أماريتا

لم أرَ من قبل خوف وجوه أهل زيكولا مثلما كنت أراه في تلك اللحظات أسفل أنوار المشاعل، زيكولا القوية التي تباهي أهلها دومًا بقوتها، باتوا عند أول اختبار حقيقي وجوهًا ذابلة مصدومة تخشى لحظاتها القادمة، أرض الرقص والاحتفالات لم تعد إلا أرض الخوف، أعلم أنهم يلعنون أسيل في داخلهم منذ تسربت إليهم الأخبار أنها سبب مايحدث لهم ، لكنهم قد تجاهلوا عمدًا أنهم من اقتنصوا ذكاءها كاملًا دون أن تضر واحدًا منهم يومًا ..

الفصل الأول


 أغلق باب زيكولا، وتوقفت الحركة تماما خارج المدينة، وأصبحت الطرق خاوية أمام سورها، ليس الا من جواد أسود كان ينطلق كالسهم بعيدا نحو الشرق، تمتطيه اسيل دون أن توجهه، هو يعلم طريقه نحو بلدها بيجانا، لم يكن يشغل بالها سوى ما حدث خلال الساعات السابقة، وتغمض عينيها إن جال بخاطرها مشهد ذبح خالد فتتمتم بكلمات تتمني بها نجاته، قبل أن تجذب لجام حصانها، وتقلل من سرعته حتى توقف، و استدارت به لتنظرإلى زيكوال نظرة أطالتها، كانت توقن أنها الاخيرة.
 *** 
 كانت بيجانا تعرف بالمدينة الساهرة، وميز سورها عن غيرها من المدن بأبراجه المنيرة الشاهقة التي تناثرت على امتداده حولها، والتي عرفت بأبراج بيجانا المشتعلة بعدما قيل أن هناك ألف شعلة زيتية تشتعل بكل برج ليل نهار لتجعلها أكثر المدن إنارةً ودفئاً.
**** 
وحل الليل، واكتمل القمر بالسماء حين وصلت أسيل   إلى المدينة                                                                       وسط تعجب حراسها الذين اعتادوا قدومها وخروجها قبل إغلاق باب باب زيكولا، ثم دلفت بحصانها تمضي قدم بين شوارعها، والجميع ينظر إليها فى دهشة، وهي تكمل طريقها تتساقط جفونها من التعب، حتي وصلت إلى بيت من طابقين أمامه فناء صغير أحاطه سور من قوائم حديدية، وترجلت عن حصانها ودلفت اليها، فأسرع اليها شاب مرحبا بها فربتت علي كتفه، وأعطته لجام حصانها،  وهبطت عن حصانها ودلفت إليه،   
وسألته :
- هل جاءت أخبار عما حدث بأرض زيكولا اليوم ؟
فقال الشاب :
- لا أدري سيدتي، لم أترك البيت قط ..                 
فقالت : 
- أريدك أن تتحرك بين أهالي بيجانا لعل أحدهم قد علم بما دار
هناك، وتأتي لتخبرني بما علمته، سأنتظرك حتي تعود يا صفي . 
بعدها واصلت طريقها إلى داخل بيتها فانحنت لها فتاة عشرينية كانت تقف علي بعد خطوات من باب البيت قائلة ؛ مرحباً سيدتي  سأعد الطعام علي الفور ..
فردت :
لا أريد طعاما أيتها الجميلة فقط حين يأتي صفي ادخليه على الفور .                    
ثم صعدت سلما خشبيا                                                                                                         إلى غرفتها العلوية، واتجهت إلى شرفتها لتنظر إلى السماء شاردة لدقائق، ثم عادت وجلست علي سريرها، وأخرجت أوراق خالد من حقيبتها الحريرية ووضعتهم بجوارها دون أن تقرأ أي منها،قبل ان تغلق                                                         جفونها المرهقة ويغلبها النعاس، لم يوقظها إلا صوت الخادمة حين سمعتها تقول: سيدتي لقد جاء صفي.
 فنهضت، وسألتها أن تدخله علي الفور .
***
دلف صفي إلى الغرفة، وانحني أمامها ثم قال :
- سيدتي لقد نجا ذبيح زيكوال اليوم قبل أن يطيح السياف برأسه.
فابتسمت أسيل، وأخرجت زفيرا مريحا كأن جبلا انزاح عن قلبها
ثم أكمل :
_لكن هناك خبر سئ...لقد أعلن حاكم زيكولا خيانتك
أمام أهل زيكوال جميعهم ..
فأومأت برأسها، وقالت:
كنت أتوقـــع ذلك، لا يهـــم، أخبرني، هــــل جــــاءت أخبـــار أخـــرى عن الغريب الناجي من زيكولا؟                                      
أجابها :
- لا أعلم سيدتي، ولكني أرى أن تتركي بيجانا علي  الفور ..
فسألته في تعجب :
- لماذا ؟!                                                         
فأجابها :
- إن حاكم بيجانا أكثر الحكام موالاة لزيكولا، وقد بدأ خبر 
اعلانك خائنة لها في الانتشار، وسيصل إليه أسرع مما تتخيلين 
فقالت : 
- يكفي زيكولا أنني خرجت منها تاركة كل شئ وعدت إلى بلدي، ما شأن بيجانا بذلك ؟!
قال :
- لقد اختلفت بيجانا كثير مع حاكمنا الجديد لم تعد بيجانا التي عهدتها من قبل، إن خير حاكمنا بين كسب قليل من                                                       
زيكولا وبينك، سيكون من الصعب أن تكوني الرابحة.
فصمتت قليلا ثم قالت باسمة:                             
- ليفعل القدر ما يشاء، لقد اخترت طريقي، وعلي أن أتحمل 
عواقبه.
فقال باسما:                                
حسنا سيدتي سأكون بالخارج، إن أردتي شيئا فقط اخبريني.
 وغادر بينما ظلت اسيل مكانها يشغل بالها ما قاله، وكلما جال بخاطرها ما قد يفعله حاكم بيجانا أغمضت عينيها وتحدثت الي نفسها: 
ليفعل القدر القدر ما يشاء يا اسيل، ليفعل ما يشاء.
*********************************************************

