قواعد جارتين

ماذا لو وجدت نفسك بأرضٍ أقصى ما يمكنك بلوغه بها هو خمسون عامًا .. ليست هذه القاعدة الوحيدة فحسب، بل هناك ما هو أكثر من ذلك .. 



كل الحقوق محفوظة ©️

 الفصل الأول


" لا , عليك أن تقفز حين أخبرك "  


فنظرت إليه في دهشة مما يقول ، فأكمل في برود  

                          

" ليس هناك حل آخر "                        


ولم تمض بضع دقائق حتى أصدرت عجلات القطار صريرا شديدا وأبطأ من سرعته ، فنطق الجندي إلي بلهجة آمرة  


" اقفز ! "  


فجمد جسدي وأنا أنظر إليه ، فنزع الحقيبة من يدي وألقاها خارج القطار ، ثم أمسك بيدي وأعطاني المصباح الذي يحمله ، وصرخ ف مجددا  


"  اقفز ! "  



فقفزت .  


دقائق من القلق لم أمر بمثلها في حياتي بعدما غادرت القطار ولم أجد نفسي إلا وحيدا يحمل حقيبة ومصباحا قد تنطفئ ناره ي أي وقت  


كان المطمئن لي قليلا هو استمرار أصوات دقات الطبول والمزامير مما يعني وجود بشر قريبين ، ووجود تلك السكة الحديدية واضطرار القطارات إلى الإبطاء في ذلك المكان مما يعني إمكانية رحيلي في أي وقت . 


فوضعت مصباحي جانبا ، وجلست مسندا ظهري إلى حقيبتي في انتظار طلوع النهار .. إلى أن قفزت من موضعي حين سمعتُ فجأة صوت محرك سيارة كانت تقترب مني بنورها الخافت وكأن صاحبها كان يعلم بوجودي . 


سيارة بيضاء قديمة ذات صندوق خلفي ما إن توقفت أمامي حتى أخرج سائقها رأسه وحدثني بلهجة سريعة لم أفهمها ، فاقتربت بمصباحي منه . 


كان عجوزا نحيفا يلف رأسه بشال منقوش كعادة أهل الصحاري ، تغوص عيناه في وجهه فتظن أنه بالكاد يرى أمامه ، فقلت  


"  بني عيسى " 


فأشار لي بيده كي أصعد إلى صندوق عربته دون أن ينطق ، لينطلق بي بعيدا عن سكة القطار . 


كان الطريق إلى بني عيسى أطول مما تخيلت .. ظل العجوز يتقدم بي عبر ممرات ومدقات جبلية مظلمة قرابة الثلاث ساعات ، حتى ظننتُ أنه ضل طريقه خاصة مع تلاشي أصوات الطبول والمزامير . 


وكلما طرقت سقف السيارة المعدني كي يتوقف ويتحدث إلى أكمل طريقه دون اكتراث بي وبصياحي ، حتى أنه كاد يسقطني لولا تشبئي جيدا حين مرت السيارة مسرعة بأرض صخرية غير مستوية . 


فضربت سقف السيارة بيدي مرة أخرى غاضبا ، وكدت أمد يدي عبر نافذتها لأمسك رأسه كي يتوقف بعدما أيقنت بفقداننا طريقنا وربما طريق العودة إلى السكة الحديدية أيضا . 


لكني تراجعتُ حين أبصرتُ أنوارا بعيدة قد لاحت في الأفق كانت السيارة في طريقها إليها ، كانت أنوار بني عيسى ،  الأرض الصامتة


 *********************************************************  

 الفصل الثاني


 بادرني بغير اكتراث قبل أن أحدثه عن راتبي بأنه لم يعلم شيئا عن قدومي لذا لن يتحمل عني قرشا واحدا ، ما قد يفعله هو أن يزيد حصة الطعام المرسلة إلى صالح ... أما إن أردت مقابلا لعملي فعلي أن أجنيه من مرضاي . 

          

 وقتها أدركت أنه لم يعد هناك وقت للانتظار بذلك الإقليم .. وعدت حانقا إلى مبيتي وأخبرت صالح بأنني سأغادر ، فلم ينطق . 


 وجمعت أغراضي وحملت حقيبتي إلى مدخل البلدة في انتظار من يقلني إلى سكة القطار الحربي .  


في بداية انتظاري تمنيت أن يظهر لي العجوز الذي أقلني بسيارته إلى هناك مرة أخرى ، وبعد مرور ساعتين دون أن يهتم أحد لوجودي بات أملي أن يصحبني أي شخص من أهل الوادي على جمله أو حصانه إلى وجهتي . 


ثم خاب أملي سريعا بعدما رفض الجميع ذلك ، وتعلل الكثيرون منهم بأنهم لا يعرفون الطريق إلى السكة الحديدية التي أقصدها . 


 ومرت الدقائق والساعات واحدة تلو الأخرى ، واقتربت الشمس من المغيب .. وقتها أدركت أنني علقت في ذلك المكان إلى الأبد .. والتفتُ محبطا نحو بيوت الوادي وركلت الرمال بقدمي وقررت أن أعود إلى صالح مجددا في انتظار فرصة أخرى قد تلوح للرحيل .. قبل أن ألمحه يأتي تجاهي ركضا من بعيد .. حتى اقترب مني ، وتوقف أمامي وهو يلهث محاولا أن يلتقط أنفاسه ، وقال : - 


 هناك مريضة تبحث عنك . 


 كانت فرحتي بوجود المريض الأول تفوق كل شيء حتى أنها أنستني الساعات التي انتظرتها على مشارف الوادي للرحيل . و عزمت داخل نفسي بأنني لن أتقاضى مقابلا لتلك الزيارة الأولى ، دلفت إلى غرفة الكشف ، كانت تجلس في انتظاري .. 


 شابة جميلة في منتصف العشرينات ذات شعر أسود مموج طويل .. يتدلى من أذنيها قرطان دائريان كبيران .. 


 نهضت حين رأتني فظهرت ألوان فستانها المزركش الطويل .. شعرت من نظرتي الأولى إليها أنها ليست مريضة .. ربما جاءت لتصحيني إلى بيتها حيث يوجد من هو مريض بالفعل . 


 سألتها أن تجلس مجددا وجلست خلف مكتبي .. ثم أومات لها برأسي كي تتحدث ، فقالت بجدية بالغة -


 أعتدر أنني تأخرت كل هذا الوقت .. كان علي المجيء إليك قبل أيام ..  


لم أفهم ما تقصده باعتذارها ، وبدأ ذلك على وجهي ، وهي تخرج كيسا قماشيا صغيرا أدركت أنه يحتوي عملات معدنية .. ووضعته على المكتب أمامي - 


 أنا من طلبت مجيئك إلى بني عيسى . 


 ثم فتحت فوهة الكيس أمامي فلمعت العملات الذهبية بداخله مع نور مصباح الغرفة الزيتي ، ولا أخفي أن عيني قد لمعتا من المفاجأة .. وقالت : - 


 أيكفي هذا الذهب ليكون مقابلا لك ؟ تعجبت من حديثها ، وواصلت صمتي كي تكمل حديثها .. فأكملت : - 


 اسمي ديما .. أو تستطيع أن تقول مثلما يقولون .. ديما الغجرية . جئت إليك من وادي الغجر حيث أعيش . 


 كان صالح قد أخبرني ذات مرة أن وادي الغجر هو أبعد وديان بني عيسى السبعة .. وتابعت : -                    


أريدك أن تساعدني .. 


قلت :- 


بكل تأكيد . 


 قالت وهي تشير إلى بطنها : - 


 أريدك أن تفحصه ..  


لاحظت للمرة الأولى كبر بطنها قليلا ، فسألتها : - 


حبلي؟ 


 قالت :  


نعم  


 أومأت برأسي مبتسما ، وسألتها أن تصعد إلى سرير ثم صحتُ إلى صالح الذي كان ينتظر بالردهة كي يقوم بتشغيل مولد الكهرباء .. وبدأت كشفي الروتيني بسماعتي الطبية . 


ثم اضطربت ونظرت في عينيها بعدما وضعت سماعتي لأسمع نبض الجنين ولم صوت المولد خارج نافذة أسمعه . لم أنطق بكلمة حتى .


 ثم سمعتُ الغرفة ومعه أضاءت لمبة صغيرة بجهاز الكشف التلفزيوني ، فشرعتُ في استخدامه لفحص الجنين .. لكني كما توقعت ، كان قلب الجنين متوقفا تماما .


فوضعت يد الجهاز جانبا ، وسألتها أن تعود إلى .. مقعدها .. وعدت إلى مقعدي . وأشحت بيدي كيس الذهب تجاهها وقلت هادئًا في حزن : - 


للأسف .. 


نظرت إلى ، فأكملت -


 إنه جنين ميت ..


 صمتت ولم تحرك ساكنا وساد الصمت بيننا للحظات ، حتى قطمته قائلة : - 


كما توقعت .. لذا جئت إليك .. 


نظرت إليها بطرف عيني .. فقالت بهدوء شديد : -

                   

 لم تدب فيه الحياة بعد .. 


أشفقت عليها من صدمتها .. لكنها كانت الحقيقة التي لابد أن تعلمها .. فقلت : - 


لا بد وأن تنزلي هذا الجنين في أسرع وقت .


 قالت وهي تنظر في عيني - 


إنه ليس ميتا ..                   


 وقالت مرة أخرى : - 


لم تدب فيه الحياة بعد .


 ثم أشاحت كيس الذهب تجاهي مرة أخرى ، وقالت : -


 لذا أرسلتُ في طلبك للمجيء إلى هنا .              


 وأردفت : - 


كنت آمل أن يكون حملي طبيعيا كباقي نساء وادي الفجر ، لكنه قدري الذي لا مفر منه .


وحدثت نفسها هائمة : -


 تمنيت ألا أعود إلى هناك مرة أخرى .


ثم نظرت إلي ، وقالت : - 


لم آت إليك أيها الطبيب لتخبرني أنه لم تدب فيه الحياة بعد فحسب .. بل جئتك لترافق رحلتي الطويلة إلى هناك .


 وأكملت بمرارة وهي تنظر إلى الفراغ أمامها : - 


سأذهب به إلى چارتين . 


  *********************************************************  

 الفصل الثالث


كان صياح الأطفال لبعضهم البعض في الزقاق المقابل لشرفة غرفتي العلوية صاخبا للغاية ذلك الصباح ، كعادتهم اليومية لم يجدوا بين أزقة الحي مكانا للعب بكرتهم القماشية إلا ذلك المكان . 


حتى أنني اعتدت صراخهم ، وصار بالنسبة لي حدثا ثابتا إن غاب يوما شعرت أن هناك ما ينقص يومي .  


ما كان يدهشني حقا هي الطريقة التي يتسلل بها أخي الأصغر « زين » صاحب السبع سنوات من فراشنا كل صباح كي يلحق بهم دون أن أشعر به ، قبل أن يوقظني صياحه لي من الشارع بصوته الرفيع : غفراااان ، كي أخرج إلى الشرفة لأكافئه بحبة من الحلوى إن أحرز هدفا كما اعتدت أن أفعل . 


كانت أمي تفعل الشيء ذاته قبل رحيلها منذ عام .. كان هذا أكثر ما تشابهت به معها بعدما تشابهت ملامحي الشكلية مع ملامح أبي ، وورثت عنه الشعر البني الناعم والعينين الخضراوتين ، بينما ورث زين عن أمنا شعره الأسود وعينيه البنيتين الداكنتين . 


ما زلت أتذكر كلماتها القديمة مع أبي بأنها تمنت قبل زواجهما هذا الميراث العادل للشبه .. الجمال للبنت والصرامة للولد .. لم تكن تعلم أنني سأمتلك الصفتين معا بمرور السنوات .


تذكرت كلماتها وأنا أنظر إلى الأطفال اللاعبين وهم يتهامسون عندما رفعت إليهم يدي بكيس الحلوى ، قبل أن يشتعلوا حماسًا ويركضوا جميعا صارخين وراء الكرة من أجل إحراز هدف ينالون به مكافأتي .


غير أن صياحهم هذا الصباح كان أكثر حماسا ، لا بد وأن زين قد أخبرهم أن اليوم يحمل حدثين خاصين لي .. الأول أنني قد بلغت عامي الرابع والعشرين .. والثاني أن السيدة سامرية ستأتي إلى منزلنا بعد الظهيرة لتأخذ مقاسات فستان زفاف .. سيعلن زواجي في باحة جويدا أمام أهل چارتين نهاية هذا الشهر . 



_______________♕_____________



جال مع . جويدا هي مدينتنا التي نسكن بها ، أرقى مدن چارتين الأربعة عشر وأكثرهم اكتظاظا بالسكان .. نعلم جميعا هنا أن السبب هو مناخها المعتدل وأرضها الخصبة التي تختلف عن باقي أرضنا الصخرية .. كما درسنا في مادة التاريخ كان نهر جويدا الجاف قد ترك ما يكفيها من طمي قبل جفافه منذ أكثر من ألفي عام ، مثلما ترك أخدوده 


الذي يشق أرضنا إلى نصفين شرقا وغربا ، بدءا من الجبال الحمراء بالجنوب حتى جدار چارتين العظيم بالشمال .


تقول الكتب أن جارتين كانت في الأصل بلدين متجاورين يفصلهما النهر الجاف .. بلدان متشابهان في كل شيء قامت حضارتهما على الزراعة حول ضفاف ذلك النهر .. ألوف السنوات من الرخاء والنعيم والقوة امتلكت فيها كل بلد منهما حكمها المستقل من أبنائها .قبل أن يسوء قدرهما معا ، ويتولى العجزة مقاليد الحكم بهما لثلاثة قرون كاملة  


انهار معها كل شيء .. قرأت ذات مرة في أحد كتب التاريخ بمكتبة أبي أن أحد الحكام القدامي كان قد أصيب بداء النسيان ، وتكور جسده المتيبس بعدما تجاوز عمره التسعين عاما ، ومع ذلك ظل ممسكا بمقاليد الحكم مدعوما بحاشيته ومنافقيه الذين أفسدوا كل شيء بدورهم  


فتبدل الرخاء والنعيم إلى فقر مدقع ظل يتسلل إلى أرجاء البلدين ليسكن بيوتها ، واستحال الأمان بشوارعها إلى عنف وجرائم لم تشهدها البلاد قط .. حقبة دموية لم يعل فيها غير صوت قرقعة البطون الخاوية ، وصوت البارود لمن آثروا الموت بالرصاص عن الموت جوعا . 


ثم غضبت الأرض على أجدادنا فقل منسوب النهر يوما بعد يوم حتى جف عن آخره .. وحلت المجاعة الك برى التي سميت بسنوات الخراب الأربعين . 


مات بها من مات ، ورحل من رحل ، وسجن من سجن ، وتبقى من تبقى ممن ارتضوا ذلك الجوع أملين أن تعود بلادهم إلى سابق عهدها فلم تمهلهم الطبيعة فرصة أخرى ، وتغير المناخ فجأة ، وهاج بحر « أكما » 


الذي يحيط بالبلدين من كافة الجوانب عدا الجنوب ليغمر كل شيء ، وليأتي على من تبقى وما تبقى من البلدين . 


غطيت بلادنا بالماء لقرنين من الزمان .. قبل أن يتبدل المناخ وينحسرا الماء لتظهر إلى الحياة مجددا ، فعاد إليها من رحل أجدادهم عنها وشتتوا بالصحاري والبلدان الأخرى جنوب الجبال الحمراء . 


وانهال معهم الرحالة والقبائل من كل حدب وصوب .. وحفروا آبار المياه الجوفية لتحل محل النهر الجاف .. وأصبح البلدان بلدا واحدا سمي بالجارتين . 


حرف مع الزمن إلى جارتين .. وليحموا بلادنا شر بحر « أكما » الثائر بدأوا في بناء جدار چارتين العظيم صخري رهيب يحيط بلادنا من الشمال والشرق والغرب . 


استغرق بناؤه أكثر من قرنين كاملين .. أخبرتني أمي وهي تمسد شعري ذات مرة ، وكنت وقتها في السابعة من عمري ، أن تاريخنا ينقسم إلى ما قبل جدار چارتين وما بعده . 


وأننا ندين لذلك الجدار بحياتنا حيث يحجز من ماء البحر الثائر خلفه ما يكفي لهلاك جارتين كلها في ساعات قليلة ، ثم أرتني لوحة مرسومة في أحد الكتب عنه .. كانت لوحة للنقوش التي دونت على قواعده .. نقوش قوانين بلادنا ، أو ما يعرفها العامة باسم « قواعد چارتين » .. ما زلت أتذكر صوتها وهي تقول : - 


إن تلك القوانين نقشت على قواعد الجدار على مر السنوات ، وكأن انهيار قاعدة واحدة منها لن يختلف كثيرا عن انهيار قواعد جدارنا العظيم . 


لم أكن أدرك وقتها أنها ستخضع ذات يوم للقاعدة نفسها التي كتبت أسفل تلك اللوحة ، كانت قاعدة جارتين الأولى التي تقول :  


« إن چارتين لم تنس أبدا ما فعله العجزة بحضارتها .. لذا لا يعيش على أرضها من يعبر عامه الخمسين » 

  *********************************************************  

 الفصل الرابع


كانت الجدية البالغة التي ظهرت على وجه مريضتي الفجرية وهي تقول أنها ستذهب بجنينها إلى جارتين توحي بأنها قد اتخذت قرارها قبل المجيء إلي ، ولم تأت إلا لإخباري بأن استعد لمرافقتها في رحلتها فحسب .. فسألتها مستفهما : 


چارتین ؟! .. هل هذا مكان !  


قالت- 


إنه بلد كبير ..  


قلت : -  


لم أسمع عنه من قبل ، شأنها شأن بني عيسى قبل مجيئي إلى هنا 


كانت هذه حقيقة مؤسفة ، كانت ثقافتنا عن البلدان الأخرى ضعيفة للغاية .. لم يكن مسموح لنا بقراءة أي كتب غير مناهجنا الدراسية . 


ولا أذكر أن مناهجنا قد ذكرت شيئا عن چارتين تلك .. كانت بلدنا تضع الكثير من القيود على ما يقرؤه العامة ، حتى أنني لم أتصفح ورقة واحدة من كتبي الطبية قبل موافقة ضابط أمن بلدتي .. قالت الفتاة - 


ربما لأنها بعيدة للغاية .. لا يعرفها الكثيرون هنا أيضا ، إنها على بعد مسيرة شهر كامل إلى الجنوب ، عشرة أيام على اليابسة وعشرون في البحر . 


فصمت ، وكان ضجيج المولد قد توقف قبل أن أسألها : -  


ولماذا سنذهب إلى هناك ؟! 


قالت : -  


خارج ذلك البلد لن تدب الحياة في طفلي أبدا . هناك قد يمتلك فرصة للنجاة .  


قلت -  


سحر ؟!  


قالت : -  


لا .. إنها ذات طبيعة وقوانين خاصة تختلف عن باقي البلدان ، 


و أضف 


- ربما ستجد كلامي غريبا ، لكن عليك أن تعلم أن كل ما سأخبرك به ليس إلا حقيقيا تماما . 


ثم قالت بخجل : - 


إن جنيني ليس شرعيا . 


وصمتت للحظة ، فأومأت لها برأسي كي تكمل حديثها ، فأكملت : -  


أعيش بوادي الفجر كما أخبرتك ، لكني لا أنتمي إليهم ..كان حبيبي أحدهم فحسب .. أما أنا فانتقلت للعيش معه منذ شهور من أجل زواجنا ، لكنه مات قبل أن تتم هذا الزواج بعدما ترك بأحشائي هذا الجنين .. إنني أنتمي إلى ذلك البلد البعيد .. چارتين ، ثم ابتسمت بمرارة ، وقالت :- 


كنت أظن أنني تخليت أخيرا عن صفاتي الجارتينية بابتعادي عنها .. لكن كما قالت لي أمي ذات يوم ؛ إن چارتين قدرنا الذي لم ولن نفر منه . 


ثم توقفت عن الحديث حين طرق صالح باب الغرفة وسمحت له بالدخول ، فدلف إلي حاملا مشروبا ساخنا أعده من أجلي ثم خرج ، فسألتها على الفور : - 


إذا أنت چارتينية ؟  


قالت : -  


لا .. إنني من نسالي چارتين . 


وأخرجت زفيرها قائلة : -  


كم أكره ذلك المكان ..أتدري شيئا سيدي .. . جئت من چارتين إلى وادي الغجر وقطعت تلك المسافة كلها كي أتحرر من كوني نسلية ، ولو كانت المسافة أطول لفعلت ذلك .. لا تفهم شيئا ، أليس كذلك ؟ !  


فهززت رأسي إيجابا ، فقالت : -  


النسالي هم حاملو العار في چارتين .. إن قواعد جارتين تختص جميعها بأرواح البشر .. يقولون أن قبل بناء جدار چارتين كانت البلاد قد شهدت من الجرائم والخطايا ما لم تشهده بلد قط ، فكانت القاعدة الثانية من قواعد بلدنا ؛ يلحق العار بالروح المذنبة للأبد .  


وتابعت بعدما توقفت لهنيهة : - 


لا يولد جنين حي خارج چارتين .. وقد تيقنت من ذلك اليوم بعد فحصك لجنيني .. تبقى أجنة نساء چارتين بلا روح .. إن كان الحمل عن زواج شرعي في باحة تسمى باحة جويدا ينال الجنين روحه الطاهرة ممن يموتون ميتة طبيعية بأرجاء البلاد .. ولا تضطر حاملته إلى الذهاب إلى باحة جويدا من أجل ذلك .. كما يقولون هناك : تختار الروح حاملها .. أما إن كان حملا غير شرعي ، وأرادت حاملته له النجاة ، فلا بد أن تتجه إلى الباحة يوم الغفران .. يقام يوم الغفران نهاية كل شهر .. هناك يعدم أمام أهل چارتين من أقر القضاه الإعدام . 


ليس لأجنة الزنا فرصة للنجاة إلا أرواح أولئك المذنبين .. لذا على الحبلي إن أرادت النجاة لطفلها أن تتواجد بالباحة في ذلك التوقيت .. هكذا ينجو الجنين ، وتحمل روح المعدوم العار بجسد نتج عن الخطيئة .  


وأخرجت زفيرها مجددا وقالت متبرمة : - 


عدالة چارتين .  


قلت : -  


وماذا إن لم يكن هناك من يعدم ؟  


أجابت : -  


تنتظر الحبلى شهرا آخر لتعود مرة أخرى إلى الباحة .. وإن لم يكن هناك به أيضا من يعدم تنتظر شهرا آخر .. تحمل المرأة تسعة أشهر ، تحصد الأجنة الأرواح بداية من الشهر الخامس ، إن لم ينل الجنين روحا خلال الأشهر الأربع الأخيرة يولد ميتا .. أرجوك ، أريدك أن ترافقني إلى هناك .. أريده أن ينجو . 


قلت : -  


وما حاجتك إلى ؟!  


قالت : -  


لقد ورثت عن أمي مرضها بالصرع .. أفقد وعيي كثيرا .. ذات مرة ابتلعت لساني حين فقدت وعيي ، لكن حبيبي أنقذني بإعجوبة ..إن الرحلة إلى جارتين طويلة .. وأخشى أن تأتيني نوبة الصرع فابتلع لساني مرة أخرى ، فأموت قبل أن أصل إلى هناك وينال جنيني روحه .. كما أريدك أن ترعاني أنا وطفلي ي طريق العودة إلى هنا . 


ونظرت إلى كيس المال القماشي ، وقالت : -  


سأضاعف لك هذا القدر من الذهب .. سأجعلك تعود إلى بلدك ثريا ..  


فقلت ساخرا : -  


ليس هناك طريق للعودة إلى بلدي ..  


قالت : -  


إن رفقاء حبيبي رحالة يجوبون البلدان .. سيصحبك أحدهم إلى بلدك بعد عودتنا سالمين أنا وطفلي .. هذا وعد مني ..  

٥$ 

قلت : - لا وعد للفجر .. 


قالت : - أخبرتك أنني لست غجرية . 


ثم نهضت ، وقالت : -  


سأعود إليك بعد يومين ، أتمنى أن أجد موافقتك  


ثم تحركت نحو باب الغرفة دون أن تأخذ ذهبها ، وكادت تغادر ، فسألتها وأنا أجلس مكاني : - 


وما الذي يجعلك تثقين بأن طفلك سينجو ؟  


فتوقفت واستدارت لي ، وقالت بهدوء : -  


لأنني ولدت بالطريقة ذاتها . 

 *********************************************************  

 الفصل الخامس


كنت أرتدي ثيابي الداخلية حين بدأت السيدة سامرية في أخذ مقاسات جسمي وتدوينها في أوراقها .  


امرأة في أوائل الأربعينات من عمرها تشعرك من اللحظة الأولى بوقارها البالغ ، غير أنك بمجرد بدء الحديث معها لن تكف عن الثرثرة حتى يذوب ذلك الوقار تماما . 


ظلت تحكي لي عن الفساتين التي صممتها سابقا لأمي ، وعن فساتين فتيات چارتين التي تطورت مع مرور السنوات ، ثم ضحكت وهي تلف شريط القياسات حول خصري ، وقالت : - 


" من يرى هذه الأنوثة لن يصدق أبدا أنك الفتاة ذاتها التي نراها في باحة جويدا " 


فضحكتُ ، ونظرتُ إلى جسدي في المرأة ، لطالما كانت باحة جويدا قدري ، لست أنا فقط ، بل قدري أنا و نديم  


تلك الباحة الشاسعة على أطراف منطقتنا التى خصصت لمراسم چارتين جميعها ، والتي صارت مقر عملي منذ سنوات ، نسميها هنا أرض چارتين المقدسة  


رأيته هناك للمرة الأولى قبل ستة عشر عاما ، كنت في الثامنة من عمري وقتها ، طفلة متجهمة خائفة من الوجوه الكثيرة المختلفة التي تراها للمرة الأولى ، يحملها أبوها فوق كتفيه كي يجنبها الارتطام بأرجل أهل چارتين المتزاحمين في الباحة ليشهدوا يوم الغفران  


أخبرتني أمي قبل ذهابي يومها أنني سميت « غفران » نسبة إلى ذلك اليوم . 


أتذكر أن أبي قد شق بي الجموع إلى الصفوف الأمامية ، ولكنه ما لبث أن توقف عن التقدم بعدما حل الصمت فجأة ، فتشبثت بشعره بقوة ، وتسارعت دقات قلبي عندما رأيت رجلا مكبلا فوق المنصة ، مغطى الرأس بغطاء أسود ، قبل أن أجفل ويرتعش جسدي حين سمعتُ صوت البارود للمرة الأولى . 


كان حكم الإعدام قد نفذ على ذلك الرجل . أدركت فيما بعد أنه لص من النسالي . 


وبينما انشغل الناس بالحديث ، وعلا ضجيجهم بعدما دوت زغرودة بعيدة كنت أنا أنظر إليه هناك . 


كان يجلس عاليا متشبئًا بساقيه النحيفتين بقمة قائم حديدي رفيع يصل ارتفاعه عشرين قدما على جانب الباحة  


طفل داكن البشرة ، أسود الشعر ، في مثل عمري أو يكبرني سنة أو سنتين على الأكثر ، يجلس بثبات بالغ بسرواله القصير على قمة ذلك القائم ، مرتفع عن الجميع كأن ه يسيطر على الباحة كلها . وكأن عقلي قد تجاهل الجميع من حولي لم أحرك بصري عنه ، وتمنيت داخل نفسي لو كانت لدى المقدرة والجرأة على تسلق ذلك القائم مثله . 


حتى وجدته ينظر إلى فجأة ، فاضطرب وجهي ، ثم 

ضحك وأشار إلي بيده . لا أتذكر أنني فعلت شيئا سوى أنني حدقتُ بوجهه بتجهم ، ثم أبعدت بصري إلى المنصة حيث كانوا يجرون جثة المعدوم إلى خارجها  


ثم عدت بعد لحظة لأنظر إليه بطرف عيني ، فأشار إلي مجددا ، فلكزت رأس أبي ، وصحتُ إليه في خجل : - 


" أبي ، إنه يشير إلي " 


لكن أبي لم يسمعني وقتها . على مدار أيام الغفران التالية كان مكانه ثابتا ، الطفل ذاته فوق العمود الجانبي للساحة . 


حتى ظننتُ أنه يبيت ليالي أيام الغفران بالباحة من أجل اللحاق بمكانه  


وكعادته منذ يومي الأول كان يشير إلي ويضحك ، وبعد بضعة أيام من الغفران لم أجد نفسي إلا أن أضحك وأبادله الإشارة ذاتها بيدي . 


بعدها لم أتأخر يوما عن حضور أيام الغفران . كان الجميع يذهبون ليشهدوا مراسم المنصة سواء كان زواجا أو إعداما . 


أما أنا فكنت أذهب لأراه هو صديقي الذي لا أعرف اسمه ، الذي يجلس شامخا فوق الجميع .قبل أن يختفي تماما  


وكأن زحام چارتين قد ابتلعه ، وبقي القائم الجانبي للساحة خاليا وكأن أحدا لم يجرؤ على أخذ مكانه . 


مع كل يوم لي كنت أعرف أكثر عن قوانين بلادي ، علمني أبي الكثير ، وكذلك أمي .. أدركت مع الوقت أننا لم نكن من أغنياء چارتين أبدا ، لكننا على الاقل لم نكن نسالي . 


ما كنت أشعر به حقا مع مرور أيامي أنني اتعلق كل يوم بباحة جويدا عن اليوم الذي يسبقه . لا أذكر أنني فوت يوما واحدا من أيام الغفران منذ اصطحبني أبي يومنا الأول وأنا في الثامنة . 


ولا أذكر أن عيني لم تهرب كل يوم من تلك الأيام إلى العمود الجانبي للساحة علها تجد ذلك الصديق الغائب مرة أخرى ، ولكن دون جدوى ، ظل العمود خاليا . أدركت أن معظم المعدومين من مجرمي النسالي رجالا ونساء ، وعرفت أن الزغاريد التي تطلق بعد إعدام كل مسجون هي لنساء حملن سفاحا ، وشعرن بحركة أجنتهن ببطونهن بعد لحظات من الإعدام . كانت أمي تقول عنهم دوما : -  


" يعيشون ليعدموا بعد ذلك ، لا تكف الروح المذنبة عن ارتكاب الجريمة أبدا "  


كان سؤالي لها وأنا في العاشرة ، وكنا نعد الطعام وقتها : 


" أليس بين النسالي رجل صالح أو امرأة صالحة ؟! "  


قالت وهي تضع الأطباق على الطاولة : -  


" الروح تقود الجسد ، وروح آئمة لن تقوده إلا لمنصة إعدام الباحة " 


وحكت لي قصصا عن نسالي ارتكبوا أبشع الجرائم من قتل وسطو وسرقات ، كانت أمي محقة ، قليلا ما كنا نسمع عن إعدام أحد من شرفاء چارتين الذين ولدوا عن زواج شرعي في باحة جويدا . 


أخبرنا معلمن في المدرسة ذات مرة أن قضاة جارتين يمنحون فرضا أخرى للشرفاء المخطئين إلا في حالات القتل أو ارتكاب خيانة كبرى في حق چارتين أو جدارها  


أما إن سرق مثلا أو ارتكب جرما صغيرا قد يعاقب بالسجن أو دفع جزء من المال فحسب . 


أما النسالي فمصيرهم معروف ، سيرتكبون الجريمة حتما يوما ما ، لذا إن ارتكب أحدهم جرما صغيرا قد يكلفه ذلك حياته . 


السارق منهم يعدم ، من يمتلك البارود يعدم ، التعدي على جارتيني شريف دون حق يعدم ، القاتل يعدم بالطبع ، أذكر أنني سألت المعلم وقتها : -  


" ولماذا لا نقتلهم منذ ولادتهم طالما سيرتكبون الجريمة ؟"  


أجابني ضاحكا : -  


" إنها عدالة جارتين .. لهم الحق في الحياة .. رب أحدهم يستطيع أن يقوم روحه الآثمة "  


لم أقتنع بتلك الإجابة وزممت شفتي ، قبل أن يكمل لنا أن كل مولود شريف يسجل يوم ولادته في أوراق دار القضاء في جارتين ، أما النسالي فلا يسجل لهم أوراق . 


ينالون فقط أوشامهم الزرقاء على أكتافهم وصدورهم بالعام الذي ولدوا فيه . ولا يعيشون بيننا ، ينتشرون على أطراف المدن أو وديانها في تجمعات . إن فقرهم شديد رغم أنهم لصوص وهجامون . 


لا يأتون إلى المدينة إلا للسرقة أو لحضور يوم الغفران لنيل أرواحا لأطفالهم .. هم يتعايشون مع طبيعتهم ، وكما أتوا من حمل غير شرعي لايكفون عن إنجاب أطفال مثلهم غير شرعيين . 


لم يذكر تاریخ چارتين حالة واحدة لزواج شرعي بين رجل وامرأة من النسالي ، وأردف قائلا : -  


" حتى هم لا يثقون في بعضهم "  


قاطعته مرة أخرى وقتها ، وقلت : -  


" لكنهم ينجبون ! " 


قال : -  


" إنهم خطائون بالفطرة .. تسري الرذيلة في دمائهم "  


على مر قرون طويلة صار عددهم بالآلاف .. قد تصبح روح الشريف من النسالي إن أعدم ، وحصدتها أم أحدهم ، أما أن يصير أحد النسالي من الشرفاء لم يحدث ذلك قط  


رغم أن هناك قاعدة من قواعد جارتين تقول ؛  


[ إن تزوج نسلي من شريفة جارتينية يصير أولادهم شرفاء . ] 


وقد يمنح القاضي ذلك النسلي حكما مخففا إن ارتكب جرما صغيرا تكريما لزوجته ، لكن من تلك التي ترضى بالزواج من أحدهم ، وخاصة أن هناك قاعدة أخرى توصي بتحول أولادها لنسالي إن ارتكب أبوهم جريمة أخرى قبل وفاته في عامه الخمسين .  


لم تخلق امرأة في جارتين تستطيع أن تثق برجل لا يخطئ على مر خمسين عام .. خاصة أنه مؤهل لذلك الخطأ . 


أي امرأة شريفة تجعل أولادها عرضة للعارفي أي وقت من الأوقات ؟! ، أرواح أثمة تنتقل من معدوم إلى آخر سيعدم ذات يوم .  


روح معذبة لن ترتاح أبدا إلا إن جاء يوم إعدامها ولم يكن بين الحاضرين بالباحة امرأة تحمل جنينا عن زنا ، سواء كانت نسلية أو من شريفات چارتين اللاتي مارسن الرذيلة ولم يدركن أن هناك جنينا قد نبت داخل بطونهن . 


تفضل نساء چارتين الشريفات أن يولد ابنها ميتا عن ولادته بروح آثمة .. أن يصبح العقاب العار فذلك أشد العقاب .. وأن يصيب العار العائلة جميعها بسببها لن يكلفها إلا الابتعاد بطفلها إلى الوديان ، لذا قلت الرذيلة بين الشريفات ..            


القوانين صارمة .. لابد من زواج شرعي قبل ولادة الطفل على الأقل بسبعة أشهر ، غير ذلك يصير المولود نسليا ولو كانت أمه ابنة حاکم چارتين نفسه ..  


تسري قواعد چارتين على كل مخلوق في أرضها ، لذلك اعتادت نساؤنا على تربية أبنائهن وتعليمهن جيدا علهم لا يلاقون مصير الإعدام أو الخطيئة يوما ما . 


الشيء الأخير عن النسالي أنه لا يحق لأي جارتيني أن يمنع نسليا من التواجد في شوارع المدينة ، إنهم في الحقيقة جارتينيون مثلهم مثلنا تماما ، ولهم كافة الحقوق لمن يخطئ في حقهم ، لكن يبقى على كل واحد منهم أن يسير على صراطه المستقيم دون ارتكاب جرم صغير طالما يتواجد بالمدينة بعد بلوغه عامه السادس عشر . 


قضاة بلادنا بلا رحمة معهم ذكورا أو إناثا بعد ذلك السن . لذا يفضلون هم الابتعاد من أنفسهم . ما يثير تعجبي كثيرا أن بلادنا تسمح ببيوت الرذيلة إن كانت النساء التي تعمل بها من النسالي ، كأنها ضامن حقيقي لإنجاب أطفال غير شرعيين بما يكفي لأعداد المعدومين في الوقت الذي تعاقب فيه الشريفة بالسجن إن عملت بتلك البيوت . 


دعني أقل أن النسالي هنا هم الطبقة الدنيا في كل شيء .. كنت أحفظ قواعد جارتين عن ظهر قلب ، لذا كنت طالبة متفوقة بين زميلاتي ..كان علي أن أشكر أبي وأمي على اهتمامهما بثقافتي في طفولتي . 


كما لم يتأخرا يوما عن مساعدتي الدراسية ، حتى بعدما هدمت مدرستنا المتوسطة لم يتوانيا عن نقلي إلى مدرسة أخرى كانت تبعد مسافة ميل عن بيتنا القديم . 


كان أبي يصحبني إليها بعربته الخشبية ذات الحصان كل يوم .. كانت تلك المدرسة تختلف كثيرا عن مدرستي القديمة حيث قسمت فتراتها مع التكدس الشديد إلى فترة صباحية للإناث وأخرى بعد الظهيرة للذكور . 


لم أهتم بذلك .. كان هدف واضحا .. تفوق دراسي يؤهلني للعمل بدار القضاء في جارتين كما تمنى أبي . 


أيام كانت تشبه بعضها .. طالبات كثيرات ومختلفات .. طلاب ذكور ينتظرون خارج المدرسة لمغازلتنا قبل رحيلنا .. معلمون مثقفون للغاية . 


فتاة متجهمة نحيفة ذات شعر بني قصير وعينين خضراوتين تحمل كتبها وتسير بمفردها كل يوم بسترتها البيضاء وتنورتها الرمادية التي تعبر الركبة بقليل دون أن تنجو من سخرية غيرها من الطالبات .كانت أنا  


ذات مرة سمعت إحداهن تقول عني ساخرة ؛ وجه البومة .. فبكيت .. لم أكن أضحك فحسب ، ولم أكن أمتلك صديقات بعد .. كل شيء كان ثابتا لا يتغير عدا الأيام التي تمر فتنقص العمر أياما أضافية . 


إلى أن حدث التغير أخيرا .. كنا قد انتهينا من يومنا الدراسي ، وكنا في طريقنا للخروج من مدرستنا .. كانت الجلبة بين الطلاب الذكور بالخارج شديدة للغاية ذلك اليوم ..  


أدركت أن هناك شجارا بين بعضهم كعادتهم ، فواصلتُ طريقي مبتعدة دون اكتراث ، ثم تسمرت مكاني حين وجدت الدماء تسيل من رأس أحدهم فدق قلبي متسارعا . 


لم تتسارع دقات قلبي خوفا بل تسارعت عندما التقت عينه بعيني ، فتسمر مكانه هو الآخر ، وأبعد يده عن مكان جرحه النازف لتسيل الدماء على وجهه بغزارة دون اكتراث . 


كان هو .. الفتي الأسمر ذاته الذي اختفى قبل ستة سنوات كاملة .. متسلق القائم الجانبي للباحة ، أو كما كنت أسميه بيني وبين نفسي ..[ سيد باحة جويدا ] 


وكأن الزمن قد توقف بنا ، وهدأت أصوات الجلبة من حولنا حتى تلاشت وسكنت .. وقفنا متواجهين مجمدة أجسادنا نحدق ببعضنا البعض . 


*********************************************************  

 الفصل السادس


سنلتقي لحظات من الجمود أصابتنا وكأننا لم نكن نصدق أننا . 


بعد تلك السنوات .. تذكرته بكافة تفاصيل وجهه التي تبدلت قليلا لكن ما فاجئني أن تعابير وجهه قالت بوضوح أنه تذكرني أيضا رغم أن ملامحي الشكلية والجسدية قد تغيرت كثيرا عما كنت عليه قبل ستة أعوام . 


فوجدت نفسي أبتسم خجلًا ، فابتسم لي هوا الآخر وكأنه نسي أمر الشجار والدماء التي غطت جبهته ، وتسمرت مكاني لا أعرف ماذا أفعل ، حتى شعرت بيد على كتفي .. كانت يد أ أبي فأمسكت بيده وسرت معه تجاه عربتنا ألتفت بين كل خطوة وأخرى لأنظر إلى صديقي الذي ظل واقفا بموضعه ينظر إلي . 


وما لبثنا أن وصلنا إلى العربة وتحركت بنا بعيدا عن المدرسة ، فاستدرت بجذعي ، ونظرت إلى الخلف أبحث عنه ، فسألني أبي بعدما لم أنتبه إلى حديثه : - ماذا هناك ؟  


فاعتدلت في جلستي، وقلت ضاحكة: 


- لا شيء .. 


كنت قبل ذلك اليوم أحب التعليم ولا أحب مدرستي الجديدة كثيرا، أما بعده فصرت أحب التعليم والمدرسة أكثر من أي وقت مضى ، أمضيت تلك الليلة أفكر في صديقي سيد الباحة القديم، وتمنيتُ لو جلست معه وسألته؛ أين كنت تلك السنوات؟! وكيف عرفتني؟! 


أردت أن أحكي له كم ذهبت إلى باحة جويدا لأراه على القائم الجانبي ولم أجده، أردت أن أخبره عن حبي للباحة الذي نشأ ذلك اليوم عندما رأيته للمرة الأولى .


أردت أن أحدثه عن كل شيء .. أبي وأمي ومدرستي القديمة .. أتذكر أنني لم أنم جيدا ليلتها، وظلت عيني 

مستيقظة تنظر إلى نافذة الغرفة، تترقب بفارغ الصبر طلوع النهار. 


في يومي التالي كان حماسي للذهاب إلى المدرسة غير مسبوق كنت أنتظر بشغف بالغ انتهاء يومنا الدراسي لعلي أخرج وأراه كما السابق . 


كان شرودي ذلك اليوم يفوق أيام دراستي بيومي 

كلها .. كان قلبي يرقص فرحا كلما مرت دقيقة واقتربنا من موعد الانصراف، ثم كاد يسقط في قدمي عندما التفتُ صدفة إلى نافذة الفصل فوجدته يتوارى بجانبها لا يظهر منه إلا رأسه 


فشهقت من المفاجأة، واندفعت الدماء إلى وجهي فازدادت حمرته، كان مقعدي بمنتصف الصف الأوسط، وكان فصلنا بالدور الأرضي كباقي الفصول جميعها .. غير أن هناك سورا شاهقا كان يحيط بمدرستنا من كافة الجهات .. كيف عبره ؟   


وكيف امتلك تلك الجرأة للاقتراب منا لذلك الحدث .. 


ما إن إلتفت إليه حتى أشار لي ، فزاد ارتباكي وانتفضت دقات قلبي اضطرابا ، ودار في ذهني حينذاك أن ذلك الفتى ليس إلا مجنونا أو متهورا .. ونظرت في خوف إلى المعلمة التي كانت تقرأ لنا أحد الدروس وأنا أخشى أن تراه طالبة أخرى فتخبرها .. وقتها قد يصل عقابه إلى ترك مدرسته وربما أعاقب أنا كذلك .. تمنيت لو امتلكت بيدي حجرا فأقذفه به كي يبتعد . 


ونظرت في كتابي وجسدي لا يتمالك نفسه من الرعشة التي سرت به ، ثم وجهت نظري إلى المعلمة مرة أخرى بحذر ، ثم نظرت إلى النافذة بطرف عيني فلم أجده ، فهدأت دقات قلبي والتقطت أنفاسي 


غير أن المعلمة قد لاحظت التغير على وجهي ، وسألتني إن كان هناك خطب ما بي . فهززت رأسي نفيا في توتر ، وقلت أنني بخير .. ثم انتهى يومنا الدراسي فلملمت كتبي سريعا ، وأسرعت إلى الخارج مهرولة ..كان قلبي يدق سرورا وفرحة ، وتبدلت تعابير وجهي بهجة وأملا . اليوم ظهرت ابتسامتي للجميع .. ضحكت البومة أخيرا 


ظننت أنني سأراه ما إن أخرج من بوابة المدرسة الحديدية ، لكن ذلك لم يحدث .. فتعمدت التلكؤ والإبطاء من خطواتي - عله يظهر فلم يفعل .. فدارت الشكوك والوساوس برأسي .. ربما أمسك به معلم وهو يقف بجانب النافذة .. ربما سقط من السور العالي أثناء عبوره للجهة الأخرى فكسرت قدمه .. ربما اكتفى برؤيتي اليوم لتلك اللحظات . 


حتى أبي قد فعل ما كنت أتمناه ذلك الصباح وتأخر عني على غير عادته ، لكن دون جدوى .. لم يظهر الفتى ، وانتهى خروج الفتيات من المدرسة ، ودلف جميع الفتية إلى داخلها ، ولم يتبق أمام البوابة غيري . 


ثم وصلت أمي ، واعتذرت لي عن انشغال أبي بأمر طارئ ، فابتسمت مطمئنة لها وأمسكت بيدها ، وغادرنا سويا دون أن تعلم شيئا عن خيبة أملي لغياب شخص آخر .. فكرت أن أحدثها عنه لكني تراجعت . 


كنت أعلم جيدا ما ستقوله لي ؛ نساء چارتين لا يتعلقن إلا بأزواجهن ، غير ذلك لن يجلب لهن الرجال إلا المصائب . 


وكأنه قد كتب علي الترقب .. بدلا من تحول بصري كل يوم غفران إلى القائم الجانبي للباحة طيلة ستة أعوام ، صار تحوله كل يوم إلى النافذة الجانبية للفصل بين كل دقيقة وأخرى عله يأتي مجددا .. 


ولازم الاضطراب دقات قلبي كلما حدثت جلبة مفاجئة خارج النافذة .. واعتادت عيني على تفحص أوجه الطلبة خلسة خارج المدرسة قبل مجيء أبي .. لكنه لم يظهر من جديد ، لقد فعلها ثانية .. لقد اختفى مرة أخرى . 


شهر کامل دون أن يظهر .. حتى ظننت أنني لم أره قط ، وأن ما حدث كان سرابا وأن مخيلتي الواسعة هي من صنعت ذلك الفتى . 


ويوما بعد يوم أقنعت عقلي بأن أنساه ، وأن أضع تركيزي كاملا صوب دراستي ، لكن كعادة حياتي ، تدب الأمواج بالمياه الساكنة فجأة . 


كان ذلك اليوم حين جلست بمقعدي بالفصل ، وشرعت كي أخرج كتبي عندما لمحت تلك الجملة المكتوبة بالقلم الرصاص على يمين سطح التختة الخشبية أمامي : 


لقد تغيرت كثيرا عن أيام الباحة ، أيتها الفتاة . 


تلفت إلى الطالبات المنتبهات إلى المعلم من حولي ، وأحطت الجملة المكتوبة بذراعي ، وأعدت قراءتها ثانية ثم ثالثة ، ثم انتبهت إلى المعلم حينما ارتفعت نبرة صوته وهو يقرأ ، ثم عدت لأقرأ الجملة مرات أخرى . 


وانفرجت أسارير وجهي من جديد ، وكأنني نسيت فجأة ما قررته قبل أيام عن تجاهل التفكير به .. ووجدتني أنتظر بشغف مرور الساعات وحلول وقت الانصراف ، وحدث ما توقعته ، لقد ظهر الفتى أخيرا بين زملائه بالخارج 


ما إن عبرت البوابة حتى ظهر لي من بينهم .. لا أعلم إن كان يدرك أن عيني كانتا تبحثان عنه هو الآخر أم لا .. التقت عينانا فابتسم وهو يحرك بين أصابعه قلما رصاصا طويلًا ، فابتسمت وهززت رأسي في خجل ، وأكملت طريقي نحو أبي الذي كان في انتظاري . 


في اليوم التالي وجدت الجملة التي كتبت باليوم السابق قد مسحت ، وكتب بدلا منها : - 


ما اسمك ؟ 


ضحكت ، وزممت شفتي مفكرة .. ثم أخرجتُ الممحاة ، ومحوتُ سؤاله ، وكتبت مكانه بقلمي الرصاص : 


- غفران . 


ثم لمحت على الجانب الأيسر من سطح التختة : - 


اسمي نديم ، إن كنت ستسألينني عن اسمي . 


هكذا عرفت اسمه أخيرا ، فابتسمت ، واستخدمت الممحاة لمحي ما كتبه ، وكتبت : موضعه : - 


أين كنت ؟! 


ثم انتبهت إلى معلمي الذي سألني بأن أقف وأقرأ للجميع من كتابي ، فنهضت وبدأت أقرأ في تلعثم على غير عادتي حتى انتهيت وجلست ، فمسحت ما كتبته في ارتباك دون أن يلاحظني أحد ، لكني عدت وكتبته مجددا في نهاية اليوم قبل موعد الانصراف بدقيقة واحدة . 


كان نديم في انتظاري خارج المدرسة مثل اليوم السابق .. رأيته ينظر نحوي في ترقب .. كانت تعابير وجهه تسألني إن كنت رأيت سؤاله عن اسمي أم لا .


فأكملت طريقي دون أن أنظر إليه مرة أخرى قليلا مما ذقته من الانتظار قبل ذلك ، وركبت مع أبي عله يتذوق تغمرني سعادة بالغة ولذة انتصار عابرة بعد تجاهلي المؤقت له ، لكن في البيت صار عقلي منشغلا به وبحديثنا المكتوب على التختة الخشبية .


حفظ باتت كلمات كتبي جميعها متشابهة .. تحججت إلى أمي بأن أؤجل دروسي ذلك اليوم ، تعجبت مني لكنها وافقتني في النهاية .


كان كل تفكيري في إجابته على سؤالي .. أردت أن أعرف سر غيابه لشهر كامل .. وتعمدت ليلتها النوم مبكرا عل ساعات الليل تمر سريعا .. ونهضت صباح اليوم التالي ، وأعددت نفسي للذهاب .. كان أبي ما زال نائما ، فدلفت إلى حجرته ، وهززته في تذمر :


أبي ، أنسيت أمر ذهابي إلى المدرسة ؟! 


فنظر إلي متعجبا بعين نصف مغلقة ، وقال : - 


أنسيت أنت أن اليوم هو يوم أجازة مدرستكم الأسبوعية ؟!


فتسمرت حرجا في مكاني ، لقد نسيت أن اليوم هو نهاية الأسبوع بالفعل ، وحدثت نفسي في ضيق : - 


على أن أنتظر أنا مجددا .. كتب علي الانتظار .


