سالي وأطفالها الأربعة

 


قصة من واقع غزة


© كل الحقوق محفوظة

 الفصل الأول


في قلب جباليا، ينساب مخيمٌ كحلمٍ ضاع في غفوة الزمن، تظهر البيوت بين ذروات الجبال كنجوم منثورة في سماء المحن، الرمال الذهبية تحتضن آثار الخطى ويعلو صوت أنينها فتروي لنا قصة صمودٍ وأمل، قصة كل شخص يعيش هنا في ألم، فكم من شهيدٍ رحل وترك خلفه ذكريات وأحلام وآمال! فكم من شهيد أراد أن يحقق كل ما في البال! فبقي ما كان في البال ونال ما نال، وكم من شهيد سُلِبَ حقه دون أدنى اعتبار! فلكل واحد منهم قصة لم نسمع بها ولو سمعناها لمتنا في اليوم ألف مرة، وهذا هو الموت الأصعب في الحياة تظن بأنك ميت والحقيقة بأنك ما زلت حي ترزق، تغرق بآلام الناس ويعتريك إحساس العجز الذي يمتزج بنزف الدماء.

اما عن رائحة الصبر والتضحية فهما يتغلغلان في هواء المكان تروي حكاية شعبٍ يحمل عبء الحياة، الأمهات تحاول أن تتدبر أمرها كيف لها أن تروي عطش أطفالها! وكيف لها أن تشبعهم! فيمتنعن عن الطعام عشرات الأيام ويأكلن يومًا واحدًا في سبيل توفير الطعام لأطفالهن وفلذة أكبادهن، فهم بمنظورهن الشبع لا يعني امتلاء البطن وإنما هو أن يروا أطفالهن وعائلاتهن بخير وسلام وأن يبقوا دافئين آمنين تحت سقف البيت المصقول بالدهان، اما عن الأطفال فهم مدركين لما يحصل، يرسمون أحلامهم بألوان الفجر على جدران المخيم، لوهله تظن أنهم أطفالاً والحقيقة أنهم رجالاً والوصف بعدها يعجز الكاتب عن وصفه، أطفالٌ يمشون بثقة وكأنهم جنود صغار يحملون أحلام الغد في عيونهم، تشق البراءة طريقها بين أحلامهم الكبيرة، وتتجسد البراعة في حركاتهم كأنهم رواد مستقبل قادم، يرتدون ملابس التاريخ وتضيء وجوههم بالفضول كمصابيح صغيرة يبحثون عن مفاتيح الحياة التي ظن المعظم أنها أُغلقت أمامهم، منظر الغروب يلون السماء بألوان الأمل والصمود، تتساقط أشعة الشمس الأخيرة وكأنها تغمر الأرض فتشعرها بدفء لا مثيل له، وما إن اختفى آخر خط من هذه الأشعة حتى تنفست سالي تنفس الصعداء وقالت لزوجها: " لي أربعة أطفال ابتليت بالخوف عليهم ، سننام اليوم في غرفة واحدة، فأنا لا طاقة لي بفقدان أحد".

سالي أم لأربعة أطفال، وما أدراك ما هَم الأم عندما يكونوا أطفالها في خطر، دائماً ما تأخذهم في أحضانها وتدفئهم بحبها، فحب سالي لأطفالها يتجسد كشمس مشرقة في سماء عائلتها، تنثر أشعتها الدافئة على ربوع القلوب الأربعة؛ لتنميها كزهور متفتحة، وفي كل نظرة لهم ترسم أملاً وحباً لا يعرف حدوداً مغلقة، دائما ما تعد لهم من الطعام ما يشتهون فمعروف بطهي الأم مهما كان فهو لذيذ، تبحث عن راحتهم في جميع السبل، تخاف عليهم من بطش العدو ومن تناثر حبات الغبار على رؤوسهم فلا تجعلهم يغادرون المنزل؛ خوفاً من تعرضهم للقصف فيصابون باصابات وجروح لا يشفون منها.