الفصل الثاني


 كان أسبوع قد مر علي يوم زيكولا حين وقف يامن أمام جماعة من العمال بالمنطقة الشرقية، وسألهم :
- أتريدون أن تعلموا كيف نجا صديقي من الذبح ؟
فالتفتوا إليه في ترقب، فأكمل مازحا:
- حسنا،كم تدفعون من الذكاء مقابل اخباري لكم ؟
فتابعوا عملهم مجددا
دون أن يعيره أحدهم اهتمامه، فضحك واتخذ عاليا، وأكمل جالسا:                               
- سأخبركم أيها البخلاء، لقد ابتاعت الطبيبة أسيل أغلى قبلة  
في تاريخ زيكولا من صديقي فارتسمت على وجوههم دهشة رآها كثيرا خلال تلك الايام كلما أخبر أحدهم عن قبلة أسيل إلى خالد، وتساءل عامل متعجبا:
- قبلة ؟!!
فأجابه :
- نعم، قبلة، لقد أحبت الطبيبة خالد، ولم تشأ أن يكون
الذبيح، فأعطته تلك القبلة ليحدث ما حدث أمامكم جميعا
إنها ليست خائنة كما تظنون، كانت محقة بشأن اختيار خالد للزيكولا، كان صديقي أكثر فقرا بالفعل.                                     
فقاطعه عامل آخر في تبرم :
- لا يا صديق، إنها خائنة، إن قوانين زيكولا تمنع أن يتعامل
أحدهم مع فقير اختارته الزيكولا، إنها مخالفة صريحة،
وجميعنا يعوم ذلك، والطبيبة كانت تعلم ذلك أيضًا
فواصل يامن :
- وإن كان!، أردت فقط أن أوضح لكم ما فعلته الطبيبة، لقد تركت كل مجدها من أجل حب
فصاح عامل ثالث به :                                       
- إنها خائنة،
وحاكمنا محق بأمرها، وإن كان قولك صادقا،لابد أن تنال عقابها ومعها ذلك الحارس الذي سمح لها بزيارة الغريب قبل ذبحه . 
وكاد يامن يجيبه فسمع صوت يأتي من خلفه ويهمس إليه :
- أنت .. أنت
فالتفت فوجد فتاة غطت رأسها بوشاح قماش أسود كان كافيا                                             
ليخفي ملامح وجهها، وقالت حين نظر إليها :
- تعال . 
فنهض واتجه إليها متعجبا:
- أنا
قالت :
- نعم، أنت صديق خالد، أليس كذلك ؟
- بلي ..
فتابعت :
- إنني من سكان المنطقة الشمالية، أنا من أخبرت خالد عن هلال  الذي قتل أباه ولم رث إلا كتاب
فقال بصوت عال :
- العاهرة ؟!
فأجابته ببرود :
- نعم ..
فسألها:
- وماذا تريدين ؟ ولماذا تغطين رأسك ؟
فكشفت وجهها، وقالت :
- لم تعد الطبيبة وحدها الخائنة، لقد أبلغ أحد تجار المنطقة
الغربية عن نفق ببيته يتجه نحو سور زيكولا، واعترف خادمه
بأن الغريب وأصدقاءه استأجروا منه البيت حتي يعود سيده،
ً وأقر صاحب البيت بأن هناك شابا استأجر بيته ليلتين مقابل                    
مائتي وحدة من الذكاء ..
فاحمر وجه يامن محدا نفسه بصوت سمعته الفتاة:
- تكاسلوا عن إغلاق النفق بعد رحيل خالد ؟!! لقد أخذوا
أجرهم مقابل ذلك ..ثم سألها :
- من أخبرك بهذا ؟
فقالت :
- إن أخبار زيكولا جميعها تجتمع كل مساء علي أسرة المنطقة الشمالية، لقد أخبرني جندي سكير  بهذه الأخبار منذ
ساعات
فسألها :
ولماذا أتيت لتخبريني؟ ما مقابل هذا ؟
قالت :
- لقد أضاف الجندي أن محققي زيكولا انتشروا في كافة مناطقها
ويعدون قائمة بمن أدلي الخادم بوصفهم، وأرسل قائد الحرس مكتوبا إلى كافة مناطق زيكولا بصفات خالد، وأمر قائد كلمنطقة بإحضار كل من رؤي مع الغريب أكثر من مرة
ثم أخبرني أن تلك القائمة شملت الطبيبة أسيل، شابا يدعي
يامن من المنطقة الشرقية، وآخر يدعي إياد من المنطقة
الغربية، وفتاة تسمي نادين وشي بها شاب يدعي هلال حين أمسكوا به، وأخبرهم أنها من دلته عليه 
وكانت تساعده، وأنه  ليس له شأن بل يتمني له الذبح هو وأصدقائه .                 

ثم أخرجت زفيرا حانقا، وأكملت: 
- لم يعرف الجندي أنني هي .. نادين، ثم تمكنت منه الثمالة، 
فأخبرني أن أمرا مكتوبا عاجلا قد طار إلى بيجانا لاعتقال                                                            
الطبيبة إن كانت هناك، وأن الباقين سيكونون نزلاء سجون زيكولا خلال ساعات كمجرمين من الدرجة الاولى، وغاب في                                                
سبات عميق، فلم أجد إلا أن آتي إلى هنا وأخبرك بذلك .
                   
فاضطرب وجه يامن، ونظرإليها وقال في ارتباك :

- إنني أشكرك أيتها الفتاة، لا تعلمين كم اقدر تعبك هذا من اجلي، إنني أدين لك بحياتي ثم هم ليغادر سريعا.                              

فأوقفته وقالت :                          

- انتظر، هل تظن أنني قطعت تلك المسافة كي أسمع هذه 

الكلمات.

فتعجب يامن :
_ماذا تريدين ؟ لا تقلقي لن أشي بك، لا اجد تفسيرا لما فعله هلال معك، ولكني أعلم انك بريئة                                                          

فقالت :

- لن يسمع لي أحد بعدما وشي هلال النذل بأنني ساعدت خالد، ولن أجازف بحياتي بين يصدقونني أو لا يصدقونني، ليس هناك وقت لاختبار عدلهم، وليس لدي النية أن أكون               

وقت ذبيحة لزيكولا

ثم اردفت بعدما حدقت بعينيه :                                                     

- لم يعد أمامي أحد أثق به بهذه الارض سواك، فمنذ هذه                   

اللحظة لن تخطو قدمك خطوة إلا وقدمي بجوارها.

ثم غمزت إليه بعينها قبل أن تقترب من أذنه هامسة :

- ان كنت ستختبئ بعيدا عن الأنظار، فلن تجد أفضل مني رفيقة لك أيها الخائن





                    



في ذلك الأوان، كان سوق بيجانا مزدحم حين دلفت به اسيل تركض وراء رجل قصد بيتها متوسلا                                             إليها لتنجد زوجته التي سقطت بالسوق فاقدة وعيها، ولما انتهت من إفاقتها كان الزحام من فوقها كان هائلا                          

فرفعت إليهم رأسها وابتسمت وهي تجلس على ركبتيها تطمئنهم ، قبل أن ينحسر الزحام من حولها سريعا ويتحول

صخب السوق إلى صمت مفاجئ عندما ظهر أمامها قائد عسكري مع جنوده، قال لها :

 لقد صدر امر نافذ باعتقالك سيدتي واقتيادك إلى السجن الغربي حتي تفتح زيكولا بابها بعد سبعة أشهر.....        

*********************************************************
   

الفصل الثالث



 كان السجن الغربي أكبر سجون بيجانا .. قسّمه مهندسون الي قسمين؛ أحدهما بناء حجري من طابقين مقسمين الي زنازين ضيقة  



متجاورة للرجال والنساء أمامها ممر واسع، يفصله سور حديدي عن قسمه الآخر تلك الساحة الواسعة التي عرفت أنها للسجناء الأكثر خطرا،أحاطهما سور صخري تجاوز ارتفاعه ثلاثين قدما، تراص عليه جنود كثيرون بسهامهم علي مسافات متقاربة . 

وفي زنزانتها شبه المظلمة جلست أسيل لا تحرك ساكنا، تدور أيامها السابقة أمام أعينها دون توقف ولا يكف عقلها عن الضجيج، تشعر أن الزمن صار عدوها منذ دلفت إلى هذا المكان، لتمر دقائقها كساعات وساعاتها كسنوات مكثت بها جميعا تحملق 

بالفراغ المظلم أمامها، ثم فتح باب زنزانتها مع بزوغ النهار، وظهر أمامها جندي حاملا طعام ردئ، وقال إن بابها سيظل مفتوحا حتي  

غروب الشمس فأومأت برأسها دون أن تنبس بكلمة، وغابت في شرودها من جديد .

****

يوم بعد يوم صارت أيامها متشابهة، الا تغادر زنزانتها إلا قليلا ثم 

تعود لتمكث بأحد أركانها وسط شرودها وذكرياتها، لا تتحدث إلى أحد، ولا تأكل من الطعام إلا مايسكت بطنها الصارخة جوعا، قبل صباح ذلك اليوم حين استيقظت علي جلبة لم تعتدها منذ وجودها 

بهذا السجن، ثم فتح باب زنزانتها وخرجت لتري ما يحدث ففوجئت

بساحة السجن الكبري قد امتلأت بالكثيرين من البشر رجالا ونساء، شبابا وشيوخا، يتجاوز عددهم المئات، مبتلة ملابسهم وشعورهم 

بزيت لمع مع آشعة الشمس، واجتمعوا جميعهم داخل دائرة جيرية 

حددت وسط الساحة الواسعة، ونظرت إلى الجنود أعلي سور 

السجن فوجدت أعدادهم قد تضاعفت عن أيامها السابقة، ثم سمعت صوتا يحدثها:

- إنها المرة الأولى التي تتركين بها زنزانتك في هذا الوقت المبكر.....

فالتفتت لتجد رجلا أشيب الشعر ابتسم حين التفتت 

إليه قائلا 

- لا تقلقي، أنا جارك هنا . 

وأشار إلى زنزانة مجاورة مفتوح بابها فقالت أسيل :

- مرحبا سيدي .. 