وعدت إلى غرفتي وبدلت ثيابي ، وانسللت أسفل فراشي محبطة


في اليوم التالي كانت إجابته قد كتبت بالرصاص أمامي ، كتب لي : - 


كان عليّ أن أرسب ولم يكن هناك حل للرسوب إلا الغياب لشهر كامل ، وإن سألتني عن رغبتي بالرسوب انظري إلى الجانب الآخر .


فنظرت إلى الجانب الأيسر من سطح التختة ، فوجدته قد كتب : -  


إن هذا الفصل الذي تجلسين به هو فصل الراسبين بمدرستنا ، مدرسة الفتيان كان رسوبي هو السبيل الوحيد للانتقال إليه ، والجلوس بنفس مقعدك بعد مساومة بسيطة مع صاحب المقعد . لا تنسي استخدام الممحاة يا غفران .  


ضحكت ، وقلت لنفسي بصوت هامس : -  


لقد رسب من أجلي . 


فنظرت إلى فتاة مجاورة ، فأوحيت لها بأنني أقرأ من كتابي . اليوم صرت أحب حقا ذلك المكان ، وذلك الفصل .. ثم بدأت أمحو كلماته عندما انتبهت الطالبات مع المعلمة غير أن كلمة غفران لم يمح أثرها . 


لقد حفر اسمي بآلة حادة على الخشب .. وقتها تمنيتُ لو وقفت بمنتصف الفصل وقلت لزميلاتي علانية بكل جرأة ؛ 


أيها السيدات ، لقد بدأت قصة حبي للتو .. ثم وضعت جبهة رأسي على راحة يدي ، و أمسكت بقلمي الرصاص . وفكرت قليلا فيما أكتبه ، ثم كتبت على الجانب الأيمن من سطح التختة : -  


لن أسألك أين كنت الأعوام الماضية ، لكن عدني ألا تختفي مرة أخرى . 


وتركت جملتي ، وغادرت الفصل مع انتهاء حصصنا .. كان قلبي يدق متسارعا .. وتضاربت مشاعري داخلي بقوة .. لم أكن أعلم إن كان ما فعلته صائبا أم لا .. 


سرت وعقلي لا يتوقف عن التفكير .. كيف أطلب منه وعدا كهذا دون أن أعرف عنه أي شيء .. كل ما عرفته عنه هو اسمه فحسب . 


لماذا تسرعت بكتابتي تلك الجملة لأبوح له بتعلقي أيامه به بعد فقط من حديثنا المكتوب ؟!  


وقبل أن أعبر البوابة الحديدية وجدت نفسي أستدير ، وقررت أن أعود أدراجي لأمسح ما كتبته قبل دخول الطلاب .. واتجهت مسرعة إلى فصلي الخالي .. وما إن دلفت إليه وأغلقت الباب من خلفي حتى كاد قلبي يتوقف بعدما وجدت معلمتي تجلس مكاني . 

*********************************************************  

 الفصل السابع


كاد قلبي يتوقف عن النبض بعدما رأيت معلمتي السيدة « بيان » تجلس مكاني ، كذلك تبدل وجهها هي الأخرى بعدما رأتني أعود مجددا إلى الفصل وكأنها مفاجأة لم تكن تتوقعها قط .. فتسمرت مكاني أنتظر منها أي ردة فعل ، فبادرتني في تعجب : -  


هل هناك أمر ما يا غفران ؟!  


فقلت بارتباك واضح : 


لا 


ثم أردفت كذبا في تلعثم : - 


 لقد فقدت كيس نقودي .. أظن أنه سقط أسفل مقعدي . 


 واقتربت منها بحذر حين قامت بتفقد أسفل المقعد ودرج التختة الخشبية ، ثم قالت : 


لا شيء هنا . 


فاومأت برأسي إيجابا ، وأظهرت حزني وقلت : -  


حسنا ، سأبحث عنه في مكان آخر . بينما كنت أراقب تعبيرات وجهها بطرف عيني ، ويدور عقلي بخلق مبررات تحسبا لأي سؤال لها عن كتاباتي على سطح التختة . 


 لكنها لم تتفوه بشيء ، بل لمحت لمعة بعينيها توحي بدموع أوشكت على السقوط ، ولاحظت شرودها وعدم مبالاتها بأمري أصلا ، فقلت : -  


سيدتي ، هل هناك خطب ما ؟!  


فابتسمت ابتسامة حزينة ، وقالت : 


كل شيء بخير عزيزتي ، أصابني ألم مفاجئ في صدري فقط بعد انتهاء حصتكم فجلستُ حتى يزول . 


ثم نهضت ومسحت على شعري ، وقالت باسمة : -  


حين يعبر عمرك الأربعين لن يراودك إلا شعور واحد . أن العمر لم يبق فيه إلا القليل جدا ، ولم تفعلي في حياتك إلا الأقل . 


فالتقطت أنفاسي ، واطمأن قلبي بعدما تيقنت أنها لم تنتبه إلى كتاباتي ، وسألتها : -  


كم عمرك الآن سيدتي ؟  


فقالت : 


تجاوزت الأربعين منذ أيام ..  


قلت :  


حسنا . لديك عشر سنوات لتفعلي كل شيء . 


وأردفت إليها في حماس : -  


سأفعل كل شيء قبل أن يحين موعد رحيلي  


 فقالت : 


- لا تجري الأمور كما نخطط لها أبدا .. لكني أتمنى لك ذلك على أي حال .. هيا بنا ، لقد بدأ الطلاب في دخولهم إلى المدرسة . 


 فنظرت خلسة إلى تختتي .. تمنيت لو تركتني لحظة واحدة أمحو فيها ما كتبته ، لكنها أمسكت بيدي وهي تقول : -  


هيا .. لا تضعي هما لنقودك المفقودة . سأسأل زميلاتك عنها غداً  


ثم خرجنا معا .. وسرنا في طريقنا إلى خارج المدرسة .. كان نديم قد قابلنا في الردهة قبل عبورنا البوابة ، والتقت عينه عيني فهربت عيني سريعا .           


 وواصلت طريقي مع السيدة بيان ، ثم ودعتها وتمنيت لها الشفاء ، قبل أن أتجه إلى أبي الذي كان يقف في انتظاري في المنزل  


ظل بالي منشغلًا بما كتبته إلى نديم .. ودار عقلي بخيالات كثيرة عن رده المنتظر ، لكني عدت وحدثت نفسي بأن القدر من أراد ذلك ، كان من الممكن أن أمحو كلماتي عندما عدت إلى الفصل لكن القدر وضع لي السيدة بيان بمقعدي لتمضي قصتنا في طريقها دون توقف ، ثم جال ببالي حديثها عن حياتها التي ستنتهي بعد عشر سنوات . 


لم أفكر من قبل في ذلك الأمر كثيرا .. إنها تقارب سن أبي وأمي تقريبا .. لقد تجاوز أبي الأربعين منذ عامين ، وأمي تصغره بعام واحد .. هذا يعني أنني بعد أقل من تسعة أعوام سأمسي وحيدة . 


 كانت المرة الأولى التي أدرك فيها أن قاعدة بلادنا الأولى قاسية للغاية .. أتذكر تلك الرعشة التي سرت بجسدي بمجرد تخيلي كوني وحيدة في هذا العالم . 


 وقتها انزويت أسفل فراشي دون أن يتوقف رأسي عن الوساوس والخيالات الموحشة .. وظل النوم مفارقا لعيني حتى وقت متأخر من الليل . 


في بداية اليوم التالي سألتني السيدة بيان قبل دخولي إلى الفصل إن كنت قد عثرت على نقودي المفقودة ، فهززت رأسي إيجابا بابتسامة مزيفة ، وقلت ؛ 


 نعم .. 


 واتجهت إلى تختتي الخشبية شاردة .. كان أثر تفكيري في الليلة الماضية لا يزال يشوش عقلي . أتذكر أنها المرة الأولى التي أشعر فيها بضيق إلى ذلك الحد . ثم جلست على مقعدي 


ونظرت إلى سطح التختة أمامي .. فوجدت سؤالي قد محي ، وكتب بدلًا منه : -  


أعدك بأنني سأخبرك قبل غيابي المرة القادمة . 


لم يكن ذلك الوعد الذي أنتظره .. هذا يعني أنه قد يغيب مجددا .. ماذا سيختلف وقتها إن أخبرني عن غيابه قبلها أم لم يخبرني . 


النتيجة واحدة ، فزادت إجابته من شعوري بالضيق ، ووجدت نفسي أمحو ما كتبه في غضب دون أن أكتب إليه شيئا .. ثم أخرجت كتبي وانتبهت إلى معلمتي .. حتى انتهى يومنا وعدت إلى بيتي ، وهناك سألت أمي : - 


 هل سترحلان أنت وأبي وتتركاني وحيدة ؟  


فقالت أمي متعجبة : 


 من قال ذلك ؟!  


قلت : 


سيبلغ أبي الخمسين بعد ثمانية أعوام ، وستلحقين به بعدها بعام . 


فانتبهت أمي إلى مقصدي ، وقالت : -  


لا عليك أن تفكري بهذا الأمر .. إنها القواعد يا غفران ..  


لكني سأبقى وحيدة ..  


قالت : -  


سأحرص أنا ووالدك على إنجاب ما يكفي من أطفال قبل موعد رحيلنا ..  


قلت : -           


ولكني أريدكما أنتما ..  


قالت : 


ستكبرين ومع الوقت ستدركين أن هناك أمورا لا نستطيع تغييرها أبدا .. إن أرواحنا جارتينية ، وطالما بقت چارتينية صار عليها الاكتفاء بخمسين عام فقط .. هناك الكثير من المواليد الشرفاء لهم الحق في نيل أرواحهم .  


وأكمل :- 


وخمسون عاما ليست بالقليل .. 


ثم قبلت شعري ، وقالت : -  


لن أموت قبل أن أطمئن أن هناك من سيبقى بجوارك حياتك كلها ..  


فسألتها : -  


كيف ستموتون ؟ 


كانت المرة الأولى التي أسأل فيها ذلك السؤال أو يدور في ذهني حتى . فصمتت أمي ثم قالت : -  


إن لم يهزمنا المرض قبل بلوغنا الخمسين صار علينا التوجه شرقا إلى وادي حوران ، هناك سيجد رجال الدين طريقة غير مؤلمة لحصاد أرواحنا ..  


قلت : -  


وماذا لو لم تذهبوا إلى هناك ؟  


ابتسمت وقالت : -  


وقتها سأصبح أنا وأبوك ضيوفا على منصة إعدام جويدا ، وبدلا من أن تذهب أرواحنا إلى شرفاء چارتين سيحصدها أطفال النسالي .. إن قوانين چارتين واضحة يا ابنتي .. خاصة ما تعلق منها بشأن أرواحنا .. لقد خلقت قواعدنا لبقاء بلادنا ونسلنا . 


قلت وأنا أمسح دمعة هربت إلى وجنتي : - 


 وماذا لورحلنا عن جارتين وعبرنا إلى آخر العمر ؟ 


 قالت بهدوء : -  


وقتها ستنقطع الروح عن نسل عائلتنا للأبد .. سيصيب العار العائلة بأكملها .. ستختصم الروح أجنتنا .. إن رحلت مثلا أنا أو أبوك وخالفنا القاعدة الأولى لن يستطيع أي من

يحمل دماءنا إنجاب أطفال أبدا ، حتى تزول سلالتنا .

 إننا سنموت سنموت .. لكن موتنا هنا طبقا لقوانيننا يضمن لأبنائنا البقاء من بعدنا .. أما هروبنا ليس إلا نوعا من الأنانية ،، سننجو بأرواحنا عدة أعوام لكن سيبقى أولادنا وحيدين حتى يموتوا هم الآخرون .


وأكمل :- 


إن أفضل ما في الأمر أننا سنموت في أعز عمرنا قبل أن تشيخ أجسادنا .  


وسألتني : - 


 هل رأيت من قبل نسليا عجوزا على منصة الإعدام ؟ 


 فهززت رأسي نفيا ، 


 فقالت : -  


سترين مع الوقت .. لا يخضع النسالي للقاعدة الأولى .. ترى القواعد أن إخضاعهم لهذه القاعدة راحة لأرواحهم الأئمة وتلويث لوادي « حوران » .. يستطيعون المضي قدما في أعمارهم البائسة طالما لا تطأ أقدامهم المدينة بعد عبورهم الخمسين .. وإلا كانت منصة الإعدام مصيرهم .. لذا يظلون مشردين في الصحاري والوديان حتى تنفق أجسادهم . 


إننا بلد الشباب .. انظري إلى الجانب الإيجابي من هذا الأمر .. إن بلدنا بلد قوي متقدم .. لا يستطيع أي بلد آخر الاقتراب منا ، وعقول حكامنا الشباب متجددة باستمرار .. إن جاء أي غريب إلى بلدنا اجلسي معه واساً عن حال البلدان الأخرى في ظل وجود العجزة على رأس حكمها . 


وابتسمت وهي تتابع : - 


 لقد جلست هذه الجلسة ذاتها مع أمي حين كنت بمثل عمرك .. ومع الوقت أدركت حقا أنها على حق .. لقد ذهبت أمي وأبي إلى وادي حوران من أجل بقائي وبقائك وبقاء سلالتك .. وهكذا سأفعل وسيفعل والدك .. إننا نحبك ونحب بلدنا .. وإن كان لنا هدف في هذه الحياة فهو أن تبقى سلالتنا على أرض چارتين سلالة شريفة هدفها أن تبقي بلادنا خير بلاد هذا العالم . 


ستجدين حبيبا سيبقى معك للأبد ، ستعيشين معه حتى انتهاء أعوامكما ، وستزرعين حب قواعد بلادنا في أولادكما ليزرعوها في أولادهم ..  


وضمتني إلى صدرها ، وقالت : - 


 أتمنى أن أصل إلى ذلك اليوم الذي أحضر فيه زفافك . 


 وقبلت رأسي من جديد ، وواصلت : - 


 لا تتعجلي اختيارك لشريكك فحسب . مهما بلغ بك العمر فسيظل في النهاية أعواما معدودة .. اختاري من يجعل منها العام الواحد يساوي مائة عام . 


 فضحكت وقبلت خدها .. وعدت إلى غرفتي ، وهدأ تفكيري حتى أن النوم قد غلبني بعدما فارقني الليلة السابقة  



ي اليوم التالي كان الحماس الذي أشعر به مختلفا تماما .. كانت كلمات أمي عن حسن اختياري لشريكي لا تزال ترن في أذني ، وجلستُ على مقعدي في الفصل .. لأجد نديم قد كتب لي رسالة : -  


« قد يكون أحزنك عدم وعدي لك بألا أغيب مجددا .. لكني اعتدت ألا أعد بشيء لا أوقن بتحقيقه .. حسنا ، إن اضطررت إلى الغياب مرة أخرى سأسعى ألا تطول فترة غيابي .. غير ذلك سأبقى معك للأبد ... 


 ابتسمت ومحوت ما كتبه ، وكتبت دون تفكير : - 


 للأبد ؟  


أجابني في اليوم التالي : -  


نعم ، سأظل معك للأبد حتى تنتهي سنوات عمري . 


 هكذا أخذت قصتنا مسارا جديدا ، مسار عنوانه  


« للأبد »  


وبدأنا نكتب عن كل شيء .. ما نحبه ، ما نكرهه ، ما يحبه أهلنا ، ما يكرهونه ، أيام الغفران وما يحدث فيها ، مدرستي القديمة ، عربة أبي ومكتبته ، صديقاتي القديمات كل شيء  


أخبرته أنني من جويدا وأخبرني أنه من الجنوب .. أخبرته أنني لا أملك صديقات في مدرستي الجديدة بعد ، فأخبرني أنه يشبهني تماما في ذلك .. صار صديقي الأوحد ، وصارت المدرسة متنفسي الحقيقي للبوح بكل شيء . 



ما كنت أتعجب منه حقا أنه رغم انشغالي الذهني التام بنديم صار تحصيلي الدراسي أفضل كثيرا عما كنت عليه قبله ، ونلت ثناء المعلمين جميعهم على الرغم من قلة ساعات دراستي المنزلية كل مساء . 


حتى ظننت أن القدر قد أعاد ذلك الفتى إلى حياتي في ذلك التوقيت كي يدفعني قدما نحو تحقيق حلمي بالالتحاق بالمدرسة العليا لدار القضاء في چارتين . 



*********************************************************  

 الفصل الثامن


على نحو أربعة أشهر لم يمر يوم دراسي دون أن نكتب إلى بعضنا البعض .. قلم رصاص يكتب .. يقرأ أحدنا ما كتبه الآخر ، يقوم بمحوه على الفور ليكتب ما يريد إخبار شريكه به .. صرت أكره أيام الأجازات المدرسية وأنتظر مرور ساعاتها بفارغ الصبر .  


حتى عندما أصبت بالحمى إثر التهاب حلقي أصرت أمي علي تغييبي من المدرسة لكني كنت أكثر إصرارا على الذهاب ، وفعلت ذلك وذهبت إلى المدرسة يغلي جسدي من الحرارة كي لا أضيع يوما واحدا من حديثنا الذي أحبه . 


أربعة أشهر كان كل يوم منها يحمل معلومة جديدة عن الآخر أيام متتابعة لم نتحدث فيها وجها لوجه مرة واحدة ، أو يسمع أي منا صوت الآخر .. تمنيت داخل نفسي لو أوقفته ذات مرة أثناء تلاقي أعيننا خارج المدرسة وتحدثنا أمام زملائنا جميعا ، أو لو نلتقي يوما بباحة جويدا التي لا يحب أن يزورها ، لكننا واصلنا حديثنا المكتوب . 


ولأن لكل طريق عقباته ، جاء ذلك اليوم في نهاية الشهر الرابع حين دلف إلينا المعلم ، وأخبرنا أن الأجازة الموسمية ستبدأ بعد أسبوع من ذلك اليوم لمدة شهر كامل .. فبدت الفرحة على وجوه جميع الطالبات بالفصل عدا وجهي الذي تجهم ، وبينما زادت همهمات زميلاتي السارة من حولي انتهاء المعلم من حديثه كان قلمي الرصاص يكتب على سطح التختة دون مقدمات : -  


هل لنا أن نتقابل بباحة جويدا يوم الغفران القادم ؟  


جاءني الرد في اليوم التالي بكلمة واحدة فقط على الجانب الأيمن من سطح التختة : - 


نعم . 


وعلى الجانب الأيسر كتب : - 


أين سنتقابل ؟ 


فمحوت سؤاله سريعا في فرحة ، وكتبت : - 


المدخل الشرقي الأوسط .. 


اعتقد أنني أكثر أهل چارتين معرفة بمداخل ومخارج باحة جويدا .. وكنت أعرف أن ذلك المدخل هو الأكثر زحاما على الدوام بين مداخل الباحة الثمانية ، كما أن أبي وأمي قد اعتادا الذهاب إلى هناك عبر المدخل الجنوبي ، ولم أردهما أن يرياني المرة .. 


كان يوم الغفران بعد ستة أيام فقط من ذلك اليوم .. قضيت أربعة منها في حيرة بالغة عن الثياب التي سأرتديها يومها ، كل ما جال في ذهني أن أبدو جميلة في ذلك اليوم .. حتى انتهى بي الأمر إلى فستاني السماوي القصير ذي الأكمام القصيرة والخصر الضيق والذي يعبر ركبتي بقليل ، وحذاء جلدي أسود كانت أمي قد أهدته لي قبل سنة وما زال بحالة جيدة . 


ثم أخبرت أبي أثناء تناولنا العشاء ليلة يوم الغفران أنني لن أرافقهما ذلك اليوم .. وأردفت له عن اتفاق عقدته بيني وبين زميلات مدرستي للقاء في باحة جويدا بعيدا عن أهالينا .. فاقترح أن نذهب ثلاثتنا سويا ثم أفترق عنهم هناك  


لكني تحججت بأنني سألتقي صديقاتي متأخرا قليلا عن بدء مراسم الباحة ، وسألته أن يذهب هو مع أمي وأن أتدبر ذهابي بمعرفتي .. ففكر قليلًا ثم رحب بحديثي ، وسألني أن أحرص على سلامتي بين زحام الباحة ، فوعدته وجه أمي . بذلك ، غير أن الارتياح لم يجد موضعا على وجه امي 


كانت باحة جويدا تقع على مسافة ميل ونصف من بيتنا القديم ، وكانت المرة الأولى في سنواتي الأربع عشرة التي أذهب بها إليها بمفردي دون أبي .. تأكدت في الصبيحة من مغادرة أبي وأمي ، ثم انتظرت قليلا قبل أن أغادر بيتي إلى هناك .


كانت هناك على الدوام عربات خشبية مجرورة بأحصنة تنقل سكان چارتين إلى الباحة مقابل قدر ضئيل من المال ، فالتحقت بإحداها خوفا من إفسادي لثيابي وحذائي إن قطعت الطريق سيرا على أقدامي .. وسألت قائد العربة 


أن ينزلني علي بعد أمتار قبل الوصول إلى حرم الباحة الجنوبي الذي تتجمع فيه العربات المجرورة المملوكة لأصحابها من أهل چارتين .. ثم اتجهت سيرا على قدمي إلى الجهة الشرقية عبر ممر ترابي بيضاوي يحيط بالباحة .


كان الزحام شديدا كعادة أيام الغفران في فصل الخريف ألوف من السكان ، فتيان وفتيات يسيرون محتشدين .. نساء ورجال وأطفالهم .. لا يفوتون أيام عيدنا .. وكان الممر الشرقي الأكثر زحامًا كعادته حتى ا ى أنني خشيت ألا يجدني نديم وسط الزحام ، وندمت على اختيار ذلك المدخل تحديداً 


كانت الباحة محاطة بسياج حجري تتراص علي قمته رؤوس حديدية حادة للغاية لا تمكن أحدا من عبوره دون أن يصاب .. كان يحيط بها على امتداد محيطها عدا مداخلها الثمانية .. كان ذلك السياج قصيرا حيث يستطيع من بداخل محيط الباحة رؤية من بخارجها والعكس صحيح تماما .


حتى أنه مع أيام الزحام الشديد وعدم وجود أي حيز داخل الباحة كانت الممرات الجانبية خارجها تمتلئ بالكثير من الأهالي الذين لم يتمكنوا من اللحاق بأماكن لهم داخلها .. غير أن الحوامل ممن أردن حصد أرواحا لأطفالهن كان عليهن التواجد داخل محيط ذلك السياج الذي لا تعبره روح المعدوم .


وصلت إلى البوابة الشرقية الوسطى ، ووقفت بجانبها على أطراف قدمي لعلي أصبح أكثر طولا ، وبحثت بعيني بين وجوه المارين عبرها والقادمين إليها دون أن أنجو من تعليقات الشبان الذين لم يكفوا عن مضايقة الفتيات .


ومر قليل من الوقت دون أن يظهر ، وبدأت أشعر بألم في مفصل قدمي سواء من الوقوف علي أطرافها أو من تكرار دهسها من العابرين ، قبل أن أسمع صوته للمرة الأولى يناديني : -  


غفران 


.. فالتفت نحو الصوت المميز وسط ضجيج الباحة .. كان هو ، يقف على الجانب الآخر من السور داخل الباحة ، تعلو وجهه ابتسامة عريضة ، فضحكت واتجهت إلى داخل الباحة في اتجاهه ، حتى اقتربت منه ولم يعد بيننا إلا خطوة واحدة ، فوقفنا صامتين لهنيهة ، قبل أن ينطق : 


كان الطريق إلى هذه البوابة مزدحما للغاية فدلفت إلى الباحة عبر البوابة الجنوبية ، وتخطيت الحشود حتى أصل إليك . 


فهززت رأسي باسمة دون أن أنطق ، كنت أشعر أن وجهي يشع صهدا حتى كدت أسأله إن كان وجهي محمرا أم لا . 


كانت المرة الأولى في حياتي التي ألتقي فيها شابا وأحدثه وجها لوجه ، وأي شاب ! .. الشاب نفسه الذي تعلق به قلبي منذ سنوات 4  ذلك المكان نفسه .. دون أن أعرف اسمه أوصوته أو أي شيء عنه . 


حرك يده أمامي بعدما طال صمتي كأنه يتأكد أنني ما زلت واعية ، فضحكت ، فقال وهو ينظر إلى ثيابي : -  


فستان جميل .. 


قلت في خجل : -  


حقا ؟ ! .. 


قال باسما : - 


نعم .. تبدين جميلة للغاية .. 


قلت بوجه أكثر احمرارا : -


شكرا .. 


كان الناس يواصلون تدفقهم إلى الباحة ، وارتطم بنا أكثر من شخص ، فقال نديم : - 


هيا بنا ..


فاومأت برأسي إيجابا ، فقال : -


أي مكان تفضلين ؟


قلت وأنا أشير بيدي إلى منتصف الباحة : -


المنتصف تماما .. 


فوجدته يمسك بيدي ، ثم بدأنا نشق الحشود إلى وسط الباحة في صعوبة شديدة .. كان ذلك المكان الانسب لنا .. بعيدا عن المكان الذي يفضله أبي بمقدمة الباحة ، كما أنه يتوسط البوابتين الشرقية والغربية الوسطتين إن أردنا الرحيل في أي لحظة .. كان نديم يعتذر إن ارتطمت قدمه بأي شخص ، وبينما كان يعتذر هو كانت العيون تتفحصني أنا ، مما زاد توتري .. حتى توقفنا في منتصف الباحة خلف رجلين قصيرين .. ثم دقت الطبول ، فهدا ضجيج الحاضرين فقلت لنديم : 


- ستبدأ مراسم إحدى الزيجات الآن ..


قال :


لم آت إلى الباحة منذ أعوام .. 


فسألته بتلقائية : - 


لماذا ؟ 


قلت : - 


يستغرق طريقي إلى هنا وقتا طويلا .. وكانت أمي مريضة دائما .


قلت - 


اها .. 


ثم نظرت إلى القائم الجانبي الطويل الذي كان يتشبث بقمته قبل ستة أعوام .. كانت راية بيضاء كبيرة قد علقت على قمته .. فقلت ضاحكة وأنا أشير نحوها :


أتتذكر مكانك أم نسيت ؟ 


فقال ضاحكا وهو ينظر تجاهها : قال : - 


بكل تأكيد . 


ثم سألني بعدما حول بصره إلى المنصة : - 


هل يعرف الناس ماذا سيحدث على المنصة اليوم ؟


قلت : -


لا .. 


وأردفت : - 


لكن إن لم يكن هناك زواج أو إعدام أحد المجرمين لن تخلو المنصة من عروض المهرجين والبهلوانات والفرق الراقصة .. سيبقى اليوم ممتعا على أي حال .. إنه يوم عيدنا حقا . 


قال : -


أرى أنك تحبين هذا المكان كثيرا ..


قلت : - 


نعم . 


وكان القاضي الكبير الذي يقترب عمره من الخمسين قد صعد إلى مقعده على جانب المنصة الأيمن بعد صعود اثنين من مساعديه ، 


فقلت : - 


أتريد أن أخبرك سرا ؟


قال : - 


نعم .. 


قلت وأنا أشير إلى القاضي : -


إن هذا حلمي .. 


وأكملت : 


- أريد أن التحق بالمدرسة العليا لدار قضاء چارتين لأصبع قاضية المنصة ذات يوم ..


فابتسم ، وقال : - 


ستصبحين أشهر امرأة بجارتين إذا .. 


فقلت ضاحكة - 


سأسعى إلى ذلك بكل تأكيد - أريد أن التحق بالمدرسة العليا لدار قضاء چارتين لأصبح قاضية المنصة ذات يوم .. 


فقال : -


سيكون ذلك شيئا يسعدني .. 


قلت : - 


وما حلمك ؟ 


زم شفتيه وصمت قليلا قبل أن يقول : - 


لا أعلم .. لم أمتلك حلما بعد .


سألته في تعجب : - 


حقا ؟


قال مفكرا : - 


انتظري .. لدي حلم .. 


سألته علي الفور : - 


ما هو ؟ 


قال باسما : -  


سأخبرك به لاحقا ..  


فقلت في غيظ : - 


لقد أخبرتك عن حلمي .. أريد أن أعرف حلمك ..  


فقال ضاحكا : -  


لاحقا لاحقا .  


فزممت شفتي مازحة .. ثم بدأت الموسيقا في عزف لحن أعرفه عن ظهر قلب ، وبدأ الحاضرون بالتصفيق المتناسق مع ذلك اللحن ، وبدأت أصفق بيدي مثلهم .. فضحك نديم ، وقال : - 


زواج أم إعدام ؟ 


قلت : 


زواج بالطبع .  


ثم صعد إلى المنصة شاب عاري الصدر يرتدي سروالا رماديا .يمسك بيد عروسه التي ترتدي فستانا أبيض عاري الكتفين .. قبل أن يقفا أمام الجميع على المنصة ، ثم ركعا على ركبتيهما ، فضحت الحشود بالتهليل والتصفيق ، ودوت الصافرات التي أطلقها كثير من الشبان بالباحة . 


ثم نهض القاضي الكبير وتحرك على المنصة في اتجاه الحافة القريبة من الجمهور .. وأعلن بصوته الذي لم يصلنا من الضجيج عن زواج ذلك الشاب الشريف بتلك الفتاة الشريفة من أهل چارتين .. ليصير من بعدهما أبناؤهما شرفاء خاضعين لقواعد چارتين حقا وواجبا . 


لتعلو الموسيقا المرحة من جديد ، بينما كنت أراقب بعيني نديم الذي اندمج للغاية مع مراسم الزواج حتى أنه سكت تماما عن الحديث ، فقلت : 


ما الذي يدهشك إلى هذا الحد .. لقد تزوج كل أهل چارتين بهذه الطريقة . 


قال ضاحكا : - 


نعم .. أعرف ذلك ، لم أشاهد المراسم منذ كنت طفلا فحسب . 


ثم بدأت عروض فرقة البهلوانات على المنصة بعد مغادرة العروسين ، كان ثمة مهرجين ذوي وجوه ملونة وشعر مستعار يقومون بحركات وقفزات مضحكة بالتناسق مع الموسيقا الخاصة بهم . 


كنت قد شاهدت ذلك العرض عشرات المرات مثل باقي حضور الباحة لكن هذه المرة بالذات كنت أضحك كثيرا كلما رأيت نديم يضحك على حركة يقوم بها أحدهم .. ثم انتهت العروض الضاحكة عزف آخر نعرفه فانطلقت الأبواق المتقاطعة مع دقات الطبول عزف اخر نعرفه جميعا . 


مراسم إعدام أحد المذنبين . فهدأ ضجيج الحاضرين مرة أخرى ، ثم صعد إلى المنصة مع انتهاء العزف زوج من الجنود .. يجرون امرأة مغطاة الرأس بغطاء قماشي أسود ، وتوقفوا بمنتصف المنصة ثم قام أحدهما بنزع غطاء الرأس ، فانسدل شعرها على وجهها ، قبل أن ينهض القاضي مجددا .. ويلقي خطابا جديدا ليصعد ضابط إعدام الباحة إلى المنصة .. أو ما نسميه 


« رامي المنصة »  


ويقف منتصبا كالقائم على بعد خطوات من تلك المرأة ينظر إلى الحشود ليسود الصمت كافة الأرجاء ، فهمست إلى نديم ، وقلت : 


- ستسمع الآن صوت البارود ، ومن بعده ستسمع إحدى الزغاريد لمن حصدت روح هذه المرأة لطفلها  


قال وهو يترقب المنصة : -  


أعرف ذلك .. لست غريبا عن هذا البلد .. إنني جارتيني أنا الآخر ..  


فقلت مازحة : 


- حسنا أيها الجارتيني ، توقع إذا من أي مكان بالباحة ستُطلق الزغرودة


قال : -


 لا أدري .. 


قلت : -


 أراهنك أنها ستأتي من هناك .


وأشرت ناحية شرق المقدمة ، فقال ضاحكا : - 


وما قيمة رهانك إذا ؟ 


سكت ثم قلت :


- لم أفكر بقيمة الرهان .. لم أراهن أحدا من قبل .. لكن اختر مكانا وإن فزت سألبي لك أي طلب .


قال في مكر : - 


أي طلب ؟ 


قلت بثقة : -


 نعم ..


 قال : - 


حسنا .. ستطلق الزغرودة من منتصف الباحة .. على بعد خطوات قليلة منا .


 وأشار ناحية يميننا ، فقلت :


- سنری .


و لم تمر لحظات حتى انتهى القاضي من كلمته ، واستدار الرامي نحو المذنبة ، ورفع يده بسلاحه الناري قبل أن يدوي صوت البارود في سماء الباحة ويسقط جسد المرأة صريعا بموضعه ، ومعه ازداد الصمت صمنا 


 وكسا الترقب وجوه من بالباحة ، قبل أن يقطع ذلك السكون زغرودة عالية طويلة أطلقت بمنتصف الباحة على بعد خطوات من الجهة اليمنى لنا . كما أشار نديم تماما .. فنظرت إليه في بلاهة غير مصدقة ، فقال : -


 لقد ربحت الرهان إذا 


كانت الدهشة لا تزال تعتري وجهي ، فأردف : -


 الآن أريد جائزتي .. 


 فأومأت برأسي إيجابا في انتظار ما يطلبه .. فقال وهو يشير نحو الجهة التي أطلقت منها الزغرودة :   


 انظري هناك . 


 فالتفت نحوما أشار إليه .. فطبع على خدي الأيسر قبلة .. وانطلق جريا بين الحشود . 



*********************************************************  

 الفصل التاسع


قبلني نديم وانطلق راكضا بين الحشود ، ثم توقف على بعد أمتار ، وارتقى برأسه بين الرؤوس ، وصاح إلي : 


 سنلتقي يوم الغفران القادم مثلما التقينا اليوم ،  


وأردف بصوته العالي وهو يلوح بيده : -  


أجازة مدرسية سعيدة . 


كان الذهول لا يزال منطبعا على وجهي إثر قبلته المفاجئة ، وحين أفقت من ذهولي كان قد اختفى ولم يعد له أثر . ثم بدأت الأجازة المدرسية يومنا التالي . 


 ثلاثون يوما انشغلت بها مع أمي بأعمال المنزل نهارا ، وقضيت أمسياتي مع أبي نناقش كل ليلة كتابا من كتب مكتبته ، أما أوقات ما قبل النوم فقد انفرد بها فتاي كاملة .. ومرت الأيام يوما وراء يوم دون أن يتغير أي شيء ، حتى جاء يوم الأجازة الأخير الذي وافق يوم الغفران الجديد . 


تحججت إلى أبي وأمي بحجة لا أتذكرها .. أعتقد أنني أخبرتهم عن اتفاق جديد مع زميلاتي بأن نكرر لقاءنا يوم الغفران السابق .. كان أبي مرحبا كعادته خاصة أنني أظهرت أنني قد اكتسبت صديقات جددا وهو الأمر الذي كان يراه جيدا 


يحتاج المرء في جارتين إلى أصدقاء في مثل عمره على الدوام . عند وقت ما لن يبقى أي من الوالدين أو الأقارب الأكبر سنا .. لكن أمي أصرت تلك المرة أن أرافقهما بعربة أبي إلى الباحة .. وهناك يمكنني أن أفترق عنهما ، على أن أعود إليهما مع انتهاء مراسم اليوم .. فقبلت بما قالته . 


 ثم اتجهت بمجرد وصولي جنوب الباحة إلى المكان ذاته الذي التقيت به ندیم قبل شهر .. البوابة الشرقية الوسطى ، فوجدته في انتظاري . ضحك حين رآني أقترب منه ، فقلت محذرة له بسبابتي بعدما مد يده ليصافحني : 


لا قبلات . 


 فواصل ضحكه ، وقال : -  


عليك أن تكسبي الرهان إذا . 


فضحكت ، ثم سرنا سويا إلى داخل الباحة تجاه منتصفها .. لم يكن إعداما واحدا ذلك اليوم .. بل كان إعدام ثلاثة مذنبين جميعهم رجال .. ولم يكن هناك زواج ، قلت : - 


 أتعرف لماذا يكثر الرجال عن النساء في النسالي ؟  


قال : 


- لماذا ؟ 


 قلت : -  


لأن معظم المذنبين رجال ..  


الشرح كامل :- 


تذهب روح المعدوم الذكر للجنين الذكر .. وكذلك روح الأنثر للأنثى .. لولا تلك النساء اللاتي يرتكبن جريمة كل بضعة أشهر لماتت معظم الأجنة الإناث  


 قال بغير اقتناع : -  


ربما . 


ثم أضاف : - 


 إنه قدر ليس إلا . 


 قلت ساخرة : -  


حسنا أيها الحكيم .. من أي المناطق تتوقع أن تنطلق الزغاريد الثلاثة اليوم ؟ 


 صمت مفكرا .. ثم قال بجدية :


يمين المقدمة .


 وأشار بيده إلى هناك ، ثم تابع : - 


- ويسار المنتصف 


 وأشار إلى يسارنا - كانت امرأة حامل تقف على بعد خطوات منا .. رأيتها تنظر بترقب بالغ نحو المنصة دون أن يرمش لها جفن 


 ثم صمت قليلًا مرة أخرى ، وقال هادئا بعدها : -


 وجنوب الباحة .. لكني لا أدري يسارها أم يمينها .


قلت له ضاحكة : - 


عليك أن تحدد وإلا تخسر رهانك .


قال باسما :


 يسارها إذا .. لكني لن أرتب لك أي منهم ستنطلق بالبداية ، وأنت ماذا تتوقعين ؟! 


ضحكت وقلت : 


لا .. لن أتوقع ، سأرى فقط إن كان توقعك اليوم صحيحا ام لا مثل المرة السابقة 


قال : -


 وإن فزت ؟! -


 قلت مازحة : - 


سأضع يدي على خدي وقتها 


ثم دوى صوت الرصاصة الأولى ، وهدأت الأصوات من حولنا قبل أن تنطلق زغرودة من السيدة بجانبنا حيث أشار نديم . 


 فضحك بثقة ، وأنا لا أصدق أن ذلك قد حدث .. ثم جر القتيل الأول إلى خارج المنصة .. وبعد لحظات دوت الرصاصة الثانية ، فانطلقت زغرودة بالمقدمة لكني لم أستطع تحديد من أي جهة انطلقت ، الجهة اليمنى أم اليسرى ، لكنها جاءت من المقدمة على أي حال كما توقع  


 ثم دوت الطلقة الثالثة ، وساد الصمت أرجاء الباحة في انتظار انطلاق الزغرودة الأخيرة ، لكن الصمت قد طال دون أن تنطلق أي زغرودة ، فقال باسما وهو ينظر إلي : 


لقد خذلني الجنوب . 


 قلت : -  


إنها روح طاهرة .. أعتقد أنه كان مظلوما .. لقد ارتاحت روحه للأبد . 


 فهز رأسه إيجابا في صمت وهو ينظر إلى جثة المعدوم الأخير .. ثم بدأت الهمهمات من حولنا ، وزادت شيئا فشيئا حتى صارت ضجيجا .. كان واضحا أنهم قد تجاهلوا أمر السيدتين اللتين حصدتا أرواحا ( لأطفالهما) 


 وصار حديثهم جميعا عن الروح الثالثة التي جنبت العار .. وكانت الشمس قد تحركت عن منتصف السماء بقليل عندما دقت الموسيقا لتعلن عن بدء عروض فرقة البهلوانات ، فأمسك نديم بيدي و وجدته يسير بي ناحية البوابة الشرقية الوسطى التي دلفنا عبرها قبل ساعات ، فسألته متعجبة :  


- ما الأمر ؟!  


قال : -  


هناك مرج رائع بجوار الباحة تفقدته قبل أيام ..  


سرنا عبر المرج الشرقي الذي يفصل الباحة عن النهر الجاف .. وهناك هب نسيم منعش محمل برائحة زهوره البرية فأدركتُ معه أن اختيار نديم لذلك المكان كان صائبا تماما .


حتى توقفنا على ضفة النهر الجاف .. لم يكن يتواجد هناك وقتها سوانا ، ثم جلس صديقي موضعه على حافة الضفة ، وأشار لي أن أجلس بجواره ، فجلست ، وساد الصمت قليلا قبل أن أسأله بجدية : - 


كيف تعرف أماكن انطلاق الزغاريد ؟! 


فقال : -


 صدفة ليس إلا .. 


قلت : -


 لا أصدق ذلك .. لا تصيب الصدفة على الدوام .


قال باسما : - 


حسنا .. لقد خذلت إحدى الأرواح صدفتي .


قلت :


 أعتقد أنها لو كانت روحا أئمة لحصدتها حبلى تقف بالجنوب كما توقعت .


قال ضاحكا : - 


لست عرافا .


قلت :


حسنا ، سنرى ذلك أيام الغفران القادمة .


 فهز رأسه باسما قبل أن يلقي بحجر صغير تجاه البرزخ أمامنا ، فتدحرج حتى استقر أسفل منا بعيدا .. فقلت وأنا أنظر إليه ، وكنت قد ضممت ركبتي إلى صدري وأحطتهما بذراعي : - 


هل رسبت حقا من أجلي ؟!


 هز رأسه ، وقال : - 


نعم .


فابتسمت واحمر وجهي ، ونظرت بعيدا إلى البيوت المتلاصقة على الجانب الآخر من النهر الجاف ، وقلت بعدما صمت لبرهة :


كيف جاءتك تلك الفكرة .. فكرة المحادثة المكتوبة .


قال : - 


قفزت في خيالي فجأة حين وقفت لك بجوار النافذة ..


فقلت ضاحكة وأنا أتذكر ذلك اليوم : -


 متهور .


ثم لكمت كتفه بلطف ، وقلت : -


 إياك أن تفعل ذلك مرة أخرى .. خشيت أن يراك أحد المعلمين .


 فضحك ونظر إلي . فوضعت يدي على خدي بعدما شعرت أنه ينوي تقبيلي مرة أخرى . فعاد ببصره إلى الجانب الآخر من الضفة . فرفعت يدي عن وجهي ، وسألته : -


 ماذا يعمل والدك ؟ 


 قال : -  


لقد مات منذ أعوام . 


 قلت : -  


القاعدة الأولى ؟! ،  


صمت لثوان كأنه يتذكر ، ثم هز رأسه وقال زاما شفتيه :  


نعم .. 


 قلت في حزن : -  


سيموت أبي أيضا طبقا لها . 


أضفت: 


- وأمك ماذا تعمل ؟ 


 قال : - 


 إنها مزارعة . 


قلت : -  


لا تعمل أمي .. تهتم بشئون بيتنا فحسب . 


 ابتسم شاردا كعادته ذلك النهار ولم يقل شيئا .. فقاطعت شروده ، وقلت : 


 سنعود إلى ملاذنا غدا .. التختة الخشبية .. 


فضحك وقال : -


 يوم غفران واحد أفضل من عام كامل من المحادثة المكتوبة .


قلت : -


 أوافقك تمامًا 


ثم وثبت من موضعي عندما توقفت أصوات الموسيقا البعيدة الصا درة من الباحة وقلت وأنا أبتعد عنه مهرولة :


 - لقد انتهى يوم الغفران .. قالت أمي أنها ستنتظرني بساحة العربات لنغادر سويا 


هرعت عبر المرج تجاه الباحة دون أن انتظره كي يأتي معي فصاح إلي : -


هل نلتقي يوم الغفران القادم ؟ 


فاستدرت إليه وأنا أجري ، وصحت : -


 بكل تأكيد . 


ثم واصلت طريقي مسرعة .


عدنا إلى لقاء الأعين ومحادثاتنا المكتوبة مع بدء الدراسة مجددا .. لم يعد حديثنا المكتوب مقتصرا على مغازلاته لي فحسب ، بل توسع لنتحدث عن مدن چارتين الأخرى ، وأيام الغفران التي صارت بمثابة المكافأة الشهرية التي تنتظر كلينا نهاية كل شهر ..


وصارت الضفة الغربية للنهر الجاف وجهتنا كل يوم غفران بعد انتهاء مراسم الإعدام . نجلس هناك ، وتسمع أذاننا أصوات الموسيقا الصادرة من الباحة خلفنا بعيدا ، فتعرف ماذا يدور على منصتها دون أن نتواجد بداخلها .


وشيئا فشيئا صرنا نلتقي عند البوابة الشرقية الوسطى صباح أيام الغفران وبدلا من الدخول إلى الباحة كنا نتجه على الفور عبر المرج الشرقي إلى هناك دون أن نقضي دقيقة واحدة داخل الباحة .. ثم نفترق عندما تتوقف الموسيقا عن العزف مع اقتراب الشمس من المغيب .


شهر وراء الآخر صار عقلي مؤمنا تماما أن قواعد بلادي الأولى قد وضعت ليجد كل منا رفيقه الذي يكمل معه حياته بعد رحيل والديه .. وصار قلبي مطمئنا تماما أن ذلك الفتي اليافع الذي أواعده هو خليل


سنواتي الخمس والثلاثين المتبقية من عمري إن كتب لي العيش إلى الخمسين دون مرض .. وتعالت الأصوات بداخلي تطالبني بأن أعلن له عن حبي صراحة داخل أسوار الباحة بعدما لم أفعلها طوال الأشهر الماضية 


ثم حل يوم الغفران الحادي عشر لذلك العام ، وفي الطريق إلى هناك كان لساني ينطق بكلمة واحدة بيني وبين نفسي ؛ 


« أحبك » 


ثم التقيته بمكاننا المعهود عند بوابتنا الشرقية ، وبدلا من اتجاهنا إلى ضفة النهر الجاف كعادتنا .. أمسكت بيده ودلفت به إلى الباحة ، وتحركت به إلى منتصفها تماما .. كان الضجيج من حولنا صاخبا .. فانتظرت بدء مراسم المنصة كي تهدأ الأصوات من حولنا ، بعدها أخبره صراحة بحبي . 


لم يتحدث كثيرا كعادته ولم أتحدث أنا الأخرى كأن اضطرابا داخليا قد أنساني الكلمات جميعها .. ثم بدأت المراسم بزواجين .. كنت أنظر إليه بطرف عيني وهو يصب كل تركيزه نحو المنصة .. دون أن يلتفت إلي حتى .. ثم تبدلت الموسيقا لتبدأ مراسم إعدام سيدة مذنبة .. فسألته مازحة عن أي مكان ستنطلق منه الزغرودة ، أجابني واجما بأنه لا يعرف . 


ثم طالبني بأن نذهب إلى خارج الباحة . فسألته أن ننتظر قليلا حتى تتم عملية الإعدام ، لكنه أصر أن نغادر ، فقلت : -  


لكننا سنعود سويا قبل انتهاء المراسم . 


 هز رأسه إيجابا .. فسرت بجانبه ممسكة بيده ، وتخطينا من حولنا حتى وصلنا بصعوبة إلى البوابة الشرقية الوسطى .. واتجهنا 


نحو مكاننا على ضفه النهر الجاف .. وبينما كنا نعبر المرج صامتين دوى صوت البارود ، فلاحظت أنه أجفل على غير عادته .. فتعجبتُ داخل نفسي ، لكني واصلت طريقي دون أن أنطق . كان صامتا صمتا غريبا لم أعتده من قبل .. فجال بخاطري أنه سيخبرني هو الآخر عن حبه لي ، يقولون أن المحبين يفكرون بالطريقة ذاتها .. إلى أن وصلنا إلى ضفة النهر ، وهناك واصل صمته ، فقلت في تعجب : 


جئنا لنصمت .. ها ؟!  


لم يقل شيئا ، ونظر بعيدا إلى الجانب الآخر من النهر الجاف ، فأكملتُ متذمرة : - 


 حسنا لنعد إلى الباحة .. 


 قال بلهجة جادة : - 


 لا أريد أن أعود إلى هناك . 


فزممت شفتي ، وسكت أنا الأخرى حتى نطق : - 


 لقد وعدتك من قبل بأن أخبرك مسبقا إن اضطررت للرحيل . 


 فدق قلبي بقوة ، وسألته : - 


 هل سترحل ؟ !! 


 قال بهدوء : 


نعم .. سأرحل نهاية الأسبوع القادم . 


قلت في استغراب ، وأنا بالكاد أتمالك نفسي : - 


 لماذا ؟   


سأرحل فحسب .. لن يفيدك معرفة السبب في شيء . 


 فصرخت به ؛ 


لم يعد قرار الرحيل قرارك وحدك . 


 فسكت برهة ، ثم قال : - 


 سأتم عامي السادس عشر نهاية الأسبوع القادم ..


وتابع بعد لحظة : - 


 لقد وجبت على القواعد . 


 سألته بعدما لم أفهم مقصده : 


- أي قواعد ؟! 


 سكت لحظة أخرى نظر فيها بعيدا نحو الباحة بعينين ملتمعنين بالدموع ، ثم قال : 


- قواعد چارتين . 


ثم فك أزرار قميصه ليكشف صدره .. كان ثمة وشم أزرق على جانبه الأيسر فوق القلب مباشرة .. لم يكن إلا وشم النسالي 



*********************************************************  

 الفصل العاشر


كانت السماء صافية على غير العادة في هذا الوقت من فصل الشتاء عندما شرعت في حزم أمتعتي لمرافقة ديما  


 المريضة الوحيدة التي زارتني قبل أسبوع – في رحلتها إلى بلدها چارتين .. بعدما أرسلتُ إليها ردي بالموافقة مع رسولها الغجري الذي جاءني يحمل كيما آخر من النقود الذهبية . 


وما إن انتهيت من حزم أغراضي حتى دسست بحقيبتي ثلاث زجاجات كبرى من الأعشاب المسالة المهدئة ، كنت قد فكرت في إعطائها إليها كجرعات على مدار الطريق وفق أوقات منتظمة لتجنب أي نوبة من نوبات الصرع ، 


 ثم أعطيت صالح خمس قطع ذهبية نظیر حسن ضيافته لي بالأيام السابقة ، وحملت حقيبتي ، واتجهت إلى مدخل الوادي حيث أخبرني رسولها بأن عربة مجرورة بحصان ستكون في انتظاري هناك وقت الظهيرة تماما . 


كان في انتظاري سائق العربة ، رجل آخر ثلاثيني غليظ الوجه ، يرتدي سترة سوداء بدون أكمام تظهر عضلاته الضخمة .. سألني بصوت أجش حين اقتربت منه : - 


 الطبيب ؟  


قلت وأنا أضع حقيبتي على سطح العربة : -  


نعم .. 


كانت العربة محملة بحقائب قماشية وأجولة احتلت النصف الخلفي من سطحها بالكامل ، فأدركت أن ديما قد وفرت لنا ما يكفينا من طعام وشراب خلال رحلتنا التي ستستغرق شهرا كاملًا كما قالت ، كما أن العربة قد سقفت بسقف قماشي أبيض كان كافيا لوقايتنا من حرارة الشمس . 


 فقلتُ وأنا أصعد العربة لأجلس على الجانب الآخر الذي لا يجلس به السائق : -  


أين ديما ؟!  


