظتُ وجودَ مرأب يتَّسع لسيارةٍ واحدة. كان بابه مفتوحًا، وتذكَّرتُ أنه كان فارغًا من الداخل. كانت سيارة إيلين، لينكولن العتيقة الطراز، التي ربما تكون كبيرة جدًّا بالنسبة إلى المرأب، تقبع مغطاةً بالجليد في الممر.


وجدتُ المنزل على الفور، ليس بعيدًا عن الطريق ١، وانعطفتُ إلى ممرٍّ غيرِ مجروف بسرعة كافية حتى لا أَعلَق. توقَّفتُ بجوار اللينكولن ودخلتُ المرأب، وأطفأتُ المحرك، ثم خرجتُ وجذبتُ باب المرأب بشدةٍ لأسفل بواسطة مقبضه الصَّدِئ. كنت قد ألقيتُ نظرةً سريعة عبْر الشارع قبل أن أفعل هذا نحوَ منزلٍ يشبه الصندوق، مسقَّفٍ بألواحٍ خشبية رفيعة، يتصاعد الدخان من مدخنته. كنت سعيدًا لأن واجهة المرأب لم تكن مائلة باتجاه الشارع. على أملِ ألا يُلاحظ أحدٌ أن بابه قد انغلق الآن.


أزلتُ لوحًا زجاجيًّا واحدًا من الباب الخلفي، ومدَدتُ يدي إليه وفتحتُه. بمجرد أن أصبحتُ بالداخل مع طعامي وحقيبتي الرياضية، وجدتُ بعض الورق المقوَّى والشريط اللاصق وأحكمتُ إغلاق الباب مجددًا.


كان نظام التدفئة لا يزال يُحقِّق أثرَه، مع أنَّ منظِّم الحرارة كان مضبوطًا على أول الستينات. كان الجو باردًا، لكنه مُحتمَل. أفرغتُ عبوات طعامي ووضعتُ الجِعة في الثلاجة بجوارِ ما تبقَّى من مخزون إيلين الغذائي الذي تركَته. كان من الواضح أنها كانت تعيش على جُبن الماعز والفواكه المُعلَّبة. كانت هناك أريكة أنيقة في غرفة المعيشة، على طراز القرون الوسطى، ذات أرجُل خشبية وظهر منخفض. قررتُ أن أنام هناك. صعدتُ إلى الطابق العلوي للبحث عن شراشف نظيفة وبطانية، ووجدتُها في خِزانة غرفة النوم الرئيسية. كلُّ ما استطعتُ التفكير فيه هو مارتي في قِناع المهرج يخرج من هذه الخزانة لإخافة إيلين جونسون حتى الموت. لم تكن الشخص المفضَّل لديَّ، لكنها لم تستحقَّ ذلك. عندما عُدتُ إلى غرفة المعيشة، علمتُ أنني لن أصعدَ مرةً أخرى إلى الأعلى أبدًا.


•••


مرَّت أربعةُ أيام وما زلتُ هنا. إنني أعملُ على هذه المخطوطة، وأتناولُ يخنةَ اللحم البقري المعلَّب وحَساء الطماطم. لقد نفدَت الجِعة لكنني وجدتُ عدة زجاجاتٍ سعة جالون من نبيذ «جالو بورجندي» في القبو وأنا أعمل بلا كللٍ بفضل تلك الزجاجات.


ما أفعله في الغالب هو القراءة. خلال النهار أجلسُ على كرسي مريح بجوار النافذة. وفي الليل، أقرأ على الأريكة مستخدمًا قلمًا ضوئيًّا تحت بطانية لأتمكَّن من الرؤية. عُدتُ إلى قراءة الألغاز مرةً أخرى، ليس فقط لأنها الكتب الوحيدة هنا، ولكن لأنه لم يتبقَّ لي الكثير من الوقت، وأريد إعادةَ النظر في بعضٍ من الكتب المفضَّلة لديَّ. أجدُ أنني أكثرُ انجذابًا إلى الكتب التي قرأتُها لأول مرة عندما كنتُ على مشارف سن المراهقة. روايات أجاثا كريستي، روبرت باركرز، وسلسلة روايات «فليتش» لجريجوري ماكدونالد. قرأتُ «عندما تُغلقُ الحانة المقدَّسة أبوابها» لكاتبها لورانس بلوك في جلسة واحدة وبكيتُ بعد الانتهاء من الجملة الأخيرة.


أتمنَّى لو كان هناك المزيد من كتب الشِّعر في هذا المنزل، لقد وجدتُ مختاراتٍ من الشِّعر الأمريكي كانت قد نُشرت عام ١٩٦٢. لكنني تمكَّنتُ أيضًا من تدوين بعض قصائدي المفضَّلة من الذاكرة. «غسق شتوي»، بالطبع، لسير جون سكواير، و«أغنية الفجر» لفيليب لاركن، و«عبور المحيط» لسيلفيا بلاث، ونصف المقاطع الشعرية على الأقل من «مرثيَّة مكتوبة في ساحة كنيسة ريفية» لتوماس جراي.