ثن نظرت بعيداا إلى باب السجن الضخم الذي كان يمر منه صف

من السجناء ليقف كل منهم لثوان فيسكب عليه جندي أعلى الباب قدرا من الزيت ثم يكمل مروره بعدما يأمره جندي آخر بذلك

ليأخذ سجين آخر مكانه أسفل الزيت المسكوب، فسألت أسيل هذا 

الرجل بجوارها في دهشة :

- ماذا يحدث ؟! ولماذا سجنُ كل هؤلاء ؟! 

فأجابها الرجل هادئا: 

- إنه عهد مينجا.

فقالت في تعجب : 

- عفوا، لم أفهم .. 

وأكملت :

سامحني لم آت - إلى بيجانا إلا منذ أيام قليلة .

فابتسم الرجل وقال :

- أعرف من انت، جميع الأخبار تأتيني هنا، إن لي فضلا على الكثير من الجنود هنا 

وأردف :

_سيدتي الطبيبة، إن بيجانا قد أنهكت بالحروب التي خاضتها، 

وعوضً عن اهتمام حكامنا باصلاح ما اتلفته الحروب اهتموا 

بتعزيز سلطانهم دون غيره، فرحل حرفيوها وأذكياؤها إلى بلاد 

أخرى، وعام تلو الآخر لم تعد هناك سلعة تنتجها بيجانا، حتي

ما تنتجه من زيوٍت أصبحت بالكاد تكفي أبراجها وسجناءها إن 

احتاجت لذلك .. 

وأشار بعيدا إلى سجينة اسفل باب السجن أغرقت ملابسها 

وشعرها بالزيت بعدما سِكب عليها قدر من أعلي، ثم إلى جنود 

متراصين بسهامهم أعلي السور .. وأكمل :

- هؤلاء من تزايدوا فقط، الفقراء والجنود ..

ووثب قلب أسيل حين رأت سجينا شابا ينطلق بغتة خارج الدائرة التي حددت لهم ، ويركض نحو السور الحديدي الفاصل بين قسمي

السجن ليتسلقه، ثم فوجئت بسهم مشتعل أطلق من أعلى ليخترق جسده ويشعله بالكامل دون أن يقترب منه أي سجين آخرخشية أن

تطوله النيران حتي سقط جثة هامدة، فصرخت في ذهول، فقال

الرجل: 

ِ_ أظن انك رأيت لماذا يبتل هؤلاء بالزيت، من يخرج عن الدائرة

يحترق ..

ثم تابع :

- لقد رأي حكامنا أن الطريقة المقلى لإطعام خمسمائة ألف 

بيجاني تتمثل في السمع والطاعة لغيرها من الأقوياء، وأن 

نستدين حتي يأتي يوم ويصبح حالنا أفضل فنرد هذا الدين . 

و كما تعلمين، زيكولا لم تكن لتعطينا ثمرة واحدة، فاكتفينا

منها بالسمع والطاعة، في الوقت الذي رحبت بنا أماريتا،

وأصبحت تديننا كل شئ منذ سنوات عدة، حتي قيل أن بيجانا تحتاج تلالا 

من الذهب كي ترد تلك الديون...

وأشار إلى سجناء الساحة وقال :

- وقد جاء وقت السداد ..

فسألته أسيل غير مصدقة :

- بشر ؟!! 

فأومأ الرجل وقال :

- نعم، لقد امتلأت سجون بيجانا بالفقراء بعد رحيل رسول

أماريتا الذي جاء إلى بلادنا قبل أيام، وجميعهم الآن في طريقهم

ً إلى هذا السجن كي يرحلوا إلى أماريتا غدا... لقد قرر الحـــاكم أن يضحي بفقراء بيجـــانا كي يعيش بـــاقي 

أهلها، 

ووافق علي انضمام بلادنا إلى عهد مينجا، أو ما يسمي في بلدان

أخرى اتفاقية البشر مقابل الديون .. 

ستسدد بيجانا ديونها إلى أماريتا ألف فقير يرحلون اليها كل عام... 

فقالت أسيل :

- يريدون أن تسري بين الناس لعنة الخوف من الفقر مثل زيكولا 

؟! 

أجابها الرجل : 

_نعم، أمام فقراء بيجانا أن يعملوا ويكونوا ثروة أو يدخلوا هذه الدائرة مبتلين بالزيت بعد عام . 

*********************************************************

الفصل الرابع 


 في زنزانتها، جلست أسيل تفكر بما قاله جارها السجين وبهؤلاء الفقراء الذين صاروا عبيد بغير حق، تمتلئ عيناها بالدموع كلما تذكرت نظراتهم الواهنة، وتضع رأسها بين كفيها إن شمت رائحة لحم يحترق، كانت تدرك جيدا أنه لفقير حاول الهرب، ثم خرجت مجددا أمام زنزانتها لتجد الساحة قد امتألت عن آخرها بفقراء كسا  

الضعف والوجوم وجوههم مع اقتراب غروب الشمس، ووقع بصرها علي فتاة شاحبة بينهم امتلأت عيناها بالخوف، وقالت في نفسها وهي  

تنظر إليها : 

- أيتها الجميلة، إنك أفضل حال من سجينة تعلم أنها ستذبح  

بعد أشهر، فال تدري هل تسأل أيامها أن تسرع أم تبطئ من 

مرورها، اللعنة علي بلد باعت أبناءها . 

ثم عادت إلى زنزانتها وأغلق الحارس بابها، وانسدل ظلام الليل  

لتهدأ ضجة الساحة الخارجية ويشتعل ضجيج تفكيرها .. 

*** 

وكان السجين الأربعيني يجلس بزنزانته في صباح اليوم التالي حين فوجئ 

بأسيل تدلف إليه فأعتدل في جلسته مندهشا، فابتسمت 

والأمل يملأ وجهها عن يومها السابق، وجثت علي ركبتيها بجوارها 

قالت:  

_لقد سألت نفس ي بالأمس لماذا تستسلم فتاة في الخامسة  

والعشرين من عمرها ؟! 

رغم أنها أحبت شابا لم يعرف طريقا للاستسلام قط حتي وصل الي مبتغاه، كأنه أعطاها درسًا مسبقا عما هي فيه 

فقاطعها السجين متعجبا وفرحا بسعادتها الظاهرة

- سيدتي .. ماذا تريدين ؟! 

فاقتربت برأسها، وهمست إليه : 

- أريد أن أعبرالسور الحديدي إلى فقراء بيجانا.. 

فسألها مندهشا: 

- تريدين الذهاب إلى أماريتا ؟!

أجابته باسمة :

- نعم ..

فسألها مازحا: هل سيلحق بك فتاك الذي تحدثت عنه الي هناك

قالت :

- لا .. لقد رحل، ولكنه لو كان هنا لما تركني أنتظر يوم ذبحي 

وهناك فرصة واحدة لنجاتي،  

أضفت: 

_ لا أحد يعلم مصير هؤلاء الفقراء في أماريتا، لذا لم يهدأ تفكيري طوال الليل، قد يكون مصيرا أفضل من الذبح أمام أهل زيكولا  

و تابعت وهي تنظر في عينه مباشرة : 

- لقد أخبرتني بالأمس أنك تعلم الكثير عن الحراس هنا، بل يدين  

ٍل، أريد أن يدخلني أحدهم إلى الدائرة، 

أكثرهم إليك بإفضال، أريد أن يدخلني احدهم الي الدائرة ووسط هذا الزحام لن يدري أحد بوجودي . 

ثم أخرجت سوار ذهبي كان يحيط معصمها حين دلفت الي السوق يوم اعقلهت وظل معها، وقالت:  

- قد يفيد هذا مع بدء الخوف من الفقر .. 

فنظرالرجل إلى سوارها مترددا ثم هز رأسه وقال بعد لحظات :  

- حسنا، اتركيني الآن .  

*** 

مرت ساعات قليلة، كانت أسيل تنتظر بها أن يأتيها السجين بالرد، وصار قلبها يدق املا  

للمرة الأولى بالسجن الغربي، وجال  

ّ بخاطرها فجأة خالد حين جلسا سويا أمام البحيرة يحلان لغز كتابه معهم يامن...فابتسمت وحدثت نفسها؛ لن استسلم يا خالد، ثم 

نهضت في حماس وكأنها لا تطيق الانتظار، وتحركت إلى زنازين مجاورة فوجدت سجينة في حجمها ترتدي معطفا قديما مبطنا  





                    



بالفراء ذا قلسنوة، يتدلي من أسفله فستان قديم مرقعة بهتت 

صبغته الرمادية، فدلفت إليها وسألتها:

_هل لي أن أبدل ثيابي معك 

فدهشت السجينة، ونظرت إلى فستان أسيل الثمين الذي لم

يؤثر السجن علي رونقه، ونظرت إلى ثيابها البالية وسألتها : 

_هل انت جادة ؟! 