قال : 


سنأخدها في طريقنا من وادي الفجر .. إنها في انتظارنا هناك . 


ثم لكز حصانه ، وبدأت العربة في تحركها ، لتبتعد رويدا رويدا عن ذلك المكان الذي مكثت به قرابة شهر . 


كانت المسافة إلى وادي الفجر كافية لبدء ثرثرة مع السائق ، فقلت : -  


ما اسمك ؟ 


 قال : -


 صديق ..


 قلت : - 


وكم تكلف الرحلة إلى چارتين ؟!


 قال : - 


للسيدة ديما بدون مقابل . 


ثم أردف :  


كانت زوجة أخينا . 


كنت أعلم أنها لم تتزوج ذلك الفجري الذي مات قبل زواجهما ، لكني في الحقيقة أعجبتُ مؤقتا بشهامة ذلك الرجل ، وبدأت رهبتي من ضخامته تقل  


وأكملنا ثرثرتنا عن وديان بني عيسى : كلما ظهرت أمامنا أو على جانبينا تجمعات متناثرة من البيوت أو الأراضي المزروعة ، ثم مر مزيد من الوقت قبل أن تظهر أمامنا بعض الخيام المتلاصقة خلف رقعة زراعية صغيرة ، ووجدته ينحرف بالعربة تجاهها ، فتساءلتُ : 


وادي الغجر ؟! 


قال : - إ 


نها مشارفه .. تسكن تلك الخيام عائلة واحدة ، أما الباقي فخلف ذلك الجبل  


 وأشار نحو جبل كان يظهر في الأفق .. وأكمل وهو يتجه بنا نحو الخيام : - 


 لن نضطر للدخول إلى الوادي نفسه .. إنها تنتظرنا هناك . 



 وأشار إلى الخيام القريبة ، ثم اقتربنا من ذلك المكان ، فخرجت لنا ديما على الفور من إحدى الخيام .. وكأنها لا تريد أن تضيع ثانية واحدة أعطت اللفة القماشية التي كانت تحملها إلى صديق ، فدسّها بين حقائب العربة ، ثم قفزت بخفة إلى العربة خلفنا ، وقالت له : - 


 لنبدأ طريقنا إلى چارتين . 


كنت أتمنى بداخلي لو مررنا بالسكة الحديدية التي جئت عن طريقها إلى بني عيسى ، لكني حين سألت صديق أثناء ثرثرتنا قبل ملاقاة ديما قال : - 


 لا يعرف الطريق إليها إلا القليلون .. لست واحدا منهم  

 لكن بمجرد عودتنا سالمين مع ديما وطفلها سأدلك على أحدهم .  


وأنهى حديثه قائلًا : - 


 لكن على كل حال لن نقابل أي سكك حديدية حتى شاطئ بحر أكما .. 


فأومأت برأسي إيجابا دون أن أتحدث ، كنت أريد فقط الاطمئنان بأن هناك من يعرف الطريق إليها ، لكني لم أكن لأترك ديما وأعود إلى بلدي قبل أن أرافقها في رحلتها ، وأعود بها سالمة هي وجنينها كما وعدتها .. 


ظل الصمت مخيما على العربة بعد التحاق ديما بنا .. مكثت الفتاة شاردة أغلب الأوقات بينما انشغل تفكيري بأيامي السابقة التي عشتها بدون أي عمل حقيقي ، وعن خطأي بالمجيء من الأساس إلى ذلك الوادي ، وأيامي القادمة التي لا أعرف كيف ستكون  


وبدأ عقلي يكون صورا مختلفة عن چارتين . .. صور مشتتة مبهمة لم تكن لتثبت إلا برؤيتي لها .. لم أكن أدري إن كانت تشبه بلادي التي تقوم على بقايا حضارة تلاشت ، أم ستشبه وديان بني عيسى الصحراوية وبيوتها الفقيرة المتناثرة فحدثت نفسي ؛ شهر واحد وسأرى بعيني  


 أما صديق فبدأ يصفر لحنا بفمه ، وكأنه أراد أن يكسر صمتنا الممل ، إلى أن غربت الشمس ، وحل الليل ، فتوقف بنا ، وقال :  


 سنبيت هنا .. سنتحرك نهارا فقط  


 ثم حرر حصان العربة ، وربطه بمؤخرتها ، وأشعل مصباحا زيتيا كان معلقا بأسفلها ، ثم ألقى إلى بقطعة قماشية ملفوفة وغطاء صوف ثقيل ، وفرد قطعة أخرى لنفسه بجوار العربة واستخدم إحدى الحقائب كوسادة ، واندس أسفل غطائه ، ففعلت مثله  


 بينما نامت ديما مدثرة بغطائها فوق العربة ، فتذكرت أعشابي فنهضت وأيقظتها ، وسألتها 


أن تتناول رشفة واحدة من إحدى الزجاجات ، ثم عدت إلى فراشي الأرضي ، ولم يتحدث أي منا حتى أسدلت جفوني . 


واصلنا رحلتنا مع طلوع النهار ، وفي أيامنا التالية بدأ حديثنا يكثر قليلا .. تحدثت إلى ديما عن حياتي في بلادي ، بلاد النهر القديم .. تعجبت عندما أخبرتها أنني لم أجد فرصة واحدة للعمل كطبيب في بلادي  


 وأخبرتني أنها من أرسلت أحد أتباع حبيبها بكيس من الذهب إلى من اختارني لأتي إلى بني عيسى ، بالطبع لم تكن تقصدني أنا بالذات .. لكن القدر من اختارني ، كانت تريد طبيبا من بلادنا فحسب . 


 هناك من أخبرتها عن مهارة أطبائنا ، وأردفت لتقول : -  


من أرسل الذهب إلى من اختارك ، هو ذاته الذي سيعود بك إلى بلدك . 


 فقلت أملًا : - 


 أتمنى ذلك . 


 ثم حدثتني عن جارتين والحياة بها ، وعن قواعدها الغريبة بتفاصيل أكثر عن المرة التي تحدثنا بها عنها .. فسألتها بتشكك : -  


هل نلت حقا روحك بتلك الطريقة ؟!  


قالت : -  


نعم ، وأخي من أمي كذلك . 


ي الحقيقة أمام وعد بعودتي إلى بلادي ، وكيسين من النقود الذهبية الخالصة كان لابد من إيقاف العقل عمدا عن تساؤلاته ، وأن أصدق كل ما تقوله حتى نصل إلى وجهتنا ، وهناك سيتضح كل شيء  


وقلت : - 


 ومن صاحبة الروح التي أخذتها ؟! 


قالت : - 


لا أعرف .. امرأة تم إعدامها فحسب ، لا يهم من كانت ..  


تساءلت : - 


هل تتذكرين شيئا عن حياتها ، ذكرياتها 


 قالت وهي تقضم قطعة من الخبز : - 


 لا .. لا يتذكر النسلي أي شيء عن حياة صاحب الروح الأصلية ، أي شيء على الإطلاق ، إنها حياة مستقلة بذاتها . . 


 ثم قالت : - 


 تظل الروح حاملة لصفاته السيئة فحسب ، أرى أن حاملة روحي كانت تدمن السرقة 


وأضافت:- 


 مثلي تماما 


فجال بخاطري أكياس الذهب التي توزعها ، لكني واصلت حديثي إليها ، وقلت : -  


لكنك لا تتذكرين حتى من أحبتهم صاحبة الروح الأصلية ؟! 


 قالت : -  


لا .. يولد كل نسلي بمشاعر جديدة ، تنتهي المشاعر تماما بانتزاع الروح من الجسد  


قلت : - 


 وهل تكفي الإعدامات لبقائكم ؟


 قالت : -


 حتى يومنا هذا تكفي .. لا يخلو يوم غفران واحد من الإعدامات .. سترى أنها سنة الحياة هناك . 


قلت ضاحكا : -  


إنني متشوق للغاية لرؤية ذلك البلد . 


فقالت وهي تغمز لي : - 


 لا تقلق سأحقق لك ما تريده 


مرت الأيام التالية جميعها متشابهة .. نتحرك نهارا ، نتحدث عن أي شيء ، يواصل صديق تصفيره بالحان مختلفة ، نتوقف ليلا لننال قسطا من النوم حتى طلوع فجر اليوم الجديد ، فنواصل طريقنا مرة أخرى . 


 ثم حل اليوم العاشر ومعه بات الهواء محملا برائحة يود البحر ، وبدأ السقف القماشي يرفرف بقوة مع نسمات الهواء المتواصلة ، فأدركت أننا شارقنا على الوصول إلى شاطئ البحر .. 


 ثم ظهر المسطح المائي الشاسع أمامنا حين اتخذت العربة منحدرا هبطناه ببطء شديد ، كما ظهرت البنايات الخشبية التي تتراص على مقربة من الشاطئ . مقربة من الساحل . 


بينما وقفت ثلاث سفن صغيرة راسية بالماء على .. واصلت العربة اقترابها حتى وصلنا إلى الشاطئ ، وهناك أوقفها صديق ، وتركنا ليقوم بترتيب كل شيء مع أصحاب السفينة المتجهة إلى جارتين ، وغاب قليلا من الوقت قبل أن يعود إلينا ومعه رجل قصير يرتدي سروالا واسعا وسترة مفتوحة تكشف بطنه الكبيرة ، فقال الرجل : - 


 عشرون قطعة ذهبية لكل فرد ، وأربعون للعربة . 


 كان ذلك المبلغ مبالغا فيه كثيرا حتى ديما التي كانت تفرق الذهب كأنها تمتلك كنزا قد أظهرت من التعجب على وجهها ما يوحي بأنها لم تتوقع بأن يبالغ الرجل إلى ذلك الحد ، وقالت معترضة : - 


 إن هذا كثير للغاية .  


قال وهو ينظر إلى بطنها . 


- ليس كثيرا مقابل طفل نسلي أيتها الجارتينية . 


 وأكمل بلؤم واضح : -  


تعلمين أن سعر هذا الطفل حين يولد سيصل إلى أضعاف مضاعفة من الذهب . 



*********************************************************  

 الفصل الحادي عشر


كانت اللحظة التي کشف بها نديم عن وشمه هي المعنى الحري لتوقف الزمن .. سكنت الحشائش من حولي عن حركتها فجأة واختفى طنين الحشرات المحلقة فوقها ، بل اختفت الأصوات جميعها واختنق صدري وكأن الهواء قد انقطع عن وكأن أذني قد ضمت محيطنا  


كل شيء تجمد في موضعه ، عدا تلك الدموع التي ترقرقت بعيني قبل أن تتساقط إلى وجنتي بغير توقف .. ولم أدر بنفسي إلا وأنا أستدير وأركض مبتعدة في فزع . 


كانت قدمي تهرول بغير اتزان حتى أنني سقطت أكثر من مرة .. كنت أنهض وأواصل ركضي مسرعة ، فتختل عضلات ساقي مجددا فأسقط من جديد  


لأنهض وأجري دون تفكير .. كان قلبي يدق بقوة لم أشعر بها من قبل ، وعيني تمتلئ بالدموع ، بينما تعصف بعقلي كلمة واحدة : 


- جيل!  .. جيل! 


أتذكر أنني لم أتجه إلى الباحة أو ساحة العربات حيث كانت أمي تنتظرني ، بل واصلت هرولتي إلى البيت مباشرة حتى وصلت إلى سريري بفستاني المترب ، وانسللت أسفل فراشي يرتعد جسمي لاكمل بكاني . 


بعد ساعات فتح باب غرفتي فجأة .. كانت أمي غاضبة بشدة ، وصاحت بي بعدما زاد قلقها لعدم لقائي بها وبأبي بعد انتهاء مراسم اليوم بساحة العربات كما كان اتفاقنا ، لكن تعابير وجهها الغاضبة سرعان ما تحولت إلى فزع شديد بعدما رأت هيئتي ، وخاصة عندما رفعت عني غطائي لتجد أن ركبتي قد جرحت إثر سقوطي المتكرر أثناء هرولتي ، فسألتني في قلق حذر : -  


غفران .. ماذا حل بك ؟! 


لم أجب .. ظل وجهي جامدا شاردا ، فكررت سؤالها وهي تتفحص ركبتي والدماء المتجلطة عليها وعلى فستاني : - 


ماذا حل بك ؟!  


فسالت الدموع على وجهي مجددا ، قبل أن أقول وشفتي ترتجف : - 


إنني بخير يا أمي .  


قالت : -  


من فعل بك هذا ؟  


مسحت دموعي بأصبعي ، وقلت : 


لا أحد .. إنني بخير فحسب . 


قالت :  


لن أتركك حتى تخبريني بالأمر . 


قلت وأنا أصرخ : -  


دعيني وشأني يا أمي . 


وواصلتُ بكائي مرة أخرى وقلت : -  


قلت لك أنني بخير .. إنني بخير .. أقسم لك أنني بخير . 


فهزت رأسها ضيقا ، ثم غادرت الغرفة وهي تقول : - 


سأرسل أحدهم إلى أبيك يخبره أنك عدت إلى المنزل . لقد آثر البقاء بالساحة خشية أن تذهبي إلى هناك فلا تجدين أيا منا . 


ثم أغلقت الباب من خلفها 


مرت ساعات أربع قبل أن أنهض عن فراشي ، وأتجه إلى غرفة أمي ، كنت أعلم أنها لن تذوق للنوم طعما قبل أن تطمئن علي .. كان أبي نائما بغرفته بعدما عاد إلى المنزل ، فأدركت أنها لم تخبره بشيء عن حالتي 


ودلفت إلى غرفتها بعدما أذنت لي بالدخول ، كانت تجلس علي سريرها تترقب وجهي ، فوقفت أمامها وقلت مباشرة وأنا أنظر إلى الأرض :


- إنني أحب نسليًا .


فتساءلت في جزع شديد لم أر مثيله على وجهها من قبل 


ماذا ؟! 


قلت بصوت مختنق بالدموع : - 


إنني أحب نسليا . 


فوثبت من موضعها ، وقالت وهي تحدق بي : - 


كيف ؟! .. كيف حدث ذلك ؟ !! . 


فانسابت الدموع من عيني ، وارتميت في حضنها وأنا أنشج بقوة . فربتت على ظهري ، ثم هدأت شيئا فشيئا ، وبدأت أروي لها ما حدث بيني وبين نديم منذ رأيته للمرة الأولى خارج المدرسة حتى ظهيرة يوم الغفران ذلك النهار . 


ظلت أمي صامتة لا تنطق بكلمة واحدة .. كانت تسمعني فحسب ، حتى انتهيت فسكتت للحظات ، ثم قالت وأنا في حضنها : -  


النسالي خائنون .. كاذبون .. أنانيون .. كان يعلم من اليوم الأول أنك امرأة شريفة ، ومع ذلك واصل غوايته لك كي يعلق قلبك به ، شيطان من شياطينهم . لا تحزني .. هذه هي الحياة ، لا بد وأن نمر بتجارب قاسية تعصف بنا ، لتثقل خبراتنا التي تعبر بنا سنواتنا المتبقية بأمان ..ستكبرين ، وستتذكرين هذه الأيام لتضحكي عليها 

فيما بعد . إنك جميلة ، وسيدق بابنا الكثيرون من الرجال الأشراف لتكملي ذريتنا بأبناء شرفاء يحملون دماءنا النقية .. لا تذهبي إلى المدرسة الأيام القادمة .. سأذهب غذا لأخبر كبير المعلمين أنك مريضة .. وسأبذل أنا وأبوك كل جهدنا وأعدك بأنك لمساعدتك الفترة القادمة في دراستك ستحققين نتائج أفضل من اختباراتك السابقة .  


فهززت رأسي بابتسامة حزينة ، ثم نمت بجانبها .. أتذكر أن كانت تضج بجملة واحدة : أحلامي في تلك الليلة كانت كثيرة ومتشابكة للغاية ، غير أن جميعها - النسالي خائنون 


. لم أذهب إلى المدرسة الأيام التالية .. وحاولت أمي أن تشغل وقتي بكل شيء متاح ، سواء بأعمال المنزل ، أو استذكار دروسي ، سويا بساعات أكثر من المعتاد ، أو الخروج معا ومع أبي مساء بعض الليالي لنتجول بشوارع جويدا المضاءة بالمصابيح الزيتية قبل التوجه إلى حانة قريبة كانت إحدى الفرق البهلوانية تقدم عروضها الفكاهية كل مساء هناك 


لم تخبر أمي أبي بأي شيء كانت تعلم مدى القلق الذي سينتابه إن علم بالأمر .. هذا آخر شيء كان من المتوقع أن يحدث في بيتنا تعمدت أمي أن تقرأ لي كتبا بمكتبة أبي كانت جميعها تدور عن جرائم النسالي وخياناتهم وإعداماتهم ، كانت تظن أن ذلك سيجعلني أكثر كرها لنديم .  


لكن ما حدث كان غير ذلك ، مع كل يوم كنت أشتاق إليه أكثر ، كنت أعلم أنه قد غادر جويدا ولن يعود تحسبا لارتكاب أي خطأ بودي به إلى منصة الباحة ، ولكنني تمنيت لو لم يفعل ذلك . 


كانت نفسي تحدثني دوما أن هناك شيئا به يختلف عن النسالي الذين تقرأ لي أمي عنهم .. يكفي أنه متعلم ولم أر منه أي سوء . 


لكن نفسي عادت لتقول : -  


لا يتعلق الأمر به ، بل بروحه الآثمة التي تحمل طبع الآثمين منذ آلاف السنوات . 


ثم راود مخيلتي أكثر من مرة وقوفه على منصة الإعدام بينما كنت أنا قاضية المنصة التي تعطي الإذن لرامي المنصة بإطلاق الرصاص على رأسه ، فينقبض قلبي بشدة . 


لم أخبر أمي أنني ما زلت أفكر به ، لكنها كانت الحقيقة ، لم أستطع أن أبعده عن خيالي لحظة واحدة ، حتى أحلام نومي صارت جميعها عنه 


كنت أقول لنفسي أنها أعراض انسحاب ستقل مع مرور الوقت ، لكن ما كان يحدث أنه كلما مر يوم زاد اشتياقي إليه أكثر . 


ثم عدتُ إلى المدرسة بعد انقطاع شهر كامل لاجتياز الاختبارات النهائية لذلك العام ، وكأن القدر أراد أن يساعدني على نسيانه ، وجدت مكاني قد تبدل وصار بمقعد آخر بفصل آخر .. وهكذا اختفت عن بصري التختة الخشبية للأبد ، حيث كنت أعلم أن المدرسة العليا في العام التالي ستكون في مكان آخر تماما ، بعيد عن تلك المدرسة . 



كنت أخوض الاختبارات صباحا ، ثم أخرج من المدرسة ظهرا أنظر إلى الأرض أثناء عبوري تجمعات الأولاد خارج المدرسة .


كنت أعلم أنه غير موجود بينهم ، لكني لم أرد أن أعطي لنفسي فرصة واحدة حتى ، ثم التحق بعربة أبي إلى بيتنا ليتكرر كل يوم مثل سابقه تماما .. حتى انتهت الاختبارات ، ونلنا الأجازة الموسمية التي تمتد لشهرين كاملين ، وبقينا في انتظار النتائج للالتحاق بالمدارس العليا


كانت الأجازة تلك المرة هي الأكثر صعوبة في حياتي ، لم تستطع العروض الترفيهية الليلية في الحانة أن تزيح عن عقلي ذلك الفراغ الذي كنت أشعر به 


حتى نتائج الاختبارات لم أكن في قلق شديد منها أو ترقب لها كما كنت دوما خلال سنواتي الماضية رغم أن تلك النتائج كانت الأهم في سنوات دراستي .


كنت أفتقده فحسب ، أفتقد أيام الغفران معه ، أفتقد كتابات المقعد الخشبي واسمي المنقوش بخطه أمامي ، حتى نفسي التي كانت تخبرني على الدوام أنني سأنساه مع الوقت بدت أنها استسلمت ، واشتعل الأمر بداخلي من جديد ، ثم صار أكثر وهجا عندما صادفت بأحد الكتب القاعدة التي تجيز زواج رجال النسالي من شريفات چارتين .


 ووجدت نفسي أبحث عن كتب أخرى تتحدث عن تلك القاعدة بالذات ، ثم انتهزت فرصة خروج أمي إلى السوق ودلفت إلى غرفة أبي ، وسألته وأنا أمسك بكتاب منهم :


هل شهدت من قبل زواج نسلي من شريفة بباحة جويدا ؟!


قال :


لا


قلت وأنا ألمح إلى الكتاب بيدي : - 


ولكن لا يوجد ما يمنع ذلك . 


قال : .. -


 نعم .. لا تمنع القواعد ذلك .. لرجال النسالي الحق في الزواج سواء من نسلية أو من شريفة إن بلغوا عامهم الخامس والعشرين ، مثلهم مثل رجال الأشراف تماما ، ولكن أين تلك العائلة التي تضحي بسمعتها وتزوج ابنتها من نسلي ؟! 


قلت :


قرأت أن زواج النسلي من شريفة يزيح عنه صفة النسلية ويعطي لأبنائه الشرف من بعده ..


 قال : - 


نعم .. تقدر چارتين شريفاتها .. قد يمحو ذلك الزواج إن تم عقوبات الإعدام عن جريمة صغرى وإن كانت قد صدرت بالفعل .. ويكتفي القضاة بإصدار حكم مخفف كتحذير لمرة واحدة تكريما لزوجته .


ثم تابع - 


 لكن إن تكرر الأمر وارتكب جرماً صغيراً  ، فسيصبح مصيره الإعدام ،  ليس ذلك فقط ، بل سيحال اولاده الى صفة النسلية مثله لأنهم يحملون دمه .. إنه أمر معقد آن يظل مصير عائلة كاملة مرتبط بسلوك عائلها و مدى تحجيمه لروحه  


تسائلت :  


لكن ماذا إن لم يرتكب أي جرم طوال حياته ؟ 


قال :  


وقتها يستحق أن يموت كالشرفاء .. تحمل ذريته من بعده  كامل الشرف .. لكني في الحقيقة لم أو أو أسمع عن ذلك طوال سنوات عمري لا في جويد ولا في أي مدينة أخرى من مدن جارتين  


قلت :  


- ربما لأن أحدا لم ينل فرصة  


قال :  


- لا يستطيع أحد أن يسير على الصراط المستقيم مدى حياته .. إن البشر يطيعهم خطائين ، فما بالك بالنسالی ، کنا محظوظين بكوننا شرفاء .. يتجاوز الكثير عن أخطانا .. أما أن تعيش حياتك كلها في خوف من إرتكاب خطأ واحد ، انها لحياة بائسة لا متعة فيها  


وأردف : -  


لو كنت واحدا منهم لفضلت أن أقضي حياتي كاملة في وديانهم المقفرة ولو كلفني ذلك الموت جوعا .  


فكررت جملتي : -  


لكن لو نال أحدهم فرصة ، وسار على الصراط المستقيم كما  تقول ، دون ارتكاب خطأ واحد سيموت شريفا  


 قال : -  


نعم .. 


فهززت رأسي مبتسمة ، ونهضت منفرجة أساريري .. وتوجهت إلى غرفتي يدق قلبي بفرحة كنت أظن أنها لن تأتي مرة أخرى . 


في غرفتي صار عقلي منشغلًا بأمر واحد فقط .. ماذا إن أصبح نديم ذلك النسلي الأول الذي يموت شريفا .. مما رأيته أيامنا السابقة أن روحه طيبة لا تحمل شرا على الإطلاق .. وحدثت نفسي : 


- مالذي يجعله يصر على إكمال تعليمه حتى يومه الأخير قبل بلوغه السادسة عشر إلا إن كانت روحه طيبة مؤهلة لتصبح شريفة . 


 - إن الظروف الخارجة تماما عن إرادته هي ما جعلته نسليا . كنت قد أكون مثله إن ولدت بطريقة غير شرعية لأم أئمة .  


إن بقاءه خارج جويدا بين غيره من المجرمين هو طريقه الممهد إلى منصة الإعدام . 


وضربت رأسي بيدي ندما كوني تركته ذلك اليوم عندما أخبرني أنه نسلي ..كان علي أن أبقى لأستمع إليه حتى .. ثم وضعت نفسي مكانه في مخيلتي ووضعته مكاني . 


 إن كنت نسلية راغبة أن أصير شريفة وأحببتُ رجلا شريفا ، إن أعانني على ذلك لصرت أكثر مضيا ف تحقيق حلمي .. أما إن تخلى عني لمجرد معرفته أنني نسلية لصرتُ أكثر سوءا بكل تأكيد .. وسيصبح طريقي إلى منصة الإعدام أكثر سرعة .


إن اليأس قاتل .. ربما أخبرني عن رحيله لأنه أرادني أن أسأله البقاء .. كان من الممكن أن يغادر فجأة كعادته ليحملني الكثير من الحيرة والارتباك لغيابه المفاجئ إلى الأبد ، لكنه كان أفضل مني .


أوفى بوعده وأخبرني عن ذهابه ، واستحيا أن يحملني على طلب البقاء منه .. ربما انتظر مني أن أعطيه ومضة واحدة من الأمل لأصير طريقه للخلاص من ذلك العار الذي وجد نفسه متورطا به دون ذنب ... ثم نظرت إلى صورتي بالمرأة ، وقلت :


ماذا إن كنت مجرد طريق له للتخلص من عاره فحسب .. ليس حبا خالصا ، بل حبا من أجل مصلحة ما .  


لكن عدت وتذكرت إشاراته لي حين كنا أطفال بالباحة ، إنه حب بريء شاءت الأقدار أن ينبت بأرض باحتنا .. كما أنني لم أر فيه أي 


صفة دنيئة من صفات هؤلاء الاستغلاليين ، حين أدرك أن عليه الذهاب أخبرني بذلك فحسب .. وقلت وأنا أهز رأسي إيجاباً لصورتي بالمرآة : - 


 إنني أحبه .. وإن كان الحب فعلا لا قولا ، كان علي أن أطالبه بالبقاء ، وأكون سبيله للتخلص من عاره الذي لاحقه سنوات عمره جميعها . 


ثم تخيلته أمامي في الغرفة ، فنظرتُ إليه ، وقلت : -  


هل تستطيع أن تخوض معي الرهان الأكبر بحياتنا ، وتعيش معي دون ارتكاب أي خطيئة حتى تبلغ عامك الخمسين ؟! 


 وقبل أن يرد ، قطع تفكيري طرقات أمي على باب غرفتي ، فأجفلتُ ..ثم كررت طرقاتها ونادت على ، فأجبتها : -  


إنني هنا يا أمي . 


ونهضت ، وفتحت بابي ، فقالت : -  


لقد ظهرت نتائج اختباراتك بالمدرسة المتوسطة 


 فنظرت إليها في ترقب ، وومضت في عقلي المدرسة العليا للقضاء ، فأكملت إلي بصوت هادئ ، وكأنها كانت تدرك أن حلم حياتي قد تبخر  


- لقد تم اختيارك للالتحاق بالمدرسة العليا لضباط الأمن . 



*********************************************************  

 الفصل الثاني عشر


الضربة الثانية خلال أقل من شهرين .. حاولت أمي أن تواسيني لكني طلبت منها أن أبقى بمفردي ، وأغلقت بابي وعدت في صمت إلى سريري . 


انتهت كل أحلامي المتعلقة بمنصة باحة جويدا ، وصار علي الخضوع لاختبارات مدرسة ضباط الأمن ربما لأنني كنت متفوقة بالمواد الخاصة بقواعد جارتين أكثر من المواد المتعلقة بالعلوم . 


ثم ابتسمت بيني وبين نفسي حين حدثتني نفسي عن الجانب الإيجابي من فشلي في اللحاق بمدرسة القضاة .. لن أكون أبدا من يحكم على نديم بالإعدام كما تخيلت أيامي السابقة  


ووجدت نفسي بعد قليل من الوقت لا أشعر بالضيق الذي كنت أتوقع أن أكون عليه إن فشلت في تحقيق حلمي 


وكأن ما أصابني أيامي الماضية قد جعل بداخلي حصنا تعود أخيرا على الصدمات المتتالية ، ثم خرجت إلى أبي وأمي ، ولم أتحدث الأمر على الإطلاق ، بل تجاهلنا الأمر جميعا ، وتحدثنا عن أشياء  


أخرى مضحكة جعلتنا نتذكر ليالينا المبهجة التي لم نذقها منذ أيام عديدة .  


خضت اختبارات مدرسة ضباط الأمن بعدها بأيام .. كان الاختبار الشفهي فيما تعلق بمعرفتي عن القواعد أكثر سهولة بينما عانيت كثيرا في الاختبار البدني  


لكنني نجحت في النهاية ، وصار علي الانضمام إلى المدرسة التي تقع في مدينة « قبالا » شمال غرب چارتین بعد أسبوعين من الاختبارات . 


حياة جديدة كنت أدرك تماما أنها ستختلف كليا عما عشته من قبل .. ما جعل الأمر مثيرا بداخلي أنني سأتمكن من حمل سلاح ناري معبأ بالبارود بعد أربعة أعوام بمدرسة الضباط . 


لا يسمح لأحد في چارتين أيا كان بحمل أسلحة نارية إلا ضباط الأمن .. عقوبة : مغلظة على الشرفاء .. إعدام للنسالي إن ارتكبوا هذا الجرم . 


وبدأت أحلامي تتشكل من جديد ، غفران ضابطة الأمن في جويدا .. ذات الوجه الحازم والكلمة المسموعة ، حاملة أصفاد الاعتقال ، وبدأت أتخيل نفسي في الثياب العسكرية ، لكن بالي ظل معلقا به . 


ذلك الفتى الغائب عني لمدة شهرين كاملين ، ها قد فلتُ من حكمي المنطوق على المنصة .. لكن هل سأصير أنا من يعتقلك ذات يوم أم ماذا أيها النسلي المتعلم ؟ 


ثم حل الغفران لذلك الشهر ، وكنت قد انقطعت عن الباحة الشهرين السابقين .. كان من يعرفني أو يعرف والدتي يهنئونني بالتحاقي بالمدرسة العليا في طريقنا إلى الباحة . 


ثم ضحكت بيني و بين نفسي حين وصلنا إلى هناك فوجدت قدمي تريد أن تأخذني شرقا إلى البوابة الشرقية الوسطى كما تعودت . 


لكنني واصلت طريقي إلى حرمها عبر البوابة الجنوبية كما اعتدت قبل شهور مع أبي وأمي .. وكعادة زحام الباحة وصلنا إلى مقدمتها بصعوبة ، شعرت أنني أفتقد ذلك المكان كثيرا ، غير أنني كنت أعرف أنني سأفتقده أكثر الأشهر القادمة . 


أخبرني أبي أن المدرسة العليا للضباط ستمنعني من الحياة المدنية طوال سنوات دراستي الأربعة ، وليس لي مغادرة أسوارها إلا لأجازة أسبوعين مرة كل ستة أشهر . 


لم أجد ذلك الأمر يمثل فارقا كبيرا لي ، لا أمتلك الكثير من الأصدقاء على أي حال .. وأبي وأمي أظهرا لي سعادتهما بالتحاقي بتلك المدرسة ، ولم يعد هناك نديم . . سأفتقد الباحة فحسب .. كل ما تمنيته داخل نفسي أن تتزامن مواعيد ..أجازاتي مع أيام الغفران


كنت أقف ذلك اليوم وأدقق بتفاصيل كل شيء .. وجوه المحيطين بي ، المنصة ومن يرتقونها، سماء الباحة وأرضها أسفل قدمي وكأنني حقا أودعها ، قبل أن أهمس إليها : 


لن أغيب عنك كثيرا يا صديقتي .. لا أعلم إن كنت سأتغير بعد مرور السنوات الأربع كما يظن الجميع ، أم سأبقى كما أنا غفران ذات القلب الرحيم الذي لا يغيره شيء أبدا


ثم انتهت العروض الفكاهية ، وصعد إلى المنصة القاضي ، وأصدر حكما بالإعدام على رجل نسلي .. وقتها استأذنت أمي وأبي كي أغادر على أن ألحق بهما في ساحة العربات مع انتهاء المراسم . 


عبست أمي ، لكن أبي قد وافق فوافقت بالنهاية ، فقبضت بيدي على يدها أطمئنها .. ثم وجدت نفسي أتجه شرقا بين الحشود إلى البوابة الشرقية الوسطى وأتخطاها نحو المرج الشرقي . 


قابلني نسيمه كصديق يرحب بي بعد غياب طويل ، فملأت صدري بهوائه ، وأكملت طريقي تجاه النهر الجاف ، لم يكن يوما أو اثنين ، كان عاما كاملًا هنا . 


في ثوان قليلة تذكرت كل الأحاديث التي دارت بيننا عند ذلك المكان .. لم يكن يتحدث كثيرا .. لكني كنت أحب ذلك الصمت الطويل الذي دائما ما تخلل حديثه .. تمنيت لو كانت الظروف أفضل وكان شريفا مثلي ، لكن ليتنا نحقق كل ما نتمناه . 


أمسكتُ حجرا صغيرا ، و دحرجته إلى جرف ضفة النهر كما تعود أن يفعل .. ثم جلست موضعي على رقعة صغيرة من العشب الجاف ، وضممتُ ركبتي إلى صدري ، ونظرت إلى البيوت البعيدة على الجانب الآخر من برزخ النهر .وغصت في شرودي وأفكاري المتعلقة بأيامي السابقة هناك . 


وكان صوت البارود قد دوى بالسماء فأفاقني من شرودي ، قبل أن أستدير فجأة حينما شعرت بأقدام تدوس العشب من خلفي ، ولولا أن تماسكت قدمي التي تراجعت من المفاجأة وانزلقت ، لكنت قد سقطتُ من على حافة المنحدر بعدما وجدته يقف خلفي . 


عاري الصدر ، يكشف عن وشمه كما تنص القواعد بأن يكشف النسلي عن وشمه بعد عبوره السادسة عشر طالما تواجد بالمدينة – يكشف الذكر صدره وتكشف الأنثى كتفها الأيسر – وكأن الكلمات جميعها قد تطايرت من لساني وقفت صامتة أمامه لا أنبس ببنت شفة . 


فكرت في أن أغادر لكن هذا ما لم يرده داخلي .. . كنت أعلم نفسي جيدا .. كان ذلك الشعور الذي طالما أحببته قد بدأ يسري في جسدي بعد زوال ارتباك المفاجأة . 


فرحة وبهجة تختلفان عن أي فرحة وبهجة أخرى .. لكني بقيت صامتة وبقي هو الآخر صامتا ، قبل أن يقول بوجه جامد :


أخبرتك ذات يوم أنني لا أعد بوعد لا أستطيع تنفيذه . لذا أخبرتك عن رحيلي كما وعدتك مسبقا .. لكنني كنت قد وعدتك أيضا بأن أبقى بجوارك للأبد .


وسكت ، فقلتُ ساخرة : -


أي أبد ؟! .. سنواتك حتى قدومك إلى المنصة مكبلا ؟ .


فنظر إلي في حرج ، فتابعت كأنني أعتذر : -


أم سنواتك الخمسين ؟!


فارتبك وكأنه لم ينتظر أن أسأله مثل ذاك السؤال .. ثم قال دون مقدمات وهو ينظر إلى الأرض :


- لا تتيح قواعد جارتين زواج الرجال قبل بلوغ منتصف العمر ..


وصمت ثانية وأكمل : -


هل تقبلين بالزواج مني إن وصلت عامي الخامس والعشرين دون جريمة ؟


فأجبته مسرعة دون تفكير وكأنني كنت أنتظر منه بأن ينطق تلك الجملة دون أي حديث آخر : 


- هل لك أن تعدني بأن تظل نقيا حتى بلوغك ذلك العمر ؟ .ثم بقائك معي نقيا حتى يحين موعد رحيلك ؟!


فهز رأسه وقال : -


نعم .. سأفعلها من أجلك .. 


قلت : -


أتعدني بذلك ؟!


قال : - 


نعم سيدتي .. أعدك ..


قلت : - 


لست سيدتك يا نديم .. افعلها من أجلي فحسب .. وأنا سأزيل هذا الوشم بخنجر أمام أهل چارتين جميعهم .


فابتسم أخيرا ثم قال مازحا : - 


وإن نكثت وعدي ؟ 


قلت بكل جدية : - 


سأقتلك بالخنجر ذاته أمام أهل چارتين أيضا 


كان حبا أم جنونا ؟! .. لم أفهم نفسي لحظتها .. ما كنت أعرفه أنني كنت أكثر سعادة من أي وقت مضى . لقد قبلت بذلك التحدي .. لن أقبل بالزواج من أي رجل چارتيني طالما كان نديم على قيد الحياة .


وإن مرت أعوامه التسع المتبقية دون وصوله إلى منصة الإعدام فمن غيره يستحق أن ينال حياة شريفة . ثم سألته بعدها عما يفعله ، قال أنه سيمضي سنواته يعلم نسالي الوديان ما تعلمه في مدارس چارتين ، تساءلتُ : -


لماذا لا يفعلون مثلك ؟!


أجابني : -


إن الأمهات هناك لا ترى فائدة للعلم طالما المصير واحد كانت أمي تختلف عنهن وأصرت على تعليمي . و سأصر أنا على تعليمهم . سيكون العلم سبيلهم الوحيد للنجاة من منصة الباحة .


اندهشت بإعجاب من حديثه ، وقلت : - 


أرى أنك متفائل .


قال بجدية : - 


أعلم أن الأمر سيكون صعبا .. لكنه لن يكون أكثر صعوبة من وعد بالزواج من امرأة شريفة .


فضحكت ، وقلت : - 


وبعد التسع سنوات ؟!  


قال : -  


سآتي إلى المدينة هنا للعيش معك . 


فقلت ساخرة عن رغبته بتعليم غيره من النسالي : - 


وتترك حلمك ؟! 


وكانت المرة الأولى التي أتحدث معه عن حلمه .. فقال ضاحكا : -  


وقتها سأكون قد علمتُ من يستطيعون حمل المسئولية من ورائي ..  


فقلت بمكر : -  


إذا سنعيش سويا في جويدا بعد تسع سنوات  


قال : - 


نعم .. امرأة شريفة ورجل شريف . 


فقلت محذرة بسبابتي : 


- تعلم القواعد جيدا ؟  


قال : 


اطمئني .. إنني أحفظها عن ظهر قلب وأعيها جيدا . كنت متفوقا في دروسي للغاية ، رسبت من أجلك فقط . 


فضحكت ، ثم أخبرته عن التحاقي بمدرسة الضباط بقبالا ، وأنني سأغيب ستة أشهر كاملة بداية من الأسبوع القادم ، فقال : -  


حسنا .. سأنتظرك هنا بيوم الغفران للشهر السابع من اليوم ..  


فقلت باسمة : - 


وأنا سأتي من أجلك ..  


فقال في حماس : -  


سأخبرك يومها كم علمتُ من النسالي . 


فضحكت من الحماسة التي تحدث بها .. ثم هدأت موسيقا الباحة فأدركت أن المراسم في طريقها إلى الانتهاء ، فمددتُ يدي له وأنا أغادر ، وقلت بكل صدق : - 


أتمنى أن تحافظ على وعدك لي يا نديم  


فقال : - 


سأفعل ذلك . 


فأومأت برأسي ، ثم غادرت تجاه الباحة بمفردي .. واتجهت إلى ساحة العربات ، وارتقيت عربتنا في انتظار أبي وأمي  حتى جاءا بعد وقت قليل .. سألتني أمي عما فعلته ، أخبرتها أنني تجولت بالجوار فحسب ، لم أخبرها شيئا عن نديم   


صار ذلك الوعد منذ تلك اللحظة شيئا يخصنا نحن الاثنين فقط .. لا يخص أيا سوانا .. لن يخرج عن داخلي حتى يوم الغفران بعد تسع سنوات . 


وقتها سأعلن أمام هؤلاء البشر جميعا .. أن ذلك الفتى الذي أحببته وأحبني صار شريفا مثلهم يتمتع بحقوق أهل چارتين كاملة عما فعله من أجلي طوال تلك السنوات . 


*********************************************************  

 الفصل الثالث عشر


كانت المرة ما زلت أتذكر اليوم الأول لي في مدرسة الضباط، أصر أبي أن يصحبني بعربته إلى هناك .. تحركنا من جويدا مع منتصف الليل تماما  


ووصلنا إلى قبالا مع ظهيرة اليوم التالي الأولى التي أرى فيها جدار چارتين العظيم بعيني المجردة بعدما مر الطريق هناك بمحاذاته، كان أضخم كثيرًا مما تخيله عقلي طوال سنواتي الماضية 


حتى أن فاهي ظل مفتوحًا من انبهاري بعظمة بنائه وبأحجاره الضخمة التي قد يدهس الحجر الواحد منها عشرين رجلا إن سقط فوقهم ... 


أما قبالا فكانت مدينة صغيرة للغاية مقارنة بجويدا، غير أن شوارعها كانت أوسع كثيرًا وأقل زحامًا، وهناك توقف أبي أمام بوابة حديدية تنتصف سورا طوبيا مرتفعا كان يمتد بعيدا على جانبيها.  


ويحمل عددا من الأبراج على مسافات متساوية يقف بكل برج منها جندي يحمل سلاحه الناري، لم تكن إلا مدرستي الجديدة 


و ودعني أبي أنه سيأتي ليصحبني إلى منزلنا بعد ستة أشهر، فودعته وغادرت العربة وسرت بفستاني الذي قابلت نديم المرة الأولي أحمل حقيبتي تجاه البوابة، ثم صاح الجندي الذي يقف بأقرب أبراج السور فجأة، قبل أن تُفتح البوابة الحديدية على مصراعيها أمامي لأعبر إلى الداخل بخطوات بطيئة حذرة يدق قلبي بقوة، وكأنني قد عبرت إلى منطقة أخرى من حياتي ... 


كنت أظن أنني سأجد من يرحب بي فور وصولي، لكن بمجرد دخولي صار كل شيء سريعًا جدا .. اذهبي إلى هناك لتنتهي من إعداد أوراق التحاقك .. اذهبي إلى هناك لاستلام ملابسك العسكرية وحذائك العسكري اذهبي إلى هناك ليقوم الخياط بتضييق مقاساتك، ثم كانت صدمتي الكبرى اذهبي إلى هناك لقص شعرك الطويل، وهناك توقفت 


- ماذا ؟!! 


كان طول شعري يبلغ أسفل خصري، لا أريد قصه، فصرخت بي 


ضابطة الأمن حين تلكأتُ: 


- هيا .. لا تضيعي وقتك . 


ثم قام أحدهم بفرد شعري الملفوف وقصه في بضع ثوان، صار بالكاد يبلغ أكتافي، بعدها حملت أمتعتي جميعها في ضيق بالغ، واتجهت إلى بناء المبيت للراحة من عناء ذلك اليوم في انتظار بدء العمل الفعلي باليوم التالي ... 


كان بناء المبيت مكونا من غرف واسعة متجاورة، تضم الغرفة الواحدة عشرة من الأسرة المزدوجة، يحمل كل سرير فوقه فتاة تغط في نوم عميق، فأويت إلى سريري بعدما بدلتُ : فستاني بثياب نوم استلمتها هنالك - سترة قطنية وبنطالا لتصبح المرة الأخيرة التي أرتدي بها فستانا. 


مع اليوم التالي صار كل شيء أقوم به وفق بوق ثابت .. مواعيد الاستيقاظ مواعيد التدريبات مواعيد الطعام مواعيد الدروس النظرية مواعيد النوم كل شيء بالمعني الحرية لا بد وأن يسبقه ذلك البوق . 


صار اليوم طويلًا للغاية، أن تستيقظ مع شروق الشمس وتظل قائما بأشياء كثيرة متتابعة حتى موعد طعام العشاء، ثم تأوي إلى فراشك ليغمض جفنك في لحظات من التعب، ثم يبدأ يومك التالي مع البوق ذاته لتنهض في ثوان قليلة، وتعد سريرك وتقف منتصبا بجواره حيث ستمر ضابطة الأمن المسئولة عن الغرفة لمعاقبة من لم تستيقظ أو لم تعد سريرها، قبل أن يُطلق بوق جديد لنبدل ثياب نومنا بأخرى مخصصة للتدريبات الرياضية، ونغتسل سريعًا، ثم تندفع ركضًا إلى ساحة اصطفاف الطلاب حيث تصطف جميعا ذكورا وإنانا لنبدأ 


تدريباتنا ...


كان الأمر أشبه بالكابوس الذي ولجت إليه وعَلَقْتُ به .. لم تستطع أغطية الرأس أن نقينا حرارة الشمس الشديدة .. وصارت التدريبات




اليومية عناء حقيقيًا لا بد منه .. كانت الرمال من أسفلنا ساخنة للغاية، حتى ظننت أن يدي أوشكت على الاحتراق مع تدريبات أيامي الأولى، وبات وجهي شديد الحمرة ثم استحال لونه إلى الأسود، وصار شعري هاما للغاية مع حرارة الشمس ...




مع أسابيعي الأولى انخفض وزني بصورة شديدة حتى أنني ذهبت مرتين إلى خياط المدرسة من أجل تضييق مقاساتي، ومع مرور الأسابيع صار كتفاي أكثر عرضًا، وأصبحت ذراعاي أكثر قوة، وبدأت الدهون في جسدي تتشكل من جديد فقل محيط خصري بصورة ملحوظة حتى شعرت أنني صرت أكثر طولاً، ورغم أن الألم الذي كنت أشعر به مع التدريبات أخذ يقل كل يوم عن اليوم الذي يسبقه ظل تفكيري بأنني عالقة بكابوس لا يفارقني لحظة واحدة ..




يوما بعد يوم بدأت أتعرف على رفيقات ،غرفتي، وصار الوقت القليل الذي يفصل بين وجبة المساء وموعد النوم حلقة للسمر بيننا .. تتحدث عن أشياء كثيرة كان أغلبها من الفتيان ...




سمعت قصصا كثيرة من بعضهن لم أصدق أنها قد تحدث .. كان خجلا من تلك الجرأة التي امتلكنها، حتى أن إحداهن أخبرتنا أنها مارست الرذيلة مع فتاها ذات مرة، وكادت تموت قهرا بعدها، خشية أن تحمل بطفل يصير نسليًا، لكنها نجت من ذلك ولم وجهي يحمر تحمل ...


وقالت ساخرة


- لم أذهب إلى باحة جويدا تسعة أشهر كاملة خوفا أن يكون هناك حملا، وينال طفلي روحًا نسلية .


وأكملت بتقزز:


نسلي 118 كنت أقتله وأقتل نفسي أفضل من ذلك . وقتها لا أعلم لماذا أصابني الضيق والاشمئزاز، وانسحبت من النقاش إلى سريري .. كانت المرة الأولى التي أشعر فيها أن التقزز من التسالي كأنه تقزز من نديم .. لم أعد أفهم نفسي، أنا التي كنت أكره النسائي كرها لا حدود له صار مع أي إساءة من إحداهن لهم يمثل ضيقاً حقيقياً بداخلي لا يزول إلا بعد وقت طويل .. يومها وضعت غطائي على رأسي، وبدأتُ أفكر في نديم وهو يعمل معلما في عامه السادس عشر، ويقوم بتدريس عددا لا بأس به من أطفال الوديان حتى انسدلت جفوني. 


تسعة عشر 


يوم وراء يوم .. استيقاظ اغتسال إفطار، تدريبات، تدريبات مرة أخرى غداء راحة مؤقتة تدريبات مرة ثالثة تدريبات مرة رابعة وجية المساء أحاديثنا الليلية بوق النوم، بوق الاستيقاظ. ضباط وضابطات يصرخون بنا، كل شيء سريع، كل شيء ثابت يوم واحد مكرر بأحداثه، بأفراده بجماده .. أيام تمر أسابيع، أشهر. إلى أن حلت أجازتنا الأولى بعد ستة أشهر .. أسبوعان من الحياة القديمة مجددا، كنت أظن أنني لن أدركها أبدا ... 




كان الهواء خارج السور يختلف عن داخله، عبات صدري بالهواء وأنا أسير بحقيبتي مع غروب الشمس بين الطالبات مبتعدة عن البوابة التي أغلقت من خلفنا .. كان أبي في انتظاري كما وعدني، ضحك وهو 


يحتضنني، وقال


يبدو أن ابنتي قد كبرت أخيرا ...


قلت


- لقد أصبحت ابنتك ذكرًا ...


ضحك وقبل جبيني، ثم حمل حقيبتي إلى عربته، وانطلقنا في


طريقنا إلى جويدا، ولم يتوقف عن طرح أسئلته عما مررت به داخل


تلك الجدران، ثم تركني للنوم مع حلول المساء بعدما أغلقت جفوني لا إراديا في الموعد ذاته الذي اعتدتُ فيه النوم خلال الأشهر السابقة ... كنت أظن أن الكون بالخارج قد تغيّر، لكنني وجدته كما هو ... البيوت نفسها في جويدا، الناس نفسهم، الأطفال اللاعبون بكراتهم كانني تركتهم يوما واحدا فقط وعدت لم يتغير إلا أنا .


ثم أفقت من شرودي على صراخ أمي حين رأتني وهي تقف بشرفة منزلنا قبل أن تعود إلى الداخل مسرعة، وتظهر أمام باب بيتنا. الأهبط العربة وأسرع ركضًا إلى حضنها، فتركت كل شيء، وهمست في أذني


كما تمنيت .. لقد لحقت بيوم غفران هذا الشهر ...


كنت أعلم ذلك .. كان اليوم ذاته هو يوم الغفران كنت احسب الأيام جيدا، وشعرت بفرحة عارمة لما علمت أن موعد اجازتي تلك المرة سيوافق المساء السابق ليوم الغفران وهذا ما حدث .. قضينا الليل كله في طريقنا من قبالا إلى جويدا، ووصلنا صباحا إلى مدينتنا الألحق بذلك اليوم ...


قرر أبي أن يستريح من عناء السفر بعد بقائه مستيقظا طوال الطريق ليلتنا الماضية، بينما أخبرتني أمي أنها سترافقني إلى الباحة، وأحضرت لي طعامًا كانت قد أعدته من أجلي، فتناولته على نحو سريع، ثم اتجهنا سويًا إلى الباحة بإحدى العربات المخصصة للذهاب إلى هناك مقابل أجر بسيط.


داخل نفسي لم أحب أن ترافقني أمي لكني لم أستطع منعها من ذلك .. كنت في الطريق إلى هناك لا أفكر إلا بشيء واحد، كيف سأتحدث إلى نديم وأمي إلى جانبي .. ولأنني أعرف أمي جيدا، كنت أعلم أنها لن توافق على رحيلي لبعض الوقت كما كان يفعل أبي، فلم أجد إلا أن أستسلم للواقع وأنتظر أي فرصة قد تسنح .