 في يوم من الأيام كانت سالي تعد غذاء الطعام لأطفالها، تنغمس في مطبخها وتتنقل بين المائدة المتمركزة في المنتصف والتي يحدها المقاعد الستة، رائحة الطعام اللذيذ تنبعث من محيطها تستطيع الاستشعار بأنها مزيج بين عبير الأعشاب والتوابل وكأنها لحن لذيذ يعزف على أوتار الحواس. أما عن والدهم فقد ذهب لزيارة عائلته للإطمئنان عليهم في ظل هذه الأوضاع الصعبة، فخرج من البيت دون أن يأخد هاتفه وكأن الأحداث سيطرت على نفسه، انتبه الأطفال إلى هاتف والدهم فتسارعت أقدام كل واحد منهم يريد أن يأخد الهاتف ويلحق به حيث بيت جدهم وهذه فرصة عظيمة بالنسبة لهم للخروج ورؤية النور، لكن سالي شعرت بشعور غريب ورفضت أن يخرج أطفالها، فلأول مرة تجدهم سريعين لهذه الدرجة يتسابقون يريد كل واحد منهم أن يصل أولاً وكأنه سيفوز فوزاً عظيماً ثم يحصل على جائزة قد تمناها منذ زمن، فعندما بلغ الإصرار لديهم الحناجر وافقت سالي ولكن بشرط أن يعودوا بسرعة فبيت جدهم لا يبعد كثيراً عنهم، وسرعان ما تناثرت السعادة على وجوه الأطفال وتعالت القهقهات فيما بينهم والابتسامة ما زالت تصف حالهم، فهؤلاء الأطفال يخفون خلف ابتساماتهم الخجولة أحلاماً سامية، وفي خطواتهم ترقص أماني يعجز الحرب عن كسر إيقاعها، إنهم يسيرون في ذلك الشارع برغم الظروف القاسية يروّجون لبذرة أمل تنمو في أرواحهم الناعمة كوردة تتفتح في صحراء الصعاب في أيامٍ خالية، وبعد مرور دقائق تتبعها الثواني واللحظات وصل الأطفال إلى باب عمارة جدهم يترقبون بعيونهم تتبع أقدام أبيهم، وبعد مجازفات وطريق المغامرة الذي انتهي بهم بسرعة وصلوا إلى جانب والدهم، فابتسم الأب ابتسامة عريضة حينما رأى أطفاله وهم يركضون نحوه يتبادلون الضحكات والهمسات، وبعدما طبع كل ذي طفل منهم قبلة على خد والدهم سمعوا فجأة صوت انفجار قوي يدوي في جميع الأنحاء، هزت الأرض هزة تعلن معركة أخرى من معارك هذه الحياة، كان الأطفال الأربعة خائفين أن يكون هذا الصوت صادر من منزلهم القريب وهم يعلمون أنَّ أمهم هناك بداخله وحدها، تركوها تعدّ لهم طعام الغذاء وتنتظر منهم عودة قريبة. فقال أبيهم: "ابقوا مكانكم ولا تتحركوا حتى أعود…" سَمِعَ الأطفال كلام أبيهم وبقوا متسمرين على باب العمارة التي تصلهم ببيت جدهم، لم يستطِع أحدًا منهم فعل شيء سوى الإستماع لأبيهم وتلبية رغبته، فأصابتهم الشكوك والحيرة وازداد خوفهم أضعافاً على أمهم

.

يتبع......

الرواية التالية الرواية السابقة
3 تعليق
  • خدماتي
    خدماتي 26 نوفمبر 2023 في 10:21 م

    ربنا ينصركم 🤲🤍

  • موقع خدماتي
    موقع خدماتي 27 نوفمبر 2023 في 5:55 ص

    جميله جدا استمر

  • موقع خدماتي
    موقع خدماتي 27 نوفمبر 2023 في 5:56 ص

    حلوى اين الفصل التانى

اضـف تعليق
comment url