فهزت أسيل رأسها وقالت : 

- نعم .. هل توافقين ؟

فأجابتها السجينة :

- بالطبع .. وكادت تنزع معطفها ..

فقالت أسيل باسمة:

_ليس الآن .. أريدك أن تأتي إلى زنزانتي قبل أن تغلق الابواب مع 

غروب الشمس .

فأومأت السجينة فرحة وغادرتها اسيل، ثم وقفت برهة بالطرق 

أمام الزنازين، ونظرت إلى الساحة الممتلئة عن آخرها بالفقراء، كانت

الدائرة الجيرية قد اتسعت لتصبح حافتها ملاصقة للسور الحديدي

الفاصل بين قسمي السجن، ثم تحركت إلى زنزانة الأربعيني فلم تجده 

بها، فاتجهت إلى زنزانتها في انتظاره، ومرت ساعات أخرى دون أن 

يظهر، غير أن صاحبة الثياب البالية لم تخلف ميعاده

اغلقت الأبواب مع غروب الشمس، ولم يظهر جارها السجين، 

فجلست صامتة بفستانها الرمادي البالي، وأسندت رأسها إلى الحائط واضعة يدها على معطفها المتسخ المكوم بجوارها

وحدثت نفسها فى 

خيبة أمل : 

- سيغادرون الليلة .  

ثم مضي وقت قليل فنهضت واقتربت من النافذة الضيقة المغلقة  

بقوائم حديدية رفيعة، ونظرت عبرها إلى السماء وأطالت نظرتها،  

قبل أن تتسارع دقات قلبها حين مرت غيامة أخفت معها نجوم  

السماء إلا نجم واحد ظل يلمع بقوة دون غيره، فنطقت في ذهول : 

- أسيل النجم !! خالد !!  

و لم تكمل كلماتها حتي سمعت باب زنزانتها يصدر صريره ويفتح  

ويظهر رأس حارس لم تره من قبل، وهمس إليها : 

- مستعدة للرحيل ؟  

فأجابته علي الفور : 

- نعم .. 

فأكمل : 

- أين ذلك السوار الذهبي 

فدست يدها بمعطفها المكوم، وأخرجته وأعطته له :  

- ها هو .. 

فلمعت عيناه وقال :  

- لا تعلمين مدي حاجتي إليه.  

ونظر إلى مالبسها : 

- تعجبني ثيابك. 

ثم مسح يده المتسخة بوجهها فتركت أثارا سوداء على خديها، وأكمل: 

_تبدين متربة مثلهم الآن، عليك ان تسرعي 

فالتقطت أسيل معطفها وارتدته، وغطت رأسها بقلنسوته

الكبيرة، وأسدلتها علي جبهتها فأخفت ملامح وجهها ثم سارت خلف

الحارس مطأطاة الرأس، ونظرت إلى الزنزانة المجاورة فوجدت جارها 

السجين يبتسم خلف نافذة بابه الحديدي، ويلوح له بيده مودعا، 

ويشير إليها أن تكمل فحثت من خطاها، ثم اقترب الحارس بها من ثلاثة اشخاص آخرين معهم حارس آخر، وتحدث إليه باكتمال 

الأربعة الذين أمر بهم قائد الحرس أن يرحلوا مع سجناء الساحة إلي 

أماريتا، وانتهى من كلماته ففوجئت أسيل بقدر من الزيت البارد

ينسكب فوقها، بعدها سارت مع الثلاثة الآخرين نحو باب صغير 

بالسور الحديدي الفاصل، وما إن عبرته وأغلق من خلفهم حتي

كبلت يدها بيد فتاة أخرى حين أبصرت ملامحها بطرف عينها وجدتها

نفس الفتاة التي رأت الخوف بعينيها يومها السابق، ثم شعرت 

برعشة جسدها وسمعت بكاءها مع حلول وقت الرحيل، فمدت

أسيل يدها اليسرى لتمسح دموعها عن وجهها، وهمست إليها: 

_ستعودين يوما ما يا رفيقتي.

فالتفتت إليها الفتاة، وحدقت بملاممحها التي ظهرت فجأة مع 

إزاحة الهواء لغطاء رأسها قليلا، ونطقت في دهشة :

_الطبيبة أسيل ؟!! ماذا جاء بك الي هنا؟! أتذهبين معنا الي اماريتا؟!  

فأجابتها هامسة بعدما غطت رأسها : 

- نعم .. 

فأكملت الفتاة بصوٍت خافت : 

_ولكنك لست فقيرة مثلنا ! ..  

فصمتت أسيل برهة ثم سألتها: 

_هل لِك أن تكتمي سرا؟  

فأومأت الفتاة إيجابا أن تتحدث فقالت أسيل : 

- إن أماريتا سبيلي الوحيد الآن إلى سرداب فوريك . 

*********************************************************

الفصل الخامس


 كان وقت ترحيل السجناء إلى أماريتا قد حان، وأمام باب السجن 

تلاصق مئات من الجنود بخوذهم وسيوفهم ودروعهم مانعين أي من اهل بيجانا الذين تجمعوا خارج السجن أن يقترب من بابه الخارجي، 

ومفسحين الطريق لعربات خشبية ضخمة كان يجر كل عربة منها 

ثلاثة أزواج من الخيول يقودهم جندي يشق سوطه الهواء، وفي صناديقها الخشبية ثبتت أغلال حديدية علي مسافات متساوية . .  

وحين توقفت العربة الأولى أمام باب السجن أسرع إليها ثلاثة من  

ً الجنود، اعتلي اثنان منهم صندوقها بينما وقف الثالث مجاورا لسلم فولاذي ثبته، بمؤخرتها  





                    



ته بمؤخرتها، بعدها أمر قائد الحرس أن يتحرك السجناء فأطلق بوق  

أعلي سور السجن، وبدأ السجناء يتحركون أزواجا تراصوا بدروعهم صانعين ممر ساحة  

كبلة اليدين والقدمين بين صفين من حرا 

ورماحهم صانعين ممرا طويلا بين ساحة السجن والعربات بالخارج،  

وكان الجندي الذي يقف عند مؤخرة العربة يسجل بأوراقه علامتين 

مع كل زوج يصل إليه من السجناء، قبل أن يلتقطهما الجنديان 

الآخران أعلاها ويكبلا أغلالهما بأغلال العربة المثبتة، ثم يشيران إلى جندي الأوراق كي يمرر إليهما زوجا ليكبلاهما كما كبلا  

سابقيهما، حتي امتلأت العربة الأولى، ورفع أحد الجنود راية بيضاء، 

فحمل جندي الأوراق السلم الفولاذي متجها إلى عربة أخرى بينما ظل الجنديان الآخران مع السجناء أعلي العربة التي تحركت إلى  

الأمام لتحل محلها عربة أخرى .  

*** 

امتألت العربات عربة تلو الأخري، واصطفت في صف واحد علي 

امتداد سور السجن في انتظار العربات الباقية، ثم تقدمت أسيل  





                    



مكبلة يداها اليسر ى وقدمها مع الفتاة الخائفة، وسارت مطاطأة 

الرأس تخفي وجهها يغطي رأسها قلنسوة معطفها، ووصلتا إلى 

مؤخرة عربة، وكادتا تصعدان سلمها الفوالذي فصاح جندي الأوراق  

بأسيل :  

- لماذا تخفين وجهك  

فأسرعت الفتاة ونظرت إليه، وتحدثم فى دلال متجاهلة سؤاله  

لأسيل :  

- أنظر ماذا فعلت قيودكم بقدمي .. 

ثم كشفت عن ساقها وفخذها كاملاا فلمعت عيناه، وكاد يمد يده  

يلامسها فصاح به قائده كي يسرع فسجل بأوراقه عالمتين حانقا،  

ُ ثم التقطهما جنديا العربة وكبلاهما بقيدي حديدي مثبت بجانبها،  

وأسرعا إلى سجينين آخرين، فهمست الفتاة إلى أسيل ضاحكة : 

- الرجال هم الرجال . 