عندما وصلنا الباحة وجدتُ أمي تقبض على يدي، وتريدنا أن نصل إلى المقدمة بالقرب من المنصة، لكني تلكأتُ وتحججت إليها بأن منتصف الباحة أفضل كثيرًا ، وأصررت على رأيي حتى انصاعت لكلامي .. وجودنا بمقدمة الباحة كان يعني انعدام فرصة أن يراني أما منتصفها فقد يأتي إلى هناك بعد تأكده من عدم ذهابي ندیم


إلى المرج الشرقي، وهذا ما حدث بالفعل


مرت ساعات قليلة ونحن نشاهد مراسم اليوم كانت أمي منتبهة للغاية مع ما يحدث على المنصة، بينما كنتُ أتلفت يمينا ويسارًا وإلى الخلف طوال الوقت بحثًا عنه دون أن أضع اهتماما لما يحدث على المنصة ...


سألت أمي أن أذهب لبعض الوقت فرفضت، سألتها مرات أخرى فواصلت رفضها حتى يأستُ من قبولها، فلزمت الصمت وواصلت تلفتي علي أراه، ثم انتهت مراسم إعدام أحدهم، وبدلاً من سماعنا زغرودة إحدى النسالى سمعنا صراخ امرأة يأتي من جوارنا تقول بأن كيس نقودها قد سرق ...


وفي ثوان قليلة حدثت حالة من الهرج والمرج من المحتشدين بمحيطنا جعلتني أنفصل عن أمي بأمتار، وقبل أن أصيح إليها، وجدتُ يدا صغيرة تجذب سترتي، فالتفت نحو صاحبها، كان طفلا صغيرًا قد يبلغ الثامنة من عمره، مُترب الوجه والثياب، ما إن نظرتُ إليه حتى أشار في صمت إلى جانب صدره الأيسر ثم أشار بيده تجاه الشرق ... فأدركتُ وقتها أن نديم ينتظر هناك بالمرج الشرقي ففكرتُ لثوان ثم نظرت بطرف عيني تجاه أمي، كانت حالة الهرج والمرج لا تزال قائمة، فانسللت بين الجمهور ناحية البوابة الشرقية الوسطى.


كان الطفل يسير أمامي في مرونة واضحة بين أرجل المتزاحمين حتى وصلت إلى البوابة، فتركني وعاد إلى الباحة، وأكملت طريقي إلى ضفة النهر الجاف عبر المرج الشرقي، حيث كان نديم في انتظاري


فقلت:


- كنت أظن أنني لن أراك اليوم .


قال ضاحكا:


- كنت أظن ذلك أيضًا حين وجدتُ أمك تقف بجوارك ...


قلت في دهشة:


- هل كنت بالباحة ؟!


قال:


- نعم .. بمنتصف الباحة بجوارك .. لكنك لم تبصريني حين


التفت أكثر من مرة ...


قلت:


ظللت أبحث عنك .. حتى حدثت حالة من الهرج والمرج بعد سرقة إحداهن وقتها أدركتُ أن عدم تواجدك هناك خير سيمسك ضباط الأمن بمن يجدونه من النسالي حتى يظهر


السارق ...


فقال باسما في هدوء


لم يُسرق أحد .. إن ريان وأخته الكبري من دبروا كل شيء ..


قلت:


- من ريان؟!


قال:


الطفل الذي جاء بك إلى هنا، إنه أحد تلاميذي، وأخته ديما هي من صرخت لإحداث تلك الجلبة.


زممت شفتي في تعجب، وقلت: ستنال تلك الفتاة عقابًا كبيرًا من ضباط الأمن .. قال


هذا إن أمسكوا بها إنهما بارعان للغاية في الهرب .


فقلت ضاحكة:


كل هذا من أجل أن تلتقيني ...


قال:


- نعم .. كان لا بد أن أتحدث إليك .


فابتسمت، ثم جلسنا بمكاننا المعهود، وبدأت أحدثه عما حدث لي الأشهر الماضية، وبدوره أخبرني أن لديه ستة عشر تلميذا يقوم بتعليمهم بينهم ريان ذلك الطفل الذكي الشقي .. حدثني عن صعوبة تقبل نساء النسالى تعليم أبنائهن، لكن يوما بعد يوم زاد العدد شيئًا فشيئًا


هنأته على ما فعله، كنت حقا سعيدة للغاية من داخلي، ثم سألته بعدها أن أغادر، كان علي أن أعود إلى منتصف الباحة.. كنت أعلم أن أمي ستجن من غيابي .. فهز رأسه موافقني، فوعدته أن نلتقي مجددا يوم الغفران الذي يوافق أجازتي القادمة بعد ستة أشهر فقال


بكل ثقة


- وقتها سيكون قد أصبح لدي تلاميذ أكثر ..


فضحكت وأنا أنهض وقلت:


- أتمنى ذلك أيها المعلم ..


ثم نهض هو الآخر، وسرنا سويًا تجاه الباحة، أخبرني أنه لن يدلف إلى محيطها .. سيعود أدراجه، كان الطفل ذاته يجلس مقرفصا بالقرب من الجهة الخارجية للبوابة الشرقية في انتظاره، فهمست


إلى نديم


- إنه هناك .. صديقك .


فضحك، واقتربنا منه، ثم كاد قلبي ينخلع من موضعه حين صاح صوت خشن مفاجئ بأن نتوقف ...


التفت جانبًا، كان ضابطًا للأمن جامد الوجه ضخم البنيان تخطاني واقترب من نديم وقال بكل استهزاء وهو ينظر إلى وشم


صدره


نسلي؟! .. إلى أين تذهب؟


نظر نديم إلى الأرض، وقال:


- إنني سأرحل سيدي ..


فدار حوله يتفحص جسده، ثم قام بتفتيش سرواله بطريقة


مهينة، فقال نديم


هناك سيدي ... لا شيء


فلكم الشرطي صدر نديم بقبضة يده، وقال بلهجة آمرة


- اصمت ..


وواصل تفتيشه، كان نديم ينظر إلى الأرض دون أن يرفع عينه أو


يحرك جسده ...


لم يجد الشرطي شيئًا بسرواله، وظننتُ أنه سيتركه يمضي، لكنه وقف أمامه وبمجرد أن رفع نديم نظره عن الأرض ونظر في عينه حتى استدار ناحيتي ونظر إلي متفحصًا لي قبل أن يلتفت فجأة إلى نديم ويصفع وجهه صفعة مفاجئة كادت تطيح بأسنانه .. وقال:


- لا تعد إلى هنا مجدداً أيها القذر .. يلزم النسالي جحورهم ...


لم يتحرك نديم، ونظر إلى الأرض ثابتا في موضعه .. بينما وثب الطفل ريان من جلسته خائفًا، وعاد خطوات تجاه بوابة الباحة وعيناه تترقب ما يحدث .. ثم تجمّع بعض شبان چارتين بالقرب منا، وبدأوا في إلقاء تعليقاتهم الساخرة عن النسالى، فنظر الشرطي إليهم في تباه، وضحك وهو يدور حول نديم حتى توقف مرة أخرى وصفع الجانب الآخر من وجه نديم صفعةً أقوى من الأولى . 


من كان قلبي يدق بقوة، وتسارعت دقاته أكثر حين رأيتُ خيطًا . الدماء قد بدأ يسيل على وجه نديم، لكنها بلغت ذروتها حين وجدتُ نديم يرفع طرف عينه إلي في ذل بالغ .. قبل أن يحرك بصره في تحد إلى الشرطي، وتنتفخ عروق رقبته وذراعه بالدماء بعدما كوّر قبضة يده .. 


*********************************************************  

 الفصل الرابع عشر


كاد قلبي ينخلع من صدري حين رأيت نديم يكوّر قبضة يده استعدادا للكم الشرطي ردًا على إيذائه وإهاناته دون سبب، فلم أجد إلا وأنا أزج بجسدي أمام نديم لأقف حائلا بينهما، وأنطق بسرعة إلى الشرطي نفسي 


- سيدي .. إنني طالبة بالمدرسة العليا لضباط الأمن بقبالا. 


نظر إلي بغضب كأنه لا يصدقني .. لم يكن لدي ما يثبت كلامي لاحظت أنه نظر إلى ذلك المثلث الداكن من جلدي أسفل عنقي، والذي لا تحميه ثيابي العسكرية من أثر الشمس الحارقة أثناء تدريباتي .. فهدأت ملامحه وكأنه تيقن من كلامي حين رأه، فتابعت: لكنني - إن صديقي لم يفعل شيئًا .. لم يتواجد بالباحة من الأساس .. 


زم شفتيه وغمغم ساخرا: 


- صديقي ؟! 


كان الفتية الساخرون ما زالوا يراقبون ما يحدث، ومن خلفهم ريان الذي لم يحرك عينه عنا، فقال الشرطي 


 اغربا عن وجهي 


 قاومات برأسي قبل أن يقول لي: 


 - لا تصادق الشريفات النسالى .. لن تصدقي كلامي حتى يغتصبك بعدما ينال ثقتك، وقتها ستفعلين بهم أكثر مما أفعله. 


 لم أعلق على حديثه، أمسكت بيد نديم وغادرنا فحسب، بينما لم يتوقف الفتيان عن الغمغمة بتعليقاتهم السخيفة عني وعن نديم . ثم لحق بنا ريان إلى الساحة الجنوبية للباحة المخصصة للعربات فتوقفنا هناك ونظرتُ إلى نديم الذي لم يرفع رأسه إلي منذ ابتعدنا 


 عن الضابط، وقلت: 


 - لا عليك .. سنجد من الصعاب الكثير في طريق هدفنا ... - لقد تربوا على نظرة واحدة تجاه النسالي .. أعلم أن الأمر صعب للغاية، لكن خطأ واحدا سيدمر كل ما نسعى نحوه، وأنا لا أريد ذلك .. ولا أنت . 


 ظل صامتا ... كانت ثمة دموع تلمع بعينيه كنت أدرك أنه يجاهد بقوة كي لا تسقط أمامي .. المرة الأولى التي أشعر فيها بالخزي الذي يحمله النسلي .. لكني لم يكن لدي سوى أن أواسيه، ثم مر وقت قليل قبل أن ينطق: 


 حسنًا يا غفران .. سأعود إلى حيثما جئت .. سأراك بعد سنة 


 أشهر .. أتمنى أن تظلي بخير ... 


 قلت: 


 - وأتمنى لك ذلك ... 


 ثم أشار إلى ريان بأنه سيغادر، فأطلق الفتي صفارته، فظهرت أخته من بين العربات ... كانت في مثل عمري تقريبا، ثم انطلقوا مغادرين عبر الطريق الترابي جنوب الباحة .. ووقفت أراقبهم حتى اختفوا عن بصري، فعدتُ إلى منتصف الباحة، وعثرتُ على أمي بعد 


 جهد كبير. 


 في الأشهر التالية بمدرسة الضباط صار الأمر ممتعًا إلى حد ما بعدما بدأنا تدريبات الأسلحة النارية والفروسية واللتين وجدت نفسي بهما ، وكأن بداخلي راميا وفارسًا ظلا حبيسين طوال السنوات الماضية حتى وجدا مخرجيهما أخيرًا بين جدران تلك المدرسة. غير أنني لم أنس قط ما حدث بآخر يوم غفران التقيتُ به نديم، وما فعله ذلك الضابط بنا يومها، وظلت أحلامي لفترة طويلة تدور جميعها عما حدث ذلك اليوم .. صفعات متكررة على وجه نديم دماء تسيل من وجهه، قبضة يده تتكور لتأخذ طريقها إلى وجه من يهينه، لكنها قبل ذلك تصطدم بي لتحطمني إلى أجزاء صغيرة تتناثر كقطع الزجاج بعدها يحاول أن يجمعها فلا يستطيع، بينما يجثو الضابط بجوار تلك القطع ليقول: 


لن تصدقي كلامي حتى يغتصبك بعدما ينال ثقتك .. وقتها ستفعلين بهم أكثر مما أفعل .. 


 فاستيقظ من نومي على قزع رهيب لا أريد أن أنام مجددا، وأهل جالسة على سريري في انتظار بوق الاستيقاظ .. حتى أن مخيلتي قد صنعت من لوحة الأهداف المخصصة لتدريبات الأسلحة النارية صورة ذلك الضابط .. لتصيب طلقاتي راسه كل مرة ... في الأمر أننى رشحت في خلال ثلاثة أشهر كأفضل رامية في صفي الغريب الدراسي لأخوض منافسة داخلية بيني وبين أفضل الرماة بالصفوف الأكبر مني .. 


 ظل وجه الضابط لا يفارق مخيلتي كلما صوبت تجاه اللوحة، ومع كل مرة كنت أحقق أفضل النتائج، وذاع صيتي بالمدرسة عندما وصلت للمنافسة النهائية بيني وبين أفضل رام بالصف الأخير، والذي لم يسبق وأن خسر من قبل أمام طالب آخر منذ التحاقه بالمدرسة .. 


 كان ذلك اليوم هو اليوم الأخير في الستة أشهر التالية .. انتصبت لوحتان خشبيتان بمنتصف ساحة المدرسة .. كانت كل لوحة منحوتة على هيئة رجل .. بينما وقفتُ أنا ومنافسي على بعد ثلاثين متراً .. وابتعد الطلاب عنا بأمتار قليلة مصطفين بكل الجهات عدا الجهة التي نصوب نحوها .. وجلس كبير معلمي المدرسة وغيره من الضباط المعلمين على منصة جانبية ارتفعت أقداماً قليلة عن الأرض في انتظار 


 بدء منافستنا .. 


 كان لكل متسابق منا خمس تصويبات الفائز من يطلق تصويباته بأكثر دقة وأسرع وقت .. وتنتهي المسابقة بمجرد أحدنا من أن ينتهي 


 تصويباته .. شعرت أن الطالب الآخر يمتلك من الثقة بالنفس ما يجعله يصيب رأس الهدف على مسافة أكثر من مائة متر لا ثلاثين ... لكنني تماسكت ونظرتُ إلى لوحة هدية وحاولت استحضار وجه الضابط الذي أكرهه ليحل محلها وانفرجت أسارير وجهي حين استحضرها ذهني سريعًا ، ثم هدأت همهمات الطلبة من حولنا بعدما أشار إليهم أحد الضباط بالهدوء ... 


 ثم التف ذلك الضابط إلى كبير المعلمين، قبل أن يستدير إلينا ويصيح بأن نبدأ، فرفعتُ سلاحي الناري أمام عيني، وأغمضت عيني اليسري وبدأت التصويب نحو وجه الضابط الذي استحضرته مخيلتي، لكني فوجئت بأنه تبدل فجأة إلى وجه نديم، ووجدت يدي تطلق الزناد .. خمس ضربات متتالية دون توقف، ليخيم الصمت على المكان، فنظرت خلفي، كان الجميع يحدقون بي غير مصدقين وكأنهم قد فتحوا أفواههم ونسوا أن يغلقوها ... 


 كان الطالب الآخر لم يطلق إلا طلقتين فقط، فنظر إلي غير مصدق لما حدث .. أما أنا فالتفتُ مجددًا، ونظرتُ إلى هدفي في ذهول ... لم أكن أراه لوحة خشبية، كانت عيني تراه يقف أمامي، بصدره العاري ووشم صدره تنزف رأسه من منتصفها وهو يحملق بي مكسور العين ... 


 وبينما كان جميع الطالبات يندفعن نحوي ليحطن بي في فرحة عارمة، كانت عيني لا تزال مُعلّقة على اللوحة الخشبية التي يتفحصها ضابطان لإعلان النتيجة دون أن تسمع أذني أي تهليلات مما قالتهن 


 زميلاتي، وكأنني قد انفصلت عن العالم لدقائق ... 


 ثم هدأ الجميع مرة أخرى حين انتهى الضابطان من فحص اللوحتين وعادا إلى منصة كبير المعلمين وأخبراه بالنتيجة لتظهر المنصة ملامح الدهشة على وجهه، قبل أن يهبط من ويقول لي في سعادة بالغة: ويتجه : نحوي 


 خمس تصويبات في ثوان قليلة جميعها بالرأس .. شيء لم يحدث من طالب من قبل .. إنك الرامي الافضل بمدرستنا ..... 


 ثم نظر نحو الطلاب وقال: 


 و أن رامي منصة الباحة سيصبح سيدة للمرة الأولى في - يبدو 


 التاريخ 


*********************************************************  

 الفصل الخامس عشر


اسمي ريان .. نسلي يعيش بالوادي ذاته الذي كان يعيش به التحقت السيد نديم بالتعلم على يده في عمر الثامنة، ومن بعدي صار العدد يزداد شيئًا فشيئًا .. حتى أصبحنا ستة عشر طالبا بعد الستة أشهر الأولى وثلاثين بنهاية العام الأول، وخمسا وخمسين مع نهاية العام الثاني، وظل العدد في تزايد مستمر مع شهورنا المتتالية ... لم أعرف قط كيف كان يقنع سيدي أمهاتنا بأن تلتحق بمدرسته الصغيرة التي لم تتجاوز حوشًا صغيرًا أمام كوخه المتطرف بوادينا. لكنه نجح في ذلك على أي حال ... 


 كأنه شأنه كنت أقرب الطلاب إليه، وصار يهتم بكل شأن لي : تماما، واستأمنني على سر علاقته بالسيدة غفران في أشهري الأولى من التعلم تحت يده .. أتذكر الخطة البدائية التي رسمناها سويا أنا وهو وأختي ديما لنشتت انتباه أم السيدة غفران عنها ليستطيع مقابلتها، قبل أن ينتهي ذلك اليوم بنهاية أفسدت علينا كل شيء.


يومها عدنا سيرًا عبر الطريق الترابي إلى وادينا .. لا أتذكر أنه. نطق بكلمة واحدة طوال الطريق .. لم تعلم اختي حينذاك ما حدث فسألتني في تعجب عن سبب ذلك الصمت الشديد والتجهم اللذين سادا طريقنا، فلم أجبها بشيء .. كان ما رأيته كفيلا بان يهدم كل ما تعلمته بأشهري الستة التي سبقت تلك الواقعة .. كنت طفلا. تكتني أدركت أننا نحن النسالى مهما وصل بنا الحال سنظل نسالي الطبقة المنبوذة في هذا البلد سألته حين صغيرا أصبحنا على مشارف الوادي، وكانت ديما قد تأخرت بخطوات عنا: 


 - لماذا لا نغادر چارتين؟! ... 


 قال 


 لن يكون لنا قيمة في أي مكان آخر .. طالما لا قيمة لنا في 


 بلدنا ... 


 قلت ساخرا: 


 - بلدنا؟! 


 ثم تابعت عندما لحقت بنا ديما: 


 - سنظل دون قيمة طالما وجدت القواعد 


قال بعدما سرنا بضعة خطوات صامتين 


 ستتغير القواعد يوما ما ... 


 فأطلقت ديما ضحكتها الساخرة، وقالت بتهكم 


- تتغير القواعد ؟ .. يحلم نديم النسلي. 


 لم يرد سيدي على ما قالته، فقلت: 


 لو كنت مكانك لم أكن لأتقبل ما فعله ضابط الأمن وإن كلفني 


 حياتي .. 


 قال: 


 - كنت سأفعلها .. لكني وعدت غفران بألا أرتكب جُرما قد يصل 


 بي إلى منصة الإعدام ... 


 تبرمنا أنا وأختي وآثرنا أن نكمل طريقنا صامتين. 


 رغم صغر سني وقتها إلا أن داخلي كان يؤمن بشيء واحد؛ موت على منصة الباحة أفضل ألف مرة من حياة دون كرامة، لكني عاودت نفسي وقلت لكل امرئ حياته له الحق أن يسيّرها كما يشاء ... ء .. وتابعت دروسي مع سيدي، وحاولت أن أتناسى ما رأيته ذلك اليوم ... 


 ثم مرت ستة أشهر أخرى وحلّ يوم الغفران للشهر السابع وذهبنا سويا إلى باحة جويدا لمقابلة السيدة غفران .. كانت تلك المرة أسهل كثيرا من المرة الأولى، كانت السيدة غفران قد جاءت بمفردها إلى ضفة النهر الجاف حيث انتظرها سيدي .. غير أن ما حدث بأخر لقاء بينهما قد حدث مجددا من أحد شبان چارتين، لكن بعدما غادرتنا السيدة .. كنا في طريقنا إلى مغادرة جويدا عندما اعترض طريقنا ذلك الأخرق، وحاول إيذاء سيدي عندما رأى وسمه ومثل المرة السابقة كتم سيدي غيظه إلى أقصى حد، فواصل الشاب إهاناته، ولكم سيدي بمنتصف صدره بقوة فواصل سيدي كتمان غيظه ، ثم رأيتُ قبضة يده تتكور وشعرت أنه على وشك أن يرد لكمته. لكنه تمالك نفسه بالنهاية، وتركنا الفتى بعدما صبّ علينا وابلا من 


 الشتائم 


 لم أحب ما حدث وكرهت كوننا نسالى، وبدأت كراهيتي لأهل جارتين تزداد في قلبي كل يوم عن اليوم الذي يسبقه .. ولم أجد نفسي إلا وأنا أصرخ به دون وعي: 


 - لماذا لم تفعل ذلك سيدي؟. 


 قال هادي 


 من أجلكم .. 


 قلت باستنكار بالغ 


 - لا أريد ذلك .... 


 قال: 


 ستفهم كل شيء حين تكبر يا ريان .. 


 ركلت حجرا بقدمي في طريقنا في حنق شديد، ثم ركضت غاضبًا مبتعدا عنه دون أن أنظر خلفي، كان داخلي يصرخ لا أريد أن أصير مثل سيدي ... بئس ذلك الحب الذي يجعلني 


 ضعيفًا . 


 كان كل ما يدور في رأسي صفعات ضابط الأمن على وجهه وتهكمات الشاب الجارتيني، والكفته القوية له بمنتصف صدره دون أن يصدر سيدي أي ردة فعل وعدد لا هذا إلى كوع أمي والتزوية بأحد أركانه باكيا، وحدثت نفسي وأنا أنشج 


 اکره چارتين وأهلها .. أكرههم وأكره السيدة التي تفعل ذلك. بسيدي .. كان عليها أن تتركه وشأنه فحسب، يعيش مثل باقي التسالي ... 


 وبقيت في تلك الحالة المزرية حتى حل الليل وخيم الظلام الدامس على وادينا، ومع كل لحظة كان الغيظ يزداد بداخلي تجاه السيد نديم إلى أن وثب بعقلي قراري بألا أكمل دروسي معه واشتغل الغضب بداخلي ساعتها، ونهضت من موضعي لأذهب إليه في منتصف الليل الأفرغ له ما في جعبتي من كلمات لاذعة وأخبره صراحة أنني لا أرضى أن أكمل دروسي معه .. وخطوتُ مسرعًا خارجا من كوخنا، وأنا أمسح دموعي وأهمس إلى نفسي بما سأقوله 


 - لن أتعلم معك بعد اليوم أيها الضعيف .. كنت أقرب السادة لي ... لكنني لن أرضى بأن أكون مثلك يوما ما ... 


 وأكملت طريقي بين الطرقات المظلمة الساكنة إلى حد الموت حتى وصلت إلى كوخه القابع بالطرف الآخر من الوادي .. كان ثمة مصباح يضيء داخله، فأدركتُ أنه بالداخل، وتوقفت أمام الكوخ أحاول أن أراجع ما أقوله .. قبل أن تندفع الدماء إلى وجهي وتتسارع دقات قلبي ارتعايا حين اخترق سمعي فجأة صوت طرقات مستمرة كانت تأتي من داخل کوخه .. طرقات قوية كان أحدهم يهدم جدارا حتى أن نور المصباح الصادر داخل الكوخ قد اهتز معها، ثم حين صدر صوت صراخ شديد مفاجئ مع تلك الطرقات .. فعدت كدت أبلل بنطالي خطوات بظهري إلى الخلف، وجلستُ على الأرض من الرعب الذي انتابني . 


 ظلت الطرقات مستمرة بنفس القوة دون توقف .. بينما كان الصراخ يزداد مع كل طرقة كان أحدهم بزار بالداخل .. ما كان يقتلني خوفا أنني كنت أعلم أن ذلك الزئير هو صوت سيدي نفسه، ثم تمالكت أعصابي، ونهضت واقتربت بحذر على أطراف أصابعي من باب الكوخ الخشبي .. ودسست عيني بين شقوق الباب لأرى ما لم أرد في حياتي .. 


 كان سيدي عاري الجسد تماما ... تبرز عيناه بشدة، وتنتفخ عروفه وعضلات جسده بصورة لم يسبق لي أن رأيتها .. كان يلكم جدار الكوخ بلكمات متتالية شديدة للغاية جعلت الدماء تسيل من قبضته، لكنه كان يواصل ضرباته وكأنه لا يشعر بأي ألم، بينما تزار حنجرته بصوت صارخ برج الجدران من حوله مع كل ضربة يضربها .. ضربات مستمرة دون توقف ... زئير متواصل يصل عنان السماء ... دماء تسيل من قبضة يده دون ألم .. رعب حقيقي يجتاحني وأنا أرى بعيني كيف بدأت الروح التسلية تثور داخل جسد سيدي. 


*********************************************************  

 الفصل السادس عشر


أصابت الفرحة العارمة زميلات صفي عندما صدر لفظ رامي المنصة من كبير ضباط المدرسة وغمرتني بوابل من المباركات والتهاني. أما أنا فاجتاحتني حالة من الذهول والتشتت الشديد ما بين فرحتي بما حدث قبل لحظات وبزوغ أمل مفاجئ للعمل بالباحة مرة أخرى وبين وجه نديم الذي ظهر لي على الهدف الخشبي لأحقق نتيجة تصويب وتوقيت لم يسبق لطالب وأن حققها .. ولما طال ذلك التشتت على ملامحي سألتني إحدى زميلاتي إن كنت لا أشعر بالفرحة، وإن كان كل شيء بي على ما يرام .. فطمأنتها ، قبل أن أغادر مشتتة البال وأعود إلى فراشي بعنبر النوم. 


 في اليوم التالي كان موعد أجازتنا الموسمية .. أربعة عشر يوما. حضرت بها يوم الغفران، وتمكنت من مقابلة نديم بسهولة عن آخر مرة، لم يحدث شيء عندما كنا معا حتى تركته وعدت إلى والداي لا أتذكر أنني تحدثت كثيرًا تلك المرة، كنتُ شاردة للغاية على عكس كنت كلّما أنظر إليه أتذكر وجهه المنطبع على الهدف الخشبي وتلك الإصابة الدقيقة بين حاجبيه، وقتها أصابني الضيق العادة 


 الأول على المنصة هناك أتذكر يومي طلب الهمهمات التي صدرت ولم تنقطع حين ارتقيت المنصة بملابسي العسكرية .. بدلتي الصوفية الرمادية ذات الأكمام الطويلة والبنطال الضيق الذي يحمل نفس اللون ويندس أسفل حذاء جلدي طويل العنق، بينما يحيط. خصري حزام أسود سميك تعلق به حافظة سلاحي بالبارود الحي ... الناري العبا 


كانت خطواتي الأولى على المنصة ثابتة واثقة .. لم أجد قلبي يدق رهبة مثلما كان سيفعل إن حدث هذا الأمر قبل سنوات .. وقفت مواجهة للجمهور شاهقة الرأس قبل أن ألتفت تجاه القاضي الكبير لألقي تحيتي العسكرية ، ثم تلقيتُ أمر الإعدام منه لألتف بثبات بالغ إلى التسلي الأول في حياتي المهنية، وسويت سلاحي نحو رأسه لينطلق البارود محطمًا ما بين حاجبيه .. وقتها فقط توقفت الهمهمات ليسود صمت رهيب لم يقطعه إلا صوت زغرودة انطلقت من مؤخرة الباحة .. كانت المرة الأولى التي أقتل فيها أحدهم، ولم تكن الأخيرة ... 


يوم غفران وراء آخر بدأت يدي تعتاد إطلاق النار على النسالي فوق المنصة ... إعدام واحد بكل مرة اثنان ثلاثة .. رجال نساء .. لم يكن عقلي يفكر بهم على الإطلاق .. كلهم واحد، مجرم استحق القتل وجاء دوري لأحقق عدالة جارتين ... 


صار الأمر بالنسبة لي طلقة بارود تطلق .. جثة تتساقط .. زغرودة تدوي من خلفي .. لأنتقل إلى إعدام آخر وكأن شيئًا لم يحدث .. ذات يوم سمعت امرأة تقول أن أطفال جويدا باتوا يخافون مني ومن جمود وجهي وملامحه القاسية .. لم أعط اهتماماً لذلك .. لكني مع مرور 


الأيام صرت حقا الفتاة التي يخشاها أهل جويدا جميعهم .. وهذا ما 


 أسعد داخلي للغاية. 


 على عكس أمي التي كانت ترى أن وظيفتي تلك كانت ستقلل فرصي بالزواج .. وبدأ الجدال يشتعل بيننا كلما جاء عريس لخطبتي ورفضي للأمر دون حتى التحدث معه .. ثم حلت فاجعتنا الكبرى حين مات أبي مرضا قبل وصوله الخمسين بثلاثة أعوام ... ومن بعدها صار الجدال بيني وبين أمي طقساً يوميًا لا بد وأن يخوضه كلانا .. حتى فاض بي الأمر ذات مرة وصرخت بها : 


 - سأتزوج نديم ... 


 قالت مستفهمة 


 - نديم من ؟! . 


 قلت بصوت خافت: 


 الفصلي ... 


 قالت غير مصدقة:


 ألم ينته ذلك الأمر منذ أعوام 118 


 هززت رأسي نفيا ، وقلت: 


 - نعم لم ينته ... 


 ظلت تنظر نحوي في ذهول حينما رأت الجدية التي أتحدث بها 


 ثم صرخت بي: 


لن يحدث هذا الأمر. 


 قلت 


 - لقد وعدته بذلك، وأقسم لك لو أنه عبر إلى عامه الخامس والعشرين دون جريمة سأتزوجه أمام أهل چارتين جميعهم 


 ليصير شريفًا مثلنا . 


 فجلست على مقعدها أمام الطاولة ووضعت رأسها بين يديها. 


وأنت قلت: 


 لن يحدث هذا الأمر .. لن يحدث ... 


 كان أخي قد بلغ أربع سنوات وقتها ... وكان يراقب جد النا بخوف 


 ... فأكملت وهي تنظر إليه: 


 - لن يصيب العار عائلتنا أبدا. 


 فغادرت غاضية .. وزاد الأمر عنادا بي أنني صرت أقابل نديم علنا أمام الناس جميعهم بعدما أصبح لقاؤنا بأيام الغفران أمرا محالاً لبقائي بالباحة طوال اليوم .. ويوما بعد يوم انتشر خبر مقابلاتنا بين أهل جويدا، ولقب نديم بالنسلي الذي يواعد السيدة غفران ... رامي المنصة ... وسمعت أن كثيرًا من الحكايات والقصص المختلفة قد تناقلت بشأننا .. 


 غير أنني كنت أعرف تماما أنني لا أخالف قواعد بلادي بتلك المقابلات، وأنه لا توجد قاعدة واحدة تمنع أن يقابل نسلي شريفة ...  


فألقيت بهرائهم كله وراء ظهري لأكمل وعدي الذفألقيت بهرائهم كله وراء ظهري لأكمل وعدي الذفألقيت بهرائهم كله وراء ظهري لأكمل وعدي الذي وعدته به قبل سنوات بأنني سأواصل معه طريقه نحو عامه الخامس والعشرين لأزيل وقتها وشمه بخنجري على منصة باحتنا المفضلة 


*********************************************************  

 الفصل السابع عشر


عدت بقدمي خطوات إلى الخلف دون أن أصدر أي صوت، ثم جلست على بعد أمتار قليلة من باب الكوخ ضاما ركبتي إلى صدري يرتجف جسدي بشدة بعدما لم تتوقف الطرقات أو الأصوات الصارخة الصادرة من سيدي .. كنت خائفًا للغاية من الاقتراب من الباب الخشبي مجددًا، لكنني قررت ألا أغادر وأترك سيدي، ومكثت مكاني ينتفض جسدي مع كل صرخة وتدور بعقلي خيالات كثيرة بعدما تخيلت نفسي بموضعه بعد قليل من الأعوام .. 


 ثم مر الوقت ساعة وراء أخرى وبدأت الطرقات تهدأ شيئًا فشيئًا وأصبحت على فترات متباعدة وهدأ الصريخ معها، فعلمت أن الإنهاك قد أصابه، إلى أن توقفت تماما، فنهضت واقتربت بحذر لأنظر عبر شقوق الباب، فوجدته ملقى على بطنه ممددا عاريًا ساكنا تغطي الدماء ظهر يديه المصابتين بشدة، فمددت . سبابتي في حذر بشق كبير بين قطعتي من أخشاب الباب لألامس قطعة خشبية صغيرة أفقية كانت تغلقه، وبدأتُ بتحريكها حركة نصف دائرية حتى تمكنتُ 


من فتحه ببطء ودلفت إلى الكوخ باحتراس وجنوت على ركبتي 


 بجواره .. وقلت: 


 - سيدي .. 


 لم يجبني، فنهضت وأحضرت قميصا قماشيا كان ملقى على الأرض، وغطيتُ به خصره العاري، وهمست إليه مجددا: 


 - سيدي .. 


 ثم مددت يدى إلى كتفه، وهززته بحذر وقلبي يدق خوفًا: 


 - سيدي .. 


 بعدها كاد قلبي يتوقف حين فتح عينيه المحمرتين فجأة ونظر في عيني مباشرة، فأجفلت وعدت مضطربًا إلى الخلف فسقطت . على 


 ظهري ... فقال متعباً 


 - ما الذي جاء بك إلى هنا يا ريان .. حان وقت الدرس ؟! ... 


 قلت باضطراب 


 لا يا سيدي .. إنني فقط .... 


 فنظر إلى يديه المجروحتين وقال خائفًا 


 - ماذا حدث ؟! ... 


 لم أقل شيئًا .. ثم وجدته ينهض فجأة، فسقط القميص عن خصره، فرفعه على الفور ليغطي جسده أمامي، ثم سألني مجددا وهو 


 يتفقد الكوخ المحطم من حوله : 


- ماذا حدث ؟! ... 


 قلت 


 - رأيتُك تضرب الجدران بقوة وتصرخ صراحا لم أسمعه من


 قبل ...


 سكت وهو يتفحص يده اليمنى المصابة إصابة بالغة، ثم قال


 شاردا:


 - لا أتذكر أي شيء


 بين أومأت برأسي إيجابًا دون أن أقول شيئًا .. ثم نهضت وتحركت أركان كوخه الضيق، وأحضرت له بنطالا من صندوق خشبي كان مفتوحًا، فارتداه في الوقت الذي أحضرت به إناء من الماء كان بركن بعيد، وأخذتُ أغسل جروح يده وأزيل الدماء المتجلطة عنها .. كنت قد رأيت أحدهم يفعل ذلك في إحدى المرات التي ذهبت فيها إلى جويدا


 كان ينظر إلي وأنا أقوم بذلك فحسب، حتى انتهيت فوجدته يقول:


 - لا تخبر أحدا بما حدث ...


 فهززت رأسي إيجابا ، ثم قال بصوت هادئ محدثًا نفسه:


 - لن أدعها تنتصر ..


 فنظرتُ إليه وأنا أعلم أنه يقصد الروح النسلية، قبل أن يتابع: 



سأكمل وعدي إلى غفران ... 


 قلت وقتها : 


 - أي وعد سيدي ؟! ... 


 قال: 


 - سنتزوج بعد ثمان سنوات . 


 اتسعت حدثنا عيني وقلت فرحًا: 


 حقا .. سأصير وقتها في السابعة عشر ... 


 فريت على رأسي بيده فنهضت وقبلت رأسه فابتسم، ثم غلبه النعاس بعد ذلك الإنهاك الذي مر بجسده، فعدت إلى كوحنا . 


 لم أخبر ديما يومها بشيء .. ظللت مستيقظا أفكر بما حدث حتى وقت طلوع النهار التالي ... ووجدتني أعود إلى مدرسة السيد نديم الأكمل دروسي معه .. وكأنني نسيت ما كنت أفكر به الليلة الماضية حين ذهبت إلى كونه غاضبًا .. لا أعلم ما الذي حل بداخلي. صارت لدي 


 رغبة عارمة لكي يحقق سيدي حلمه 


 رأيت بعيني كيف كان يقاوم روحه النسلية .. وأدركت جيدا أن تمالك نفسه أمام من تعمدوا إيذاءه لم يكن إلا قوة فحسب، لو ترك المجال لتلك الروح بداخله لتقود جسده لقتلهم على الفور، لكن حينها لن يكون لجسده سبيل إلا المنصة الملعونة ليتركنا جميعا .. هذا الذي أعطى لنا أملًا كبيرًا لنفسي أشخاصًا عاديين لا نقل عن الشرفاء في شيء .. كان بتعليمه لنا يدرب نفوسنا للسيطرة على الروح الأئمة وقتما يكن الأمر متعلقا ببقائنا أحياء. 


 لم أعلم وقتها إن كان يفعلها لأجله أم لأجل السيدة غفران أم لأجلنا .. لكني كنت متيقنا تماما أن ما كان يفعله سيبقى نقطة فارقة في حياة النسالى .. وزاد الفخر بداخلي بأنني أول من تعلمتُ على يديه ... وزاد تعلقي به وكأنه والدي الذي لا أعرفه .. وصرت أذهب كل مساء إلى كوخه لأطمئن عليه دون أن يراني كنت أنظر من شقوق الباب فحسب .. إن كان نائماً تركته نائما وأغادر، وإن هاجت روحه منتظرا خارج الكوخ حتى تهدأ، فأدلف إلى الكوخ وأضمد جراح يديه ظلات 


 وأغادر قبل أن يفيق من غفوته .... 


 كان يعلم بالطبع أنني من يفعل ذلك فيأتي ليشكرني باليوم التالي فارد كلامه بابتسامة صادقة ... 


 حقا هو عام وراء آخر صار السيد نديم . هو حلم النسالي .. أصبح مع العام الرابع مائة وعشرة طالب .. فقسمنا إلى جماعات على مدار النهار، وجعلني أتولى تعليم الأطفال الأصغر سناً .. عددنا 


 مع الوقت صار حلمي أنا الآخر أن أصير شريفا يوما ما لا مجرما يموت أمام أهل چارتين .. وشعرت بأن ذلك بات حلم الكثيرين غيري ممن يتعلمون على يد معلمنا .. خاصةً بعدما أصبحت السيدة غفران رامي المنصة وأعلنت بكل جرأة عن علاقتها بالسيد نديم، لتنتشر الحكايات والقصص عنهما بين أكواخنا، وليتضخم معها الأمل بيتنا جميعا .. أنا الذي كنت أخشى أن تثور روحي التسلية صار قلبي مطمئنا بأنني سأخضعها لسيطرتي حينما تثور، وإن كلفني ذلك إصابات بالغة بيدي .. تمنيت لو لم تغادر ديما .. كنت أقول لها دوما ربما يتغير حالنا، لكنها لم تؤمن بذلك، وغادرت مع غجري رحال من بلاد أخرى ... 


 ها هي السنوات تواصل مرورها وعبر سيدي عامه الرابع والعشرين، وبات حلمنا جميعًا على وشك التحقق يا ديما .. لكن الحقيقة التي لا يعرفها غيري .. أنه كلما مر يوم واقترب سيدي من عامه الخامس والعشرين كان الأمر يصير أكثر صعوبة .. 


 مع اليوم الأول في ذلك العام صار هناك شيء مختلف إلى حد ما ... وقتها كنت قد بلغت عامي السادس عشر واشتد عودي كثيرا . ووجدت سيدي يأتي إلى كوحي ركضًا، ويطلب مني لاهنا أن أقيده فتعجبت مما يطلبه، لكنه توسل إلى كي أسرع، ففعلت ما أمرني به. وقيدته بحبل سميك، وجلست على مقربة منه في ترقب شديد . 


 عاد سيدي إلى انتفاضاته وزئيره الصارخ المتواصل .. كان الزئير تلك المرة أقوى من المرات الكثيرة الماضية .. ومعه انتفخت عروق جسده وخاصة رقبته بصورة مرعبة جعلتني أظن أن الدماء ستنفجر منها .. حتى أن الخوف قد سيطر علي، فابتعدت مهرولا إلى ركن بعيد بالكوخ، واستعددت للهروب بعدما ظننت أنه سيقطع الحبل السميك الذي قيدته به، لكنه انهار بعد فترة من الوقت .. وهو يقول لي: 


هناك شيء ما يتحرك بداخلي ... 


 كنت أشفق عليه كثيرا، فقلت: 


 - ستعبر هذا العام ... 


 لكنه واصل همهمته وهو يلهث 


 هناك شيء ما يتحرك بداخلي بقوة . 


*********************************************************  

 الفصل الثامن عشر


ما كنتُ أخشاه قد حدث، حين بلغت عامي الثالث والعشرين وبلغ نديم عامه الرابع والعشرين كانت أمي قد وصلت عامها الخمسين ..


فستانا أبيض أيقظتنا ذلك الصباح طرقات على بابنا كنا ننتظرها بحسرة شديدة، قبلها بأيام ظلت أمي باقية بحجرتها ترتدي وتحتضن زين، بينما لم أغادر بيتنا لحظة واحدة تلك الفترة، وكأنني وددت لو عوضني نومي بحضنها في آخر أيامها عن سنواتي التي سأعيشها بدونها ..


لم نشأ أن يدور أي جدال بيننا بشأن زواجي .. كنا ابنة وأم على وشك الموت فحسب، ليبقى ثلاثتنا على سرير واحد نتبادل دفء أجسادنا قبيل أن نفقد الدفء الأكبر ... الصفعة الحقيقية المؤلمة لي من قواعد جارتين


مع ذلك الصباح حضر ضابطان إلى بيتنا معهما أوراق ثبوت بلوغ أمي الخمسين لم يعترض أي منا إلا بدموعنا التي سالت على وجوهنا لا يستطيع أحد الاعتراض .. لا استثناءات في هذه القاعدة، ومن أجل بقاء نسلنا شريفًا كان على أمي إنهاء حياتها طبقا للقواعد ذلك الصباح ..


غادرت أمي مع الضابطين الذين رفضا مرافقتي لهما، حتى وإن كنت أعلى منهما رتبةً، وبقيت أنا وزين في بيتنا .. سألني بخوف:


- إلى أين تذهب؟


قلت كاذبة:


- ستعود قريبا


لا يعلم أي من أهل چارتين شيئًا عن طريقة موتنا بوادي حوران بالشمال الشرقي يختص رجال الدين بذلك الأمر ويبقونه سرا أكثر الأقاويل قالت أنه سم مريح يوفّر ميتة مريحة دون ألم، لكن لم يستطع أحد أن يؤكد ذلك الأمر، سأعرف حتما حين أبلغ موعدي أتمنى فقط أن تذهب روح أمي النقية إلى جسد طاهر شريف يحافظ عليها ..


هذه هي ، سنة الحياة في جارتين .. ألم حقيقي من فراق أقرب الناس لك عليك أن تعتاده، هكذا خلقنا وهكذا نعيش وهكذا نتركها لمن بعدنا


بعد موت أمي تركتُ بيتنا القديم، وانتقلت مع أخي إلى بيت جديد لبدء حياة جديدة، حاولت تدريجيًا أن أعوّضه عن غياب أمي وأن أهتم به كان أبي وأمي موجودان تمامًا. مسكين هذا الطفل جاءت به أمي ليمنع عني وحدتي لكنها تناست أنه سيحرم صغيرًا منها ومن أبي ..


يعيش لم أهتم بتعليمه القواعد كما تعلمتُ في صغري، وتركته حياته كطفل يحب اللعب مثل أقرانه في ذلك السن، وفرحت كثيرًا حين وجد بمنطقتنا الجديدة صحبة اعتادت لعب الكرة أسفل شرفتي، مع مرور الأيام تعودت على صياحهم الصباحي، كذلك أصبحت المكافئة لهم بحبات الحلوى إن أحرز أحدهم هدفًا .. كنت أشعر أنهم يحبونني حقا عكس ما يردده البعض بأن أطفال جويدا يخشونني.


قد اليوم كانت سعادتهم بي أضعافا مضاعفة، كنت أعلم أن زين أخبرهم أنني بلغت عامي الرابع والعشرين، وأن السيدة سامرية ستأتي لأخذ مقاسات جسدي بعدما اتفقت مع نديم آخر مرة التقينا بها بأن يُقام زواجنا بباحة جويدا بيوم الغفران نهاية هذا الشهر .. ما كنت أصدق حقا أن نديم سيصل إلى عامه الخامس والعشرين دون أن يكون أحد قتلاي على المنصة .. لقد فعلها من أجلي، قالت السيدة


سامرية مازحة وهيا تنظر إلى جسدي


- من يرى هذه الأنوثة لن يصدّق أبدًا أنك الفتاة ذاتها التي


نراها في باحة جويدا ...


ضحكت وأنا أنظر إلى المرأة، وقلت:


- لست شريرة سيدتي .. إنه عملي فحسب ..


قالت:


سيصبح زواجك على المنصة من فتاك حديث أهل جارتين لسنوات، هذا إن لم يكن قد صار حديثهم الآن بالفعل ...


قلت


إنها قصة كبيرة، سيأتي يوم ما لكتابتها ليقرأها كل أهل


چارتين ...


غمغمت مازحة وهي تقيس محيط صدري


- رامي المنصة تتزوج النسلي ليصير شريفاً .


قلت:


- إنه شريف حقا، ويستحق ذلك ...


ضحكت، ثم تساءلت:


- ولكن يوم الزفاف من سيقوم بدور الرامي لإعدام المذنبين ؟!!


قلت باسمة:


- سيكون هناك بديل عني حتما ، لن أقتل أحدهم بفستان زفافي...


قالت:


- إنك قوية حقا سأكون أول الحاضرين بالباحة يوم سيدني الغفران القادم ..


ثم انتهت وحملت أغراضها وهي تقول


سأعمل جاهدةً على الانتهاء من فستانك قبل يوم الغفران


بوقت كاف ...


ابتسمت وأنا أومن لها إيجاباً، وقلت:


- أتمنى ذلك ...


ثم غادرت، وجلست مع زين الذي ناقشني بطفولة عن زواجي من نديم، أخبرته أن نديم سيعيش معنا في بيتنا ابتداء من يوم الزفاف ففرح لذلك كثيرا قائلا بأن هناك من سيلعب معه أخيرا باليوم كله .. كان لا يزال طفلاً بريئًا لا يحمل ضغينة نحواً أي نسلي.


مرت الأيام تباعًا، التقيتُ خلالها بنديم مرة واحدة، كان متغيرا نوعا ما .. لكني حين سألته أخبرني أنه بخير، واستطرد مفسرا تغيره بأن اللحظة الفارقة قد اقتربت للغاية وهذا ما يجعل اضطرابه أمرًا طبيعيا، فوافقته


في ذلك اليوم توجهت وأنا عائدة إلى بيتي إلى بائع السكاكين. واشتريت خنجرًا ثمينا دون أن أخبره، وعندما عدت علقت ذلك الخنجر داخل حافظته بجوار فستان زفافي الذي أعدته السيدة سامرية بأحد أركان غرفتي، وتمنيت وأنا أنظر إليهما لو أن طبيبا تواجد بالباحة يومها ليعالج الجرح والألم الناتجين عن إزالة وشم نديم .. لكن أعرف حبيبي جيدا، لديه من قوة التحمل ما يجعله في


عدم حاجة إلى أي طبيب أو دواء .


كنت في انتظار يوم الغفران بفارغ الصبر، لا أعلم لما صارت الأيام


بطيئة إلى هذا الجد .. أيها الوقت الثقيل مر سريعًا في سلام، وانت بيوم الغفران الذي انتظرته تسع سنوات كاملة .. لكنه أتى لي بالفتى الذي لم أره منذ عامين تقريبا. ريان !! ... 


اندهشت عندما رأيته أمامي حين فتحت الباب، كان مضطربًا ومتوترا للغاية يبلل العرق نصفه العلوي الماري، فسألته في توجس 


حين رأيته يلهث 


- هل حدث خطب لنديم ؟!! 


قال الفتى 


- اعتقل سيدي للتو. 


اتسعت حدقتا عيني، وأنا أقول: 


-- ماذا تقول؟!! 


قال بلكنة سريعة خائفة 


- لقد اعتقل .. 


أدخلته إلى ردهة المنزل وجلست أمامه بعدما ترنحت وكأن أحدهم 


ضربني بفأسه على رأسي، ثم قال: 


كان سيدي يعاني منذ سنوات، لم يعرف أحد ذلك كانت روحه النسلية تثور كل ليلة تقريباً خاصةً في الأيام التي كان يتعرض فيها للإيذاء من شرفاء چارتين رأيته بعيني وهو يحاول تحجيمها، كان ينهك جسده من أجل إخمادها.... 


وتابع 


- كان جسده مليئًا بالجروح لهذا السبب ... 


جالت بعقلي الجروح الكثيرة والخدوش التي طالما رأيتها بيد نديم أو ذراعه أو كتفه، وتذكرت حديثه عنها دائما بأنها حوادث متفرقة نتيجة الحياة البدائية في وديان النسالي ... 


أردف الفتى وهو يبلع ريقه 


- منذ عام تقريباً، منذ عبوره عامه الرابع والعشرين وأخذ الأمر منحنى آخر، صار الأمر صعبا للغاية .. لم يكن أمامنا إلا تقييد سيدي بحبل سميك ليلا حتى تهدأ روحه ... 


- كان يقول لي أن روحه الأئمة ستُخمد يوما ما بعدما تؤمن تماما 


بأنه لا مجال لها، ويؤكد علي كل مرة بألا أخبر أحدًا بما يحدث له 


كنت أستمع إليه، وترتعش قدماي لا إراديا، وكأن غفران ضابطة المنصة الواثقة القوية قد عادت مجددًا إلى الطالبة الصغيرة الخائفة المرتبكة  


قال ريان 


- لقد كان يعاني كثيرًا كثيرًا للغاية .. كان لديه من الأمل ما يجعله يسعى للعبور إلى يوم الزواج، لكنه لم يستطع ...


ثم صمت قليلًا قبل أن يتابع:


- كان يختفي كثيرًا بالأيام الأخيرة، ووكل لي مهمة تعليم الطلبة لم أكن أعلم إلى أين يذهب لكنه كان يطمئنني أنه بخير بعدما فظننتُ أنه يُعدني لأكون من يخلفه بتعليم أبناء النسالي أو يأتي لرؤيتك في تلك الأوقات ... يعود


قلت:


- لم أره إلا مرة واحدة خلال هذا الشهر، ثم سألته:


- ماذا فعل ؟! .. لماذا اعتقل ؟!