•••


لا يوجد إنترنت هنا وليس معي هاتف.


أنا متأكِّد من أنهم يبحثون عني، عن الرجلِ الذي قتل مارتي كينجشيب، الرجلِ الذي لديه إجابات عن سلسلة من جرائم القتل ذات الصلة. لا أعرف كم ساعدَتهم جوين. أفترضُ أنها أخبرتهم بكلِّ شيءٍ عن مكالمتنا الهاتفية. ربما لم تخبرهم كيف التقينا في بوسطن بعد أن أوقَفوها عن العمل. أتساءل عما إذا كانت ستكتشف مكاني. حتى الآن لم يقرَع أحدٌ هذا الباب.


سيظلُّ لديهم العديدُ من الأسئلة. أنا متأكِّدٌ من أن جوين نفسَها لا يزال لديها أسئلة. هذا أحدُ أسباب كتابتي لهذه المذكرات. أريدُ أن أضع الأمور في نِصابها. أريدُ أن أقول الحقيقة كاملة.


•••


كنت قد كتبتُ أنني أحرقت مذكرات كلير بالكامل بعد قراءتها. هذا ليس صحيحًا تمامًا. لقد احتفظتُ بصفحةٍ واحدة، ربما لأنني أردتُ دليلًا على أنها أحبَّتني؛ شيئًا بخطِّ يدِها.


كان ما دوَّنته من ربيع عام ٢٠٠٩، وهذا ما كتبته:


إنني لا أكتبُ ما يكفي عن مال في هذه الصفحات، وكيف يمكنه أن يجعلَني سعيدة. أعود إلى المنزل متأخِّرةً لأجده دائمًا منتظرًا على الأريكة. وفي أغلب الأحيان أجده نائمًا، وثمَّة كتابٌ مفتوح فوق صدره. عندما أيقظتُه ليلة أمسِ كان سعيدًا جدًّا برؤيتي. قال إنه قرأ قصيدةً يعتقد أنني سأحبُّها.


لقد أعجبَتني حقًّا، بل ربما حتى وقعتُ في غرامها. إنها قصيدةٌ بقلم بيل نوت وسوف أكتبها هنا بالأسفل حتى لا أنساها أبدًا. إنها تُدعى «وداعًا»:


إذا كنتَ لا تزال حيًّا عندما تقرأ هذا،

فأغمِض عينَيك، إنني

تحت جَفنَيهما. أزدادُ عَتمة.

ما الذي كذبتُ بشأنه أيضًا؟


لا أعرفُ إن كانت هذه كذبةً بقدْرِ ما هي سهو أم لا، لكن عندما قتلتُ نورمان تشيني في تيكهيل بنيو هامبشير، جعلتُ الأمر يبدو كما لو أنني قد تركتُه هناك على الأرض بعد أن خنقتُه. لكن في الواقع، لا بد أنني أُصبتُ بالذعر، بعد أن فحَصت نبضه؛ لأنني التقطتُ العتلةَ وضربتُه على وجهه ورأسه عدةَ مرات. لن أصفَ كيف بدا عندما انتهيتُ، لكنني جلستُ على الأرض وظننتُ أنني لن أنهض مرةً أخرى أبدًا، وأنني لن أظلَّ سليمَ العقل بعد الآن. كان مجيءُ نيرو هو ما أنقذَني في نهاية الأمر. لقد أعطاني سببًا للنهوض والخروج من المنزل. أعتقدُ أنني جعلتُ الأمر يبدو كما لو أنني أنقذتُ نيرو، لكن كان هو في الواقع مَن أنقذني. أمرٌ مبتذَل، أعرف. لكن الحقيقة تكون هكذا أحيانًا.


•••


عندما أخبرتُ جوين عن حُلمي بقتل ستيفن كليفتون، كنت أقول الحقيقةَ أيضًا. الحقيقة كما أعرفُها. أنا حقًّا لا أتذكَّر الكثير مما حدث في تلك السنة بعد وفاة كلير (بعد أن جعلت كلير تنحرف عن الطريق، حسبما ينبغي أن أقول)، لكنني أتذكَّر هذا الحُلم، حُلم اليقظة ذاك حيث أدهسُ كليفتون بسيارتي. وهناك لحظاتٌ، لحظاتٌ واضحة، حين أتذكَّر كلَّ شيءٍ، عندما تعود الأمور إلى نِصابها. لكن تلك اللحظات لا تدوم أبدًا.


كان ستيفن كليفتون مذعورًا. أتذكَّر وجهه. كان شاحبًا مثل الحليب، تقريبًا ضبابي. لقد كان وجه جوين. أعتقدُ أنه لم يكن حُلمًا في نهاية المطاف.


•••


هناك إغفالٌ آخَر ينبغي أن أسجِّلَه. عندما كنت أتحدَّثُ أنا ومارتي في منزل عائلة موري، في الليلة التي أخبرني فيها بكلِّ شيء، سألتُه عن التعليقِ الذي تركه على موقع «أُولد ديفيلز»، التعليقِ الذي نشره تحت اسم دكتور شيبارد.