ثم تابعت : 

- قمر، اسمي قمر .. 

فابتسمت أسيل، وهمست إليها:  

- أدين لك بحياتي الآن يا قمر.  

فقالت الفتاة مازحة: 

- عليك أن تتذكري هذا لاحقا 

ثم رِفعت الراية البيضاء أمام العربة بعدما امتلأت، فتحركت قليلا للأمام لتحل محلها عربة نقل السجناء الأخيرة التي انتهت هي  

الأخري مع منتصف الليل ..  

بعدها امتطي قائد الحرس جواده ودار حول العربات وتفقدها بعينيه سريعا، وصاح بصوت رخيم بأن يستعد الجميع للرحيل، 

ِفعت راية سوداء كبيرة بالعربة الأولى، وأطلقت الأبواق مجددا، وأغلق باب السجن الرئيسي، وامتطي الجنود خيولهم، 

وإلتفوا حول العربات ليكونوا إطارا بيضاويا مزدوجا بأجساد خيولهم، تفصل بينهم 

ً بينهم أقدام قليلة، وأمسكت يد كل منهم سوطا هوي علي جسد من اقترب من أهل بيجانا دون أن يفرق بين شيخ أو طفل أو امراة، وبدأت العربات تتحرك رويدا رويدا، تحتشد كل منها بأجساٍد مكبلة، تنظر إلى بعضها البعض وإلى سماء بيجانا التي بدأت تمطر حزنا مع  

بكاء سجيناتها ووجوم سجنائها ونحيب نسائهم وشرود نظرات اطفالهم، وغادرت القافلة بيجانا كانت الأكثر قسوة في  

تاريخها .  

*** 

سارت القافلة في إتجاه الجنوب، عشرون عربة خشبية، كانت 

مقدمة كل منها تحمل شعلة زيتية، وأحاط بهم مئات من الجنود علي 

جيادهم، يحمل بعضهم شعلا ًمماثلة، وكانت أسيل تجلس بالعربة  

قبل الأخيرة وبجوارها قمر التي قالت لها: 

_اكشفي وجهك إن أردتي، لقد تركنا بيجانا، وهذان الجنديان 

ومن معنا من فقــراء العـــربة ليسوا من المنطقة الغــربية، لا  

أعتقد أنهم  

سيعرفونك .. 

فكشفت أسيل رأسها، والمست وجهها قطرات من المطر، فسألتها قمر: - هل عرفين أماريتا تلك ؟ 

- لا .. إنني لم أعرف إلا بيجانا وزيكولا .  

- أنا أيضا لا أعرفها، إنني لم أترك بيجانا قط، سمعت أنهم  

يقولون أنها بعيدة للغاية .. 

- نعم سمعت هذا أيضا ..  

- هل تعلمين ماذا سيفعلون بنا في أماريتا ؟ 

- لا ..  

ثم نظرت أسيل إلى السماء بعدما انتهت أمطارها وعاد صفاؤها 

فوجدت أسيل النجم، فابتسمت وقالت لقمر فرحة 

- أنظري إلى هذا النجم اللامع .. 

فردت قمر متعجبة من فرحتها : 

- ماذا به ؟!  

- لقد سماه حبيبي أسيل، وها هو يرافقني  

فضحكت قمر: 

_هناك حبيب إذن ..لابد أن أعرف القصة  

فقالت أسيل باسمة :  

- لا تتعجلي.. يقولون إن طريقنا طويل، لن يكون لدينا أكثر من الحديث فقالت قمر في خيبة أمل : 

- إنني لم أحب بعد .. تجاوزت العشرين ولم أحب، مأساة أليس 

كذلك ؟! 

فابتسمت أسيل وأكملت حديثها إليها .. 

ومر مزيد من الوقت أكملت معه القافلة مسيرتها نحو الجنوب، 

وزادت برودة الجو فتالصق السجناء مرتجفين رجالا ونساءا،

يستعيرون دفء بعضهم البعض، ولم يتوقف صفيرالرياح عن دويه 


وسط ظلام الطريق، تراقصت معه نيران المشاعل لتظهر وجوها 

ذابلة كساها التعب، وشفاه مشققة آثرت أن تصمت، وجفون مرهق

غلبها النعاس فسقطت، عدا أسيل التي ظلت تراقب نجم 

السماء دون أن تفكر بشئ آخر، بينما نامت قمر علي كتفها .

***

كانت الرياح قد هدأت مع بزوغ فجر اليوم التالي وسطوع شمسه، أسيل ملأت صدرها بهواء منعش كان قادما من مسطح مائي رأته عينها علي امتداد بصرها، ودق قلبها حين قال أحد

الجنديين للآخر : 

- انظر .. إنه بحر مينجا، لن تراه كل يوم 


وواصلت العربات تقدمها في طريقها إليه، ثم اقتربت منه

فانحرفت لتسير موازية لشاطئه فأبصرت أسيل سفينة كبيرة انتصب بأوسطها صار طويل لف ثلثه الأعلى بشراع قماشي كانت تقف مجاورة لجسر خشبي طويل شق ماء البحر متعامدت، عليها

شاطئ البحر اصطف عدد من الجنود الغرباء كان مماثلا لمرافقي 

قافلتها، يتقدمهم قائد شاب تقدم إليه قائد الحرس البيجاني ما إن 

رآه، ثم تبادلا أوراقهما، بعدها تفقد القائد الشاب العربات بجواده 

ثم أشار إلى جنوده الذين أفسحوا الطريق لتتحرك العربة الأولى

إلى 

الجسر الخشبي في إتجاه السفينة، وعبرت لوح خشبي سميك مائل ثبت بينه وبين السفينة لتأخذ مكانها أعلاها، ثم حلت خيولها بجوار العربة الأولى، وعاد بهم قائدها 

بهم قائدها مع جنديّ

بجوار العربة الأولى، وتعود خيولها إلى الشاطئ مع قائدها وجنديها

هي الأخري .. ثم نهضت قمر وتلفتت حولها في دهشة بعدما وجدت

ذلك البحر وتلك السفينة، وسألت أسيل :

- أين نحن ؟

- إنه بحر مينجا، كما سمعت ..

_ إنها المرة الأولى التي أرى بها بحرا . 

ثم أشارت إلى السفينة العمالقة:

- ما هذا ؟

- إنها السفينة التي ستحملنا إلى أماريتا .

- هل ستحمل القافلة جميعها ؟!! 

- يبدو كذلك

أجابتها أسيل شاردة كأنها لم تتوقع أن تكون أماريتا بعيدة إلى

هذا الحد، وظلت تنظر إلى العربات التي تتحرك إلى السفينة فتعود 

الخيول وحدها مع جنودها، ثم حركت عينيها إلى البحر الذي لا تظهر 

له نهاية، وأكملت شرودها حتي لسع قائد العربة خيول عربتها

بسوطه، فتحركت بهم تجاه السفينة، وعبرت اللوح الخشبي ثم 

توقفت أعلاها مجاورة لعربات أخرى محملة بسجناء آخرين، وقفز جنديا العربة، وعادا بخيولها مع قائدها، ثم تبعتها العربة الأخيرة، 

فانتشر الجنود الأماريتيون حول العربات وثبتوا عجلاتها بحلقات معدنية كليرة تناثرت بسطحها، وأوزيل اللوح الخشبي 


السفينة وجسرها، وبأعلي السفينة وقف القائد الاماريتي الشاب، 

وودع قائد الحرس البيجاني الذي اصطف بجنوده علي الشاطئ،

قبل أن يلتفت إلى العربات املتراصة حول صارى السفينة، ويصيح

بصوته إلى رجاله :

- فلترفع الأشرعة إلى أماريتا . 

*********************************************************

الفصل السادس


 اشرقت شمس اليوم الخامس وكانت سفينة السجناء لا تزال تشق بحر مينجا وزادت أسيل تعباً بعدما أصابها دوار لم تشعر بمثله من قبل كانت تسمع عن دوار البحر لكنها لم تدرك أن يكون بهذهِ الشدة و بكت أمتعاضا بعدما تقيأ عليها أكثر من سجين وأغرق شعرها ووجهها ومعطفها بقيئهم ورائحته العَفنة هي وقمر التي أستسلمت للنوم دون أن تعبأ بتلك الرائحة أو رائحة البول المنتشر بالعربة ثمَ أيقظتها أسيل حين ظهرت هضاب ريكاتا في الأفق.. 