قال: 


- قالت لي فتاة نسلية أنه كاد يقتل امرأة شريفة، يقترب عمرها من الخمسين لكن ضباط الأمن أمسكوا به قبل أن يقتلها ... 


وضعت رأسي بين ذراعي المسنودتين على الطاولة، ودارت السنوات الماضية جميعها برأسي، كل شيء سنوات الباحة .. المدرسة المتوسطة .. لقاءات المرج الشرقي .. كلماتنا ونحن نعد بعضنا بالوفاء بعهدنا حتى نتزوج، كل شيء مر في رأسي في ثوان، كما ضاع كل شيء في الثوان ذاتها .. أفقت مما كنتُ فيه على كلمات ريان: 


- عليك ان تساعديه، لقد عانى كثيرا ، لقد رأيت معاناته بعيني يبدو أقسم لك أنه كان يسعى جاهدا للوصول إلى هدفكما، لكن أنه لم يستطع التحمل كان الأمر يفوق قدرته ... طالما لم يقتل قد يمتلك فرصة للنجاة من الإعدام، إنني أعي القواعد جيدا .. إن قبلت بالزواج به يومها سيكرمه القاضي إكراما لك كشريفة .. لقد حان وقتك لتساعديه، أرجوك لا يتعلق الأمر بنديم فحسب، إنه يتعلق بنا جميعًا، أرجوك . زواجك منه في الموعد ذاته سيخمد روحه الأئمة، لن يفعلها ويرتكب أي جرم مرة أخرى ... وجثا على الأرض وهو يبكي كي يقبل قدمي، فأبعدتها سريعا .. 


كان داخلي مضطربًا إلى حد فقدان الزمان والمكان كل معانيهم. أظن أنني لم أفهم أي كلمة من كلماته التي قالها بعد ذلك حتى ... صارت الكلمات جميعها فجأةً لا تزيد عن همهمات تسمعها أذني ... كل ما فعلته أنني واصلت سكوني وجمودي في موضعي، حتى الدموع نفسها تحجرت في عيني وأبت أن تسقط، كان ثمة صوت فقط يعصف 


بداخلي: 


- لقد ارتكب نديم جريمته .. لقد ارتكب النسلي جريمته ... 


ظل ريان يتوسل إلي ويقول:


كان يعاني من أجل أن يكمل وعده إليك ...


بينما أنا كنت في عالم آخر منفصل، لا يستطيع أحد أن يعرف ماذا كنت أمر به ... صرت كالبناء الشاهق الذي انهار في ثانية واحدة ثم نهضت من موضعي هائمة واتجهت إلى غرفتي، وتركت ريان بالردهة وكأنه غير متواجد، وأغلقت الباب من خلفي وجلست على الأرض أسنده بظهري ورأسي .. كان فستان زفافي معلقا مكانه أمامي بجوار حافظة الخنجر، فلم أتمالك نفسي وأجهشت في البكاء.


لا


بكيت هذه المرة أكثر من أي مرة بكيتُ بها في حياتي، أكثر مما بكيت يوم رحيل أبي وأمي .. ثم أصابتني نوية من الصراخ والهياج حطمت بها كل ما هو قابل للكسر بغرفتي، حتى جرحت يدي وانسال 


الدم منها، فجلست مجددا أواصل بكائي ... 


سمعت طرقات ضعيفة على باب الغرفة، فقلت باكية: - لا تقلق يا زين إنني بخير .. دعني الآن فحسب . 


كان بصري ثابتاً على الفستان والخنجر المتدلي، لا يتحرك عنهما يمينا أو يسارًا .. وظللت في هذه الحالة إلى أن استيقظت فوجدتني على سريري، وحين حركت عيني جانبًا وجدتُ زين يجلس بجواري ومعه امرأتان من جيراننا .. أخبرتني إحداهما أنني فقدت وعيي، واستغاث بهما زين، وأن هناك طبيبا قد أتى وطمأنهم أنني بخير بعدما ضمد يدي المجروحة أخبرهم أنتى في حاجة إلى الراحة فحسب .. فهززت رأسي إيجابًا والدموع تتساقط على وجهي، ثم اغمضت عيني وتمنيت ألا أنهض مجددا أبدًا. داخل نفسي 


صارت الأيام الثقيلة البطيئة تركض فجأة وكأنها التحقت بسباق سرعة، لم أغادر غرفتي طوال تلك الأيام إلا من أجل إعداد الطعام لزين، قبل أن أعود سريعًا إليها لأنظر شاردةً إلى الفراغ أمامي .. ينقبض قلبي مع كل نهار يمر ليقرب يوم الغفران يوما كاملا .. تمنيت لو تمكنت من الذهاب إليه لكني لم أستطع .. ليس مسموحا لأحد بزيارة المساجين من النسالى، وإن كان ضابطًا للأمن .. كان ذلك أمرًا قضائي لا نقاش فيه. 


ومع سرعة الأيام الرهيبة التي فاقت إدراكي، حلّ صباح يوم الغفران .. كنتُ أعلم أن خبر زواجي هذا اليوم قد انتشر بالأرجاء وخاصةً بعدما أخبرتُ بديلي يوم الغفران السابق بالاستعداد ليحل محلي كرام للمنصة لإعدام المذنبين بعد زفافي .. لا يعلمون أن كل انتهي .. شيء قد


وقفت بغرفتي أمام فستان الزفاف والخنجر المعلقين، وأنا أتذكر حديث ريان بأنني الأمل الوحيد لنجاة نديم، ومن ثم نجاة النسالي من بعده .. ثم تخللت تفكيري كلمات أمي، النسالي خائنون .. لن تكف الروح عن آثامها أبدا، واخترقت كلماتها أذني


- لن يحمل نسلنا العار أبدا ...


التتداخل مع كلمات ريان - لا يتعلق الأمر بنديم فحسب، إنه يتعلق بنا جميعا ... 


تداخلت معهما كلمات نديم 


- وماذا إن لم أف بوعدي ؟ 


الأسمع صوتي : 


- سأقتلك بالخنجر ذاته وقتها ... 


عاد صوت ريان من جديد 


- إنه يتعلق بنا جميعا .. أرجوك، عليك أن تساعديه ... 


أسكته صوت أمي: 


- النسالي خائنون، سيحمل أطفالك الروح النسلية .. سيحملون العار .. لن يغفروا لك ذلك أبدا ... 


عاد صوت نديم 


- سأفعلها من أجلك .. لن أرتكب أي جريمة حتى موعد زواجنا.. 


صوت أمي مجددا: 


- النسالي خائنون 


صوت ريان 


- إنك الأمل الوحيد لنديم ولنا. .. 


صوت أمي: 


إنهم خائنون ... 


صوت نديم 


- للأبد. 


صوت الظابط الذي . أمانه أمامي - خائنون .. 


- سيأتي يوم تفعلين بهم أقسى مما فعلت ...


صوت نديم


من أجلك ...


صوت أمي:


صوت ريان


- من أجلنا جميعا .


أصوات متداخلة لم تتوقف عن الصراخ في عقلي كأنني أصبتُ بالجنون .. حتى أمسكت برأسي، وجلست على سريري أنظر إلى الأرض أمامي في غير تركيز، ثم رفعت عيني إلى الفستان والخنجر أمامي، واتخذت قراري الذي اطمأن إليه داخلي ... 


--


كانت الباحة ممتلئة عن آخرها ذلك النهار عندما وصلت إلى بوابتها الشمالية المخصصة للقضاة وضباط الأمن، كنتُ قد تأخرت قليلا حتى أن العروض الترفيهية كانت قد انتهت، ثم مكثت في مكان خلف المنصة الخشبية دون أن أظهر لأحد ... متوار


كانت أريد مزيداً من الوقت لتمالك نفسي بعدما شعرت بإضطراب شديد كان الأصعب في حياتي على الإطلاق، ثم عقد الزواج الأول ومثل الحاضرون .. بعده. عقد الزواج الثاني وهللوا مرة أخرى. قبل أن يعلن القاضي عن انتهاء زيجات اليوم وبدء المحاكمات لتبدأ همهمات الجمهور بعدما توقعوا أن هناك زواجا سيتم بيني وبين نديم ذلك اليوم، ثم بلغت الهمهمات ذروتها بعدما صعدت السلم الخلفي للمنصة لأقف أمامهم بثوبي العسكري الكامل ...


حتى أن بديلي الذي كان يعد نفسه للقيام بمهامي نظر إلي هو الآخر في تعجب بالغ، فهززت له رأسي إيجابا بأنني جاهزة للعمل، ثم تحركت إلى منتصف المنصة وسط الهمهمات المتواصلة إلى أن وقمت بمكاني، وألقيتُ التحية العسكرية للقاضي، قبل أن ألتف وأواجه


الجمهور المحتشد ...


ثم تحدث القاضي بكلمات لم تختلف كثيرا عن همهمات الجمهور بالنسبة لي .. بعدها جُر المذنب الأول مكبل اليدين ومغطى الرأس من خلفي، فازدادت الهمهمات إلى حد غير مسبوق، فعلمت أن غطاء الرأس قد نزع وظهر رأس نديم .. وكأن جسدي قد تناثر لأجزاء احتاجت إلى من يلملمها ويعيدها متلاصقة كما كانت وقفت متسمرة مكاني أخشى أن ألتفت إليه .. ثم صدر أمر القاضي إلي بإطلاق الرصاص، وقتها سكنت الهمهمات لأستدير إليه، كان واقفا مرهقا مكبلا عاري الصدر .. تقول عيناه التي كانت تنظر في عيني مباشرة 


- أنقذيني .. 


فوجدت نفسي أرفع سلاحي الناري بمستوى بصري وقتها هز رأسه والدموع تلتمع في عينيه لتدور برأسي كلماتنا سويًا قبلتها لي بالباحة تعلقه بالقائم الجانبي للباحة التختة الخشبية والمحادثات المكتوبة. اسمي المنقوش، وكلمة للأبد».. لأجد يدي تنخفض مجددا لتسقط السلاح الناري على أرض المنصة الخشبية، فاشتعلت الهمهمات مرة أخرى وأنا أقترب خطوات منه، إلى أن وقفت على بعد خطوة واحدة منه، فقال ودموعه تتساقط 


- حاولت كثيرًا، أقسم أنني حاولت كثيرًا من أجلك . 


.. 


كنت أنظر إليه والدموع تتجمع بعيني .. قال: 


- لن أفعلها مجدداً .. أقسم لك . 


لم أنطق .. فتابع 


أكن هناك شيء ما تحرك بداخلي دون أن أعي، لم أنا .. أعطيني فرصة واحدة أخرى فحسب .. أقسم لك 


سأحافظ على وعدي ... 


كنت أنظر إلى الأرض بينما هو يتوسل إلي بكلماته ثم رفعت عيني، وقلت وأنا أنظر في عينيه:


- من يخون مرة .. يخون كل مرة ...


ثم أخرجتُ خنجري الذي ظل معلقًا لأيام بجوار فستان زفافي وبضربة واحدة حاسمة شققت عنقه لتتناثر دماؤه الدافئة علي وعلى


أرض المنصة ... 


سكون تام .. لا همهمات لا همسات لا أصوات، لا شيء .. أفواه مفتوحة دون كلمات وعيون مذهولة تنظر جميعها إلى وأنا أستدير نحوهم بعدما سكنت جثة نديم الغارقة في دمائها تماما عن الحركة ... لأنظر إليهم وإلى الباحة .. كانت المرة الأولى التي أمعن فيها النظر إلى الباحة من ذلك المستوى المرتفع. 


ثم نظرتُ إلى القاضي بجواري والذي لم تختلف دهشته عن غيره من الحاضرين، ونظرتُ إلى سلاحي الناري الملقى على الأرض وعلقت به نظري لثوان في شرود تام ، ثم وجدتني أخلع حزامي الجلدي المحيط بخصري لألقي به على الأرض بجواره .. ثم ألقيت بخنجري بجوارهما ... ثم فككتُ أزرار سترتي العسكرية التي تحمل شارتي وخلعتها، ثم وضعتها بجوارهم، قبل أن أهبط السلم الخشبي المواجه للمحتشدين. 


وكأن أذني قد صُمت عن العالم المحيط بي لم أسمع إلا وقع أصوات خطواتي المتباطئة على خشب السلم يتقاطع مع صوت دقات قلبي وأنفاسي .. لأسير هائمة بين المحتشدين الذين أفسحوا مسارا لي .. لأبتعد أكثر وأكثر عن المنصة، لا تعي أذني كلمةً واحدة مما يُقال من حولي، حتى ارتطمتُ بأحدهم وسقطت على الأرض، وقتها أفقت لحظيا من شرودي لأدرك شيئًا واحدًا .. لم تُطلق أي زغرودة بعد مقتل ندیم، تساقطت دموعي على وجهي وأنا أنهض بعدما مد أحد الرجال يده لمساعدتي، ثم أكملتُ طريقي إلى البوابة الجنوبية للباحة لأغادرها إلى الأبد. 



*********************************************************  

 الفصل التاسع عشر


لم يختلف الحال كثيرا في أيامنا ببحر . أكما». عن أيامنا العشر التي قضيناها بطريقنا في صحراء بني عيسى. تحركت بنا السفينة ية اتجاه الجنوب، وعلى متنها أويتُ أنا وصديق إلى غرفة ضيقة كانت مخصصة للمسافرين الرجال، بينما انفصلت ديما عنا وانضمت إلى غرفة أخرى حصصت للنساء ... 


 كنا نلتقي أثناء النهار في بعض الأيام أتأكد خلالها من تناول ديما أعشابي في مواعيدها، ونفترق أثناء الليل، غير أن عقلي لم يتوقف قط عن التفكير في ذلك الحديث الذي دار أمامي بين مالك السفينة وديما قبيل صمودنا السفينة .. ولما اشتد الضجيج برأسي لم أجد إلا أن أسأل صديق قبل أن يغمض عينه لينام عن صحة ما سمعته وهو شبه نائم ، فأجابني 


 نعم، إنه صحيح ... تُباع أطفال نسالي چارتين بأسعار باهظة الثمن خارج چارتين ستجني ديما الكثير من الذهب مقابل 


 طفلها يرغب الكثيرون من قطاع الطرق والمجرمين واللصوص في شراء هؤلاء الأطفال .. يدفع فيه اليوم كيسا من الذهب، ويجني بعد سنوات قليلة أضعافا مضاعفة للسعر الذي دفعه أكدت السنوات أنهم الأكثر موهبة في ارتكاب الجرائم، وبقاؤهم داخل چارتين إهدار لثروة لا يعلم قيمتها إلا لصوص البلدان الأخرى .. 


 قلت: 


 - لا أستطيع أن أتخيل أن تبيع أم ابنها .. 


 قال: 


 - إنهن حاملات للعار، وحامل العار على استعداد لفعل أي شيء .. يبيعون أنفسهم من أجل المال فما بالك بأطفال ناتجين عن الخطيئة سيموتون سيموتون يوما ما، لا تشغل بالك بالأمر، لقد نلت أجرًا مقابل عمل لك، افعل ما عليك، وبعدها عد إلى 


 بلدك سالما 


 هززت رأسي، ونظرتُ إلى سقف الغرفة الخشبي وأغمضت عيني... 


 خلال الأيام المتبقية لم أفتح نقاشًا عن ذلك الأمر مرة أخرى سواء مع صديق أو مع ديما، وشغلت نهاري بنقاشات أخرى مع أشخاص كانوا معنا على متن السفينة. تأكدت من خلالها أن ما أخبرتني به ديما عن جارتين وقواعدها واقع تماما يفصلني عن رؤيته بعيني أيام قليلة 


في اليوم التاسع عشر ظهر أمام عيني جدار چارتين العظيم، كان جدارا رهيبا أبحرنا على مقربة منه، قال البحار وأنا أقف بجواره 


 - يتحمل هذا الجدار عب، حماية جارتين لقرون طويلة ... 


 كان الموج هائجا للغاية في تلك الأثناء، فأبطأت السفينة من سرعتها وزاد نشاط البحارة على سطحها، وهبط معظم الركاب إلى الغرف السفلية بينما بقيتُ على سطح السفينة مع البحارة وساعدتهم في نزح المياه التي كادت تصل إلى مستوى ركبتي ... 


 ظللنا نسير بمحاذاة الجدار يومًا كاملًا وبضعة ساعات .. حتى وصلنا مع غروب شمس اليوم العشرين إلى مرفأ جنوبي كان يقع بقرية صغيرة تظهر من خلفها سلسلة جبلية تبتعد قليلاً عن نهاية الجدار. أخبرتنا ديما بأنها تُسمى الجبال الحمراء، ثم رست السفينة، وقامت ديما بتمزيق كُم فستانها الأيسر ليظهر وشم أزرق منقوش على كتفها. أدركت أنه وشم النسائي ... 


 -- 


 سارت بنا عربة صديق في طريق رملي امتد في اتجاه الشمال، ثم ظهر برزخ النهر الجاف فقالت ديما ونحن نسير بمحازاته 


 - أهلا بك في جارتين ... 


 بعدها حل الليل فقررت أن نعسكر ليلتنا في مكاننا، على أن نواصل 


 تحركنا مع طلوع الشمس نحو باحة جويدا ... 


 في صباح اليوم التالي أكملت بنا العربة طريقها تجاه الشمال كنت أشعر بالاشمئزاز يتنامى بداخلي تجاه ديما كلّما تذكرتُ أمر بيعها لطفلها المنتظر لكني أثرتُ أن أبقى صامتا .. حتى وصلت بنا العربة إلى الباحة المنشودة وهناك أصابني الذهول كليا بعدما رأيتُ يعيني احتشاد عشرات الآلاف داخل سور ذلك المكان في الساعات الأولى من الصباح ... 


أخبرنا صديق أنه سيبقى بعربته، فغادرت أنا وديما ودلفنا من البوابة القريبة من ساحة العربات واتخذنا مكانا بجنوب الباحة، كان الكثيرون يتحدثون من حولي أثناء العروض الأولى للفرقة الموسيقية عن زواج سيدة المنصة أو راميها كما قال بعضهم من شاب نسلي .. ثم نادتني ديما كي نتحرك خطوات إلى الأمام مع بدء الزيجات، لاحظت أن أهل چارتين لم يعطوا اهتمامًا كبيرًا للزيجة الأولى ولا الثانية .. 


يدا أن تركيزهم كله كان منصبا على الزواج المنتظر، لكني رأيتُ خيبة الأمل على وجوهم بعدما انتهى زواجان ولم تكن هناك زيجة ثالثة، في ذلك التوقيت التفت حولي فلم أجد ديما، فضربت رأسي مونيا نفسي بعدما وضعت تركيزي مع تعبيرات الوجوه من حولي ولم أنتبه إلى ديما التي تحركت من جواري دون أن تخبرني .. 


فارتقيت برأسي كي أبحث عنها ، ثم خطوت خطوات للأمام لكني لم أجدها، وتوقفت مكاني بعدما لم يسمح لي ! أحد بالتقدم خطوات أخرى ... ثم انتبهت مرة أخرى إلى المنصة حين زادت الهمهمات عندما صعدت المنصة امرأة ذات زي عسكري، قالت امرأة بجانبي في دهشة 


إنها هي . السيدة غفران ... 


 .. تمنيت داخل نفسي لو أمتلك الثقة التي بدت على وجه تلك السيدة. كانت تقف أمامنا بثبات بالغ يتدلى سلاحها الناري من حزام خصرها تنظر أمامها دون أن تلتقي عيناها بأحد من الجمهور المحتشد أمامها، وينتصب كتفاها العريضان لتقول أنها الأكثر قوة في تلك الباحة ... 


 ثم جرّ جنديان رجلًا مُكبلًا مُغطى الرأس ليقف خلفها مباشرة. ثم نزع أحدهما غطاء رأسه، فازدادت الهمهمات من حولي، وسمعتُ رجلا يصيح: 


 - إنه هو .. عريسها النسلي .. 


 فبلغت الهمهمات أقصاها ، وبدأ الحاضرون يقفون على أطراف أقدامهم ويتدافعون ليشاهدوا ما يحدث أمامنا، ووقفت أنا الآخر على أطراف أصابعي لأنظر إلى تلك السيدة على المنصة ومن خلفها الشاب المكبّل ، وتخيّل عقلي قصة حب عظيمة بين ذلك الثنائي انتهت بخيانة أحدهما للآخر ليكتب مشهد النهاية أمامنا . 


 لم يأخذ الأمر دقائق بعدها التفتت السيدة بثباتها المدهش إلى رجل أربعيني وقور كان على يسار المنصة قبل أن تلتف نحو الشاب المكبل ل، وقتها فقط صمتت الهمهمات من حولي، وتطلعت الأعين في انتباه شديد إلى المنصة ... 


 لكننا فوجئنا بها تلقي بسلاحها بعدما كادت تطلق النار تجاهه، قبل أن تقترب منه لتُخرج خنجرًا أو سكينًا وتشق رقبته .. ثم استدارت 


بهدوء فالتفت . . وألقت بثوبها العسكري وخنجرها بجانب سلاحها، وهبطت سلم المنصة المواجه لنا لتختفي عن عيني حولي لأبحث عن ديما، وبدأتُ أنادي بصوت مرتفع علها تسمعني، غير أن الأصوات المرتفعة لضجيج الناس قد حالت دون ذلك. 


 أحد الأشخاص من فاستدرت وعدتُ خطوات إلى الخلف، وواصلت ندائي بصوت أكثر ارتفاعا، لكني توقفت فجأة حين اصطدم بي أ الخلف، والتفتُ نحوه وأنا أتفادى السقوط، فوجدتها المرأة ذاتها التي كانت تقف على المنصة .. السيدة غفران .. والتي سقطت من أثر . فمددت لها يدي، وساعدتها على النهوض، نظرت في عيني للحظة واحدة، رأيتُ عينها تلتمع بالدموع لأشعر وقتها أن القوة أظهرتها أمامنا على المنصة قد انهارت لتوها، واستحالت إلى الارتطام بي التي ضعف شديد سينخر بقوة داخل تلك السيدة ... 


 نهضت وأكملت طريقها مبتعدة عني بين المتزاحمين الذين أفسحوا لها الطريق .. شرد تفكيري قليلًا وأنا أتابع ابتعادها، قبل أن يفكر عقلي مجدداً بديما التي اختفت، والزغرودة التي لم أسمعها ... وهذا ما كان يعني أمرًا واحدًا، وهو بقائي في هذا البلد شهرا آخر حتى يوم الغفران القادم لينال جنين ديما فرصةً أخرى، وهذا ما لم أرده أن يحدث على الإطلاق، وواصلت ندائي من جديد .. ثم هدأت الهمهمات من حولنا بعد مغادرة ضابطة الأمن الباحة، لتظهر جلبةٌ جديدة على بعد أمتار عن يساري، وسمعت أذني من تصرخ بكلمة طبيب، تحركت بصعوبة تجاه الصوت، وقلت لشخص يقف في طريقي 


 ولا يريد أن يتحرك 



- إنني طبيب .. 


 قال بعدم اكتراث 


 - إنها تسلية .. دعها تموت ... 


 لكنني اجتزته، وواصلت طريقي بصعوبة بين الأجساد المتلاصقة، حتى اقتربت من صوت الصراخ كان لامرأة بدا أنها تجلس على الأرض كانت تصرخ بدون توقف 


 - نريد طبيبا ... 


 حاولت بمشقة بالغة تخطي الدائرة التي تحيط بها حتى عبرتهم، وكدت أقول لها أنني طبيب، فوجدتها فتاة يظهر وشم النسالي على كتفها، تجلس على ركبتيها وبجوارها ديما نائمة على الأرض فاقدة وعيها، فأدركتُ أن نوبة الصرع قد أصابتها، فجثوتُ على ركبتي سريعا وفحصت علاماتها الحيوية، وتأكدت أن مجرى تنفسها على ما يرام، فهدأت من روع الفتاة الخائفة ... 


 ثم بدأت في إفاقتها عن طريق إصابتها بألم بالغ، وأخذتُ أضغط بإبهامي أسفل حاجبها ضغطات شديدة وسط تعجب المحيطين بي لكنهم هدأوا حين وجدوها ترفع يديها لتبعد يدي الضاغطة عن حاجبها ، فواصلت ضغطاتي حتى فتحت عينيها، فأبعدت يدي، ظلت لثوان تنظر إلي دون تركيز كأنها تستوعب ما حدث، ثم أنهضتها الفتاة لتجلس، كانت لا تزال تنظر نحوي، فقلتُ: 


- لقد فقدتك بين الجمهور وبحثت عنك كثيرًا ... فهمست لي بصوت متعب للغاية - لقد شعرت به في بطني، لقد تحرك جنيني  


*********************************************************  

 الفصل العشرون


أخرجت سماعتي الطبية على الفور عندما قالت ديما أنها شعرت بحركة جنينها، وبدأتُ أفحص بطنها متجاهلا الأصوات الصاخبة من حولي، فاتسعت حدقتا عيني حين سمعت أذناي نبضات قلبية تدق الدقات القلبية التي طالما اعتدت سماعها لأجنة النساء الحوامل، فنظرت في عينها وقلت غير مصدق بمعدل سريع كانت هي 


 إن قلبه يدق بالفعل 


 فوضعت سبابتها أمام فمها المغلق في إشارة لي كي أسكت، ثم اقتربت برأسها مني وهمست لي بصوت حذر 


 - هيا بنا لنغادر الباحة . 


 غادرنا الباحة في الوقت الذي كان يُنفذ به إعدام آخر على المنصة. وواصلنا طريقنا إلى عربة صديق، وحين أصبحنا على بعد أمتار منه توقفت ديما وقالت لي متعبة:


 ستغادر چارتين مع أول سفينة متجهة إلى الشمال ...


 أومأت برأسي إيجابا ، ثم قلت:


 - متي ترحل تلك السفينة؟


 قالت


 - أخبرني مالك السفينة أنه قد يمكث سبعة أيام حتى يجمع 


 عددا من المسافرين ... 


 تساءلت: 


 - وأين سنقضي أيامنا السبع؟ 


 قالت 


 - بالوادي الذي نشأت به ... 


 ثم تابعت بجدية كبيرة 


 - لا تخبر أحدا هناك مهما يكن أن جنيني قد نال روح ذلك 


 المعدوم ... 


 قلت متعجبا: 


 - لماذا؟! 


 قالت: 


- إنني أعرف صاحب هذه الروح جيدا، كان يحبه الكثيرون .. إن علموا أن طفلي يمتلك روحه لن يتركونني أرحل لأبيعه .. دعهم يظنون أن روحه ارتاحت للأبد .. 


قلت: 


- وماذا عن الفتاة التي كانت تصرخ بجوارك؟ قالت وتابعت: - حتى صديق لا تخبره .. سأخبره بعدما نغادر چارتين ... قلت: 


- أظن أنها لم تسمعني وأنا أخبرك ...


- حسنا ..


ثم اقتربنا من صديق الذي غادر بنا عبر طريق ترابي أخبرته ديما بأن ينطلق به ...


في وادي النسالى كان كل شيء مختلفًا تماما عن المدينة، بدلا من البيوت الفخمة المتلاصقة التي تراصت في الأفق على ضفتي النهر الجاف كان هناك ثمة أكواخ خشبية وطينية مُسفّفة . أشجار بفروع


وأعشاب جافة .. لم تدخل إلى الوادي بل طلبت ديما من صديق أن يتوقف على مقربة من كوخ متهالك بمشارقه، وقالت وهي تشير إليه:


 إنه كوخنا .. تربيت هنا مع أخي ريان ..


 لكنا حين دلفنا إلى هناك لم نجد أحدًا، وبقينا حتى حل الليل سمه عاد ذلك الفتى اليافع، والذي بدا على وجهه البائس أن الدنيا قد انتهت بالنسبة له ...


 ما إن رأى ديما حتى أصابه الذهول،


 لم احتضنها وهو يقول باكيا:


 لقد . أعدم سيدي اليوم ...


 فقالت وهي تنظر نحوي


 - نعم أعرف ...


 ولم لنطق بكلمة أخرى بعدما اشتد بكاء الفتي، قبل أن تقول جنت إلى الباحة كي أنال روحًا لجنيني .. لكني لم أحظ بشيء اليوم ....


 قال الفتى وهو ينشج


 كان سيدي يمتلك روحا بريئة.


 هزت رأسها وقالت في مكر


- نعم ..


 تابع الفتى


 - قمنا بدفن جثته على مقربة من أشجار الوادي ...


 أخبرتني ديما في وقت سابق أن النسالي يحق لهم دفن أجساد موتاهم المعدومين إن أرادوا ذلك ...


 ثم قالت لأخيها باقتضاب:


 - سأغادر بعد أيام على أن أعود . . بعد شهرين ..


 سألها :


 - ولم تغادرين؟!


 قالت:


 - لم يعد هذا المكان مكاني، وما زال لدي أربعة أشهر كاملة قبل 


 مولد الطفل ... 


 فقال الفتى في غير اكتراث 


 - كما تشائين .. 


 كان الحزن البادي على وجهه عظيما، لكني لم أمتلك وقتا للتفكير في ذلك الأمر بعدما أصيبت ديما بنوبة صرع مفاجئة ارتمت معها على الأرض وبدأت تتشنج بقوة، فأسرعت نحوها وأخرجت من حقيبتي أسطوانة صغيرة مرنة ووضعتها بين فكيها كي أحمي مجرى تنفسها ولسانها .. ثم أبعدت عنها كل شيء قد يجرحها، وتركتها كي تهدأ ... كانت تلك النوبة هي الثانية خلال يوم واحد، أخذت التشنجات فترة قصيرة من الوقت حتى توقفت تماما، بعدها تركتها نائمة لساعة تقريبا قبل أن أعطيها جرعة من أدويتي، ثم تركتها تخلد للنوم من جديد .. وغادرت الكوخ لأجلس مع ريان الذي كان يجلس أمام بابه ينظر إلى السماء بعينين دامعتين في صمت شديد، قال بعد لحظات من جلوسي بجواره كان من المفترض أن يكون مرسه اليوم ... فهمت أنه يقصد الشاب المعدوم، فقلت: - سمعت ذلك أثناء وجودنا بالباحة ... 


 قال: 


 عروسه من قتلته هناك ... 


 وتابع: 


 - لم يعش كالنسالى، ومات مثلهم .. لا أعلم ماذا حدث له كي يرتكب جريمته .. لكني متيقن أنهم استفزوه بكافة الطرق كي يخطئ، كان عليه أن يبقى بالوادي لا يغادره حتى يوم الزواج .. أخبرته بذلك مراراً، لم يكن ليسمحوا له أن يتزوج شريفة بهذه السهولة ..


 ثم هدأ صوته وقال:


كان إثمه الحقيقي أنه نشأ حالما .


وأخرج زفيره وهو يقول:


- ليس للحالمين مأوى غير السجون أو الجنون ...


قلت: 


- في البلاد الظالمة فقط يا صديقي ... هز رأسه، ثم التقط حجرًا صغيرًا وألقاه بعيدا أمامه في غضب 


.. وقال 


انتهى كل شيء بعدما قتل على المنصة، لن يكمل أي نسلي ما بدأه قبل سنوات .. عرف كل منا مصيره الحتمي ... .. أينما تأخذنا الحياة لا مفر لنا من قواعد جارتين ... 


ثم نهض ودلف إلى داخل الكوخ ، وبقيت جالسًا بمفردي أفكر في تلك السيدة التي قتلت النسلي قبل أن تترك كل شيء وتغادر الباحة ثم انشغل بالي بنوبات ديما التي بدأت تتزايد في معدلها بعد وصولنا چارتين .. 


في الأيام الثلاثة التالية تكررت نوبات الصرع أكثر من مرتين أو ثلاثة في اليوم، ومع كل مرة كانت مدة التشنجات تزداد عن المرة التي سبقتها، وصرت في حيرة بالغة بين تفكيري بزيادة الجرعات المحددة وبين تأثير تلك الجرعات الزائدة على الجنين، فاستقر بي الأمر إلى ترك الجرعات كما . على أن أعتني بها جيدا ... هي 


ما كان يقلقني حقا هي الرحلة الشاقة التي تنتظرنا عبر أمواج أكما إلى الشمال مع أي سقوط قوي مفاجئ لها قد يكلفها حياة ذلك الجنين، وبين مياه البحر الهائج لن يكون لنا حول ولا قوة .. قد لفت إليها فجر اليوم الرابع، وقلت وأنا أناولها جرعة من دوائها : بحر 


- ربما من الأفضل أن ننتظر في چارتين حتى تستقر حالتك أو تلدين مولودك هنا، رحلتنا على السفينة مع اشتداد مرضك إلى هذا الحد قد يكلفنا حياة طفلك ... 


قالت: 


- لا بد وأن نغادر مع أقرب سفينة راحلة


قلت:


- إنها مجازفة حقيقة .


قالت:


- لا تعلم الجحيم الذي يعيشه كل نسلي ونسلية هنا، إن بقينا سيأتي أي شريف ذات يوم ويطالبني بأن أمارس الرذيلة معه وإن رفضت قد يتهمني بأي شيء وأقدّم إلى منصة جارتين .


حينذاك سيموت سيموت ...


قلت: 


- قد تختفين حتى تتحسن أحوالك .. 


قالت: 


لقد رأتني الكثيرات، سير شحنني للأشراف مقابل قطعة من الفضة .. سيرغبون بي ظنا منهم أنني تعلمتُ أساليب الرذيلة المختلفة من الغجر .. لا مفر لنجاة طفلي غير الرحيل ... 


فلم أجد إلا أن أوافق رأيها، وغادرت الكوخ كان صديق لا يزال نائما فوق عربته، بينما لم أجد ريان .. فدسست كيس نقودي بإحدى الحقائب على العربة دون أن يشعر بي صديق .. خشية أن يسطو على أحد النسالي بعدما عزمت على التجوال بالجوار قليلا قبل اشتداد حرارة الشمس، ثم صعدت مرتفعًا رمليًا ، وجلست مقرفصًا أنظر إلى الوادي الذي ظهر هو وأكواخه من أسفلي .. ثم انقشع ضباب الصباح شيئًا فشيئًا فظهرت مباني جويدا بعيدًا .. من يصدق أن هذه الأكوان وتلك المباني تُسمى بلدا واحدا ؟! 


ثم نظرتُ إلى جانب آخر، كانت هناك أشجار متناثرة بين أكوام رملية ترتفع قليلا عن الأرض، فتذكرتُ ريان عندما قال قبل أربعة أيام أنهم قد دفنوا جثمان سيده، فنهضت من جلستي ووجدتني أتجه إلى هناك .. ولما اقتربت حرصت ألا تحتك قدمي بأي كومة من الأكوام التي تراصت على مسافات متساوية ... 


ثم توقفت فجأة، وتواريتُ بجسدي خلف شجرة قصيرة حين رأيتُ سيدة تجلس أمام كومة رطبة بصف بعيد، لم تكن ثيابها مثل ثياب النسليات اللاتي رأيتهن منذ قدومي إلى الوادي .. فحاولت ألا أصدر أي صوت بعدما ظننتُ أنها سيدة المنصة التي قتلت نديم .. حتى 


رأيتها تلتفت إلى أحد جانبيها ليظهر وجهها.


كانت سيدة أخرى يقترب عمرها من الخمسين .. يخطّ الشيب قليلًا في رأسها كانت عيناها دامعتين وأنفها محمرًا، فمددت رأسي أرى ملامحها بصورة أوضح، فالتفتت نحوي فجأة حين صدر صوت عشب جاف تحطم أسفل حذائي، وظهر الذعر على وجهها وهبت واقفة في فزع شديد .. فاقتربت منها ، فقالت خائفة: كي 


 لا تؤذني .. 


 فرفعت لها يدي كي تطمئن، وقلت: 


 - لست نسليًا . .. لا تقلقي .. 


 وكدت أسألها عن سبب تواجدها أمام ذلك القبر، لكنها لم تمهلني أي وقت، وغادرت مهرولة إلى عربة صغيرة كانت تتوارى خلف شجرتين، وأسرعت بحصانها مبتعدة عني وعن مقابر النسالي. 


*********************************************************  

 الفصل الواحد و العشرون


كما كان متوقعا، صدر قرار بإيقافي عن العمل كرام للمنصة بعد مخالفتي قواعد الإعدام واستخدامي الخنجر بدلا من السلاح الناري. على أي حال لم أكن لأعود إلى الباحة مرة أخرى، يكفيني سنواتي الماضية بها وما حدث لي خلالها .. إلا أن أيامي التالية ليوم الغفران المشئوم كانت صعبة للغاية ... 


 لم النوم دوت أغادر بيتنا بعد ذلك اليوم، صار الأرق صديقي، ولازمتني الكوابيس كل دقيقة أنامها، استعنت بأعشاب مهدئة وصفتها إحدى الطبيبات لأمي قديمًا ، لكنها لم تجد نفعا .. كلما حاولت صرخات نديم بكل جانب برأسي؛ أنقذيني .. لأصحو على الفور. وأنظر إلى صورتي في المرآة .. لم أكن أرى إلا امرأة قاسية تنظر نحوي في جمود، فأحدثها في توتر كأنني مذنبة تلتمس البراءة لنفسها: 


 - هو من خان الوعد .. وعدني ألا يرتكب جريمة ... 


 فتصرخ صورتي بصوته المتوسل يوم الغفران 


- لم أكن أنا ... 


أصرخ إلى صورتي في خوف 


- لم أكن لأضحي بأطفالي من بعدي ... تصرخ الصورة مجددا بصوته 


- أنقذيني .. 


أتناول مزيدا من أعشابي المهدئة وأحاول أن أنام مجددا .. أعود إلى الباحة في أحلامي .. همهمات الحاضرين، عيون النسالي المترقبة أعلى المنصة ومن خلفها يجثو نديم على ركبتيه مكبلا طعنة بالخنجر تشق عنقه، تتناثر الدماء بكل مكان ليسقط صريعا .. بينما أقف بين الحاضرين أ لحلمهم، تقف نسخة ، مني أشاهد ما يحدث 


أنظر جانبًا بعيدا فأرى نديم الطفل يشاهد ما يحدث من أعلى القائم الجانبي بالباحة، ثم يسقط متهاويًا ببطء شديد وهو ينظر نحو طفلة في الثامنة يحملها أبوها على كتفه .. تنظر إليه وهو يهوى دون أن تحرك ساكنا حتى سقط جثة هامدة، قبل أن تلتفت إلى المنصة وتواصل تصفيقها إلى الفرقة الفكاهية التي انتهت من عروضها للتو .. نظرت في أعينها فنظرت في عيني بقوة .. لم تكن إلا أنا . 


أفتح عيني خوفًا لأنهي ذلك الكابوس، وأنظر إلى سقف غرفتي بأنفاس متسارعة، تتثاقل جفوني من جديد بتأثير الأعشاب .. أعود إلى المدرسة المتوسطة، أرتدي الفستان السماوي القصير الذي قابلت به نديم للمرة الأولى . 


. أكمل أسير أمام بوابة المدرسة متجهة نحو أبي الذي كان ينتظرني بعربته، يقف نديم طالب مدرسة الفتيان جانبا يحاول أن يلوح لي ... يتلقى طعنة مفاجئة تشق رقبته .. يحاول أن يستغيث بي ... طريقي إلى أبي وأنا أنظر إلى دمائه السائلة دون اكتراث، يصرخ إلي بحشرجة؛ أنقذيني ... أكمل طريقي إلى أبي .. يسقط جثة هامدة ... أضحك إلى أبي وكأن شيئًا لم يحدث .. تزداد ضحكاتي ... 


 العيون جميعها تتجه نحوي .. يشيرون بأيديهم إلي .. لم يكونوا طلبة .. كانوا نسالى حاملين كتبهم .. يلقون بكتبهم ويشيرون إلى خنجر ظهر بيدي فجأة .. يقتربون مني كالحيوانات المفترسة ... أصوات أنفاسهم متعالية للغاية .. لا كانت أنفاسي أنا .. أصرخ إلى أبي .. اختفى أبي .. صرت وحيدة .. أنظر إلى جثة نديم .. أصرخ إليه أنقذني منهم .. يقتربون مني .. يسقط الخنجر من يدي .. .. يهم أحدهم بالإمساك بفستاني .. ينتزعه .. أفتح عيني، التقط أنفاسي بصعوبة، أنظر إلى السقف مجددا .. ألوم يقتربون أكثر نفسي بأنني تناولت تلك الأعشاب .. 


 أغمض عيني لا إراديًا من جديد .. عروس في ثوب الزفاف ألقي بالورد نحو المحتشدين، ثم أمسك بخنجري .. أقربه من صدر نديم العاري .. أحاول أن أزيل الوشم بنصله الحاد .. تظهر تعبيرات الألم على وجهه .. يصيح الواقفون من النسالى إليه كي يحتمل .. أضحك إليهم وأغمز له بعيني كي يستمع إليهم .. يضحك ويخبرني بأن أكمل ... تظهر أمي فجأة على المنصة وهي ترتدي ثوب كبير القضاة . وتصرخ بنا: 


لن يتم هذا الزواج .. إنك شريفة وهو قاتل .. أراد قتل 


أحدهم... 


قلت لها : 


- أراد قتل من؟ 


قالت: 


- لا أعلم .. أحدهم فحسب .. هل تشككين بقضائنا ؟! اصمت أيها الخائن ... ينطق صوت آخر بجواري 


نظرت إليها صامتة .. إن قضاء حارتين الأكثر عدالة، لن يُظلم نديم أبدا .. يصرخ إلي نديم وهو يجثو على ركبتيه: 


- لا أتذكر شيئًا لستُ أنا .. حافظت على العهد الذي بيننا ... 


أصرخ به 


.. أطيح برقبته بالخنجر ... تسيل الدماء لتغطي وشمه بالكامل أضحك بصوت عال وأنا ألوح إلى الحاضرين: 


- اختفى الوشم .. صار النسلي شريفًا أخيرًا .. 


- لا .. صار قتيلًا .. 



... كنت أنا في عمر الرابعة عشر ارفع رأسي لأرى صاحبة الصوت أرتدي ملابسي المدرسية وأحمل حقيبة مدرستي .. أنظر إليها في ذهول .. أخرجت قلما رصاصيًا، ومدت يدها وأمسكت بذراعي الكتب 


 عليه 


 - كتبت عليك الوحدة ... 


 سريري أفتح عيني خائفة .. أضيء مصباح غرفتي القريب مني .. أنظر إلى ذراعي .. لا شيء .. ألتقط أنفاسي .. أنهض في تعب شديد من الأتجه إلى ردهة المنزل .. أجلس على مقعد أمام طاولتي . يحيطني الصمت من كل جانب .. يصرخ داخلي وأنا بالكاد أتمالكه 


 نفسي: 


 - هومن خان .. هو من استحق ذلك ... 


 يصرخ صوت جديد: 


 - لماذا قتلته أنت؟ .. كان عليك أن تتركي أمره لبديلك .. 


 أقول بصوت . خافت مسموع 


 هو من استحق ذلك .. هو من استحق ذلك .... 


 تتثاقل جفوني من جديد .. أفتحها بصعوية .. لا لن أنام .. أخشى النوم .. يصيبني الجنون. يد تلامسني فيجعل جسدي فزعا أيده زين قد نهض من نومه .. يجلس على رجلي في الحيز الضيق يفصلني عن الطاولة .. يرفع رأسه ويقبلني كأنه يحاول أن يهدأ من تنسدل جفوني وأنا جالسة .. أفتحها من جديد اقول لنفسي 


ستمر هذه الأوقات، ستمر .. سأنسى .. وأتمتم: - إنني شريفة .. لم أكن لأتزوج نسليًا مجرما ... 


 يضج صوت بعيد: 


 كان لديك الفرصة لتنقذيه .. كنت تحبيه وكان يحبك ... 


 أتوسل إلى عقلي 


 - اهدأ أرجوك اهداً أيها التفكير لماذا لا يأتي عامي الخمسين الآن .. لماذا لم تجعلها القواعد خمسا وعشرين عاما فقط .. لنرتاح من عناء هذه الحياة .. اهدأ قليلا أرجوك ... 


 يقول صوت صادق بداخلي: 


 - إنني أفتقده .. أفتقده كثيرًا .. - تتساقط دموعي وأنا أقول: 


 - سيمر .. أعراض انسحاب ستمر .. ستنسيني الأيام كل شيء ... انتظري مرور الأيام فحسب ... 


 صرت أنام من التعب في أي وقت، صار النهار كالليل وصار الليل كالنهار، فتاة تحتضر بين أربعة جدران تنتظر أن تنصرها روحها وتغادرها في لحظة قريبة . 


 ثلاثة أشهر لا جديد عن تلك الحالة، لم يكن لدي أي طاقة للمقاومة جسمي الكثير من .. تركت نفسي للسقوط والانهيار فحسب، فقد وزنه وصار هزيلا ، صارت كتفاي ورقبتي أكثر نحولا، وصارت ساقاي كسيقان الطاولة .. من يراني كان ليظن أنني أصبت بمرض لعين مكث يأكل جسدي يوما بعد يوم ... 


 ثلاثة أشهر لم يدق بابنا، قبل ذلك اليوم حين أتت تلك الدقات ولما فتحت وجدتها أمامي .. السيدة بيان .. معلمتي بالمدرسة المتوسطة، لم أكن قد رأيتها منذ عشر سنوات، كنت أظن أنها قد عبرت الخمسين، لكنها بدت أنها لا تزال تمتلك بضعة أشهر بحياتها . 


 رحبت بها وأنا أعتذر عن سوء الحالة التي كان عليها بيتي فأخبرتني أنها لا تهتم بمثل هذه الأمور .. جال في ذهني تساؤلات عن سر زيارتها المفاجئة لي، وخاصةً أن علاقتي بها لم تزد يوما عن حدود الدراسة، تحدثنا قليلا عن المدرسة المتوسطة وما يحدث بها تلك الآونة، أخبرتني أنها صارت كبيرة المعلمين .. كان كلامنا مرسلاً من أجل تضييع الوقت فحسب، كان داخلي يشعر بأن وراء زيارتها سببا آخر تماما .. ثم ساد الصمت بيننا لدقائق قبل أن تقول: 


 - جئت إليك لأخبرك بأمر ما ... 


 انتبهت إليها وقلت: - أي أمر سيدتي؟! قالت: 


- سأعبر عامي الخمسين بعد بضعة أيام ... هززت رأسي مبينة أسفي، فأردفت تقول: 


 - لقد أخطأت في حقك .. وأريد أن أذهب إلى وادي حوران بروح 


 نقية ... 


 سألتها في تعجب: 


 - حقي أنا؟! 


 قالت: 


 - لست الوحيدة التي أحبت نسليا . نظرت إليها في ترقب، فأكملت: 


 - لقد أحببت نسليًا أنا الأخرى قبل سنوات طويلة. 


 ثم صمتت للحظة ، ونظرت إلى الأرض وتابعت: 


 - كان يكتب لي على سطح التختة الخشبية أيضًا. .. 


 اتسعت حدقتا عيني، ونظرتُ في عينها مباشرة، وجال في ذهني ذلك اليوم حين عدتُ إلى الفصل بعد خروج الطالبات كي أمحو ما كتبته إلى نديم، فوجدتها تجلس على مقعدي ممتلئة العين بالدموع قبل أن تخبرني أنها بخير .. فسألتها غير مصدقة 


 - هل كنت تعلمين بأمري مع نديم بالمدرسة المتوسطة؟! 



قالت:


 - نعم .. لمحتكِ صدفةً تقومين بالأمر ذاته الذي كنتُ أقوم به ... وقرأت كتاباتكما المكتوبة بعد مغادرتك يومها .. لتعود إلي الروح مجددًا .. ظللت خمسة عشر عامًا أنتظر أن تأتي تلك الفرصة لأعرف النسلي الذي حصد روح من أحبه .. بعدها اتجهت إلى مدرسة الفتيان لأعرف من هو ..


 تساءلت بصوت ضعيف: 


- نديم؟!.. 


 هزت رأسها إيجابا وقالت: 


 - كل الدلائل قالت لي أنه هو .. الطريقة التي كان يكتب بها على سطح التختة . .. عمره، وفق بياناته بالمدرسة ولد نديم في العام الذي أعدم به حبيبي .. 


 ثم ملأت صدرها بالهواء وأخرجت زفيرها، وقالت: 


 - لكنه لم يتذكرني .. استوقفته يومًا وحدثته بأمر عارض .. لم يعرف من أنا .. لكني كنت أوقن أنه هو .. ظللت أقرأ ما يدور بينكما .. كنت أشعر أن الكلام موجها لي ليس لك .. حتى ترك المدرسة المتوسطة، حاولت أن أتناسى الأمر، ولم أفلح .. بحثتُ عنه في وادي النسالى .. عرضتُ مساعدته في تعليم حد لله عما حدث بيننا من قبل تركني ومضى بعيدا .. أخبرني أنه ليس من أبحث الأطفال لكنه رفض صراحة ذات يوم 


 

 عنه .. وأنه لا يحب إلا فتاة تُسمى غفران فحسب .. لكنني لم 


 أنس حبه يوما ... وظل أملي بالعودة إليه قائما .. لم يهز هذا الأمل سوى معرفتي بنيتكما للزواج ... مع اقتراب يوم زواجكما واقترابي في الوقت ذاته من الخمسين - الموت الحتمي - جاءتني فكرة أنانية، تعلمين أن الشريف منا إذا انتحر قبل بلوغه الخمسين تنتقل روحه إلى أطفال النسالى عقوبة له، فجال بخاطري لو أنهيت حياتي متعمدة في باحة جويدا في الوقت الذي يعدم به نديم لعل أرواحنا تجد أجسادًا تتلاقى مستقبلا .. لا أعرف أين كان 


 عقلي وقتها ... 


 ثم أكملت بصوت مختنق بالدموع 


 أرسلت أحدهم إلى وادي النسائى ليخير نديم بأنك في انتظاره .. قابلته وحدثته مرة أخرى عن حياتي مع صاحب روحه. سألني أن أبتعد عنه، صرخت به .. أهنته، تمالك نفسه .. كنت أنتظر منه أي ردة فعل شريرة فلم يفعل .. كان يريد الرحيل فقط، ثم فوجئتُ بعروقه تنتفض دون مقدمات، ووجدته ينظر نحوي بعينين بارزتين .. وعاد بخطوات إلى الخلف ليبتعد عني دق قلبي خوفًا وقتها ... لكني أدركت أنه يحاول أن يتجنبني . لم أغادر مكاني .. وأغلقت بابي جيدا .. ظل يحطم كل شيء من حوله .. صار في لحظة واحدة شيئًا آخر لا أستطيع وصف مدى وحشيته، لكنه هدأ بعد فترة قصيرة، وفقد وعيه هناك كانت الفرصة الأعظم لادعاء أنه جاء لسرقتي والشروع في قتلي .. جريمة كاملة الأركان ... 