بدا مرتبكًا عندما سألتُه عن ذلك. قلتُ: «دكتور شيبارد. إنه القاتل في رواية «مقتل روجر أكرويد».»


الآن وأنا أفكِّر في الأمر، أعتقدُ أنه من المُحتمل أن أكون أنا مَن ترك هذا التعليق. وأيقظَ ذلك ذكرى بعيدةً في داخلي. فكما قلت، لقد مرَّت ليالٍ عديدة في السنوات القليلة الماضية لم أكن أميِّز فيها بين الحُلم والحقيقة. كلير، وجهها في الظلام، تستدير وتنظر إليَّ مِن سيارتها مباشرةً قبل أن أدفعها بعيدًا عن الجسر. نورمان تشيني، ما تبقَّى منه، على أرضية منزله في تيكهيل. هزة السيارة أثناء تحليق ستيفن كليفتون في نسيم الصيف. تساعد الجِعة أحيانًا، وربما شربتُ كثيرًا لدرجة أنني تركتُ لنفسي رسالةً في قسم التعليقات عن «ثماني جرائم كاملة».


وإذا كان هذا أنا، فقد كان ذلك هاجسًا نوعًا ما. إنني أقرأ الآن «مقتل روجر أكرويد» مرةً أخرى. لقد وجدتُ نسخةً في أسفل كومة في ركن غرفة طعام إيلين جونسون. إنها طبعة الجيب الورقية، وعلى غلاف الكتاب يظهر أكرويد وهو مُلقًى على كرسيِّه، ويبرُز سكِّينٌ من أعلى ظهره. إنه كتابٌ مملٌّ حقًّا حتى تصل إلى الفصلَين الأخيرَين. أشرتُ من قبلُ إلى الفصل قبل الأخير، وهو الفصل الذي بعنوان «الحقيقة الكاملة».


حسنًا، يُدعى الفصل الأخير «اعتذار» وهو الفصل الذي يجعلك تدرك أن كلَّ ما كنتَ تقرؤه طَوال الوقت لم يكن إلا رسالةَ انتحار.


•••


إنَّ الثلج يهطِل في الخارج، والرياح تعصف بنوافذ المنزل. خاطرتُ مُخاطرةً كبيرة وأشعلتُ النار في المدفأة. ومع ذلك، لا أعتقدُ أن أيَّ شخص سيُلاحظ القليل من دخان المدخنة أثناء عاصفةٍ مثل هذه.


من الرائع الجلوس بالقرب من النار ومعي كأسٌ من النبيذ. بالنسبة إلى كتابي الأخير، إنني أقرأ «ثم لم يبقَ أحد». إن لم تكن تلك روايتي المفضَّلة على الإطلاق، فهي قريبة جدًّا من أن تكون كذلك. كما أنها مناسِبة أيضًا للظروف.


أودُّ أن أقول شيئًا ما هنا عن كيف أنني سأصبح مع كلير عمَّا قريب. لكنني لا أصدِّق أيًّا من هذا الهراء. عندما نموت، نُصبح عدمًا، العدم نفسه الذي كنا عليه قبل أن نُولَد، لكن بالطبع هذه المرة لا يدوم ذلك العدم إلى الأبد. ولكن إذا كان هذا هو المكان الذي توجد فيه كلير، في الظلام، في العدم، إذن فهذا هو المكان الذي يجب أن أكون فيه كذلك.


خُطتي هي أنه عندما تنتهي العاصفة، وتنجِز جرافاتُ الثلوج عملَها، سأملأ جيوبَ معطفي الشتوي بثقالات الورق الزجاجية الثقيلة الموجودة على الرفِّ في غرفة المعيشة. وعند حلول الليل سوف أسيرُ من المنزل إلى وسط روكلاند، ومن هناك إلى رصيف المراكب الصغيرة، الذي يمتدُّ مسافةَ ميل حتى البحر، مشكِّلًا حاجزًا للأمواج لميناء روكلاند. سوف أسيرُ حتى النهاية، وسأواصلُ السير فحسب. إنني لا أتطلَّعُ إلى الماء البارد، لكني لا أعتقد أنني سأشعر بالبرد مدةً طويلة.


سيكون هناك بعضُ الرضا لأنني سأموتُ غرقًا، بمعنى أنني سأُحقِّق إحدى جرائم القتل من قائمتي. ألا وهي «المُغْرِق» لماكدونالد.


ربما سيتساءلون في نهاية المطافِ عمَّا إن كان الأمر انتحارًا أم لا. أو ربما لن يعثروا على جثتي أبدًا.


يغمرني شعورٌ جيدٌ حين أفكِّر كيف أنني سأترك لغزًا في أعقابي.


«  الــــــنـــــهــــايــــة  » 

🎉 You've finished reading 🎉

*********************************************************

الرواية التالية الرواية السابقة
لا توجد تعليقات
اضـف تعليق
comment url