كانت هضاب ريكاتا الحصن الشمالي الحقيقي لِأماريتا غابة من هضاب كثيرة إنتصبت عمودية وسط بحر مينجا لتصبح بينها ممرات مائية متشعبة ومتداخلة عرفت بمتاهة ريكاتا بينها ممر وحيد آمِن يتبدل مع الطقس لا يعرفه إلا قادة أماريتا وبحارُوها مَن يضلهُ مصيره الغرق لا محالة حيثُ دوامات مينجا العنيفة التي تظهر وجهها الغاضب كما هو الحال خارج تلك الهضاب، أما سفن التجارة الغير أماريتية فكانت ترسو بمرفأ أنشئ عند الهضبة الأولى وتبادل تجارتها مع سفن أماريتية تجوب تلك المتاهة من و إلى أماريتا.


دَلفت السفينة نحو الهِضاب وقَلت سرعة أبحارها بعدما نُكسَ شِراعها الرئيسي وأسقطت مجاديفها إلى الماء وعبرت أولى هِضابها لتنحرف شرقاً وتعبر عددا من الهِضاب والمَمرات المائيه الضيقة المتقاطعة ثم دارت ببطء حول هضبة كانت أقل طولاً من مَثيلاتها لتنحرف وتتخذ ممراً مُتعرجاً بين هضاب أخرى في اتجاه الجنوب الغربي ثمَ عبرت غيرهم و انحرفت في اتجاه الجنوب الشرقي وكانت أسيل تتشبث بمن حولها وبأخشاب العربة التي أهتزت مع انحرافات السفينة ومعها قمر التي تكَوَمَت وألتصقت بها ونظرت بطرف عينها في خوف إلى الهِضاب الشاهقة المتناثرة وسط الماء، ثمَ أقترب منهما بَحار عجوز اعتلى العربة بوعائه ليسقي سجناءها وحين رأى خوفهما انحنى وهمس إليهما: 


- لا تخافاَ إنها متاهة ريكاتا.. 



فقالت قمر: 


- أشعر أننا ندور في الدائرة ذاتها.. ماذا لو لم نستطيع عبور المتاهة؟ 



فضحك العجوز وقال: 


- إنَ بحاري أماريتا يعلمون طريقهم إلى بلدهم .. وتابع : 

سَتعلَمان لاحقاً إنَ هذا المَمر أسرار قوة بلادنا .. وأردف: 

- لا احد يعرف هذا المَمر جيداً غير قادتها وبحاروها ..حتى هؤلاء الجنود على السفينة أن تركتهم هنا لن يستطيعوا إكمال طريقهم.. 

فقاطعته أسيل: 

- ربما لأنهم أغبياء.. 



ونظرت إلى سجناء العربات الأخرى المحدقين بأعلى الهِضاب وأكملت: 



- كان عليكم أن تغمضوا أعيننا لقد رأى الجميع كيف تمر هذهِ السفينة وقد يفشي أحدهم هذا السر حين يغادر. 


ضحك العجوز مجدداً: 


- يغادر؟ لا أحد يغادر .. 


ثمَ تابع وهوَ ينهض: 

- سيتبدل هذا الطريق بحلول الليل ..


عَبرت السفينة هضاب ريكاتا و واصلت إبحارها لِأربعة أيام أخرى ليظهر أمام أعين السجناء شاطئ أماريتا ومعه الكثير من مراكب الصيد التي رست بالقرب منه ثم أقتربت من جسر خشبي شق طريقه من الشاطىء إلى الماء مثل جسر الجانب الآخر وأبطأت لترسو متعامدة عليه و رفع بحاروها مجاديفهم وثَبّتوا حبالها السميكة بِمَرساها بعدما ألقى آخرون غطاسها بالماء فأستقرت تماماً ثمَ ثُبت لوح خشبي مائل بينها وبين الجسر.

وكان القائد الأماريتي قد أمَر بتحرير أغلال السُجناء فصعد كل عربة زوج من الجنود وحرروا أغلالهِم ثمَ تَرجلوا وتحركوا مصطفين نحو اللوح الخشبي وأحتشدوا على شاطئ البحر محاطين بِفُرسان أماريتا ثمَ بدأوا في تقدمهم نحو المدينة على أقدامهم وبينهم أسيل التي حَدَقت بباب المدينة المغلق أمامهم وسورها الصخري الضخم على جانبيه فأشعل عقلها بأسئلته إليها؛ إن كان قرارها صائباً بِمجيئها هنا وإن كان سجنها مدى الحياة خلف هذا الباب أفضل حقاً من ذبحها على مِنصة زيكولا، ولم يشغل بالها ذلك السجين الذي أغرقها بقيئه مجدداً ولا قمر التي تشبثت بذراعها وظلت تثرثر خائفة من مصيرهما المجهول..

كان باب أماريتا أكبر من بابي زيكولا وبيجاناَ معاً باب فولاذي نُقشت عليه رموز لم تستطع أسيل أن تُفسرها ما إن فُتح من الأسفل إلى الأعلى حتى إنطبعت على وجهها الدهشة بعدما إستحالت صحراء الشاطئ خلفه إلى ساحات شاسعة من الخضرة والبساتين على الجانبين بينهم طريق واسع ممهد أمتد إلى مبانٍ بدت أكثر تناسقاً مما رأته في أي بلد آخر.

و سار الجميع ورحيق زهور البساتين ينعش صدورهم لوحة من الجمال رسمتها خُضرة البساتين والطيور المحلقة فوقها اكتملت بالمباني التي تَلونت بألوان مبهجة أما أعينهم وأهل تلك المدينة الذين خرجوا إلى جانبَي الطريق يرحبون بهم ترحاباً كان مفاجئاً فكان الجميع يلوحون إليهم بأياديهم وما إن تقع عيناَ سجين على أحدهم حتى يسرع بقوله "مرحبا" وأمتلأت النوافذ بِرجال ونساء وأطفال كانوا يصيحون مُرحبين ما إن تمر المسيرة أمام بيوتهم ثمَ يسرعون إلى الشارع ليسيروا بجانبهم فبدأت الأبتسامة تظهر على وجوه بعض السجناء وبينهم قمر التي تعجبت من تهامُس فتيات تلك المدينة وأشارتهن إلى بعض رجال بيجاناَ ثمَ بدأت الموسيقى تدوي في الأرجاء بعدما إنضم عازفون إلى مسيرتهم وتراقصت معها بعض من فتيات أماريتا وبدأت في الغناء مُرحبين بالسجناء ..

كان الجميع يتحركون سوياً لا يفصل بين غرباء بيجاناَ وأهالي أماريتا إلا قلة من الفُرسان تواجدوا من أجل تنظيمهم فقط دون أغلال أو قيود يقودهم القائد الشاب على جواده أمامهم.. أما أسيل أِختفت بسمتها بعدما جال بذهنها تشابه تلك اللحظات مع يوم زيكولا الذي طالما بدأ بالغناء والرقص وإنتهى بذبح أحدهم، ثمَ قاطعت شرودها قمر حين حدثتها بصوت عال؛ انظري وأشارت أمامها إلى قصر ضخم ذي شُرفات عدة لَمعَت واجهته الرُخامية مع أشعة الشمس، أمامه ساحة واسعة أحيطت بسور من ألواح رخامية رفيعة تراصت بين أعمدة صخرية نُحتت على مسافات متساوية كانت المسيرة في طريقها إليه.