نظرت إليها وقلت في ذهول 


 - لم يرتكب أي جريمة ؟!! . - نعم .. قلت وكان الذهول لا يزال منطبعا على وجهي فقلتُ لنفسي ذاهلة وأنا أتذكر كلماته لي قبل موته: .. فقلت لها: 


 قالت بصوت هادئ دون أن تنظر نحوي 


 - أردت أن يُعدم من أجل أن تجدي معه فرصة أخرى مستقبلا؟! أومأت برأسها إيجاباً وهي تنظر إلى الأرض بعينين دامعتين، 


 - ظنّ أنه ارتكب جريمته دون أن يدري كانت السيدة لا تزال تجلس أمامي ينطبع على وجهها ندم شديد 


 - ولماذا لم تنه حياتك إذًا في اليوم ذاته بباحة جويدا؟! 


 قالت: 


 حين أوشكت على قتل نفسي .. كانت هناك نسلية تقف على بعد خطوات مني نظرتُ إليها وإلى وشم كتفها، أصاب الاضطراب داخلي وقتها. واجتاحني الخوف ذاته الذي رأيته في عينك يومها .. خوف التحول إلى نسلية .. ثم خوفي على قتلك له بخنجرك، فوجدتني أهرول مبتعدة عن الباحة أود أن أنهي حياتي كامرأة شريفة ... أفقت من 


 قلت لها باستنكار 


 - شريفة ؟ .. أي شرف فيما فعلته؟! .. هل تدركين ما فعلته بنا؟! .. هل تدركين ماذا لو اكتمل زواجنا؟! .. أتدركين ماذا فعلت بمئات من النسالي كانوا يطمحون ليصيروا مثله؟! ... 


 ثم أشرتُ إلى جسدي الهزيل، وقلت بصوت ضعيف 


 - أتدركين ماذا حلّ بي الثلاثة أشهر الماضية؟! 


 ظلت السيدة صامتة قبل أن أصرخ بها وأسألها أن تغادر من أمامي على الفور .. كانت تتطلع لي باكية وهي تغادر تسألني أن أسامحها وتمتمت وهي تبكي بأنها ذهبت إلى قبر نديم بوادي النسالي بعد أيام من موته لتكفّر عما فعلته .. فأغلقت الباب بقوة من خلفها .. وأسندت 


 ظهري إليه مغمضة عيني .. يعلو صدري ويهبط ببطء .. وتهمس 


 شفتاي مع كل نفس أخرجه 


 - كان بريئًا .. كان بريئًا . .. 


 ثم وجدتني أفتح باب البيت وأركض بأقصى سرعة لي دون وعي لتأخذني قدمي إلى هناك للمرة الأولى في حياتي .. إلى وادي النسالي. 



*********************************************************  

 الفصل الثاني و العشرون


وقفت مكاني على مشارف وادي النسالى يتصبب العرق من جبيني من أثر الركض .. وكأن تفكيري قد شُل لم أعرف ماذا أفعل .. ثم وجدتني أتقدم ببطء إلى داخل الوادي دون أن أكترث بما قد يحدث ... لكن دقات قلبي سرعان ما أصابها الاضطراب عندما أبصرتُ بعضا من نساء النسالى وفتيانهم وأطفالهم قد بدأوا يخرجون من جحورهم ليقفوا على جانب الطريق وعلى وجوههم ارتسمت ملامح الخوف والدهشة .. خوفٌ من هذه المرأة التي وكلت دائما بقتل أحبابهم. ودهشة من تواجدها بآخر مكان قد تكون هي به ... 


واصلت طريقي الذي لم أكن أعرف له وجهةً، ومع كل خطوة كانت أعداد النسالي تتزايد على جانبي دون أن ينطق أحدهم أو يصدر له صوت، ظلوا ينظرون إلي في صمت بالغ فحسب، وأنا أتقدم أمامهم في لأشعر للمرة الأولى بأنني من يحمل العار لا هم ... خزي شديد


كنت أنظر إلى وجوههم وتتقافز الكلمات من عيني إليهم في توسل


- أريد أن أخبركم أن الخوف هو ما جعلني أفعل ذلك بسيدكم سامحوني .. أعلم أنني من اغتلتُ أحلامكم، لكني هنا الآن بينكم لطلب الغفران ...


واصلوا تحديقهم بي من غير أي ردة فعل. لكن ذلك لم يدم طويلا بعدما ارتطم برأسي فجأةً حجرٌ صغير قذفه أحدهم بقوة ليصيب حاجبي الأيسر، فسالت الدماء على وجهي ودارت بي الدنيا للحظات فتوقفت مكاني بعدما كدتُ أسقط ...


قبل أن أتمالك نفسي وأمسح بكم فستاني الدماء عن عيني وأواصل طريقي بينهم، فألقت امرأة أخرى علي قدرًا من روث الماشية فأغرقتني بها، لكني تابعتُ طريقي دون أن ألتفت إليها حتى .. كان داخلي يقول: افعلوا ما شئتم ... لن أجر أحدكم إلى منصة الإعدام ... هيا ألقوا بأحجاركم نحوي .. لا يضر الألم الموتى على كل حال، وأنا مت بالفعل منذ ثلاثة أشهر لا يتبقى لي فقط سوى مغادرة روحي التسكن جسدا آخر .. هيا ألقوا بأحجاركم ساعدوها على الرحيل ...


ثم أصابني حجر آخر .. لا أتذكر أنني تقدمت . بعده إلا بضعة خطوات، قبل أن تدور بي الدنيا وتتسارع دقات قلبي، وتخور قواي تدريجيا، وأفقد وعيي.


من إغمائني لأجدني على سرير قشي داخل جدران كوخ صغير علق بسقفه مصباح زيتي أضاء المكان من حولي .. وكان عشبا مهروسا قد وضع على حاجبي فترك أثره على سبابتي حين تحسست


جرحي . ما إن نهضت وجلست على السرير وأسقطت قدمي إلى الأرض أحاول أن أستفيق تماماً حتى فتح باب الكوخ ودلف إلى الفنى النسلي ريان وقف صامتًا أمامي كأنه يستجمع ما سيقوله، ثم قال 


- تركك الجميع بالطريق فاقدة للوعي تسيل دماؤك ... 


وأصدر إيماءة وهو يقول: 


- لا أعلم لماذا لم أتركك مثلهم . 


وأكمل: 


- وخفتُ أن أعود بك إلى جويدا في حالتك هذه، فيظنون أنني من فعلت ذلك بك فيعتقلونني .. فجئتُ بك إلى هنا .. إلى كوخ 


سيدي نديم .. 


تلفت 


حولي لأتفحص الكوخ على الفور وقلت في دهشة: 


کوخ نديم .. كان يعيش هنا ؟! ... 


قال الفتى 


- نعم .. حرصتُ طوال الأشهر الماضية على الاعتناء به ونظافته مات سيدي لكني أحب كل شيء يخصه ... 


قلت:


إنك طيب مثله يا ريان ...


قال في توتر


- لا .. لستُ مثله، وعليك أن ترحلي الآن سيدتي .. لا نريد أن يُقدم أحد إلى المنصة بسببك مجددا ..


قلت:


- هل مر وقت طويل على نومي ؟! ... 


قال: 


- بضع ساعات .. 


، فقلت كانت المرة الأولى التي أنام فيها دون قلق منذ إعدام نديم بصوت هادئ 


لا أريد أن أعود إلى هناك ... 


قال في نبرة حادة 


ومكانك ليس هنا سيدتي .. أتعلمين ، قبل أن أراك اليوم تمنيت كل لحظة لو جاءتني الفرصة لأقتلك بما فعلته بسيدي .. لكني الآن لا أعلم ماذا أصابني ... ارحلي فحسب، دعينا وشأننا 


ويكفينا ما حدث ... 


قلت 


- أخطأت بقتل نديم .. لم يكن علي فعل ذلك، كان علي أن أستمع 


إلى كلامك .. 


قال 


- لا يفيد الندم، ولن يغير بالواقع شيئًا 


أومأت برأسي إيجابا .. وقلت: 


- هل لك أن تدعني هنا .. سأحرص على نظافة الكوخ .. 


قال: 


- لن يتركك أهل الوادي ... 


قلت: 


- إن أرادوا قتلي فليفعلوا .. أرجوك إنني أشعر بالاطمئنان هنا... 


أخرج الفتى زفيره حانقًا .. ثم تركني وغادر الكوخ، بعدها تحركتُ إلى خارجه لأنظر تجاه الوادي .. كان الظلام الدامس يسود الأفق ليس إلا من مصابيح متناثرة بدت بعيدة، فعدت إلى داخل الكوخ، وانتزعت فستاني المُشبع برائحة روث الماشية، وانسللت أسفل فراش خشن لأخلد إلى النوم مرة أخرى .. 


استيقظت مع طلوع الشمس، كان نور النهار قد تسلّل إلى داخل الكوخ من كل جانب فأضاءه بالكامل، لأرى الأدوات التي كان يستخدمها نديم في تعليم طلبته .. أقلام رصاصية قديمة .. أوراق بالية صفراء .. كتب ممزقة الأغلفة .. قطعة خشبية ملساء مطلية بلون أسود .. أحجار بيضاء صغيرة استخدمت للكتابة عليها ... 


ثم مر وقت قليل لم يتوقف به عقلي عن التفكير، قبل أن أنهض وأرتدي فستاني وأتجه للبحث عن كوخ ريان سألت الكثيرين عنه 


رفض أغلبهم المساعدة، وظل الباقون صامتين ينظرون نحوي بحنق


شدید ...


لم تجبني إلا طفلة في العاشرة ، شكرتُها ، ووصلت إلى كوخه، دلفتُ إليه بعدما لم يجب طرقاتي، كان لا يزال نائما، فهززته كي يصحو، فنظر إلي بعين نصف مفتوحة في تعجب، وتساءل:


- ماذا تفعلين هنا؟! ... 


قلت 


- انهض أريد أن أخبرك بشيء . 


نهض من نومته فناولته إناء ماء كان يوجد جانبا، فضرب وجهه 


بالماء، ثم نظر إلي وقال: 


- ماذا تريدين؟! 


قلت 


- أريدك أن تساعدني ... 


قال 


أساعدك في ماذا 19 ... 


قلت: 


لأكفر عما فعلته ... 


هز رأسه متبرما ، وأراد أن يعود إلى النوم، فأمسكت به، وقلت 


- أخبرتني سابقا عن حلم مئات النسالى كي يصبحوا الأمس وبعدما رأيت تلك الطيبة منك مثل سيدهم نديم ومساعدتي رغم غضبك الشديد تجاهي، أدركت أن ما فعله نديم طوال السنوات الماضية لم يذهب هباء .. لقد غير التعليم داخلك، وبالتأكيد هناك العشرات مثلك ... 


قال: 


- لقد انتهى كل شيء بمقتل سيدي، لم يبق هناك طالب واحد. اتجه الفتيان للسرقة، واتجهت الفتيات للرذيلة 


قلت: 


- لكنك هنا لا تسرق ...


قال:


- لا تعرفين شيئًا عني .


قلت:


- ساعدني لأحل محله ... 


أطلق ايماءة ساخرة وقال: 


- محله ؟! إن الجميع هنا يكرهونك . 


قلت 

- أريد أن أبقى بينكم، أريد أن أكمل ما بدأه نديم لا تعلم ماذا حدث لي خلال الأشهر الماضية، أستطيع أن أعلم النسالي الكثير من الأمور قد يأتي الوقت الذي يتزوج به نسلي آخر من امرأة شريفة غيري . 


اعتدل ريان في جلسته على سريره وقال 


- أتعرفين شيئًا ؟! . ... مات سيدي مرتين، الأولى عندما أعطيتيه أملا بأن نسليا قد يتزوج شريفة وصار عليه أن يعيش حياته خطأ واحد والثانية أمامنا على المنصة حين قتلته بخنجرك، أتريدين المزيد من القتلى؟! دون 


قلت: 


- حسنا، دعك من شأن الزواج من الشريفات، يكفي أن نديم قد نجح في الوصول إلى عامه الخامس والعشرين دون جريمة وأرى ذلك فيك، وقد ينجح الأمر مع الكثيرين ... 


قال: 


- لم ينج سيدي من روحه الآثمة وارتكب جريمته . 


.. 


كدت أنطق وأقول له ما دار بيني وبين السيدة بيان، لكني خشيت أن يشعل ذلك أمر الانتقام منها بداخله، ويودي بنفسه إلى منصة الإعدام ، فقلت في تراجع 


- كاد يفعلها وينجو، ساعدني في عودة الطلبة إلى كوخ نديم من جديد، لقد انتهت المرأة التي كنتم ترونها على المنصة، لقد ذهبت بلا عودة .. لن تخسر شيئًا، أعطني فرصة واحدة .. 


أعطي نديم فرصة واحدة، لكنه قال: هز رأسه متهكما ، أدركت أنه تذكر كلامه لي حين توصل إلي كي 


- حسنًا، اذهبي أنت إلى أكواخ النسالى وطالبي النساء بعودة أطفالهم إلى كوخ السيد نديم، لن أتدخل بهذا الأمر ... 


وسكت ثم أكمل بعد لحظات: 


- لكني سأوفر لك الطعام خلال هذا الشهر . ابتسمت وربت على شعره، وقلت: 


- سأفعل ذلك 


ثم نهضت، وكدت أغادر فقال: 


- انتظري .. إن كانت امرأة المنصة قد ذهبت بلا عودة، فاتركي 


كل ما يتعلق بها ... 


ثم نهض وتحرك إلى صندوق خشبي بركن بعيد، وأخرج منه فستانا الأيسر، وقال: منزوع الكتف - إنه فستان أختي غادرت منذ ثلاثة أشهر، أعتقد أنه مناسب 


المقاسك .. 


ابتسمت وأنا أخذه منه، وقلت: 


- سأرتديه 


ثم التفت وكدت أغادر، فتوقفت مرة ثانية وقلت: 


- هل لي أن أطلب طلب أخير؟ 


قال: 


- ماذا ؟ 


قلت 


- أريدك أن تجعل إحدى الفتيات اللاتي يذهبن إلى جويدا أن تحمل رسالة إلى إحدى جيراني هناك .. 


قال: 


- أي رسالة؟! 


قلت: 


- أريد أن أخبر إحدى قريبات أمي بأن تعتني بأخي زين في غيابي .. هز رأسه موافقا فأخبرته بمكان قريبتي، وغادرت الكوخ أحمل بيدي فستان أخته. 


نزعت فستاني الذي . به من جويدا، وارتديت فستان أخت ريان، كان قديما ذا لون أرجواني باهت، لكنه كان مناسبا إلى حد كبير .. ظللت متوجسة لفترة قصيرة قبل أن أستجمع قواي وأخرج إلى وادي النسالي مرة أخرى ... 


كانت نظرات الدهشة تتفحصني، وخاصة عندما دلفت إلى الجزء المكتظ من الوادي عارية الكتف كان كوخ نديم وكوخ ريان يقعان بالمشارف التي لا يتواجد بها الكثير من الأكواخ، أما داخل الوادي فتلاصقت الأكواخ وتفرعت الطرقات والشوارع بينها، وكأن قرية كبيرة قد نشأت داخل أحضان ذلك الوادي ... 


تحدثت مع امرأة نسلية قابلتني عن نيتي لاستكمال ما بدأه نديم، تركتني ومضت .. تحدثت مع أخرى فعلت ما فعلته الأولى، طرقت باب أحد الأكواخ وتحدثت إلى امرأة ثالثة كادت تلقي بما في يدها في وجهي ، لكنها اكتفت بإغلاق الباب بوجهي، كوخ آخر، نساء أخريات كلهن فعلن الشيء ذاته، لم أجن إلا التجاهل أو الإهانة . 


لم أيأس، وواصلت سيري بين الطرقات والأكواخ لكني لم أستطع إقناع امرأة واحدة أو فتى واحد ، وعدتُ مع غروب الشمس إلى كوخ نديم الذي صار كوخي، كانت قطعة من الخبز والجبن قد وضعت على سريري، فعلمت أن ريان قد أوفي بوعده ... 


 كنت أعلم داخل نفسي أنهم محقون، لو كنت مكانهم لفعلتُ الشيء ذاته، لكني أردت مساعدتهم. حقا كما أراد نديم .. 


  في اليوم الثاني فعلتُ ما فعلته في اليوم الذي سبقه، كما أنني اتجهتُ إلى واد آخر قريب كان به بعض الأكواخ غير أنني عدت كما عدت يومي السابق تماما، فعلتها مرة ثالثة باليوم الثالث، مرة رابعة باليوم الرابع مرة خامسة مرات كثيرات بأيامي المتتابعة ... 


لم أكل في الذهاب كل يوم إلى نساء النسالى ولم تكل نساء النسالي في صدي يوما بعد يوم، ولم يكل ريان عن الإتيان بطعامي ، أن يلتقيني معظم الأيام حتى وإن التقينا، لم يسألني قط عن نتيجة ما أفعله، كان يحضر لي الطعام ويغادر دون اي حديث .... اليومي دون ! 


صار نومي منتظماً، لم تعد الكوابيس تطاردني، ورحل عن جسدي الهزال الذي أصابه الأشهر الماضية وكأنني وجدت ضالتي وراحتي في هذا المكان، ثم جاء ذلك الصباح حين بدأت رحلتي اليومية للذهاب إلى أكواخ النسالى فلم أجد الكثيرات منهن، ثم رأيت امرأة نسلية تهرول مسرعة فحاولتُ أن أستوقفها ، فأبعدتني عن طريقها ، وغمغمت بأنها لا تريد أن تفوت يوم الغفران ... 


يوم الغفران !! تناهت الكلمة إلى مسامعي كأنها تحدثت فجأةً عن شخص أعرفه، كان لسنوات طويلة صديقي المقرب .. وابتعدت عن طريقها، وجلست على جانب الطريق أنظر إليها وإلى النساء الأخريات المتسارعات للحاق بباحة جويدا، وتساءل عقلي وقتها أيحبون ذلك المكان أم يكرهونه؟! 


إن كانوا يكرهونه فلماذا يهرولون إليه هكذا ؟! .. وإن كانوا يحبونه فلماذا يكرهونني ولم أكن سوى جزء منه ؟! .. لأنني قتلت نديم؟! . أعلم أن الناس لا يسامحون أبدًا من يقتل أحلامهم، لكني جئت لأحيي أحلامهم من جديد، أريد فرصة فحسب .. 


يره 


الوضوء 


بقيت في موضعي وقتا طويلًا ، قبل أن أعود إلى الكوخ مع الظهيرة. ولم أغادره حتى حلول المساء، بعدما سمعت الزغاريد تدوي بدون توقف مع سكون الليل .. فارتديت فستاني الأرجواني على نحو سريع وخرجت في اتجاه الزغاريد التي أخذت تختلط بالموسيقا كلما تقدمت قدمي في اتجاه المنطقة المكتظة من الوادي ... 


دونت 


الخاص 


حين 


عمره 


فوجئت بأن المشاعل والمصابيح قد اشتعلت وعلقت بالطرقات على عكس الأيام السابقة، فواصلتُ طريقي حتى اقتربت من بناء خشبي كانت الموسيقا تأتي من داخله، فاقتربتُ أكثر وأكثر، ودلفت إلى داخله ... بدا أنه حانة كبري، تتراص بها المقاعد الخشبية حول الطاولات ويُقدِّم الشراب إلى الجالسين بينما تتراقص الفتيات على أنغام موسيقا كان يعزفها عدد من العازفين الذين تواجدوا بأحد الأركان بالقرب من امرأة لم تتوقف عن إطلاق الزغاريد ... 


لا ترية 


معرفة 


كانت . 


الديها. 


لك 


أمتار، 


تقدمت إلى مقعد قريب، فنظر إلي الجميع في تجهم، لكنهم لم يعطوا لي اهتمامًا كبيرًا . وواصلوا احتفالاتهم، حتى ريان الذي لمحته بينهم تظاهر بأنه لا يعرفني، وواصل رقصه مع فتاة في مثل عمره، ثم تغيرت الموسيقا إلى إيقاع مختلف كنت أسمعه للمرة الأولى، لكنه كان مبهجا على نحو كبير، ومعه وضع كل فتى وفتاة عُصبة قماشية على عينيه، وبدأوا في التراقص على ذلك الإيقاع دون أن يخطئ أحدهم أو يرتطم بالآخر. 


جند 


أدركت مع هيئة بعض النساء الجالسات أن ذلك الحفل احتفال بمن حصدن أرواحا لأطفالهن ذلك الصباح بالباحة .. فواصلتُ استمتاعي وأنا أنظر إليهم وهم يخلقون لأنفسهم لحظات من السعادة 


لم تكن لتوفرها لهم چارتين أبدا وراقبت الفتيان والفتيات وهم برقصون معصوبي الاعين في خفة وتناسق وتمنيت داخل نفسي لو وضعت عصابة على عيني مثلهم، وتراقصت أنا ونديم بينهم . 


ظل الاحتفال ممتدا لساعات، وبقيتُ مكاني أشاهد فحسب، إلى أن دوت جلبة مفاجئة خارج الحانة، فسكتت الموسيقا واندفع الكثيرون إلى الخارج، ويدوري خرجتُ لأرى ما يحدث، ثم وقفت خلف امرأة نسلية حين وجدت ضابط أمن أعرفه ومعه رجل شريف في الثلاثينيات من عمره يجر فتاة لا تكمل الخامسة عشر من شعرها، وهي تصرخ بأنها لا تريد فعل ذلك، وتتوسل إلى من حولها بأن ينقذوها ، غير أنهم ظلوا واقفين في جمود وأعينهم على ضابط الأمن دون أن يتحرك أحدهم ... كانت الفتاة تزحف على ركبتيها محاولة أن تقاوم الرجل بأقصى ما لديها، وتصرخ إليه باكية: 


لا أريد أن أفعلها سيدي . أرجوك .. 


لكنه واصل جرّها ناحية عربة كانت تقف في انتظاره على بعد أمتار، وبدأ الضابط في ضربها بعصاه كي تتخلى عن مقاومتها، حينئذ سمعت امرأة بجواري تقول: 


- هذا ما جنته من تعليم نديم .. 


- لا تريد أن تعيش عيشتنا .. عليها أن ترضى بواقعها فحسب، لن تفيدها المقاومة غير مزيد من الألم .. سيمارس معها الرذيلة شاءت أم أبت، طالما تمتلك هذا الوشم على كتفها ... 


كانت صرخات الفتاة تتزايد مع كل خطوة يجرها بها الرجل نحو العربة، بينما تأخر عنهما الضابط خطوات وانشغل بعراقية من تسول له نفسه من النسالى بأن يتحرك نحو ذلك الشريف فلم أجد نفسي إلا وأنا أتحرك من وراء المرأة التسلية، لأقف أمام العربة الواقفة في مواجهة الرجل تماما ليلتفت إلى غاضبا وكأن الظلام لم. يريه وجهي فلم يعرف من أنا، فصاح بي 


ابتعدي وإلا أخذتك معها. 


فقلت باسمة 


- حظك سيئ .. لا امتلك وشما ... 


ثم لكمتُ وجهه لكمة قوية حملت معها كافة ذكريات تدريباتي الشاقة بمدرسة ضباط الأمن لتطيح به خطوات إلى الخلف، قبل أن يلتفت إلى ضابط الأمن ويمد يده إلى سلاحه، فتحركت خطوة نحوه. فظهر وجهي أمامه فحدق بي في دهشة، وقال: 


- السيدة غفران 


فقلت في تجهم 


اغرب عن وجهي ... 


كان الرجل الشريف قد رقد على ظهره يحاول أن يوقف سيل الدماء الذي سال من وجهه إثر لكمتي ، وظل ينظر إلى غير مصدق بينما هرولت الفتاة زاحفة لتقف ورائي محتمية بي، وظل ضابط الأمن يحدق : بي ويده على سلاحه وسط مراقبة أعين النسائي الذين وقفوا 


يشاهدون ما يحدث أمامهم بأنفاس محتبسة، قبل أن يبعد يده عن سلاحه، ويصيح إلى الرجل الغريب كي يغادرا .. ثم ركبا عربتهما. وانطلقا مبتعدين، فأسرعت الفتاة من خلفي إلى امرأة أخرى تكبرها سنا وحضنتها وهي تبكي ... 


واصل الحاضرون تحديقهم بي دون أن ينطق أحدهم بأي كلمة ولم أنطق أنا الأخرى بشيء .. ظللت فقط أنظر إلى الفتاة الباكية وتتردد بعقلي كلمات المرأة النسلية بأن تعليمها على يد نديم هو من جعلها ترفض ممارسة الرذيلة، وزاد شعوري بداخلي بأن ما فعله نديم لهم لم يكن إلا أمرًا عظيما كان من شأنه أن يغير واقعهم للأبد .. فغادرت إلى الكوخ وبداخلي عزم قوي يصرخ بأعلى صوت بأنني لن أتنازل أبدا عن مواصلة ما بدأه نديم، وإن أكملت سنواتي المتبقية جميعها أطرق كل يوم أبواب النسالي ... 


لكن بابي هو من طرق في صباح اليوم التالي، ولما فتحته كاد قلبي يطير من الفرحة بعدما وجدتُ الفتاة التي أ أنقذتها من الرجل الشريف تقف أمامي وتمسك بكتاب قديم في يدها وتنظر إلي صامتة، نظرتُ إليها لا أصدق نفسي، فهزت رأسها باسمة وهي تقول: 


- أرسلتني أمي لأكمل تعليمي على يديك سيدتي .. 



*********************************************************  

 الفصل الثالث و العشرون


الذي كنت في طريقي إلى السيدة غفران أحمل طعامها اليومي اعتدتُ أن أوفره لها على مدار ذلك الشهر، حتى توقفت أمام باب كوخها المفتوح بعدما رأيتها تجلس مُمسكة بأحد أقلام سيدي، وتجلس أمامها الفتاة التي كاد الشريف يغتصبها ليلتنا السابقة، وبدا أمامي أنها تقوم بتعليمها كما كان السيد نديم يفعل معنا، فظللت أراقبها للحظات قبل أن أترك طعامي حين لمحتني، وأغادر سريعا دون أن أقول شيئًا... 


لا أخفي أنني لم أتوقع قط أن يستجيب نسلي واحد أو نسلية لسيدة المنصة، لكن ذلك قد حدث، بدأ الأمر بالفتاة الأولى، بعد أيام قليلة وجدت فتاة أخرى قد انضمت إليها، ثم أيام أخرى وصارت الفتاتان أربعة، ثم انضم طفلان لم يبلغا السابعة من عمرهما قبل أن بـ شهرها الأول، حتى أصبح عدد ما يتعلم معها . الجديد أحد عشر طالبًا .. وكأن ما حدث مساء الغفران أمام يمر مع حلول يوم الغفران يوم 


الحانة كان البداية الحقيقية لإذابة الحاجز الجليدي بينها وبين 


الكثيرين منا . 


مع كل مرة كنت أذهب إليها بالطعام كانت عيني تتحرك لا إراديا إلى الأطفال من أجل إحصاء عددهم، ولا أنكر أن داخلي كان يشعر بسعادة كبيرة مع كل تزايد بأعدادهم .. أقسم أنني لم أتخيل يوم حملتها فاقدة الوعي إلى كوخ السيد نديم أن تبقى أكثر من يوم واحد بيننا، لكنها فعلتها ولم تغادرنا منذ ذلك الحين، ولم ترتد غير فستان أختي ديما وفستانها الذي جاءت به بعدما نزعت كتفه الأيسر هو الآخر .. ثم وجدتُّني بنهاية الشهر الأول أذهب إليها لأخبرها بأنني سأوفر لها الطعام لشهر آخر، لم أخبرها عن مصدر الطعام الذي آتي به كي لا تعترض، لكني وعدتُها بإكمال شهر آخر على أي حال ... 


المثير أنها رغم تزايد الأعداد لديها بصورة يومية كانت تواصل مرورها بين نساء النسالي في وادينا والوديان الأخرى ترافقها الفتاة الأولى التي التحقت بها أو من عرفت اسمها فيما بعد «ناردين».. لتعود إلى مدرستها الصغرى كل مساء بطالب جديد على الأقل، ثم أدركتُ أن الحال قد تبدّل حين حضرت إلى الحانة مساء يوم الغفران الجديد للاحتفال بمن حصدن أرواحا لأطفالهن ... 


في تلك الليلة اتخذت مكانها بالطاولة ذاتها التي جلست عليها يوم الاحتفال السابق، وظلت تنظر إلى الراقصين من الفتيان والفتيات في سعادة بالغة وخاصةً بعدما دقت موسيقا الشامو، ووضع كل منهم عصبته القماشية على عينيه. وددت لو اقتربت منها وأخبرتها أن موسيقا الشامو هي موسيقانا التي ورثناها في ودياننا، ولا يستطيع أن يتراقص على إيقاعها بتلك البراعة غيرنا، لكني بقيت مكاني أراقب تعبيرات وجهها، وأراقب نظرات النسائى إليها بين الحين والآخر، لم تكن قط النظرات ذاتها حين وطأت قدمها هذا المكان للمرة الأولى قبل شهر. ولأنني أعرف النسالى جيدا وأعرفهم حين يكرهون شخصا وحين يتقبلونه، أيقنتُ تلك الليلة أن هذه السيدة قد وجدت طريقها إلى قلوب النسالي ... 


لم تتوقف السيدة غفران يوما عن إعطاء دروسها، ولم أتوقف بدوري عن الذهاب بداية كل شهر لأخبرها أنني سأوفر طعامها عن ذلك الشهر فقط، قبل أن تضحك إلي كأنها تعلم أنني سأتراجع وسأعود إليها مع بداية الشهر الجديد لأخبرها بأنني سأستمر لشهر آخر، وهذا ما كان يحدث بالفعل 


من كان يتصور يوما أن المرأة التي دق حذاؤها الأنيق أخشاب منصة جويدا لسنوات صارت تتنقل بفستان قديم وحذاء ممزق بين طلبة هز الى يسود الفقر وجوههم، لتقرأ لكل واحد منهم على حدة ما لا يستطيع قراءته، ثم تعانقه وهي تضحك، قبل أن تنتقل إلى آخر أو أخرى لتفعل معهم الشيء ذاته، لتصبح مدرستها الصغيرة في خلال أشهر قليلة مهدا حقيقيا للحياة في وادينا الفقير ... 


كنت أحب الذهاب إلى ذلك المكان، بل صرت أتحجج كل مرة بشيء ما من أجل إطالة فترة تواجدي هناك، حتى أنني بدأت بإحضار الطعام أكثر من مرة باليوم وإن لم أوفره لنفسي، ثم بدأتُ أستغل 


وجودي هناك لتلتقط أذني بعضًا مما تتحدث به السيدة غفران إلى 


طلبتها ..


كانت تحدثهم عن أمور كثيرة، لكني لم أسمعها تحدثهم عن قواعد جارتين مطلقًا، كانت تنظر إلي وتضحك حين تراني أستمع إليها وهي تتحدث إلى الطلبة الجالسين ،أمامها فاتظاهر بأنني منشغل بشيء آخر، وأغادر سريعًا في حرج، كنتُ أعلم أنها تكن لي محبة خاصة ربما لأنني من ساعدها بالبداية أو لأنني أمثل لها جزءا كبيرًا من سيدي الراحل، لكني لم أجرؤ أن أسألها كي ألتحق بمدرستها، وهي كذلك لم تسألني ذلك ... 


كانت تتركني للحظة التي أقرر بها الانضمام إليها برغبتي الكاملة كأنها تدرك أن تلك اللحظة ستكون بمثابة إعلان مسامحتي لها .. كنت أعرف أنني طيب مثل سيدي كما قالت، وإن لم أكن نقيا كاملا مثله مع قيامي ببعض السرقات الخفيفة من عربات تجار الأشراف التي تمر بالطرق الجنوبية لأوفّر لها ولي طعامنا اليومي .. حاولت كثيرًا أن أمتنع عن الذهاب إلى مدرستها لكني فشلت فشلا ذريعا ، ثم حلّ ذلك المساء حين ذهبت إليها بالطعام بعد مغادرة الطلبة جميعهم. ، فسألتها 


دون مقدمات 


- لماذا لا تعلمينهم القواعد؟ 


قالت :باسمة 


قد تتغير القواعد يوما ما ... 


تذكرت كلمات سيدي حين أجابني ذات يوم بالإجابة نفسها. أخبرتها أنني أريد الانضمام إليها. فضحكت ووجدت نفسي في الصباح التالي أذهب إليها بلا طعام 


صارت الشهور أعوامًا، وصارت مدرسة السيدة غفران وجهة أطفال النسالي ولقبت السيدة غفران بين الوديان بـ «السيدة. وصارت طاولتها مساء كل يوم غفران بالحانة مقصد الكثيرين من النسالى لكي يقدّموا لها التحية، وصرت أنا وناردين مساعديها بعدما أصبح العدد كبيرًا جدًا إلى حد لم تكن لتستطيع أن تعلمهم جميعهم وحدها، فقسم الأطفال الأصغر عمرًا بيني وبين ناردين، وتولت السيدة غفران الأكبر سنًا ... 


ثم لاحظت السيدة مع عامنا الخامس أن بعض الفتيات قد انسحبن بلا رجعة سألتنا عن السبب، قالت ناردين - لقد بلغن سن العشرين سيدتي، ومعظمهن كبرت أمهاتهن. 


متابعة: 


اعتاد شرفاء چارتين ألا يوفروا أي عمل لامرأة نسلية خشيةً من السرقة، فتلجأ نساؤنا إلى بيوت الرذيلة من أجل مقابل يكفي للمعيشة، تستطيعين القول أنها مصدر العيش الرئيسي لنساء النسالي .. لكن تلك البيوت لا تتوانى عن طردهن ما إن يكبرن في السن، لتحل بناتهن مكانهن من أجل الحفاظ على ذلك المقابل . 


هزت السيدة رأسها إيجابًا في شرود ، ثم نظرت إلي وأخبرتني أنها تود الذهاب إلى جويدا للمرة الأولى بعد خمس سنوات من وجودها بالوادي، وقتها خشيت أن أرافقها بعدما بلغ عمري الثانية والعشرين لكنها طمأنتني بأنني سأكون معها ... 


لم أعرف مقصدها من تلك الزيارة جال بذهني في بادئ الأمر أنها تود الذهاب إلى هناك من أجل الاطمئنان على أخيها، حدث ذلك بالفعل .. لكنها اكتفت بشكر قريبتها ، وتحدثنا عن المقابل الذي تتقاضاه تلك السيدة مقابل تربية أخيها، كنت أعرف منذ الرسالة أرسلتها لها قبل سنوات أن قريبتها تنال النقود جميعها التي تصرفها چارتين لأهل كل شريف يموت بطريقة شرعية عند سن التي 


الخمسين .. 


جلست قليلا مع أخيها ، كان قد بلغ عامه الثاني عشر، أخبرته أنها ستعود من أجله، ثم أدركتُ هدف زيارتها الأساسي حين دلفت بي إلى بيتها، وفتحت باب إحدى الغرف لأجد مكتبةً عظيمة بها المئات من الكتب، وقالت لي حين رأت الذهول على وجهي


- سننقل كل هذه الكتب إلى الوادي ...


ورأيتها أومات برأسي إيجابا وأنا أنظر نحو الكتب، لكني حين التفت إليها وهي تنظر نحو الكتب شاردة أدركتُ أن غاية السيدة غفران من مدرستها بوادينا لم يعد تعليمنا فحسب، بل بدا أمام تلك النظرة أنها كانت تنوي ما هو أكثر من ذلك بكثير.


حملنا الكتب إلى الوادي، وهناك سألتني أن أجمع الطلبة جميعهم أمام الكوخ ، ثم خرجت إلينا واختارت اثني عشر فتى وفتاة من بينهم. كنت أعرف أنهم الأفضل، ثم ضمتني إليهم أنا وناردين، وسألتنا أن جانبا . نقوم بنسخ عددًا من الكتب، كانت قد عكفت على انتقائها ووضعتها


كانت الكتب المنتقاة تتنوع تنوعًا شديدا إما عن بلدان أخرى أو عن تاريخ حارتين أو عن بعض الفلاسفة القدامى، لم يتحدث كتاب واحد عن القواعد أو عن الفرق بين الجارتيني الشريف والجارتيني النسلي .. لم يقلّل كتاب واحد مما اختارته السيدة من قدرنا ، وكأنها أرادت أن تنسينا أننا حاملو العار في هذا البلد، وأننا بشر كاملون لنا من الحقوق ما يمتلكها أي بشر تدقُ قدماه هذه الأرض . ..


ثم أخبرتني ناردين أن الكتب التي كلفت الفتيات بنسخها كانت تختص جميعها بتعلم حرف يدوية صغيرة، وأضافت الفتاة ضاحكة بأنها تظن أنها باتت تمتلك المقدرة لصنع سجادة كبيرة إن اتبعت ما


كتب في الكتاب الذي كلفت بنسخه ، فقلت في سري 


- هذا ما أرادته السيدة .. لن تأمر فتاة بأن تترك الرذيلة بطريقة مباشرة، بل ستجد لكل امرأة نسلية سبيلا آخر لجني 


الأموال بعيدا عن ارتكابها مرغمة ... 


وقتها سألت ناردين 


- هل يخبرك الكتاب بما تحتاجينه من أجل صنع سجادتك 


قالت: 


- فلتكتبي لي إذا ما تحتاجينه ... 


وقبل أن يمر يومان كنت قد أحضرت لها ما كتبت لي من خيوط نعم سرقتها من أحد المغازل بشمال جويدا بمساعدة شاب آخر، لكني نويت داخل نفسي أن أرد المال إلى صاحب المغزل بمجرد أن أمتلكه ... 


تعمدت السيدة غفران أن توزّع كتب الحرف المنسوخة على من يستطيعون القراءة والكتابة لنسخها مرات ومرات، وإن استغرق الكتاب للفرد الواحد عدة أسابيع، قالت لي: 


- ليس الهدف نسخ الكتاب على قدر ما قد يتعثر أحدهم داخله بشيء يألفه 


مع شهرنا الثاني كانت ناردين قد صنعت سجادتها الأولى لم تكن جيدة إلى حد كبير، لكنها تبقى الشيء المصنوع الأول بين أحضان 


وادينا .. جلسنا مساء ذلك اليوم نحتفل بذلك الأمر، كانت تتوسطنا السيدة غفران والتففنا جميعا حولها في صفوف نصف دائرية أخبرتنا حين هدأ ضجيجنا أن جارتين ستظل فخورة بنا ... 


كانت كلمة غريبة على مسامعنا، فخر ؟!، ضحكنا، لكن ملامح الجدية التي ظهرت على وجه سيدتي جعلت كل منا يتساءل داخل نفسه إن كانت تقصد الكلمة حرفيا ؟!! ، لطالما حملنا العار إلى هذا البلد، هل جاء الوقت حقًا لنصبح حاملين للشرف؟! .. صمتنا جميعا ونحن نقلب الكلمة بعقولنا، ونختلس النظرات إلى بعضنا البعض. وكأننا نتذوق حلاوتها للمرة الأولى . 


ثم نهضت السيدة إلى داخل الكوخ وعادت، وأخرجت إلينا صندوقاً خشبيا صغيرًا، كنت قد رأيتها تحضره من بيتها حين ذهبنا سويا إلى هناك، وقالت وهي تفتحه ليظهر عقد ثمين بداخله


- كان هذا عقد أمي، سيكفي ثمنه لإحضار المزيد من الخيوط. تستطيع كل فتاة أن تجني ثمن ما تصنعه كاملا، ثمن هذا العقد مني إليكم، لن يكون ثمنه كبيرًا جدًا، لكن جيد كبداية ...


هللنا جميعا في فرحة، ثم قالت فتاة قد تبلغ الخامسة عشر مازحة


- هكذا لن تجبرني أمي على ممارسة الرذيلة ...


ضحكت السيدة وقالت: 


- عليك أن تصنعي الكثير إذًا ... 


ضحكنا جميعًا ثم جال ببالي سؤال لم يخطر علي من قبل، لكن شاباً آخر يصغرني سنا سبقني وسأله للسيدة عندما قال: 


- سيدتي، لدي سؤال . 


فهزت رأسها كي يسألها، فقال: 


- إن لم تمارس الفتيات الرذيلة، لن تحمل فتياتنا ، وإن لم يحملن لن يذهبن إلى باحة جويدا، وسكت 


فهزت رأسها مرة أخرى كي يكمل وكأنها تفهم ما يرمي إليه، فتابع الفتى 


- إن لم يذهبن إلى هناك لن يكون هناك مزيد من أطفال النسالي هكذا سينتهي نسلنا 


زادت الهمهمات بين الفتية والفتيات من حولنا، وكأنهم لم يفكروا بهذا الأمر، وأن ممارسة الرذيلة هي | الضمان الحقيقي لبقاء نسلنا 


لكن السيدة قالت بهدوء شديد 


- نعم سينتهي نسل النسالى ... 


ثم تابعت بعد لحظة من الصمت 


- لكن نسلكم أنتم لن ينتهي ... 


فارتسمت ملامح الحيرة على وجوهنا، فقالت: - سينتهي النسل الناتج عن الرذيلة، لكن سيبقى نسل شريف ناتج عن الزواج  


اشتعلت الهمهمات من جديد بيننا ومعها تدفقت الدماء إلى عروقنا، كأن ما قالته السيدة قد ضرب بكل جانب من جوانب أجسادنا ، ونظرنا جميعًا إلى السيدة في صمت مطبق، وكأننا في حلم لم نكن لنجرؤ على التفكير به يوما ما. 


وبينما واصل كل منا صمته وشروده في حلمه الخاص الذي طرقته له السيدة، لم يكن يعرف أحدنا أن لكل حلم ثمنه، وأن ما حدث تلك الليلة لم يكن إلا بداية لجلب المزيد من المتاعب. 



*********************************************************  

 الفصل الرابع و العشرون


حصلنا على مزيد من الخيوط نظير ثمن عقد السيدة الذي باعته بنفسها خشية أن يُعتقل أحد منا بتهمة سرقته، ومن بعده لم تعد المدرسة مكانا لتعليم القراءة والكتابة فقط، بل صار وقت ما بعد الظهيرة مخصصًا للفتيات من أجل صناعة ما يمكن صناعته مما تعلمنه من الكتب المنسوخة .. وكلفت أنا وشابان آخران بإحضار الطعام لكافة الطالبات في ذلك التوقيت، بينما خصصت صباح كل نهار من أجل إكمال تعليم الصغار ونسخ المزيد من الكتب ... 


مع مرور الوقت استطاعت الفتيات إنتاج عدد من المشغولات واستحداث طرق جديدة لاستخلاص زيت الزيتون من أشجار الزيتون المثمرة بالجانب الشرقي لوادينا أكدت لنا السيدة أنه أكثر جودة من زيوت جويدا ... 


كذلك قامت بعض الفتيات باستخلاص كميات كبرى من زيت السمسم من أجولة السمسم التي أحضرتها امرأة نسلية قالت أنها قد اشترتها من أحد دكاكين العطارة، كما تمكن عدد من الفتيان من صنع أوانٍ فخارية مميزة الشكل من طمي التلال المجاورة ... 


مع كل كان هناك يوم جديد يصنعه فتى أو فتاة نسلية، وكان النسالي قد وجدوا أنفسهم يعيشون فجأة، ثم جاء التحدي الرئيسي بعدما عادت الفتيات من السوق الكبير بجويدا ولم يبعن أي شيء مما صنعناه، بعدما رفض الأشراف التعامل معهن ... 


ظللنا جميعًا في خيبة أمل لدقائق بيننا السيدة غفران، قبل أن ينطق شاب ويقول: 


- كُلفت بنسخ كتاب عن بلدان أخرى يفصلها عنا بحر أ 


أكما شمالاً 


وجنوبا، هناك لن يهتموا ما إذا كنا نسالى أو لا.. نستطيع حمل 


بضائعنا إلى هناك. 


فقالت امرأة بجواري 


- ستكون تكلفة الرحلة إلى تلك البلدان باهظة للغاية، لقد اعتاد مالكو السفن تلقي مقابل كبير من النساء اللاتي يبعن أولادهن، وحمل بضائع مثل بضائعنا سوف تجعلهم يطمعون 


ويطلبون أضعاف ما تدفعه النساء ... 


جال في بالي أختي ديما فحدثتُ نفسي 


- لو كانت هنا لاستفسرتُ منها عن أشياء كثيرة بشأن بلاد الفجر الشمالية والسفن التي تبحر إليها، غير أنها لم تعد منذ غادرت بحملها أيام موت سيدي قبل سنوات . . 


وكدت أنطق وأخبر سيدتي عنها لكني تراجعت لم أجد أن الحديث عنها سيفيدنا بشيء، وواصلت صمتي، وصمت الجميع يفكرون بحل جديد، حتى أخبرتنا السيدة بأن نكمل ما نفعله دون أي تغيير حتى يظهر لنا حل في الأفق. 



يوما بعد يوم دلف إلى مدرستنا المزيد من نسالي الوديان الأخرى وصار معظم طلابنا قادرين على صنع أشياء لم نكن لنفكر يوما أننا نمتلك المقدرة لصنعها، لم يكتف الشبان بالتعليم وصناعة الفخار فحسب، بل نافسوا الفتيات في زراعة الأرض الخصبة المجاورة لأشجار الزيتون والقريبة من البئر الشرقي كانت تلك الأرض قد أخرجت لنا من خيرها ما يكفي وادينا ويفيض وصارت الاحتفالات بالحانة تُقام بصورة شبه يومية بعدما كانت تقام .. وبعد أشهر قليلة 

أيام الغفران فقط 


الغريب في الأمر أنه وبعد مرور أشهر قليلة أخرى، قلت الاحتفالات أيام الغفران، وكأننا بدأنا ندرك شيئًا فشيئًا أنه لم يعد أمرًا يُحتفل به، وأن حياة لطفل ناتج عن الرذيلة لا تستحق منا تلك الفرحة، بل ما أحدنا، حتى صارت يستحق الحزن هي تلك الروح التي ى فقدت بإعدام الاحتفالات بكل الأيام عدا يوم الغفران ... 


مع نهاية ذلك العام عاد بعض من طلبة الوديان الأخرى إلى رأيتهم وهم يعدون السيدة بأنهم لن يتوانوا عن تعليم المزيد من أبناء واديهم قبل أن يحتضنوها ويغادروا .. ثم كانت الفرحة  


الحقيقية والاحتفال الأكبر بعدما توصل شاب نسلي يعيش بواد آخر إلى اتفاق مع مالك إحدى السفن يقضي بنقل بضائعنا إلى بلاد الشمال مقابل جزء من ربحنا وقتها هبت نسائم الفرحة لتملأ صدورنا أملاً وكأننا أخذنا خطوتنا الأولى أخيرًا للتحرر من قيود أشراف چارتين ... 


تمنيت لو اختارتني السيدة مع من يبحرون إلى الشمال، لكنها آثرت أن أبقى بالوادي واختارت بعضًا من الفتية الآخرين الأقوياء للذهاب ببضائعنا معهم ثلاثة نساء كنا قد ذهبن إلى الشمال من قبل، حينذاك حدثت إحداهن عن أختي التي تسكن مع غجر تلك البلاد علها تجدها وتخبرها عن التغيّر الذي أصابنا بعد رحيلها، ربما تقتنع بأن تعود للعيش هنا .. 


حملت السفينة الأولى بضائعنا بعد أكثر من عام ونصف على صنع ناردين سجادتها الأولى، وبعد ثلاثة أشهر أخرى عاد إلينا الشبان والفتيات حاملين من القطع الذهبية ما أدركنا أن عهد ارتكاب الرذيلة كُرهًا بين أبنية حارتين قد ولى، بل عهد ارتكاب جرائم النسالي من أجل المال قد أن رحيله .. معه 


وزعت السيدة غفران المال على الفتيات والفتيان دون أن تترك أي قطعة معدنية لنفسها، كما وزعت المواد الخام التي أتى بها الشبان من الشمال، والتي استخدمناها لاحقا في صناعاتنا .. أخبرنا الشبان عن الأسواق اللاتي وجدوها ببلدان الشمال، وعن تهافت تجارها على بضائعنا .. كنت أرى الحماسة التي يتحدثون بها وأنا أتطلع إلى الوجوه كانت تنصت إليهم وتتحفز لصنع المزيد، وكذلك الأملة التي كنت أختلس النظرات إلى ملامح السيدة المبتهجة بكل ما يحدث ... 


في الأيام القليلة التالية قمنا ببناء بناءين؛ أحدهما مجاور لكوخ السيدة وشيدنا حوله سياجًا طوبيا كبيرًا لتتسع باحته للمزيد من الطلبة وآخر على الجهة الخلفية للكوخ خصصناه لتخزين ما نصنعه من أجل حمله إلى بلدان الشمال .. وكأن العجلة قد دارت بدون توقف لم تتوقف الفتيات عن صناعة شيء جديد كل يوم، ولم تتوقف أرض وادينا عن الجود بكل ما تستطيع به إعطاءنا ، وزاد توافد النسالى إلى وادينا من كل حدب وصوب نساء ورجالا، شيدت أكواخ جديدة حتى اتسعت مساحة الوادي لتصير ضعف مساحته قبل عام واحد ومعه فقط 


رأيتُ للمرة الأولى رجالاً نسالى تعبر أعمارهم الأربعين والخمسين وواحدا كان يعبر الستين، كانوا قد شُردوا في صحاري چارتين خشية بطش مدنها .. خشيت لوهلة أن يعود بنا ذلك التدفق المفاجئ خطوات إلى الخلف في ظل أرواحهم الأئمة التي لم تجد من يهذبها مثلنا فتفسد ما تعبت به سيدتي لسنوات، وحدثت سيدتي عن مخاوفي فطمأنتني، وسألتني أن نتركهم ليعملوا معنا، وأضافت: 


تماما. دعهم يجدون يهذب العمل الصالح المجرمين كالعلم : أنفسهم التائهة منذ سنوات طويلة، لابد وأن أرواحهم قد عانت كثيرا


انتبهت لحظتها أنني وصلت إلى عامي الرابع والعشرين ولم أعان مثلما رأيت سيدي يعاني لم أضرب الجدران برأسي أو تثور روحي


هل هذبت روحي تدريجيا السنوات الماضية أم ماذا 18 .. سألت ناردين إن كانت قد أصيبت بنوبات مشابهة لنوبات سيدي ووصفتها لها فأخبرتني بأن ذلك لم يحدث، وإن حدث فلن تتوانى عن المقاومة . سألت الكثيرين إن مر احدهم بنوبات مشابهة، فأنكر الجميع .. التمر بنا الأيام سريعا ، وأجد نفسي أعبر عامي الخامس والعشرين دون أن اعتقل، أو يحدث لي مثلما حدث لسيدي، وكذلك الكثيرون مثلي ...