وصلت المسيرة إلى باب ساحة القصر ودَلفت إليها وعلت الموسيقى بعدما التف العازفون حول تمثال رُخامي توسط الساحة كان لمحارب بارز العضلات ترفع يده اليمنى سيفاً شق نصلهُ الهواء وتتدلى بجواره يده اليسرى ممسكه براس منحوت دون جسد فزادت همهمة السجناء ثمَ أمَرهم القائد الأماريتي أن يتقدموا الصفوف الأمامية بالقرب من القصر بينما مكث أهل أماريتا بالصفوف الخلفية ثمَ أُغلق باب الساحة وتحركت ألواح السور الرُخامية الرفيعة حركة ربع دائرية في تناسق لتغلقه فَعُزلت الساحة عن خارجها وصمتت الموسيقى بعدما أطلق بوق من إحدى شُرفات القصر الجانبية صمت معه الجميع على الفور ثم ظهر بالشُرفة الوسطى شاب طويل القامة قوي البنيان قصير الشعر يرتدي ثياباً عسكرية فصاح أهل أماريتا هاتفين بحماس شديد لدقائق فحياهم بيده اليمنى باسماً وأدركت أسيل أنه الصورة البشرية للتمثال الذابح لأحدهم مع همسات قمر إليها أنهُ الملك ثم هدأت الساحة في إنتظار حديثه إلى فقراء بيجاناَ فقال:

- أعلم أنكم منهَكون للغاية لا تقلقوا لن أطيل عليكم أردت فقط أن أرحب بكم كَمَلِك لهذا البلد وأخبركم بأمور لابد أن تعلموها في يومكم الأول..

كان صوته يصل واضحاً إلى الجميع مع إغلاق الألواح الرُخامية ثمَ تابع:


- منذ عبوركُم هضاب ريكاتا وأصبحت أماريتا بلدكم تخضعون لقوانينها لستم عَبيداً إنما أنتم أهلنا الجدد.

بعد حديثي سيحُل كل منكم ضيفاً على أماريتي لِمدة ستة من الأشهر يتدبر بها الأماريتي لِضَيفه مأكَله ومشربه..

بعد أشهركم الستَةِ الأولى لن يحق لِأماريتي أن يستضيف أياً منكم وإلا سيعاقب ولن يطعمكُم احد، المنحة من غير الملك جريمة.

سَينال كل منكم رقماً مَوشوماً على كتفه طبقاً له سيحدد مضيفه وعمله، لا يسمح لأحد بعمل آخر غير الذي حُدد برقمه..

بعد عام من اليوم ستدفعون ضرائبكم إلى أماريتا مائة قطعة نحاسية مَن يدفع ضرائبه يكمل حياته حراً وَمن لا يدفع يصير عبداً يباع في سوق العبيد وتنال أماريتا ثمنه، فليسعى كل منكم إلى حُريَته. 
سَترحلون عن أماريتا بعد عشرة أعوام كما جئتم اليوم دون مال ولن يرحل أحدٌ قبل ذلك ولا رحيل للعبيد ولا حقوق لهم. 
ثمَ نظر إلى أهل أماريتا بالصفوف الخلفية وقال: 
- أهل أماريتا، فَلتُكرموا ضُيوفكُم لقد عانو كثيراً في بلدهم. 
فهتفوا باسمهِ وطال هتافهم وتعجبت أسيل حين وجدت نظرة الرضى قد علت وجوه فقراء بيجاناَ بل إنضم بعضهم إلى هتاف أهل أماريتا..... 

*********************************************************

الفصل السابع


 غادر الملك شُرفة قصره، ثمَ أمَر القائد الشاب جنودَهُ بأن يقَسموا فقراء بيجاناَ إلى جماعات، ومر بينهم يتفحصهم بعينه ومعه مساعديه، وأختار عدداً من أقويائهم أخبرهم إنهم سينضمون إلى جنود أماريتا فتَنَحوا بعيداً عن باقيهم، ثمَ مر بينهم ثلاث رجال آخرون يرتدون عباءات ثمينة وتفحصوا الفقراء عن قرب وأدركت أسيل إنهم يهتمون بالنساء فقط وإن لفتت أحدهم أنظارهم اختاروها وسمعت أحد الجنود يقول لفقير خلفهَ إنهم رجال قصور الملك مَن يختارهن كُتِب لهن الرغد في هذا البلد، ثمَ اقترب أحدهم وسأل قمر إن تنظر اليه ومسح خدها المتسخ بإصبعه فنَظرت إلى الأرض خَجلا وسارت بجسدها رعشا شَعَرَت بها أسيل الملاصقة لها فأمرها أن تتحرك للأمام ثمَ اتجه بعينه إلى أسيل ومعطفها المتهالك، وأقترب برأسه منها وهي ثابتة تبتلع ريقها قبل أن يبعد رأسه عنها منتعضاً من رائحة رأسها ومعطفها اللذين كُسيا برائحة قيئ السجناء وأبتعد عنها مغمغماً بكلمات غاضبة عن رائحتها الكريهة، وأتجه إلى أخريات في صفوف مجاورة وتحركت قمر مع فتيات أخريات مبتعدة نحو جندي كان يجلس ليسجل مَن اختارهن رجال القصر وكانت تتلفت بين لحظة وأخرى إلى أسيل كأنها تُناجيها إن تلحق بها لتجدها واقفة بمكانها شاهقة الرأس تلتمع عيناها بالدموع أبت إلّا تفارقها. 

أما أسيل ومن تَبَقى معها فقسّموا إلى خمس مجموعات تفاوتت أعدادها لِتوزع على مدن أماريتا الخمس: الشِمِيل، بؤما، مساقيا، بيساناَ، وأماريتا - منطقة الحاكم التي يتواجدون بها - وَوقَف أمام كل مجموعة شاب أماريتي أخبرهم بالمدينة التي سيتجهون إليها قبل أن تتقدم كل مجموعة إلى عدد من الرجال والنساء الجالسين بأركان الساحة الأربعة وإنتظم الرجال في صفين أمام أربعة من الرجال، ثمَ إنتظمت النساء في صفين آخرين أمام أمرَأتين وجاء دور أسيل فسأَلَتها المرأة إن تكشف عن كتفها وأخبرتها مبتسمة بأنها ستضع وشماً صغيراً برقم على كتفها الأيسر كان أربعُمائة وأربعة عشر وأردفت إليها بأن تلك الأرقام الموشومَة هي طريقة إحصاء أماريتا لأهلها كما أنها تُحدد عملها ومضيفها وأنَ مادة هذا الوشم غير ضارة يزول أثرها تماماً بعد عام فيجدده صاحبه مع دفعه لِضرائبه وطالما وجد هذا الوشم كان حامله حراً لا أرقام للعبيد فَهزت أسيل رأسها إيجاباً دون أن تتحدث ثم صرخت بألم بعدما وَشمتها المرأة بآلة معدنية صغيرة فَأعتذرت منها ودَونت بأوراقها رقمها مع غيره من أرقام دُونَت بتاريخ ذلك اليوم بصفحة كُتِب أعلاها، الشِمِيل... المدينة التي سَترحل إليها أسيل مع رِفاقِها، ثم تحركت لتأخذ مكانها أمرأة أخرى، تردد بينها وبين نفسها؛ أربعُمئة وأربعة عشر!! 

كانت الشمس تقترب من المَغيب حين غادرت العربات إلى الشِميل تحمل فقراء بيجاناَ بينهم أسيل التي غلبها النعاس ولم تفتح عينيها إلا مع وصولهم باب تلك المدينة المفتوح على مصراعيه مع شروق الشمس والذي صممت جوانبه كساقين ضخمتين لمحارب يمر بينهما اياباً وذهاباً لو أغلق ذلك الباب لفصلها عن باقي مدن أماريتا بعدما أحيطت بسور صخري مرتفع.. 

دَلَفَت العربات في تتابُع إلى المدينة التي لم تختلف كثيراً عن أماريتا وتلاصقت بيوتها ذات الارتفاع الواحد تفصلها شوارع معبدة بِقطع صخريه ثمَ إنحَرفت العربة التي تحمل أسيل إلى شارع جانبي منفصلة عن باقي العربات وسألهم الشاب الأماريتي الذي صاحبهم بعدما توقفت العربة إن ينظر كل منهم إلى رقمه الموشوم وأشار إلى بيت مجاور كُتِب على بابه رقم وقال:

يطابق كل رقم من أرقامكم رقم أحد بيوت هذا الشارع سيكون ضيفا لِأهله ستة أشهر من اليوم. 

عليكم أن تنالوا قسطاً جيداً من الراحة بعد عناء رحلتكم اليوم وغداً منحة من الملك.. 


وسألقاكُم هنا صباح بعد غد لإخبار كل منكم بعمله الجديد..