الأمر الذي بات واضحًا للعيان أن إعدامات الباحة قد قلت بصورة ملحوظة، وصار يوم الغفران بالكاد يحمل إعدامًا واحدًا، بل مرت أيام متتابعة منه دون أن تشهد إعدامًا واحدًا .. سمعت أن نساء من النسالي كن قد حملن من الرذيلة وذهبن مرارا إلى الباحة لحصد أرواحا لأطفالهن، فرجعن خائبات، وولدت أطفالهن موتى .. لكن ذلك لم يترك في نفوسنا حزنًا كبيرا، واسيناهم فحسب ...


ثم كانت المفاجئة الكبري حين خرجت إلينا السيدة غفران لتخبرنا بأن هناك خبرًا سارًا ستقوله، ولما انتبهنا إليها قالت، وقد خرج من ورائها فتى نسلي في مثل عمري يُسمى «حيدر»، وفتاة نسلية تصغرنا بأعوام قليلة تُسمى «سبيل»:


- عليكم أن تقدموا إليهما المباركات .. لقد أخبراني للتوعزمهما على الزواج في باحة جويدا ... 


هللنا جميعا غير مصدقين .. بات الحلم الذي حلمناه قبل أربعة سنوات حقيقة في تلك اللحظة، واتجهنا جميعا إلى حانة الوادي وبمجرد دخولنا دقت موسيقا الشامو ليسرع الجميع إلى منصة 


التراقص، بينما جلست السيدة بطاولتها وجلست بجوارها .. لم تكن السيدة تحب أن ترقص وكذلك لم أجد لي بالا للرقص ذلك . ومكنتُ في مكاني أراقب الشبان الآخرين وأنظر بطرف عيني إلى السيدة وهي تنظر إلى الزوجين المنتظرين وهما يتراقصان في اليوم . سعادة كبيرة ... 


هدأت الموسيقا فقلتُ في الوقت الذي انضمت فيه ناردين إلى 


طاولتنا : 


- متي سيتزوجان؟ 


قالت سيدتي: 


- مثل باقي أهل چارتين يوم الغفران القادم ... على منصة جويدا؟! 


فقالت ناردين في فرحة كبيرة 


قالت سيدتي باسمة: 


- نعم .. 


ثم شردت .. أدركت أن عقلها قد ذهب إلى هناك. كنت أعرف أنها لم تطأ أرض الباحة منذ موت سيدي قبل تسع سنوات ولمحت في عينيها دموعا ملتمعة، فمددت يدي إليها لأربت على يدها. فابتسمت . إلي بعينها الدامعة، فابتسمتُ إليها .. امرأة أخرى غيرها لكانت قد تزوجت شابا آخر شريفا ، وأنجبت من الشرفاء ما يحملون الشرف  


والفخر لعائلتها، لكنها جاءت إلينا لتحمل الشرف إلى الكثيرين منا .. ووجدت نفسي تحدثني نعم مات سيدي لكن موته بعجينها إلينا بات بداية لكثير من الحيوات لم تكن لتحيا قط لولا وجود هذه السيدة الطيبة بيننا .. ثم قاطعت تفكيري عندما قالت بصوت مخترق 


بالدموع 


- ستذهبون بهما إلى الباحة ... 


فقالت ناردين في تعجب 


- ألن تذهبي معنا ؟!! هزت رأسها نفيا وقالت: 


- سأنتظر هنا في الوادي، لن أعود إلى الباحة مجددا .. 


قلت: 


- لا سيدتي لن يُبارك ذلك الزواج إلا بوجودك .. وجودك قوة 


لهما ولنا جميعا ... 


سكتت، فقلت: 


- أعلم أنك ما زلت تلومين نفسك على ما حدث قبل تسع سنوات. 


لكن ما حدث قد حدث 


ثم تابعت:


- انظري حولك انظري إلى من تجاوز عمرهم الخامس والعشرين .. بسببك أنت لا أحد غيرك ...


وأكملت ناطقا بما حدثتني به نفسي


كان موت سيدي بداية الحيوات أخرى كثيرة ...


ربتت على يدي، وامتلأت عيناها بالدموع، فنهضت ناردين وقبلت رأسها .. لاحظتُ للمرة الأولى أن الشيب قد بدأ يخط في شعر سيدتي رغم أنها لم تتجاوز الثالثة والثلاثين، حتى ناردين قد لاحظت ذلك


الأخرى، فقالت مازحة


هي 


- هناك بعض الشعيرات البيضاء سيدتي ... 


فمسحت السيدة دموعها، وأجابت باسمة 


- نعم، يبدو أنني ورثتُ الشيب عن أمي ... 


أكملت ناردين مزاحها، وقالت 


- لنجد لك عريسًا إذا قبل أن يشيب بأكمله . 


ضحكت سيدتي وكادت تنطق بشيء لكنها بدت وكأنها أمسكت 


بكلماتها قبل أن تفر من لسانها، وأومأت برأسها وسكتت، فقلت مبدلاً 


الحديث: 


سيصبح زواج النسالى حدثًا كبيرًا من شأنه أن يرج چارتين 


بأكملها . .. 


قالت: 


نعم، بمجرد ان يعلم كبير القضاة أنه سيشهد على هذا الزواج سينتشر الخبر بجارتين مثلما تنتشر النار في الهشيم ... 


صرنا جميعا في انتظار يوم الغفران الجديد بشوق لم يكن له مثيل وقبل أيام منه غادرت السيدة إلى جويدا من أجل إبلاغ كبير القضاة عن إتمام الزواج على منصة باحة جويدا، وعادت بعد غروب الشمس، غير أننا لاحظنا جميعًا تبدل وجهها. دلفتُ إليها، كان الغضب يسيطر على ملامحها، بينما جلست ناردين صامتة، فقلت: 


- لم يقبلوا ؟! ... 


أومأت برأسها إيجابا دون أن تنطق . 


أخرجتُ ،زفيري وجلستُ واضعًا رأسي بين كفي في خيبة أمل ... 


قالت السيدة بعد فترة من الصمت وهي تنظر إلى القمر المكتمل بالسماء عبر نافذة عالية بجدار الكوخ 


- ربما تنصفنا الأرض بعدما لم يفعل أهلها ... 


سألتها مستفهما : 


- كيف؟! التفتت إلي وقالت: 


- تقضي القواعد بأن يتم الزواج الشرعي بالباحة وكفى لم يُذكر نص صريح عن ضرورة إتمامه على المنصة ... 



أكملت بجدية كبيرة ثم 


سنذهب إلى الباحة لإتمام الزواج يوم الغفران القادم دون صعود المنصة .. سيبقى حيدر وعروسه بين الجمهور، وهناك 


حديث سن الثوم للزواج 


تساءلت ناردين في تعجب 


- أليسا في حاجة إلى قاض ليعلن زواجهما ؟! 


قالت 


- لم يوافق كبير القضاة رغم أنهما يستوفيان شروط الزواج جميعها .. قال إن المنصة ليست مكانا للأنجاس رفض الزواج لمجرد أنهما نسليان ... 


ثم نظرت إلينا وقالت: 


- صار علينا أن نعين قاضيًا لنا إذًا .. 


قلت في تعجب: 


- قاضيا نسليا؟! 


قالت: 


اتسعت حدقتا عيني مما قالته السيدة، وقلت في لهفة 


- نعم ... 


- حسنا .. لتكوني أنت هذا القاضي ... 


قالت: 


- لا يكفيني المدرسة وشئونها. كما أنني أريده أن يكون منكم .. يتجاوز عدد من يجيدون القراءة والكتابة ممن بلغوا الخامسة والعشرين ثلاثمائة .. أعتقد أن الكثيرين منهم مؤهلون لشغل 


هذا المنصب 


قلت في حماسة: 


- سأقوم بنشر الخبر إذًا لعلّ أحدهم يريد أن يصبح قاضي 


النسالي الأول ... 


قالت سيدتي باسمة: 


- قاضي الجنوب 


ضحكت وأنا أتذوق الكلمة: 


- نعم سيدتي، قاضي الجنوب 


بين في خلال ساعات قليلة كان خبر اختيار قاض للنسالي قد انتشر أرجاء الوادي، وبين ملامح الخوف والحيرة نظر إلينا الجميع كأنهم لا يصدقون ما يحدث .. استهان البعض بما تفعله لكننا تجاهلنا سخريتهم، ومع مرور ثلاثة أيام كان أربعة عشر شابا متعلما قد أعلنوا استعدادهم ليصيروا قاضي الزواج وهناك تركت لنا السيدة حرية 


اختيار القاضي الذي نريده اقترح أحد الشبان أن يُسمح لمن يتجاوز عامه العاشرة منا بحق الاختيار سواء كان متعلما أو لا، فوافقت السيدة على ذلك الاقتراح ووافقنا نحن بدورنا ... 


كان الأمر غريبا جدا بالنسبة لنا أن نمتلك حق الاختيار أخيرا!! .. وبين مشاعر مضطربة وأخرى حالمة قمنا باختيار شاب يُسمى «سوار» ليصبح قاضينا الأول .. ثم أخبرته السيدة عن حديث الزواج الذي طالما سمعت كبير قضاة المنصة يردده، وظلت تردده أمامه حتى تأكدت من حفظه له بالكامل، ووضعت له أمامنا مسئوليته عن تسجيل كل زيجات النسالي بدءًا من يوم الغفران التالي .. ثم حدثتني عما سنفعله بين أسوار الباحة. 


تجمعنا صباح يوم الغفران المنتظر .. كان عددنا يقدر بالعشرات فتيانا وفتيات ونساءً وأطفالاً .. تحركنا جميعا سيرًا على أقدامنا إلى باحة جويدا، بيننا حيدر وعروسه سبيل والقاضي الجديد سوار والسيدة غفران .. كنت أرى ملامح التوتر على وجهها تزداد كلما اقتربنا من الباحة، حتى انها لم تنطق بكلمة واحدة بعد وصولنا إلى أن تقول ... مشارف جويدا، كنت أعرف ما تشعر به دون أ 


أخبرني سيدي ذات مرة عن تعلقها الشديد بالباحة منذ صغرها. لأمسك بيدها محاولا طمأنتها فأحسست برعشة جسدها وهي تقبض على يدي .. ثم دلفنا إلى الباحة عبر البوابة الجنوبية كانت نظرات الأشراف إلينا تحمل الكثير من الدهشة بعدما دلفنا مددت يدي لا 


بهذا العدد الكبير كجماعة واحدة وهو ما لم يحدث من قبل، لاحظت كذلك نظراتهم الأكثر دهشة إلى السيدة غفران وكأنهم ظنوا أنها ماتت بعدما لم تزر الباحة طوال السنوات الماضية ... 


وقفنا في الجزء الجنوبي الشرقي للباحة في صفوف دائرية من النسالي فقط، يتوسطنا الشاب وعروسه وبجوارهم القاضي الشاب سوار .. ثم بدأت احتفالات المنصة وانشغل الجميع معها، حاول بعض أشقياء الأشراف ورجال الأمن التحرش بنا ، لكننا تمالكنا أنفسنا ولم يفقد أي منا أعصابه أو يقوم بعمل يُوجب اعتقاله .... 


إلى أن انتهت الاحتفالات، وبدأ كبير القضاة يردد حديث الزواج إلى شاب شريف وفتاة على المنصة في ذلك التوقيت أشارت السيدة غفران برأسها إلى سوار كي يبدأ حديثه إلى عرساننا .. وبينما كان المحتشدون ينظرون إلى المنصة في انتباه شديد، كانت أعيننا معلقة بما يحدث بيننا وبشفاه سوار التي كانت تردد كلمات لا نسمعها من الضجيج، وشفاه حيدر وعروسه اللاتي تردد هي الأخرى ما يقوله قاضينا الجديد، حتى انتهيا قبل أن ينتهي القاضي الكبير على المنصة فأطلقت إحدى الفتيات زغرودة طويلة اندهش معها المحيطين بنا من أشراف چارتين ، والذين لم يعتادوا من قبل سماع زغاريد النسالي قبل مراسم الإعدام . 


حاولنا أن نكتم ضحكاتنا، لكنا لم نستطع، وضحكنا جميعا واحتضن بعضنا البعض في سرور شديد وارتسمت البهجة على وجوهنا ونحن ننظر إلى العروسين لتغمرهم أعيننا بالمباركات دون أن ينطق أحدنا أو يفهم غيرنا من أشراف چارتين ما يدور بيننا 


ثم دوت الموسيقا على المنصة فلم نجد أنفسنا إلا ونحن نتراقص ونحتفل ونضرب الأرض بأقدامنا في غير اهتمام بما تحمله نظرات الأشراف إلينا ، وبينما نحن نتراقص وتدوي ألسنة نسائنا بزغاريدها في فرحة عارمة نظرتُ إلى سيدتي، لأجد أن وجهها قد تبدل وصار أكثر احمرارا وهي تحدّق بعيدا نحو طفل قد يبلغ الثامنة، كان يتشبث بقمة عمود مرتفع للغاية على جانب الباحة .. قبل أن تتخطى الحشود مسرعة في اتجاهه. 



*********************************************************  

 الفصل الخامس و العشرون


كان كل شيء يحدث كما خططنا له دون أن يدري أحد من شرفاء يارتين بما يدر إلى أن انتهى سوار من ترديد حديث الزواج للشاب وعروسه وبدأ التسالي من حولي في إطلاق زغاريدهم والتراقص على أنغام موسيقا المنصة حتى ازدادت الهمهمات المتعجبة من حولنا ..... 


 وبينما كنت أتلفت لأرى أن كل الأمور كانت تسير على ما يرام، حتى جمدت حواسي جميعها حين لمحته عيني بعيدا .. العمود المرتفع ذاته على الجانب الغربي من الباحة يتشبث فوقه طفل بالطريقة ذاتها التي كان يتشبث بها نديم وقتها ابتلعت ريقي في صعوبة، ونظرت بعيدا بعيني إلى المنصة في ذهول، ثم عدت ببصري إليه بعد لحظات تمنى فيها داخلي أن تكون عيني قد أخطأت ... 


 كان الطفل لا يزال موجودًا بالفعل، فتسارعت أنفاسي، لم تكن خیالات صنعها عقلي لأشعر أن كل شيء توقف من حولي، لا أصوات لا همهمات لا حركات فقط كان وحده الاضطراب الذي بدأ يعصف طلات أنظر نحوه، وبسرعة البرق دار برأسى ما حدث بيني وبين نديم من المرة الأولى التي رأيته بها يتعلق على قمة ذلك العمود حتى المرة الأخيرة التي شق فيها خنجري عروق رقبته على المنصة ... 


كانت المرة الأولى التي يشعر فيها جسدي بالبرودة إلى هذا الحد. حاولت أن أتمالك نفسي، والتفتُ إلى النسائي الراقصين من حولي لعلي أنشغل بهم لكني وجدتني أنظر إليه مجددا .. قبل أن أندفع في اتجاهه تمتلى عيني بدموعها التي سرعان ما تساقطت على وجنتي ... 


كان قلبي يدق مسرعًا وأنا أمر بين المتزاحمين وعيني معلقة به، ثم تعالت موسيقا المنصة كأنها تقول لي اركضي اركضي .. فركضت بين المحتشدين يردد لساني كلمات الاعتذار كل ثانية مع كل ارتطام لي بأحدهم .. كان الأمر يزداد صعوبة كلّما اقتربت من منتصف الباحة. حاولت أن أمر بين الواقفين هناك لكنهم تعمدوا ألا يفسحوا في طريقا ... ظن أغلبهم أنني نسلية مع ذلك الفستان الذي كنت أرتديه، وبعدما تحققوا أنني هي غفران فتاة المنصة القديمة تنحوا عن طريقي مهمهمين في أمر ، لكن الأوان كان قد فات ... 


رأيت الطفل ينظر أسفله، قبل أن ينزلق هابطا ويترك مكانه. صرخت نحوه في بأس انتظر أرجوك .. وتابعت تقدمي إلى الجهة الغربية، حتى وصلت لاهثة إلى أسفل العمود. لم أجد له أثرا .. سألت بعضا من الشبان الواقفين على مقربة منه إن كان أحدهم قد رأى الاتجاه الذي ذهب به الطفل الذي كان يرتقي قمة ذلك العمود ، نظرو إلى هيئتي متأففين وصمتوا ... 


صرخت بهم، لم يكن ذلك وقتا للدهشة .. لم يعيروني أي اهتمام وواصلوا انتباههم إلى ما يحدث على المنصة .. ظللت أتلفت حولي بكل الاتجاهات وداخلي يتمنى ألا يكون قد دخل بين المحتشدين، ثم تحركت خطوات إلى كل جهة خارج الباحة لأبحث عنه، لكنني لم أجده


عيني جلستُ مكاني وأسندت ظهري إلى سور الباحة الغربي وأغمضت ألتقط أنفاسي .. ثم سمعت صوت ريان ينادي إلي وهو يعبر البوابة القريبة مني، فمسحت دموعي سريعا بكم فستاني الأيمن قبل أن يقترب، سألني في قلق: 


- هل أنت بخير سيدتي؟! 



قلت: 



- نعم .. 



ثم شرد ذهني .. ظل ينظر لي دون أن يقول شيئًا .. كان يدور في عقلي حينذاك حديث السيدة بيان لي قبل سنوات عن نديم الذي فعل الشيء ذاته الذي تميز به صاحب الروح الذي كانت تحبه، ثم قلتُ لريان في ارتباك 



- هل كنت بالباحة يوم إعدام نديم ؟ 



قال: 



نعم .. 



قلت  



- هل أطلقت أي نسلية زغرودة بعدها ؟! 



قال دون تفكير 



لا .. كانت روح سيدي نقية، لم تذهب لأي طفل ... 



ثم سألني مجددا: 



هل هناك خطب ما ؟! 



قلت بصوت متعب: 



لم يكن علي المجيء معكم ... 



ثم نظرت بطرف عيني إلى قمة العمود ، وقلتُ لريان: 



- هيا بنا .. لنعد إلى الوادي. 



في المساء كانت الاحتفالات بحانة الوادي في أوجها، جلس حيدر وسبيل يتقبلان التهاني من غيرهم من الشبان، بينما قام العازفون يعزف مقطوعات جديدة من الموسيقا، وجلست أنا وريان وناردين بطاولتنا المعتادة، حاولت أن أنسى ما حدث بالصباح، لكني لم أفلح وظل ذهني مشتتا تمامًا .. حتى أن ناردين سألتني هيا الأخرى إن كان هناك خطب بي فهززت رأسي نافية، وحاولت أن أرسم ابتسامتي لعلها تظهر فرحتي بالزوجين الجديدين، لكن حواسي خذلتني، وباءت محاولاتي للابتسام بالفشل. فأخبرتها أنني متعبة قليلا .. ثم نظرت إلى ريان الذي كان منهمكا بالشراب، وسألته  

- هل تعرف أين دفن ندیم؟ 



أجابني: 



- نعم بكل تأكيد، إنني من قمت بدفنه ... 



قلت: 



- أريد أن أذهب إلى هناك. قال وهو يضع كوبه على الطاولة - حسنًا، سآتي معك في الغد ... 



قلت: 



- لا أرجوك .. أريد أن أكون بمفردي، أخبرني فقط عن مكان 



قبره ... 



فقال متعجبا: 



- حسنا .. 



ثم قام بوصف لي موضع قبر نديم بين قبور النسالي، بعدها بقليل هدأت الموسيقا، وهم حيدر وزوجته بالمغادرة إلى كوخهما ، فهممت أنا الأخرى بالانصراف، وتحججت إلى الباقين بأنني مصابة بالإرهاق. كنت في حاجة ماسة إلى أن أكون بمفردي ... 




اتجهت إلى كوخي، وفي الطريق لم تمر لحظة واحدة من غير أن أفكر في طفل الباحة الذي ظهر لي فجأة، ثم وصلت إلى الكوخ، ولكني لم أدلف إلى داخله بل حملت المصباح الزيتي المعلق على جانب بابه الخشبي، وذهبت إلى مقابر النسالى .. كان قبر نديم الرابع بالصف الأول من ناحية الوادي على حسب وصف ،ريان تأكدت منه بعدما وحدتُ الحجر الأملس المدسوس بطرف كومته منحونا عليه بخط بدوي رديء السيد نديم .. قال لي ريان بالحانة أنه من كتبه. فجلست أمامه وضممت ركبتي إلى صدري ومكثت أنظر إليه .. لم تسعة بعد أعوام أصدق أنها المرة الأولى التي أذهب بها إلى هناك. كاملة بالوادي .. بقيت صامتة لفترة قبل أن أنطق : بصوت هادئ 


- أعلم أنني تأخرت كثيرًا عن المجيء إلى هنا .. لكم تمنيت أن أتي إليك في أوقات سابقة، لكني كنت أشعر بالخجل منك ... أتعلم ؟! .. ذهبت إلى الباحة اليوم لأول مرة منذ افتراقنا بها، اليوم تم زواج أول زوج من النسالي كما كنت تحلم، أردت أن 


أخبرك بهذا لأنني أعلم أنه سيفرحك ... هناك رأيتُ طفلا يرتقي القائم الجانبي كما كنت تفعل دوما في طفولتك، ظننتُ لوهلة أنه طفل نسلي يحمل روحك 


وأسرعتُ إليه، لكني لم أتمكن من اللحاق به، كما تعرف. الباحة مزدحمة على الدوام... 


ثم بدأت بعض دموعي تتساقط وأنا أقول: 


- أعلم أن روحك لم ينلها ) أحد. لكني تمنيت لحظتها لو كان ذلك قد حدث، تمنيت لو جاءتني فرصة لأكثر بها عما حدث مني ... 


ثم زاد بكائي واهتزت شفتاي 


 أعلم أنك غاضب مني لا تطيق وجودي هنا، لكنني أموت كل كلما تذكرت ما فعلته .. أتعلم، لو عاد بي الزمن لم أكن الأفعل ما فعلته أبدًا، ولجنتُ معك إلى هذا التكمل سويا ما بدأته 


قبلي .. 


ثم ابتسمت وأنا أبكي


- كان سيصبح لدينا أطفال في عمر السابعة أو الثامنة يلعبون


ويصرخون ...


ثم أغمضت عيني وذهب خيالي بعيدا إلى كوخ صغير يلعب الأطفال بحوشه طفل صغير وطفلتان، بينما أقف أنا ونديم بنافذة كوخنا ننظر إليهم وعلى وجهينا ملامح السعادة .....


قبل أن ندلف إلى الداخل ونغلق النافذة من خلفنا ويحتضنني ثم يقبلني، فانطلقت صرخات أطفالنا المعتادة حين نبتعد عن أعينهم. فحاولت التملص منه لرؤيتهم فأمسك بي وواصل تقبيلي، لكن صرخات الأطفال ظلت تتزايد، بل تداخلت معها صرخات أخرى وكان أطفال الوادي باتوا يصرخون كلهم تضامنًا معهم . 


الأطفال الأشقياء، لا بد لي وأن أعاقبهم على صراخهم المستمر. فضحك حين رأى الغضب على وجهي، لكن سرعان ما تحولت تعابير وجهي إلى فزع شديد عندما نظرت في عينيه وحدقت بهما، لم تكن هناك إلا ألسنة نيران مشتعلة، تعالت معها الصرخات الآتية من خارج الكوخ الأدرك لوهلة أنها صرخات حقيقية تأتي من بعيد ... فتحت عيني، وجدتني لا زلتُ أجلس أمام قبر نديم، بينما تأتي الصرخات المتواصلة من ناحية الوادي ... وثبت من موضعي، وركضتُ في اتجاه الوادي .. صعدت مهرولة 


الجبل الرملي الذي يفصل بين الوادي والمقابر، لأقف مكاني متسمرة في ذهول بعدما رأيت نيرانا عظيمة على امتداد بصري، تلتهم كوخي وبناء المدرسة ومخزن البضائع وبعضًا من الأكواخ المجاورة، بينما يركض الفتيان والفتيات صارخين يحاولون إطفائها بأواني المياه والرمال، ويحمل بعضهم من أصابتهم النيران .. على جانب بعيد كانت عربة لضباط الأمن تقف يشاهد ضباطها عمليات الكر والفر لمن يحاولون إطفاء النيران دون أن يحرك أحدهم ساكنا، أدركتُ ساعتها أن جارتين لم تكن لتمرر زواج النسالي بتلك السهولة التي ظنناها أبدا . 


هبطتُ مهرولة إلى الوادي أجر أقدامي، واتجهت بارتباك شديد يملأ أوانيهم منها هناك استوقفتني فتاة إلى البئر التي الجميع وصرخت وهي تنظر في وجهي 


- إن السيدة بخير السيدة بخير .. 


فالتفت الجميع نحوي غير مصدقين أنفسهم، أدركتُ حينها أن الكثيرين قد ظنوا أن النيران التهمت الكوخ وأنا بداخله .. وسرعان ما تبدلت ملامحهم اليائسة إلى حماسة شديدة، وخاصة بعدما حملت إنائي الممتلئ بالماء، وأسرعت به ركضا تجاه النيران، فحمل كل منهمةإناءه. وواصلوا غمر النيران بالمياه والرمال ...  


كان الحريق عظيمًا إلى حد لم تكن أوانينا الصغيرة لتفعل معه شيئًا، لكننا لم نتوقف للحظة واحدة عن محاولات الإطفاء، وإخلاء الأكواخ القريبة التي لم تصلها النيران وإخماد أي حريق صغير يشب بأحدها قبل أن تأكله النيران بالكامل ... 


ظللنا الليل بأكمله نحاول أن نطفئ تلك النيران، حتى تمكنا من إخمادها أخيرًا مع طلوع النهار، بعدما التهمت كوخي والمدرسة ومخزن البضائع المخزنة وسبعة عشر كوخًا، بينهم كوخ حيدر وعروسه ... كانت الوجوه من حولي واجمة وهي تنظر في صمت إلى الدخان المتصاعد من الركام الأسود المغمور بالمياه، بينما لم تستطع الفتيات تمالك أنفسهن من البكاء. 


لم يكن باستطاعتي أن أنطق بكلمة واحدة، ظللت أنظر إلى آثار الخراب فحسب، ثم فرت دموعي إلى خدي حين ارتطمت بقدمي بقايا كتاب محترق .. وجال في ذهني الكتب التي أحرقت جميعها ولم ينج منها كتاب واحد، ثم مسحت ، دموعي حين شعرتُ بيد ـ كانت يد نارين قالت تمسك بيدي ... 


- سيصبح كل شيء على ما يرام سيدتي ... 


وأكملت: 


طالما أنت بخير سيصبح كل شيء على ما يرام ... 


أومأت برأسي في يأس، ثم تذكرتُ عربة الضباط التي كانت تقف 


بعيدا تشاهد ما يحدث لنا دون حراك، فقلت لها :


- أين ريان؟!


قالت:


- إنه بالحانة، نقل الكثير من المصابين إلى هناك ...


سألتها في لهفة:


- هل أصيب ؟!


قالت:


- لا أدري ..


اتجهت مسرعة إلى هناك، كان اختيار الحانة مناسبا للغاية كونه بعيداً عن مكان الحريق المختنق بالدخان، كما أن ردهتها الواسعة كانت تكفي لجمع المصابين كلهم في مكان واحد .. حين وصلت إلى هناك رأيت ريان يجلس مقرفضا بجوار أحد المصابين. ونهض حين رآني، فالتقطتُ أنفاسي، واطمأن قلبي عندما وجدته سالماً ، ثم اقترب مني وأخبرني أنه قسم المصابين كل حسب إصابته، وأشار إلى ركن بعيد يرقد به عدد من المصابين وقال: 


هناك إصابات الحروق وأشار إلى ركن آخر. وقال: 


وهنا الجروح، ممن أصيبوا أثناء الإطفاء .. 



وأشار إلى الراقدين بمنتصف الحانة 


وهنا لا نعلم ماذا أصابهم، ربما الاختناق .. لا أدري لم أجد جروحا أو حروقًا بأجسادهم، لكنهم مريضون للغاية، ربما 


نحتاج إلى طبيب . .. 


قلت 


- لن يرضى طبيب من الأشراف بالمجيء إلى هنا . 


هز رأسه مصدقًا على كلامي، قبل أن يدلف إلينا شخص غريب أشعث الشعر واللحية، يحمل حقيبة قماشية صغيرة، ويقول: 


- إنني طبيب . 


نظرتُ إليه في دهشة لم أتذكر أنني رأيته من قبل في جويدا، ولم يبد لي أنه من النسالى، لكن ريان صرخ إليه وهو يحدق به: 


- إنني أتذكرك .. 


ثم نظر إلي، وقال في فرحة 


- إنه الطبيب الذي رافق أختي في المرة الأخيرة التي جاءت بها 


*********************************************************  

 الفصل السادس و العشرون


كان خطئًا جسيما مني حين انصعتُ إلى كلام ديما، ووافقت على مغادرتنا چارتين وهي في تلك الحالة السيئة من مرضها ... 


ركبنا السفينة في اليوم السابع من يوم الغفران الذي حصدت به روحًا لجنينها، وبمجرد أن تحركت بنا إلى الشمال اشتد بها المرض بطريقة لم أكن لأتوقعها، وصار معدل نوبات التشنج التي تصيبها ضعف ما كان يحدث في وادي النسالى، حتى أن الخوف قد تسرب إلى المسافرين وانتشرت الأقاويل بينهم بأن شيطانا يسكن جسد تلك الفتاة، وطالبوا صاحب السفينة بأن يُبعدها عنهم. فخصص لها غرفة ضيقة على مضض كنت أراها جيدة بعدما مكنتني من مرافقتها طوال الوقت بعيدا عن صخب المسافرين ... 


في الأيام التالية باتت الأوقات التي تستعيد بها وعيها قليلة للغاية. ومع معدل النوبات الذي تزايد بصورة جنونية بدأت الأعشاب المهدئة في النفاد مني، وتزايدت شكوكي بأن هناك نهاية قاسية تنتظر الفتاة وجنينها 


في اليوم العاشر استجمعت شجاعتي، ودلفت إلى ديما، وأخبرتها بضرورة إنهاء حملها وإنزال ذلك الجنين حفاظا على حياتها .. لم أكن أمتلك الأدوات الكافية للقيام بذلك على متن السفينة، لكني وجدت الأمر يستحق المجازفة، كان باديًا للغاية أنها لن تستطيع إكمال الرحلة إلى الشاطئ الشمالي بذلك التدهور السريع، لكنها رفضت رفضا قاطعا . .. 


تحدثت مع صديق بهذا الأمر، فتحدث معها هو الآخر، فواصلت رفضها ، وظلت تردد باكية في تعب شديد 


- سنظل بخير سنظل بخير. 


فلم أجد سوى أن ألبي رغبتها ، وأبقى برفقتها أناولها في قلة حيلة جرعات مخففة من الأعشاب كي تكفي ما تبقى من أيام، وتناوبت أنا وصديق على مرافقتها بالغرفة والإمساك بها أثناء النوبات، حتى استطعنا الوصول إلى شاطئ بني عيسى مع اليوم العشرين وهي وجنينها على قيد الحياة، في أمر كان أشبه بالمعجزة . 


نقلناها سريعا إلى الشاطئ، ثم أحضر صديق عربته وحصانه ... سألته حينذاك أن ينتظرني، وذهبت للبحث بين البيوت الخشبية على الشاطئ لعلي أجد مكانا يبيع أعشاباً مماثلة للتي كنت أستخدمها ... كنت أعلم أن هناك عشرة أيام أخرى تنتظرنا داخل صحراء بني عيسى قبل الوصول إلى ذلك الوادي، وبغير تلك الأعشاب لن نتمكن من الوصول بها حية إلى هناك .. 


ظللت أبحث وأسأل من يقابلني، لم أجد ذلك المكان الذي أريده د الأشخاص دلني على سفينة كانت على وشك الإبحار يبحر عليها الكثير من التجار ربما أجد بينهم تاجرًا للأعشاب، فصعدت إلى من تلك السفينة راكضا، وبالفعل وجدت هناك من باعنى قدرا كافيًا من الأعشاب التي أريدها مقابل ثلاثة قطع ذهبية وعدت لكن ! سريعا إليهم لنبدأ رحلتنا إلى بني عيسى ... 


في الطريق إلى بني عيسى سألني صديق إن كنت أعتقد بأن مولودها سيولد سليمًا بعد كل ما أصابها، زممتُ شفتي وأجبته بأن وصولها لموعد الولادة بتلك الحالة المتدهورة سيكون معجزة أخرى في حد ذاته، ثم أخبرته بأنني سأذهب بها إلى العيادة الطبية التي كنت أعمل بها قبل ذهابنا إلى جارتين هناك من الأدوات الطبية والأعشاب ما يمكنني من الاعتناء بها، غير أن داخلي كان يحمل سببًا آخر لم أكن لأخبره به ... 


وصلنا بعد عشرة أيام إلى العيادة استقبلني صالح بدهشة كبيرة. ظن الفتى أنني عدت إلى بلدي، وما لبث أن استفاق من دهشته. فحضنني مرحبا بي قبل أن يساعدنا في حمل ديما وأغراضها إلى الداخل، أخبرته أنها ستبقى معنا حتى موعد وضعها بعد ثلاثة أشهر. وخاصةً بعدما أظهرتُ له خمس قطع ذهبية. وأضاف لم يعارضني . ضاحكا: 


- حسنا، يات لدينا مرضى أخيرا، ساعد لها سريرا بغرفة الأعشاب المجاورة لغرفة الكشف ... 


بينما همّ صدِّيق بالمغادرة إلى وادي الغجر، وأخبرني أنه سيعاود المجيء بين الحين والآخر سألته إن كان محافظا على وعده لي بإرشادي إلى من يعرف الطريق إلى بلدي، أجابني بأنه سيحملني إليه بمجرد أن تأتي ديما بطفلها إلى الحياة، وأضاف بلؤم وهو يعد عربته من أجل الرحيل 


- على كل منا أن يفي بوعده أيها الطبيب. 


في خلال تلك الأسابيع حاولت الاستعانة بكتب طبية قديمة وجدتها أسفل سرير صالح مغطاة بالأتربة، وقضيت ليالي كثيرة أبحث بين صفحاتها عن طرق لاستحضار خلطات من الأعشاب لعلها تفيد ديما وتقلل عدد نوبات مرضها، لكن شيئًا لم يفلح . 


وأمام رغبتها الحتمية بإبقاء حملها قائمًا ظلت مكتوف الأيدي أكتفي فقط بمتابعتها ومتابعة جنينها، بينما تكفّل صالح بالحفاظ على تغذيتها الجيدة بقدر المستطاع .. الغريب في الأمر أن بابنا قد طرق في الشهر الثاني وزارنا مريض جديد، وبعد أيام أخرى زارنا مرضى آخرون، وكأن وجود تلك الفتاة بين جنبات عيادتنا الخاوية قد 


أعاد إليها الحياة. 


ظل صديق يتردد علينا على فترات ومع مرور الوقت لم أر في عينيه أنه بات يهتم بحياة ديما على قدر ما يهتم بحياة الطفل، أخبرته أنتي لا أتوقع أي تقدم بحالتها وإن كانت تعبر الايام نحو موعد ولادتها 


هنأني بغير اكتراث على المرضى الجدد وغادر على أن يعود بعدها 


بأيام 


في الأسبوع الثاني من الشهر الثالث فوجئت بتحسن الفتاة نسبيا. في معدل النوبات فجأةً وتباعد الوقت بينها رغم أنني لم أغير شيئًا من جرعات علاجي، حتى أن صالح أخبرني أنه يود أن يركض بشوارع بني عيسى ليخبر الجميع أن الفتاة الحبلى قد تحسنت قبيل موعد الولادة، يومها اقتربت منها، فنظرت إلي متعبة، وقالت باسمة 


كنت تريدني أن أقتله ؟ 


ضحكت وقلت: 


- يبدو أن النسالي يحتاجون إلى طب خاص بهم. 


أمسكت بيدي وقالت: 


- كنت أعلم أنه سينجو . - لقد اقترب موعد وصوله للغاية. 


ربت على يدها وقت 


فضحكت غير أن تلك الضحكة لم تبق لأيام كثيرة .. فوجئت بعدها بثلاثة أيام بصالح يوقظني بمنتصف الليل، ويخبرني مفزوعا بأن نوبة شديدة تصيب ديما .. وثبت من نومي، وأسرعت مهرولا إلى غرفتها كانت النوبية قد انتهت مع وصولي إليها، لكن ملامحي سرعان ما اضطربت حين وجدت صدرها قد توقف عن الهبوط والارتفاع قبل أن يتسرب اللون الأزرق إلى شفتيها. 


خطفت سماعتي الطبية، وحاولت سماع دقات قلبها لم يكن هناك شيء سوى السكون، نظرتُ بتوتر في عينها الغائرة ذات الحدقة المتسعة وتحركت بالسماعة إلى بطنها كانت دقات الجنين السريعة لا تزال تدق، سالني صالح مذهولا بعدما رأى تعبيرات وجهي وحركاتي 


المنفعلة 


ماتت ؟! 


لم أجبه، كنت أحاول التركيز على دقات قلب الجنين، قبل أن أُلقي بسماعتي إلى السرير بجانبها، وأركض إلى المطبخ الذي يعد به صالح طعامنا ومنه إلى غرفة الكشف المجاورة، وأعود إليها مسرعا بسكين 


حاد وعدد من الآلات الجراحية كنت قد جمعتها في إناء واحد قبلها بأيام، قال صالح مذعورا: 


- ماذا تفعل ؟!! 


قلت وأنا أحرّك يدي اليسرى على بطنها الكبيرة لأحدد المكان 


الذي أغرس فيه طرف سكيني: 


لا يزال الجنين حيا ..


ثم لامست طرف السكين لجلد بطنها بمحاذاة سبابتي، قبل أن أشق بنصله طبقاتها طبقة وراء الأخرى وصالح يقف بجانبي ينظر إلي فحسب، حتى اندفع السائل المحيط بالجنين وأغرق الفراش من



أسفلها، فأسرعت بتوسيع الشق الذي صنعته، وأبعدت طرفيه بيدي بقوة، ليظهر الجنين أمامنا


 أخرجت الجنين برفق، ومسحت بيدي السوائل التي تبلل جسده ظل صامتا للحظات، طرقته طرقات خفيفة على ظهره، بينما واصل صالح نظراته الحائرة إلي وإلى الطفل، قبل أن تنفرج أساريره عندما انطلقت أولى صرخات الطفل الباكية ليلتقط معها أول أنفاسه بهذه 


الحياة .. 


أسرع صالح بتجفيف جسد الطفل وتدفئته، ولفه داخل غطاء صوفي اعتاد أن يستخدمه بالأوقات الباردة، بينما مكثتُ أخيط الطبقة الخارجية من بطن ديما باستخدام خيوط طبية أخبرني صالح أنها ظلت لسنوات بخزانة الأعشاب دون استخدام، ثم انتهيت، فسألني 


وهو ينظر إلى وجه ديما 


- كان تحسنها الأسبوع الماضي صحوة الموت؟! 


قلت زاما شفتي: 


- لا أعرف .. 


قال 


- سأذهب في الصباح إلى شيخ الوادي لإخباره عن موت الفتاة ... أومأت برأسي، ثم غادرنا غرفة ديما وصعدنا إلى غرفتنا بالطابق العلوي، قال صالح وهو يضع الطفل على سريري أنه لم ير في جرأتي  


 بعدما اتخذت قراري بشق بطن الفتاة الميئة، كان غيري ليتركها و يترك جنينها ، قلت وأنا أتفقد الطفل: 


- كتبت له النجاة فحسب ... 


قال: 


نعم .. 


وتابع: 


سيفرح صديق بذلك . 


يحدث ثم تثاءب وزحف أسفل فراشه وأغمض عينيه وكأن شيئًا لم أما أنا فجلست في سريري أنظر إلى الطفل بجواري، وأفكر في صديق الذي سيصل في أي وقت لأخذ الطفل إلى وادي الغجر .. ثم مر وقت ثقيل لم يتوقف به عقلي عن الضجيج، قبل أن أنهض وأهبط إلى غرفة ديما مرة أخرى ... 


أشعلت المصباح الزيتي، وقربته من سريرها، ثم ـ كشفت بطنها ليظهر جرحها الكبير أمامي، ثم بدأت أزيل الغرز الجراحية التي قمت بخياطتها قبل ساعة واحدة، وأبعدت بيدي حافتي الجرح لأصنع 


بينهما فجوة كبيرة ... 


ثم سحبت الفراش الملوّث بالدماء وماء الجنين من أسفلها وجذبت وسادة صغيرة كانت بجوارها واستخدمت المقص الجراحي لتمزيقها وإخراج حشوها المكوّن من قطع قماشية قديمة، ثم كوّرتها 


مع الفراش الأصنع كرة قماشية ذات حجم مناسب، ووضعتها بداخل تجويف بطن الفتاة وهمست اليها وأنا أقوم بعشرها سامحيني أيتها الفتاة، أعطيتك وعدا بالحفاظ عليك وعلى مالك .. لم أستطع إنقاذك لكن هناك فرصة لإنقاذ طفلك ... 


ثم قربت حافتي الشق البطني، وقمت بخياطته من جديد التعود البطن إلى حجمها الكبير كما كانت قبيل موتها، ثم ألبستها ثوبا نظيفا كان بين أغراضها، وحملتها إلى غرفة الكشف المجاورة، وهناك منتها بملاءة بيضاء .. ثم صعدت إلى غرفتي، وجلست على سريري أنظر إلى صالح النائم وأنا أحاول تمالك أعصابي لم همست إليه 


كي يستيقظ، تعجب مني، وسألني في تذمر بعين نصف مغلقة إن كان هناك خطب ما .. هن 


حين تذهب إلى شيخ الوادي لا تخبره بأن هناك طفلا قد ولد 


فرك عينه وتساءل باستغراب 


- لماذا؟ 


قلت: 


- أخبره فقط أن الفتاة قد ماتت قبل وضعها . فاعتدل في جلسته وحاول أن يجمع ما أقوله له، فقلت لا أريد أن يعرف أحد بأن جنين ديما قد نجا ... 


قال: 


لكن صديق سيأتي لأخذه ... 


قلت: 


سنخبر صديق بذلك أيضًا، ماتت الفتاة وجنينها ... 


فنظر إلي وسكت ثم قال: 


- لا أعلم ما الذي تفكر به، لكن إن لم يحصل صديق على الطفل لن يدلك على من يرشدك إلى بلدك ... 


أومأت برأسي إيجابا ، وقلت: 


- أعرف ذلك، لكني لن أترك هذا الطفل ليباع للفجر. 



*********************************************************  

 الفصل السابع و العشرون


ساعدنا الطبيب الذي ظهر لنا فجأة بالحانة في تضميد بعض الحالات، ثم تأكد من تعلمي أنا وريان كيفية تنظيف الجروح والحروق، فتركنا وذهب مع شاب آخر إلى جوار الوادي، وقال أنه سيبحث عن بعض الأعشاب التي قد تفيد المرضى وخاصة الذين أصيبوا بالاختناق. 


ثم عاد إلينا بعد منتصف النهار وأخرج من حقيبته أنواعًا مختلفة من الأعشاب، وقام بمضغ كل عشب على حدة قبل أن يخلطها بالماء داخل أوان صغيرة أحضرها له على الحانة، ثم تنقل بين المرضى، وتناول كلا منهم مقداراً صغيرًا من إحداها، ثم توجه إلى المصابين، وفك الضمادات التي وضعناها أنا وريان، وتطع الجروح 


بأعشابه المهروسة، ثم ضمدها من جديد، وقال: ستساعد هذه الأعشاب على تقليل الألم والتئام الجروح ... 


لم نقل شيئا، تركناه يفعل ما يراه حتى انتهى فجلس قبالتنا، كان الصمت والحزن يخيمان علينا جميعا، ظل مشهد الحريق وملامح الخوف المنطبعة على وجوه النسالى يسيطرون على كل تفكيري، ثم نطق ريان مقاطعًا لصمتنا 


- شكرًا أيها الطبيب كنا في حاجة ماسة إليك ... 


قال الطبيب في تواضع كبير 


- لم أفعل شيئًا .. سيكونون بخير جميعهم ... 


صمتنا مرة أخرى، حتى تحدث ريان مجددا: - ما الذي عاد بك إلى هنا ؟! .. هل حدث مكروه لديما ؟! 


قال الطبيب في حزن بعدما زم شفتيه 


- لقد ماتت ديما منذ سنوات طويلة ... 


وأردف: 


في العام الذي رحلنا به ... 


انتبهت لحظتها إلى حديثهما، وأكمل الطبيب 


- بلغ مرضها حدًا سيئًا للغاية مع حملها .. أخبرتها أنها في حاجة ضرورية إلى إنزال الجنين حفاظًا على حياتها، لكنها رفضت أن تجهضه ... ظلت حالتها تسوء يوما بعد يوم، حتى فارقت الحياة قبل أيام من موعد ولادتها ... 


كانت الدموع قد ظهرت بعين ريان فوضعت رأسي بين كفي ونظرت في حزن إلى الطاولة أمامي قبل أن يتساءل إلى الطبيب


بصوت يخنقه الدموع


لماذا لم ترد التضحية بجنين ميت ؟1


قال الطبيب بصوت هادئ 


- لم يكن مينا ... 


سأله ريان على الفور في تعجب: 


- هل جاءت إلى الباحة بيوم غفران آخر خلاف اليوم الذي جئتم به؟! 


قال الطبيب 


لا 


وصمت برهةً، ثم تابع: 


- أخفت ديما عنك يوم كنا هنا أنها قد حصدت روحًا لجنينها. 


لحظتها رفعتُ إليه عيني في ذهول وحدق به ريان كذلك، قبل أن يحرك عينه إلي وينظر في عيني، وكأن عقولنا قد عصفت بالشيء 


ذاته. 


نطق ريان في لهفة بما لم استطع النطق به 


- حصدت ديما روح السيد نديم لجنينها ؟! 


قال الطبيب 


- نعم .. 


وأردف: 


- أخبرتني يومها أن الكثيرين وخاصةً أنت يحبون صاحب الروح كثيرا ، وخافت أن يمنعها أحدكم من مغادرة الوادي ..


كان الذهول يسيطر على وجهينا لكن ريان لم يستطع تمالك أعصابه، وركل مقعدا أمامه بقدمه وصرخ:


- لماذا فعلت ذلك ؟! 


ثم حمل المقعد وقذفه أرضًا فتهشم، قبل أن يلتفت إلى الطبيب في ترقب حين تابع حديثه في هدوء وقال: 


- تمكنت من إنقاذ الطفل بعد موتها .. 


وسأله وهو يحدق به: 


- أين هو؟! 



*********************************************************  

 الفصل الثامن و العشرون


كنتُ أقف على باب غرفة الكشف عندما سألني صديق وهو 


يتفحص وجه جثة ديما 


- كيف حدث ذلك؟! 


:قلت 


- نوبة قوية من التشنجات لم تنج منها ... 


نظر إلى جسدها الملفوف بالملاءة وإلى انبعاج بطنها نظرة مطولة ثم غطى وجهها، وقال: 


- هل أبلغتم شيخ الوادي؟


قلت:


- نعم. ذهب صالح لإبلاغه .


هز رأسه متأثرا وقال:


- كادت تفعلها ...


اومأت برأسي، ثم قلت:


- سيتولى صالح أمر دفنها بمقابر هذا الوادي ..


قال:


- افعلوا ما شئتم ..


وهم ليغادر، قلت:


- أريدك أن ترشدني إلى من يصحبني إلى بلادي ...


قال ما كنت أتوقعه


- كان عليك أن تفي بوعدك


قلت:


- تعلم أنه لم يكن بيدي شيء .


قال


- كان وعد ديما لك واضحًا أن تعتني بها وبطفلها مقابل أن أرشدك إلى من يعود بك إلى بلدك ...


قلت في تبرم ساخر


- لا وعد للفجر ..


نظر إلي نظرةً غاضبة شعرتُ معها أنه قد يلكمني، لكنه غمغم بكلماته، وأكمل طريقه مغادرا .. فأغلقت الباب من خلفه، وتنفست الصعداء .. بعدها بوقت قليل عاد صالح من الخارج، وسألني على


الفور


- هل أتى صديق؟! قلت:


- نعم ..


قال:


- ماذا قال؟!


قلت:


لا شيء عرف أن ديما وجنينها قد ماتا ، وتركني وغادر...


قال:


- لم يشك بشيء ؟!


اومأت برأسي نافيًا، وقلت:


- هل وجدت المرأة التي أخبرتني عنها؟


قال:


- نعم ...


كان صالح قد أخبرني في ساعة مبكرة من اليوم عن امرأة وضعت طفلا منذ شهر بوادي مجاور من وديان بني عيسى غير وادي الغجر وقد توافق على إرضاع الطفل مقابل بضعة من القطع الذهبية أردف: - أخبرتها أن أمه قد ماتت وأن أباه من أرسلني إليها، وأعطيتها


القطع الذهبية التي أعطيتها إلي، سألتني عن اسمه، لم أدر ما أقول، فقلت «آدم» ...


ابتسمت، فتابع - وأخبرت شيخ الوادي عن موت الفتاة وجنينها كما أخبرتني .. سيرسل من يساعدني بنقلها إلى مقابر الوادي قبل غروب الشمس .. 


قلت: 


- خير ما فعلت . 


 قال وهو يجلس ليستريح 


- ستبقى بوادينا إذا ؟  


قلت: 


- يبدو أنه قدري .. 


ثم تابعت: 


- على كل حال، صار لدينا عدد جيد من المرضى، يستحقون أن أبقى من أجلهم .. 


قال: 


والطفل؟! 


فكرتُ قليلا ، ثم قلتُ: 


- لا أعلم بعد، لكنه سيبقى لدى المرأة حتى يتم رضاعته على أقل تقدير، لا أحد يعلم بعدها ماذا قد يحدث ... 


وتابعت في تردد: 


- ربما أخده معي إن سنحت لي فرصة للعودة إلى بلادي ..


قال:


- ليس لديك خطة واضحة بشانه إذا؟ 


قلت واجما وأنا أنظر نحو جسد أمه المغطى


 - نعم، لا خطة لدي.


مرت أيام أخرى كثيرة، تزايد خلالها عدد المرضى أكثر وأكثر بصورة لم أكن أتوقعها، وصرت أنال مقابلا جيدا للغاية، خصصت منه جزءًا للسيدة التي تولت تربية الطفل . .. وبين حين وآخر گفت أتردد إليها من أجل الاطمئنان عليه .. كنتُ واضحا للغاية مع نفسي أنني لم أكن أستطيع الاعتناء به كما وجدت تلك المرأة تفعل، فعرضت عليها أن تكمل تربيته بعد إتمام رضاعته مقابل استمرار ما أدفعه


لها .. مع مرور الأيام زادت ثقة الكثيرين من أهل الوديان بي، وصرت معروفا بينهم بطبيب الوادي، ومع ذلك لم أجد قط من يوافق على 


اصطحابي إلى السكة الحديدية، حتى أدركت نهاية المطاف أنني سأقضي حياتي هناك . 


لم أر صدّيق منذ آخر مرة رأيته فيها، وترك صالح المعيشة معي وتزوج ببيت صغير مجاور، وبات يتردد على العمل نهارا فقط أما أنا فمكثتُ أقضي أيامي بين المرضى والوادي المجاور مع أدم. كانت مربيته امرأةٌ صالحة لطالما جلست معها نتحدث بشأنه كانت تحدثني دائما عن رفضه التأقلم مع باقي أطفالها. وعن ذلك الحزن المدفون الذي تراه في أعينه، أو كما كانت تقول شعور دائم بالمرية 


يُغلّف كل أفعاله رغم صغر سنه ... كنت أخبرها كل مرة أن موعد استعادته منها قد اقترب أيام قليلة فحسب، لكن الأيام صارت شهورا وتلاصقت الشهور وصارت  سنوات، لأجده قد بلغ التاسعة من عمره في غمضة عين دون أن يعرف داخلي أبدا خطوتي الجديدة بشأنه . 


إلى أن جاء ذلك اليوم حين دلفت إلى العيادة فتاة مريضة كانت تعاني من ألم حاد ببطنها ، وعندما شرعت في فحصها توقفت شاردا بعد ما لمحت ذلك الوشم على كتفها الأيسر، وقلت متعجبا: 


نسلية؟! 


قالت: 


- نعم .. 


أخبرتها أنني زرتُ چارتين من قبل، سألتني عن سبب زيارتي، لم أخبرها عن ديما، وقلت أنها كانت زيارة من أجل الإطلاع فحسب، تحدثنا عن النسالي قالت في فرحة بأن تغييرًا كبيرًا قد حدث بين فتيان وفتيات النسالى خلال السنوات القليلة الماضية بعد قدوم ما أسمتها السيدة غفران إلى واديهم .. وأنها لم تأت إلى بني عيسى إلا من أجل بيع بعض من بضائعهم، لكنها شعرت بألم مفاجئ فأخبرتها امرأة عني، سألتها وأنا أحاول تذكر اسمه: 


- هناك شاب يسمى ريان ما زال على قيد الحياة ؟!


قالت:


نعم ، مساعد السيدة إنه أكثرنا براعة في تعليم الصغار القراءة والكتابة ..


ابتسمت في دهشة، وقلت:


- قابلته من قبل، كان وقتها يبلغ خمسة عشر أو ستة عشر عاما ... لكني لم أتوقع أنه لا يزال على قيد الحياة، لطالما سمعت أن القليلين من فتيان النسالى من يستطيعون النجاة من منصة


چارتين بعد بلوغهم ...


قالت:


- إنه شاب صالح الجميع يحبونه هناك ...


كدت أخبرها في تلك اللحظة عن طفل ديما، لكني أمسكت بلساني وتراجعت لم أكن أمتلك الثقة الكاملة بها لكونها نسلية .. وتركتها تغادر بعدما انتهينا ، ثم وقفتُ بالنافذة أراقبها وهي تسير تجاه فتاتين آخرتين كانتا تحملان أحمالاً مُغطاة بالقماش فوق رؤوسهن، ثم الأخرى حملها، وقتها دلف إلي صالح يخبرني بأن هناك حملت هي


مريضًا آخر في انتظاري .. لم أنتبه إلى ما يقوله، وظللت شاردًا وأنا أراقب الفتيات وهن يبتعدن، حتى غبن عن نظري، فتعجب حين طال شرودي، وسألني إن كان هناك خطبٌ ما، فالتفت إليه، وقلت:


سأعود بآدم إلى جارتين ...


دلني صالح إلى أحد الرجال الذي اصطحبني أنا وأدم إلى شاطئ أكما، وهناك ركبنا السفينة المتجهة إلى جارتين كما ما فعلت مع أمه بحر وصديق قبل تسع سنوات ... كانت المرة الأولى التي أبقى بها مع الطفل لمدة طويلة، لم يكن يتحدث كثيرا ، فتركته يتجول على سطح السفينة وبقيت أراقبه من بعيد


كانت السفينة تحمل الكثير من المسافرين، وكان الجميع يرتدون ثيابا متقاربة، فلم أستطع تفريق أهل چارتين عن النسالى، غير أنني لمحت الفتاة النسلية التي جاءتني مريضة قبل أسبوعين، وحين رأتني اقتربت مني متعجبة، وسألتني عن سبب ذهابي، ضحكت وأخبرتها كاذبا أنني أود الذهاب بطفلي إلى جارتين من أجل مشاهدة يوم الغفران .. تحدثنا كثيرًا ، حدثتني بتفاصيل أكثر عما يدور داخل وادي النسالي في تلك الأيام، وعن انصراف أغلبية الفتيات عن ممارسة الرذيلة، ثم أحضرت لي بعض البضائع التي لم تتمكن من بيعها لتؤكد كلامها، وددت لو اشتريت منها ، لكني لم أكن في حاجة إلى أي شيء


مما تبيعه .


أتذكر حين عبرنا بمحاذاة جدار چارتين العظيم قامت هي ومن معها من فتيات النسالى بكشف أكتافهن لتبدو أواشمهن ظاهرة للغاية، كما قام الفتيان بخلع سترهم، لتظهر أوشام صدورهم .. في تلك اللحظة فقط استطعت معرفة من هم النسالى من المسافرين ومن هم غير ذلك، قلتُ لآدم بعدما رأيته يحدق شاردا نحو الجدار


- إنه بلدك


واصل نظراته إلى الجدار كانه لم يسمعني .. ثم ظهرت في اليوم التالي بيوت القرية الجنوبية والجبال الحمراء المطلة على البحر حين اقتربنا من الميناء الجنوبي، ولما رست السفينة كانت حالة الهرج والمرج شديدة للغاية بسبب التزاحم الكثيف .. فأمسكت بيد الطفل جيدا وهبطنا بحذر إلى الزحام الذي ينتظرنا، وبينما كنتُ أتلفت لأبحث بعيني عن الفتاة النسلية كي أخبرها في تلك اللحظة أنني سأذهب معها إلى وادي النسالى، فوجئتُ بصوت البارود وصداه يصم آذاننا .


كان ضابط شاب من ضباط الأمن يصوّب سلاحه الناري إلى السماء، ويطلق طلقاته واحدة تلو الأخرى دون توقف فهدأ ضجيج المتزاحمين وقتها .. توقعتُ مما يحدث أمامي أن هناك من سُرق ماله، ومن ثم سيبدأ ذلك الضابط ومن معه بتفتيش المسافرين .. في هذه اللحظة لمحت الفتاة، كانت تقف على بعد أمتار مني، تنظر نحو الضابط ويرتسم الخوف على وجهها، ثم تقدمنا قليلا إلى الأمام ...


لاحظت أن الضابط يسمح بمرور أشراف چارتين دون تفتيش


ويستوقف النسالى فقط، قبل أن يصفع وجه النسلي الذي يستوقفه


حتى يجثو أمامه، ثم يقوم بتفتيشه بعنف شديد، وإن رفع رأسه لا


يتأخر عن ضربه بعصاة قصيرة كان يمسك بها، أو ركل جسده بقوة...


ظل يفتش النسالى واحدا تلو الآخر دون أن يبدي أي منهم اعتراضه على الطريقة المهينة التي يستخدمها، ثم جاء دور الفتاة


جئت على ركبتيها بينما قام الضابط بتفتيشها، وحين رفعت عينها إليه أمسك بشعرها بقوة وقام بصفع وجهها صفعة أجفل معها جسدي من شدتها، ثم كرر الأمر دون أي مبرر .. جال في ذهني وقتها أنه يقوم بتأديبهم بعدما وشى عليهم أحد الأشراف لأنهم أخفوا أوشامهم خارج چارتين، لكنها كانت مجرد أفكار برأسي ...


واصل الضابط صفعه للفتاة حتى سالت الدماء من وجهها دون أن يتحرك أي أحد للدفاع عنها بقي الجميع في أماكنهم ينتظرون دورهم حتى فوجئنا جميعًا بذلك الحجر الذي صُوب بقوة ودقة بالغتين تجاه وجه الضابط، فهبط على ركبتيه ممسكًا بأنفه في تألم واضح، بينما بدأت الدماء تنساب دون توقف من بين أصابعه .. ثم رفع عينيه الناقمتين تجاهي، لم يكن ينظر إلي ...


كان ينظر إلى آدم الذي وجدته قد ترك يدي، ووقف على بعد خطوتين مني يحمل حجرًا آخر، وينظر متأهبا نحو الضابط في تحد شديد، قبل أن يصرخ الضابط غاضبًا، وينهض ليركض بعصاه تجاه آدم، ومعه بعض الضباط الآخرين، فصوّب الطفل حجره الثاني نحوه، ثم ركض مبتعدا إلى الزحام ...


وبينما طوقنا عدد من رجال الأمن الآخرين وأرغمونا على الجلوس مقرفصين واضعين أيادينا فوق رؤسنا، ظللت أنظر إلى الطفل وهو يركض بين المتزاحمين ويراوغ ضباط الأمن واحدا وراء الآخر في براعة شديدة دون أن يستطيع أحد الإمساك به، حتى اختفى عن نظري، فوقفت بين الجالسين لرؤيته، فقام أحد الضباط بضربي بعصاه بغلظة كى أهبط على ركبتي مجددًا، لكني واصلت وقوفي وتحديقي نحو آدم وهو يواصل مراوغته للضباط، حتى ابتعد عن أقرب الضباط إليه بمسافة كافية، ليكمل ركضه مبتعدا دون أن يلتفت خلفه .. وقتها أيقنت أن ذلك الطفل قد وجد موطنه أخيرا. 



*********************************************************  

 الفصل التاسع و العشرون


أكمل إلينا الطبيب بأنه اعتقل بين كثير من النسالي بعد ما لم يتمكن الظباط من اللحاق بالطفل، وكعادة المعتقلين قبيل أيام الغفران، لم يكن لينظر في أمرهم حتى الانتهاء من مراسمها، ثم أطلق سراحه في اليوم الثاني من يوم الغفران لكونه غير نسلي، وجاء إلينا ليخبرنا بأمر ذلك الطفل آملا أن يجده قد عرف طريقه إلينا، سأله ريان 


- هل كان يحمل وشما؟ 


أجاب الطبيب 


لا 


سأله مجددا: 


لا  


- هل حدثته عن كونه نسلي؟! 


قال الطبيب مرة أخرى: 


لا  


 فأخرج ريان زفيره، وقال: 


- فقدناه للأبد . 


كنتُ أستمع إليهما فحسب، لم استطع أن أنطق بشيء ما كان يجول في ذهني هو شيء واحد فقط، أن ذلك الطفل هو نفسه الطفل الذي رأيته يتشبث بقائم الباحة، لكني نظرتُ إلى الطبيب وقلت في النهاية وأنا أحاول أن أظهر ثباتي أمامهما: 



- أريدك أن تبقى بيننا حتى يكتمل شفاء المصابين، لن يرضى أي طبيب چارتيني بالمجيء إلى هنا، أستطيع أن أوفر لك 


مقابلا . 


عن المدة التي تبقى بها بيننا ... 


فنظر إلى المصابين الراقدين وهز رأسه موافقاً. 


دبر ريان للطبيب كوخا بجوار الحانة للمبيت به وكذلك فعل لي لم نتحدث كثيرًا تلك الليلة عما حدث لأكواخنا، وأثرتُ أن تخلد إلى الراحة ليلتها بعدما أصاب الإجهاد جميعنا، وتركتهم وأويت إلى فراشي .. لم يمهل حديث الطبيب لعقلي وقتا كي أفكر بما حدث لكوخي والأكواخ المجاورة، ظل تفكيري يضج مضطرباً بكل كلمة نطق بها، إلى أن حدثتني نفسي بألا أتعلق كثيرًا بأمل زائف الطفل وقد عقد، وان 


عاد إلينا لن يتذكر شيئًا، مثله مثل النسالي هم أناس مختلفون تماما عن أصحاب الروح القديمة، لكل واحدٍ منهم حياته الجديدة التي نشأ عليها.


تمنيت لو قبل الطبيب أن يبقى بيننا مدة أطول، لا من أجل المرضى فحسب، كان داخلي يود أن يقول بأنه الوحيد الذي يعرف الطفل، لكني لم أكن لأجرؤ بأن أطالبه بذلك الأمر صراحة .. ثم غلبني النوم. ولم أستيقظ إلا مع ظهيرة اليوم التالي لأجد ناردين في انتظاري ... تعجبت من تركها لي نائمة كل ذلك الوقت، قالت أنها وجدتني متعبة للغاية، ولم تشأ أن تزعجني ..


توجهت لاحقًا إلى ريان كان هو والطبيب يتفقدان أماكن الحريق بينما يقوم باقي فتيان وفتيات النسالى بإخلاء الأرض من البقايا المحترقة .. ثم تركنا ريان وانضم إليهم، وبقي الطبيب بجواري، قال:


سمعت كثيرًا عما دار في هذا الوادي على يديك ...


:قلت


- إنهم يستحقون حياة أفضل مما كانوا يعيشونها ...


قال:


- رأيت معاناتهم على أيدي ضباط الأمن بالميناء الجنوبي وكذلك بين جدران السجن عندما اعتقلتُ لأيام، ثم قال وهو ينظر إلى آثار الحريق


شرفاء چارتين من فعلوها ؟!


هززت رأسي إيجابا ، فقال:


- هل توقعت أن يحدث ذلك؟


قلت:


- نعم ..


وأردفت:


- قل عدد مرتكبي الجرائم من النسالي بصورة ملحوظة، وقلّ معه إعدامات يوم الغفران كانت تلك الإعدامات تُضيف نوعًا من الإثارة والمتعة لمراسم اليوم، ويظل الحديث عنها مستمراً لشهر كامل حتى يوم الغفران الذي يليه، نوع من إلهاء العامة أشراف چارتين .. لكن مع فقدان تلك الإثارة سينتبه الناس قليلا إلى سادتهم، ومتى انتبه الناس إلى سادتهم لن من


يهنأ السادة بنوم مريح أبدا ..


زم الطبيب شفتيه، وقال:


- تحليل مقنع ...


قلت:


- هناك سبب آخر قد يكون أكثر أهمية في هذا التوقيت ..


وتابعت وأنا أنظر إلى فتاة تحمل بعض الأخشاب المتفحمة - قلت الرذيلة بدرجة كبيرة بين فتيات التسالي كان معظمهن يُجبرن عليها من أجل المال، أما الآن فصرن يعملن ويجنين أموالا مقابل صناعتهن ... 


- سمعت أن بيوت الرذيلة قد بدأت تلجأ في الخفاء إلى نساء شريفات، وهذا ما لن يرضى به أبدا رجال جارتين أن نجر نساؤهم إلى باحة جويدا لعلة الرذيلة، أو تحمل نساؤهم بأجنة غير شرعية تنال روح المعدومين من النسالي ليصيروا مثلهم .. كان الحريق مجرد بداية فقط، هناك المزيد قادم ... 


ثم لمحت حيدر وعروسه يعملان مع بقية الفتيان في إزالة انقاض الحريق عن كوخهما ، فقلت للطبيب: 


- إنهما ،عروسان كان عُرسهما بالباحة أمس ... 


ضحك وقال: 


- لقد فاتني أول زواج بين النسالى إذًا ... 


ثم تساءل وهو ينظر إليهما: 


- ماذا سيكون مصير طفلهما إن حملت؟! .. هل ستضطر للذهاب إلى الباحة من أجل حصد روح له؟! 


- لم تذكر القواعد ذلك اختصت أرواح الباحة طبقا لقواعد جارتين بالأطفال الناتجين عن الرذيلة فقط، أما طفلهما فسيكون ناتجا عن زواج شرعي، ثم سكت وقلت: 


- لست متأكدة مما سيصير، لم يحدث شيء كهذا من قبل، لكن 


دعنا ننتظر لوقتها ونر 


فقال بصوت ينضح بالبهجة


- أطفال شرفاء من نسل النسالي يا للروعة ...


فابتسمت وقلت:


- أتمنى أن يحدث ذلك ...


سكتنا لوقت قصير، وواصلنا تجوالنا بين الأنقاض، إلى أن نطق الطبيب


- كنت بالباحة يومها ارتطمت بي وأنت تغادرين هائمة بين


.. الحشود .


ابتسمت بمرارة وقلتُ:


- صدق القائل بأن هناك لحظة ما لا تعود الحياة بعدها كما كانت قبلها أبدًا، اتخذت قرارًا خاطئًا، يومها ندمت عليه حياة بأكملها ..



قال


 في الأوقات الحاسمة ينبع القرار من أفكارنا الراسخة داخل عقولنا، أعتقد أن حديث من حولك عن النسالي على مدار سنوات نشأتك قدر أثر عليك حين اتخذت قرارك وقتها ... تتراكم الأفكار بداخلنا على مدار سنوات طويلة، لتتحكم بنا كليا في اختياراتنا بالأوقات الحاسمة، لكن سيظل الإنسان عاجزا عن تغيير قدره أبدًا، كان مقدرا لك أن تكوني هنا ...


قلت:


- نعم، إنك محق ..


وواصلنا حديثنا ونحن نتجه إلى الحانة حيث قام هناك بفحص جروح وحروق المصابين، واطمأن على من أصابهم الاختناق، وسمح لبعضهم بالانصراف لمواصلة حياتهم بعدما أخبرني أنهم باتوا على


ما يرام .. ثم جلس على مقعد بجواري، فقلتُ:


- ظللنا سنوات طويلة نعتقد أن روح نديم قد ارتاحت للأبد ...


قال: - لو لم أكن هناك يومها لما صدقت أن الروح تنتقل من الأساس، لكني رأيتُ ذلك بعيني .. ما زلتُ أتذكر ذلك المشهد جيدا،


حين بدأت دقات قلب الجنين في النبض ...


ثم تابع ضاحكًا: - لو رأيت نظرة التحدي باعين آدم حينما أهان الضابط النسالي لقلت أن ذلك الطفل قد عرف أنهم عشيرته، وإن لم


أخبره يوما عنهم .


قلت:


- رأيتُ تلك النظرة في عين نديم من قبل، كاد يقدم نفسه إلى الإعدام يومها لولا تدخلت بينه وبين الضابط في الوقت


المناسب


ثم أكملت:


- أخشى فقط أن يمسك الجنود بالطفل، إنه لا يمتلك وشماء وبالطبع لن يعترف به أي شريف چارتيني، تشدد القوانين على


ذلك الأمر خشية أن يختلط النسالي بالأشراف ... إن أمسك أحد الجنود سيسجن رغم عمره الصغير، وإن لم يُثبت انتماؤه لأي عائلة شريفة خلال شهر سينال وشما به على صدره، ليُطلق للعراء مجدداً متى يشاءون .. أتذكر قصة أخبرتني بها زميلتي بالمدرسة العليا عن تسلية لم توشم ابنها فأمسك بها وأعدمت، ونال طفلها وشما، وأطلق سراحه بعدما تم السادسة عشر، ليعدم على جريمة قتل بعدها باسبوع واحد ...


قال


إنه ذكي للغاية، لن يستطيع أي شرطي الإمساك به ...


قلت 


- أتمنى ذلك .. 


ثم دلف إلينا ريان مع حلول المساء. وقال: 


انتهينا من إخلاء الأرض من البقايا المحترقة، وستبدأ غدا في صناعة الطوب من طمي التلال ،، سنبني أكواخا ومدرسة أكثر اتساعا مما احترقت ...               


ابتسمت وقلت في حماس: 


- لتفعل ذلك إذًا ... 


قال فرحا : 


- هناك شيء آخر أود أن تريه ... 


ثم حمل مصباحًا مشتعلاً كان على طاولة أخرى، وسألنا أن نتحرك معه إلى كوخ مجاور للحانة .. ثم دلف بنا إلى داخله، وهناك أشعل المزيد من المصابيح، لأجد أمامي عددا من المقاعد الخشبية المدرسية متراصة في تكدس فوق بعضها، وبأحد أركان الكوخ تراكمت أكوام من الكتب حتى كادت تصل إلى سقفه، فتساءلت في دهشة: 


- ما هذا؟! 


قال ريان 


- لا يضيّع النسالى وقتًا، قام بعضنا بإزالة آثار الحريق بينما قام آخرون بإحضار متطلبات المدرسة الجديدة ... 


تساءلت مجددا في ذهول: 


- سرقتموها ؟!


قال:


- نعم، كان علينا سرقتها قبل انتهاء الأجازة الموسمية للمدرسة المتوسطة . 


حين تذكرتُ أخذت المصباح من يده وتحركتُ تجاه المقاعد الخشبية، كانت المقاعد ذاتها التي طالما امتلأت بها فصول مدرستي المتوسطة، ثم أزلتُ بيدي الغبار عن سطح إحداها، وابتسمتُ خلسة . حديثي المكتوب بيني وبين نديم على سطح مماثل لها لمدة عام كامل حافظت لكني على جمود ملامح وجهي، ونظرتُ إلى ريان في حزم 


شديد، وقلت: 


لا نحتاج إليها . 


قال : 


لكن ... 



فقاطعته غاضبة 


- إنهم يريدوننا أن نفعل ذلك أن نعود إلى السرقة مرة أخرى سنبني مقاعدنا بأنفسنا. أما هذه المقاعد فمن جاء بها سيعيدها إلى المدرسة قبل طلوع الفجر ... 


قال: 


والكتاب؟! 


قلت: 


- والكتب كذلك ... 


ثم نظرتُ إلى الطبيب وقلتُ:


- لا يعلم أحد بعد بوجود الطبيب بيننا، إن سمح لي بأن يساعدنا في شراء بعض الكتب من أكشاك كتب جويدا .. لن يمانعوا في


بيع كتبهم إلى الأغراب، وتابعت:


- ما زال لدي بعض الأموال التي تكفي لذلك .. وجدنا علامات الترحيب على وجه الطبيب بما قلته ... . فقال ريان


- حسنًا، سنعيدها كذلك ..


ثم اتجه لإحضار الآخرين لنقل المقاعد والكتب مرة أخرى إلى


المكان الذي جاءت منه، وانتظرت في مكاني حتى عاد وبدأوا في حملها


... قال لي الطبيب هامسًا وقتها 


- تغيروا حقا .


قلت:


- نعم ..


توقفت إحدى الفتيات وقالت قبل أن تحمل أحد المقاعد الخشبية


- سيدتي اسمك منقوش هنا ...


فتوقف الجميع في أماكنهم ونظروا إلي . ... كانت الدماء قد اندفعت إلى وجهي فجعلته أكثر احمرارا، لم أكن أصدق أن تلك الصدقة قد تحدث، وإن جالت برأسي قبلها بدقائق .. واصل الجميع ترقبهم لي وأنا أتجه إلى الفتاة وأنظر في توتر إلى سطح التختة الخشبية .. كان اسمي لا يزال منقوشا كما نقشه نديم قبل سنوات طويلة ... ابتسمت ابتسامة حزينة، وعضضتُ على شفتي محاولة أن أتمالك نفسي وأنا أتحسس بأطراف أصابعي اسمي المنقوش، ثم حركت عيني نحوريان والطبيب، ففهموا ما يعني ذلك الاسم المنقوش وتلك التختة بالنسبة لي دون أن أنطق بكلمة، وظلوا يحدقون بي في انتظار ما أقوله، فقلتُ للفتاة:


- احمليها إلى الخارج أيضًا.


قال ريان


- يمكنك الاحتفاظ بها ...


قلت


لا، هيا أيتها الجميلة، احمليها مع الأخريات إلى الخارج ... فحملتها الفتاة، ولازمت الصمت بعدها، حتى انتهى الفتية والفتيات من حمل جميع المقاعد والكتب إلى الخارج، فاقتربت من ربان قبل أن أغادر وقلت:


إن ذهبت معهم، تفحص الشوارع جيدا، ربما تجد ذلك الطفل


نائما بأحد جوانبها ..


هز رأسه موافقني وقال:


- كنت سأفعل ذلك ...


ثم غادرت إلى مقر إقامتي المؤقت، ومكنت بسريري تتشابك الأفكار في ذهني، أحاول أن أجمع ما حدث خلال اليومين السابقين: زواج النسالي رؤية الطفل على القائم الجانبي، مجيء الطبيب في ذلك التوقيت تحديدا بعد تسع سنوات كاملة، التختة الخشبية ذاتها ... ثم نظرت إلى السماء الممتلئة بالنجوم عبر نافذة الكوخ، وقلت في 


نفسي أي صدف جمعت كل هذا في وقت واحد ؟ .. أي رسائل 


تحملينها إلي يا جارتين؟ ولم أكد أغمض عيني حتى انتفضت من سريري حين سمعت صوت 


البارود المتتالي .. 


نهضت من سريري واتجهت مسرعة إلى الخارج. المصابيح الزيتية تضيء الشارع الرئيسي أمام الحانة، فوجدت ضباط وجنود جارتين ينتشرون بأسلحتهم أمام اكواخ النسائي يركع أمامهم فتيان وفتيات النسائي واضعين أيديهم فوق رؤوسهم، بينما يقوم بعض الجنود الآخرين بإخراج باقي النسالي عنوة من أكواخهم وإحضارهم إلى المكان المتسع أمام الحانة ليصنعوا بهم إطارا شبه دائري ... 


تعجبتُ حين دفعني أحد الجنود بغلظة لأنضم إلى باقي الراكعين فركعتُ على ركبتي، ووضعت يدي فوق رأسي، ثم لمحت جنديًا يحضر الطبيب ليجلس مقرفصًا على الجانب الآخر من الشارع أمامي . ثم اضطربت قلوبنا وأجفلت أجسادنا جميعا حين أطلقت رصاصة مفاجئة أصابت رأس شاب نسلي كان يقاوم أحد الجنود، فسقط صريعًا من رمية واحدة، ومعها ظهر وجه الضابط الذي أطلقها .. 


تذكرته كان نفسه الفتى المميز بالرماية الذي نافستي على منصب رامي المنصة بالمدرسة العليا لضباط الأمن لم أعد أتذكر اسمه، لكن ملامح وجهه كانت قاسية لدرجة أشعرتني للقضاء علينا جميعًا . أنه جاء 


انتهى الجنود من إحضار العشرات من النسالي وضموهم إلينا. تحركت بعيني خلسة بين الخاضعين منا بحثا عن زيان فلم أجده دار بذهني أنه لم يعد من جويدا، وتمنيت ألا يعود إلى الوادي في ذلك الوقت .. لكن دقات قلبي كادت تتوقف عندما رأيت الجنود يدفعون أحد عشر فتي من فتيان التسالي مكيلي الأيدي والأرجل بأصفاد حديدية كانوا هم من رافقوا ريان لإعادة مسروقات المدرسة إلى جويدا .. ثم أرقدوهم على بطونهم بوسط الدائرة أمامنا، كان بينهم حيدر، لكن ريان لم يكن بينهم أيضًا، تذكرت لحظتها كلمات نديم حين حدثني قديمًا عن براعته في الهروب هو وأخته، ثم دار الضابطة حولهم، وصاح بصوت رصين:


- لا يكف النسالى عن ارتكاب الجرائم أبدا، لطالما أردنا أن نعيش سويا في سلام، لكن حاملي العار لا يفوتون موعد المنصة


مطلقا


بذيئة، وقال:


ثم ركل بقدمه شابا راقدًا أمامه من الشبان المكبلين، وأطلق إيماءة


- مدرسة ؟! .. تسرقون مدرسة جويدا؟! ...


وانهال بعصاه على جسد شاب آخر، أدركتُ لحظتها أن فعا مدبرًا قد نصب بإحكام لنا، حاولت أن أبعد عيني عنه، لكني لم أستطع الجلوس دون حراك وأنا أراه يواصل ضربه للشبان أمامه فنهضت في غير اكتراث بسلاح الجندي الذي يقف خلفي، وتقدمت نحوه وقلت بنبرة حادة: - لا يحق لك أبدا إيذاءهم إلى هذا الحد ... توقف عن ضرب أحدهم ، وقال ساخرا وهو ينظر إلى كتفي العاري: - 


السيدة غفران رامي المنصة .. الشخص الوحيد الذي فاقني في الرماية ..


تجاهلت ما قاله وكدت أتحدث عن حقوق النسائي كمواطنين مثله تماما، لكنه بادرني واشار إلى جندي خلفه، فأحضر الجندي شاباً نصليا من المتعلمين بمدرستي كان ينتظر بداخل إحدى العربات، وأشار له كي يتحدث، فقال الفتى وهو ينظر تجاهي


- إن هذه السيدة من أمرتنا بسرقة المدرسة ...


نظرت نحوه في ذهول، وزادت همهمات النسالي من حولنا، وصرخ الفتيان المكبلين بأنني لم أفعل ذلك، فأطلق الضابط أعيرته بالسماء. ففرض صوت الرصاص الصمت على الجميع، فواصل الفتي 


- نعم سيدي .. إنها هي ... 


ثم وصل توتري مداه حين رأيتُ أخي زين يظهر لي من وراء الجنود لأنظر إلى الضابط في تجهم بعدما لم أفهم ما ينويه، فقال 


بصوت . عال 


- شهد ثلاثة من النسالى بأنك من دبرت أمر سرقة المدرسة المتوسطة، وبذلك تم ثبوت جريمتك أمام القاضي .. كان القاضي رحيما بك هذه المرة لكونها جريمتك الأولى ... 


ثم تحرك نحوي، وأخرج خنجره في غمضة عين، وضرب به كتفي الأيسر لتسيل دمائي بغزارة، فتسارعت أنفاسي، ونظرتُ إلى الطبيب ووجهي يعتصر من الألم، بينما تمسك يدي اليمنى بكتفى لعلها توقف سيل الدماء، حاول الطبيب أن ينهض تجاهي، لكن الجندي الواقف خلفه حال دون ذلك .. ثم تابع الضابط وهو ينظر إلى: 


 - لقد أصدر القاضي الكبير قرارًا بسحب صفة الشرف منك. مع إبقائها لأخيك بعدما تبرأ من قرابتك رسميا بأوراق دار 

القضاء .. 

فنظرت إلى أخي غير مصدقة، قبل أن يكمل الضابطة لم يعد مسموحا لك بمغادرة هذا الوادي إلى جويدا إلا للعمل في بيوت الرذيلة، أو إلى الباحة أيام الغفران إن أردت . روح لأطفالك الناتجين عن الرذيلة .. غير ذلك ستطبق عليك قداعد جارتين الخاصة بالنسالي  



*********************************************************  

 الفصل الثلاثون


لم تصدق آذاننا ما تفوّه به الضابط، وظلت أعيننا جميعها تراقب في صمت ملامح وجه غفران المصدوم مما يحدث أمامها .. عاد أخوها إلى عربة الضباط، ولم يظهر مرة أخرى .. ثم أمر الضابط جنوده بجر النسالى المكبلين إلى العربات ليقدموا إلى المحاكمة .. قبل أن يرحل ويغادر الوادي هو وجنوده. 


فأسرعت ركضًا إلى غفران التي كانت تقف أمامنا لا حول لها ولا قوة تنظر إلى الأرض بعينين مكسورتين زائفتين ووجه شاحب من كثرة ما نزفته من الدماء، ثم صحتُ إلى ناردين بأن تحضر لي قطعة قماشية نظيفة، وساندتها حتى دلفتُ بها إلى الحانة. وهناك بدأت أضمد جرح كتفها، لم يكن كبيرًا لكنه كان عميقا بالقدر الذي بنيا بترك ندبة واضحة ... 


ظلت السيدة صامتة فلم أتحدث بشيء أنا الآخر، حتى انتهيت من تنظيف الجرح وتضميده، فنظرتُ إلى وجهها فرأيت دموعها للمرة الأولى، كان واضحا لي أنها تحاول أن تتماسك أمامنا بكل طاقتها. لكنها لم تستطع بالنهاية، فأشرتُ إلى ناردين بأن تغادرنا ففعلت. فقلت في هدوء: 


سيصبح كل شيء على ما يرام ... 


والطاعة 


- لو لم يكن ما فعلته مع التسالي عظيما لما تحرك سادة مارتين لإيقافك إلى هذا الحد، كنتُ تعرفين أنهم سيواصلون عرقلتك بكافة الطرق . 


ظلت شاردة لا تقول شيئًا ... لم أكن جيدا قط في المواساة. فلم أجد مزيدا من الكلمات لقولها ، وجلست بجوارها في انتظار أن تنطق بأي كلمة، لكنها لم تفعل، وظلت تعابير وجهها ثابتة تنظر إلى الفراغ 


أمامها ..


حاولت ناردين أن تسقيها شرابًا ساخناً صنعه فتى الحانة لكنها لم تتناول شريةً واحدة منه قبل أن تحول عينيها إلى باب الحانة حين أصدر صريره فجأةً وفتح ليظهر أمامنا ريان ويدلف مسرعا نحوها.


فنهضت من جلستها واحتضنته، لتتساقط دموعها من جديد، فقال و هو يلهث بقوة بين ذراعيها


لا نحتاج إلى قاضي جارتين لمعرفة ما إن كنت شريفة أم لا .. لست في حاجة للذهاب إلى جويدا سيظل الجميع هنا في


خدمتك سيدتي ...


مسحت غفران دموعها وعاودت ،جلوسها، شعرت أن وجود ريان أعطاها نوعا من الطمأنينة، ثم قال الشاب بعدما التقط أنفاسه


- كان فخا مديرًا لنا بدايةً من حريق المدرسة، ثم اقتراح أحد الشبان بسرقة مدرسة جويدا، ثم تجنبهم عليك سيدتي ... أعرف من قاموا بخيانتنا، أقسم لك بأنني لن أتركهم ينجون


بفعلتهم ...


قالت غفران


لن يهتم ضباط چارتين بمصيرهم، لكنهم سيسعدون بتقديم مزيد منا إلى منصة جويدا، اتركهم وشأنهم...


ثم قالت:


- هناك أحد عشر شابا سيعدمون يوم الغفران القادم سيشهد الوادي اياما صعبة الفترة القادمة ...              


.. فقلت حين طالت فترة الصمت سكت ،ريان كان وجهه يغلي من الغضب، وساد الصمت من جديد


يمكنني أن أذهب غدًا لشراء الكتب التي تريدينها ...


فنظر ثلاثتهم إلى متابعت:


- يتبقى الألوف من النسالى لديهم الحق في عيشة كريمة كما أخبرتني هل نتركهم ؟! .. لنكمل ما بدأته إذًا ..


نه نظرت إلي أعينهم تتساءل إن كنتُ واعيًا بكل حرف نطقت . فا بتسمتُ إليهم بأنني مدرك تماماً لاستخدامي صيغة الجمع .. نعم. كان ذلك إعلانًا مني بأنني سأبقى في الوادي لأجل لم أحدده ...


في الأيام القليلة التالية شرع ريان فيما أخبر به غفران ليلة مجيء الضباط، وبدأ مع غيره من الفتيان في تصنيع الطوب من طمي تل قريب من الوادي، عرفتُ منه أنه التل نفسه الذي يستخدمون طميه في صناعة أوانيهم الفخارية .. كنتُ أتردد عليهم بين حين وآخر، قبل أن أتجوّل في التلال المجاورة للبحث عن بعض الأعشاب الطبية النابتة


التي أحتاجها ...


ثم توجهتُ إلى جويدا في نهاية ذلك الأسبوع من أجل ما كلفتني به غفران .. كانت المدينة مختلفة للغاية عن باحتها الشهيرة، مبانٍ طوبية ذات أشكال معمارية متميزة، شوارع نظيفة معبدة بالصخور كثير من الحانات والدكاكين حياة ذكرتني كثيرا بعاصمة بلادي القديمة، غير أن المصابيح الكهربائية والسيارات قد استبدلت بمصابيح زيتية وعربات خشبية تجرها الخيول .. وصلت إلى أحد أكشاك الكتب، أخبرتُ صاحبه أنني غريب في حاجة إلى شراء بعض الكتب من أجل العودة بها إلى بلادي، تركني أتفحص رفوف الكتب أدب، فنون تاريخ حضارات. 


وقع بين يدي الكثير من الكتب التي تسيء للنسائى فتذكرت كلمات غفران بأن ابتعد بقدر الإمكان عن تلك الفئة، ثم اخترت عددا من الكتب المتنوعة، وعدتُ بها إلى مشارف الوادي حيث كلف ريان بعض 


الفتية بمساعدتي على حملها إلى حيثما تقيم السيدة ... لم تظهر غفران كثيرا للنسالى تلك الأيام، ظلت معتكفة على قراءة الكثير مما أحضرته لها، بينما انشغل ريان ببناء المدرسة والأكواخ المجاورة .. كنت أنتهز الأوقات القصيرة التي اغير بها ضمادة جرحها للحديث معها عن أي شيء .. شعرت أنها تجاوزت صدمة ما حدث لها بالأيام السابقة غير أن حزنها على الفتية الذين اعتقلوا كان كبيرا للغاية ... 


قبل نهاية ذلك الشهر كان الجرح قد التام لكنه ترك ندبة واضحة كما توقعت، فسألتني غفران أن أغطيه بضمادة رغم التئامه. وانتهى ريان من بناء الأكواخ وأخبرني أن المدرسة ستواصل عملها. كما أخبرني بأنه قد بنى لي كوخا بجوار كون السيدة الجديد، وقال متحمسًا بأنه سيسميه كوخ الطبيب، فشكرته كثيرا على ذلك ليلة يوم الغفران الجديد دلفت إلي ناردين تخبرني بأن السيدة 


تحتاجني، ولما ذهبت إليها قالت: 


- يوم أخبرتني عن أدم كنت أنوي الذهاب إلى الباحة كل يوم رأيت باليوم غفران. لكنني وإن لم أعد أستطيع الذهاب إلى هناك غير باقي النسالى وغيرك، أريدك أن تذهب إلى هناك .. اعتاد نديم قديما على تسلّق أحد قوائم الجهة الغربية للباحة . الأخير هناك طفلا كان يتشبث بقمة القائم بالطريقة ذاتها تماما، أعتقد أنه آدم .. اذهب إلى هناك الملك تجده وتأتي به ...


فأومأت برأسي إيجابا .. ليلتها لم أنم حتى طلع النهار، واتجهت باكرا إلى هناك للتمكن من الوقوف في مكان بالجزء الغربي منها. على مقربة من القائم الجانبي الذي أخبرتني غفران بأن الطفل قد يتسلقه مثلما تعود أن يفعل نديم ...


كانت المرة الثانية لي بين أسوار باحة جويدا، بدأت المراسم وعيني معلقة على ذلك القائم دون أن أنشغل بشيء آخر، لم يظهر الطفل بالأوقات الأولى من اليوم، فانتظرتُ وبحثت بعيني عن قوائم أخرى على جوانب الباحة لعلّي أكون قد أخطأت تحديد القائم، لكني لم أجد أي طفل متسلق، حتى انتهي زواج عُقد على المنصة مع منتصف النهار ولم يظهر كذلك .


ثم بدأت الإعدامات توقعت أن يتم إعدام الفنية الذين أنهموا بسرقة المدرسة جميعهم أمامنا ، لكن ما حدث أن ثلاثة منهم فقط من تم إعدامهم لم يكن بينهم حيدر أدركت بيني وبين نفسي أن سادة چارتين قد فضّلوا أن يتم إعدام ثلاثة فقط كل يوم غفران ليضمنوا استمرار إثارة مراسمهم على الأقل لمدة أربع أشهر قبل إضافة المزيد إليهم .. لاحظت السعادة على وجوه الأشراف المتواجدين بالباحة، وخاصةً بعدما أطلقت ثلاثة زغاريد بأماكن متفرقة بين الزحام، إلى أن انتهت مراسم اليوم، وعدتُ إلى غفران بعدما فقدت الأمل في ظهور الطفل كما تمنت . 


كانت تجلس بكوخها الجديد بين بضعة فتيات صغيرات تقرأ لهن أحد الكتب، لكنها ما إن رأتني حتى نهضت وأسرعت نحوي، فقلت لها في خيبة أمل: 


- لم يظهر الطفل، مكثت هناك حتى غروب الشمس ... 


هزت رأسها في حزن، فتابعت: 


- تم إعدام ثلاثة فقط من الفتيان ... 


قالت بنبرة حزينة 


- نعم، عرفتُ ذلك منذ قليل، يريدون ضمان استمرار متعة الإعدامات لأشهر أخرى ... 


قلت: 


- فكرت في ذلك أيضًا . 


ثم نظرت إلى الفتيات الجالسات، وأخبرتهن بأن ينصرفن إلى بيوتهن، وسألتني بعدما جلسنا أمام كوخها: 


قلت: 


- لماذا بقيت في الوادي ولم تغادر ؟! 


أرى ما تفعلونه عظيمًا، أردت أن أكون جزءا منه، كما أن الناس هنا في حاجة إلي لماذا؟!


قالت:


- إنني مندهشة فحسب، توقعت أن تغادر بعد شفاء مصابي الحريق والتئام جرحي، كنتُ تمتلك عملا مربحا بالبلاد التي


جئت منها .


ضحكت وقلت:


- أفعل ما يمليه علي قلبي، كنتُ أستطيع العودة إلى بلادي يوما ما، لكني فضلت أن أنقذ آدم على أن أعود، ولم أندم لحظة على ذلك، كذلك اختار داخلي بكل يقين أن أبقى هنا بينكم ...ربما أرحل بعدما يعود .


قالت:


- هل تظن أنه سيعود 


ابتسمت وقلت:


- مما رأيته يحدث أمامي منذ التقيت أمه، ونجاته رغم ما مير به منذ كان جنينا، يجعلني أظن أن أي شيء قد يحدث ..


فسكتت ونظرت إلى السماء فسألتها:


- ماذا إن عاد ؟!


نظرت إلي كأنها تفاجئت من السؤال أو لم تفهم مقص


فقلت:


- ماذا ستفعلين وقتها ؟!


ضمت شفتيها ثم قالت:


- همم .. لا أعلم . 


فضحكت، فقالت بوجه باسم 


- أعتذر له ؟! .. سيظن أنني حمقاء، إنه شخص آخر غير نديم .. أروي له كل شيء ربما يتذكرني ؟... لن يتذكر .. لا أعلم أريد 


ربما أهتم به كما لو أنجبت طفلاً من نديم .. ربما أساعده على رؤيته فحسب ... هذا إن لم أصل إليها أنا أولا .. 


ثم قالت وهي تنظر لي 


- سيكون شاباً عندما أبلغ من العمر مداه .. ربما يعشي بي في سنواتي الأخيرة .. صدقني لا أعرف .. أتمنى أن يعود فحسب... 


قلت: 


- سأذهب كل شهر للباحة لمراقبة قوائمها الجانبية. سأعود 

إليك به يوما ما ... 


قالت: 


- شكرا لك .. 


استمرت الحياة في وادي النسالى كما كانت قبل قدومي إلى حد كبير، استعادت فتيات النسالى طاقتهن بالعمل بعدما عاد فتيانهم المسافرون إلى الشمال بخيوط ومواد أخرى تعوّض ما أحرقت، ويوما انتظمت أغلب الصناعات التي حكت لي عنها الفتاة التسلية بعد يوم على السفينة من قبل، كذلك انتظم الكثيرون بمدرسة غفران وصار الصوت المرتفع للأطفال القارئين ميقاتي المنتظم كل صباح للاستيقاظ، وفي المساء انتظمت جلسات التسامر بيني وبين غفران وريان لنتحدث بشأن كل جديد يحدث . 


مر الشهر الثاني لي بالوادي دون أي حدث كبير، إلى أن ذهبتُ بنهايته إلى باحة جويدا من أجل ما وعدت به غفران، لم أجد الطفل يومها كذلك .. في ذلك اليوم تم إعدام أربعة نسالي كان بينهم حيدر ليلتها كان حزن غفران على ذلك الشاب بالغا، سألتني يومها إن كنتُ قد لمحت زوجته «سبيل» بالباحة، فأجبتها نافيًا ذلك، عرفت أن سبيل لم تعد إلى الوادي ذلك اليوم، وانتظرنا لأيام أخرى لم تعد كذلك ... وكأن قصتها هي وحيدر كُتبت نهايتها ذلك اليوم، وإن لم تبدأ إلا قبلها 


بشهرين فقط ... 


ثم التقينا بعد عدة أيام بالحانة بعدما فقدنا الأمل في عودتها. وتسرب الخبر إلى سكان الوادي بأنها قد رحلت .. اعتقدت ناردين بأنها قد تكون غادرت إلى واديها الأصلي الذي جاءت منه قبل سنوات للتعلم بمدرسة السيدة غفران، فقالت غفران في حزن 


- لا تمتلك مالا أخشى أن تتجه إلى بيوت الرذيلة .. نجح أشراف چارتين في وأد الحلم مبكرًا . كانت رسالتهم ذلك اليوم حين أتوا أن يئدوا حلم زواج النسالي إن لم يكن حيدر بين العائدين بالمقاعد لكانوا قد جعلوا من وشوا بي يشون به حتى يقدم إلى المحاكمة، وتبقى عروسه أمام أهل الوادي لا حول لها ولا قوة ... ثم نظرت إلى النسالى على الطاولات الأخرى، وقالت


- يبدو أن ما حدث للنسالى خلال القرون الكثيرة الماضية كان مديرًا بإحكام من أجل إبقاء ذلك الوضع حتى نهاية الدنيا ... كل شيء يحدث داخل إطار مرسوم بعناية ارتكاب الجرائم

جهل مطبق، أطفال غير شرعيين، إعدامات التصالي، وحصد أرواح ترهيب للعامة من التحوّل إلى هؤلاء المنبوذين .. أمور جميعها ترضي كل الأطراف تحت أعين سادة جارتين، لكن إن تخرج عن ذلك الإطار يعل صوت البارود للحفاظ على ذلك النظام الذي . خُلق .


..


قلت:


لكن كتب التاريخ تقول أن النسالى ارتكبوا كل شيء سيئ ...


قالت:


- نعم، تقول الكتب ذلك، لكن علينا أن نضع في الاعتبار أن من لديه السلطة هو من يكتب التاريخ، إنها كلمات مكتوبة، لا عليك فقط إلا أن ترددها على مسامع الأطفال الذين يدرسون كأنها حقائق لا شك فيها يتوارثونها عاما بعد عام، لتنمو معهم . جيلا بعد جيل .. إنني أعيش هنا منذ تسع سنوات، لم يأذيني نسلي واحد، إنهم مثل كل البشر بينهم صالحون وبينهم فاسدون ... ثم نظرت نحو بعض الفتية بركن الحانة وقالت: - لكن يبقى لكل إطار ثقوبه، أتاحت القواعد حرية التعليم للنسالي حتى سن السادسة عشر بمدارس چارتين من أجل أن تظهر عدالتها، وهم يعلمون أن النسالى سيرفضون ذلك الأمر


خاصة مع استمرار مضايقات وإهانات الأشراف إليهم، لكنهم لم يضعوا في حسبانهم أن هناك من سيتعلم ويعود إلى الوادي ليبدأ تعليم غيره، ويصنع أول خدش حقيقي بذلك الإطار ... أدركت أنها تتحدث عن نديم، فهززت رأسي موافقا حديثها.


فواصلت 


- فرحوا أنني أصبحت نسلية، ويجلسون بمقاعدهم ينتظرون خطأي التالي من أجل إعدامي على منصة جويدا كعبرة لأي شريف تسوّل له نفسه بأن يفعل ما فعلته، ووأد أحلام كل نسلي سولت له نفسه بأنه سيصير ، مختلفا يوما ما .. لكنهم نسوا أنني فقدت كل شيء، ولم يبق لي إلا هؤلاء القوم، الذين أحبهم ويحبونني، ولن أسمح بأي خطأ لفقدانهم. وابتسمت وهي تقول: - لا يعلمون أنهم صنعوا نسلية عنيدة ... ثم نزعت الضمادة عن كتفها في الوقت الذي بدأ فيه العازفون في عرفهم، لترتسم على وجهي الدهشة حين وجدت ندبة جرحها قد توارت بالكامل أسفل وشم أزرق نقش حديثا .. وتمتمت ناردين في 


ذهول 


وشم النسالي!! 


فقالت غفران 


لقد قررت أن أكون التسلية الأولى التي لا تكف عن نخر جدران ذلك الإطار .. كان النسالي يفتقدون قدوةً منهم، وقد ساعدنا سادة جارتين على تحقيق هذا الأمر ..  


إنني أفخر بوجود هذا الوشم على كتفي لا أخجل منه وسأواصل ما بدأته حتى آخر لحظة من عمري ومتي شعر النسالي بهذا الفخر، سيواصلون طريقهم معي أكثر مما سيسقط منا الكثيرون، لكن هناك صغارًا قادمين مضى .. 


سينشأون على هذا الفخر ... لم أكن يوما حاملة عار، وعلى كتفي ذلك الوشم، وكذلك هم سينخرون بدورهم ذلك الإطار، عاما وراء آخر، عقودا وراء أخرى، بي أو بدوني اليوم وغدًا وكل يوم، حتى يجدوا مخرجهم بأنفسهم من ذلك الإطار يوما ما وقتها سيكون امتلاء النهر الجاف بالدماء أكثر سهولة من وضع أي إطار 


حولهم مرة أخرى. 


.................. 


( في مكان بعيد ) 


كانت دورية من فرسان ضباط الأمن تتحرك على الطريق عندما وقفت امرأة شابة بجوار عربة خشبية متوقفة على جانب الطريق .. وما إن مرت الدورية وابتعدت حتى ركبت المرأة عربتها، وصاحت إلى حصانها كي يواصل حركته، ثم نظرت إلى صندوق عربتها، وحركت يدها برفق على غطاء من الخيش يغطّي جسدا ضئيلا بأسفله، وقالت باسمة 


- انهض أيها الفتى .. لقد ابتعدوا ... 


رفع الطفل الراقد رأسه لينظر إلى الضباط وهم يبتعدون، قبل أن يحرك عينه إلى جدار چارتين العظيم، ويواصل تحديقه به حين قالت المرأة: 


- ما زال أمامنا الطريق طويلا. 


«  الــــــنـــــهــــايــــة  » 

🎉 You've finished reading 🎉

*********************************************************

الرواية التالية الرواية السابقة
لا توجد تعليقات
اضـف تعليق
comment url