وأمَرهم أن ينطلقوا فترجَلت أسيل تحمل معطفها تحركت تبحث عن الباب الذي يحمل رقمها وسط غيرها من غرباء بيجاناَ الذين إنتشروا أمام البيوت وبدأ أهل المدينة يظهرون تباعاً أمام بيوتهم مُرحبين بهم قبل أن تجد بيتاً يحمل رقمها أربعُمئة وأربعة عشر لم يظهر أمامه أحد.. فطرقت بابه وبعد دقائق أجابها رجل مسن متجهم الوجه دق قلبها خوفاً حين أبصرته للمرة الأولى......... 

*********************************************************

الفصل الثامن


وجدت أسيل البيت الذي يحمل رقما مطابقا لرقمها الموشوم وطرقت بابه، بعدما لم تجد أمامه أحداً في إستقبالها كَباقي أهل المدينة أمام بيوتهم، وبعد دقائق فُتِح لتجد مُسناً في عقده السادس سقيم الوجه مصفر بياض العينين، بدى أنه نهض تواً من نومه فكشفت له عن كتفها وأخبرته إنها ضيفته لستة أشهر طبقاً لِخطاب الملك، فأشار اليها بالدخول دون أن يتحدث، فَدَلَفَت من وراءِه ودق قلبها قلقاً حين لَمحت زجاجات خمر فارغه تناثرت بكثرة على أرضية ردُهَته ونظرت في صمت إلى أثاث بيته المتهالك وستائره البالية المغطاة بالأتربة وجلست على كرسي أمامه في إنتظار أن يقول كلمة واحدة فلم يفعل، ثمَ نهض فجأة وتحرك إلى إحدى الغرف وعاد ووضع أمامها قطعة من الجبن ورغيف خبز وهَم بالمغادرة مجدداً إلى الغرفة، فنَطقت بعدما تحرك خطوات: 

- اسمي أسيل .. 

وسكتت فألتفت اليها وقال باقتضاب: 

- ليس لدي غيره من الطعام.. 

وأشار عن يمينه إلى باب غرفة مجاورة وأردف: 

- هذهِ غرفتك.. 

ثمَ أكمل تحركه فقالت أسيل باسمة: 

- شكراً سيدي .. 

متابعة: 


- كنت أظنك أبكم.. 


ثم سألَته: 


- ألا توجد إمرأة هنا؟ 

فتَجاهَل سؤالها .. ودَلَف إلى حُجرته ولم يخرج مجدداً وأدركت أنه غاب في سُباته فتحدثت إلى نفسها: 
- كان خطاب الملك بأن يساعدني هذا الرجل يبدو أنهُ هو الذي في حاجة إلى المساعدة. 

ثم نَهضت وَدَلَفت إلى غُرفتها التي أشار إليها فوجدتها أفضل حالا من باقي البيت وابتسمت حين لَمحت بأحد أركانها حوضاً للإستحمام وضعت بجواره أوانِ مُلِأت بالماء وبِجانب آخر من الغرفة رَقَد سرير نظيف بدا أنه أعُدا سلفاً لضيف هذا البيت من غرباء بيجاناَ، فأغلقت بابها بإحكام وأسندت ظهرها إليه وأغمضت عينها للحظات قبل أن تفتحها وتُلقي بمعطفها جانباً وتنزع فُستانها وتَسرع إلى حوض الإستحمام. 

في اليوم التالي إستَيقَظت أسيل من نومها مع شروق الشمس وابتسمت حين وجدت نفسها قد نامت منذ ظهيرة يومها السابق وكادت تُغادر فراشها فَتذكرت أنها عارية بعد أن غسلت ثيابها بحوض الإستحمام قبل نومها.. ثمَ أبصرت بنطَالا وقميصا على كرسي مجاور لمرآة الحُجرة لم تلحظهما يوم أمس وكأن صاحب البيت لم يتوقع أن يكون ضيفه إمرأة فنهضت وإرتدتهما بعدما تحركت إلى حوض الإستحمام وغمرت وجهها بمائه، ضحكت حين نظرت إلى المرآه ووجدتهما واسعين للغاية فأمسكت ببنطالها كي لا يسقط وتَفقدت فُستانها فوجدته لم يجف فجلست على الكرسي أمام المرآه ثم سمعت حركة مفاجئة أمام باب الغرفة فحبست أنفاسها وتحركت ببطء نحوه ممسكه ببنطالها وتوقفت ملاصقة له حتى ساد الصمت أمامه فَفتحته بحذر فوجدَت طبق الطعام الذي تركته بالأمس قد أضيف إليه قطعة من الدجاج ووضع على الأرض أمامها فنظرت إلى الردهة باحثة عن المسن فلم تجد أحد فمدت يدها وأخذته ثم أغلقت بابها .. 

مرت ساعات وأسيل تجلس بغرفتها وكان فُستانها قد أوشك على الجفاف وأصبح مبتلاً قليلاً حين بدلت ثيابها وخرجت لتجد صاحب البيت جالساً على كرسي ممسكاً بزجاجة خمر فارغه في شرود فَتنحنحت، ثمَ إتخذت كرسي بجواره وجلست وساد الصمت قليلاً، ثمَ قالت:

- ألم يكن هناك بنطالً أصغر حجماً؟

فَرد الرجل دون أن ينظر إليها:

- كان عليكي أن تسمني أنتي قبل أن تأتي إلى هنا.

فضحكت وقالت:

- وجهة نظر أيضاً.. 

- ما اسمك يا سيدي؟

قال: 

- سيمور

قالت: 

- ولماذا تتجاهلني سيد سيمور

فلم يجيبها فأكملت: 

-حسنا عليك أن تتحمَلني مَلِكُكُم مَن قال أنكم ستساعدوننا بأشهُرنا الأولى، فنَظر إليها وقال عابس الوجه:

- لقد كان حظك بائساً باختياري مضيفاً لكِ..

فقالت باسمة:

- لا عليك .. أؤمن أنَ الحياة لا تعطي كل شيء..

فقال الرجل:

- أرى أن تعودي إلى غرفتك وتُغلقي بابك لقد نَفِذَ خمري ووقت قليل وسأصبح أسوأ مما تتخيلين.

قالت:

- سيقتلك هذا الخمر..

فأشار إليها محذراً كي تصمت، ثمَ أشار إلى غرفتها، فحاولت أن تنطق فألقى بزُجاجته إلى الأرض فجأة، وصرخ بها غاضباً: 

- عودي إلى غرفتك. 

فَانتَفض جسد أسيل ونهضت مضطربة الوجه لكنها لم تتجه إلى الغرفة بل اتجهت نحو باب البيت وغادرت إلى شوارع المدينة. 

##### 

كانت ساحة الإحتفالات بالمنطقة الشرقية لِزيكولا محتشدة بأهلها بعدما تجمعوا ليشهدوا ذَبح خائنة بلادهم كي تكون عبرة لأي شخص يقترب من سور زيكولا ووسط صياح الكثيرين لَوَح السياف بسيفه في الهواء قبل أن يهوي على رقبتها مطيحاً برأسها المغطى بِغطاء قماشي أسود لِيسقط متدحرجاً على منصة الذبح، وينكشف عنها غطاؤه ويظهر وجه نادين العاهرة ساكناً شاحباً تنساب من أسفله الدماء بغزارة، ثمَ صعِد قائد الحرس الزيكولي ليُمسك شَعر ذلك الرأس بين أصابعه ويرفعها عالياً صائحاً بمن أمامه من أهل زيكولا: 

- إنهُ عقاب من يقترب من سور زيكولا، إنهُ عقاب الخيانة، ونظر إلى جندهِ وقال: 

- فَليُمزَق هذا الجسد ويوزع على مناطق زيكولا أما هذا الرأس فلن أتركه حتى يخبرني بمكان الباقين وتحدث إليه في صرامه: 

- عليك أن تخبرني أين ذهب الباقون وإلا سأُمزق هذا الوجه الجميل بِخِنجَري.. 

ففتح الرأس عينيه وتحدث خائفاً: 


- سَأُخبرك سيدي سَأُخبرك.

- تُخبري مَن؟

سألَهَا يامن ضاحكاً، فتحركت إليه عيناَ نادين الناعِسَة قبل أن تتحرك بعيداً عنه في دهشة لتنظر إلى الشُعله التي تُضيئ الغرفة من حولها وإلى الغطاء الذي تنام بأسفله ثمَ نظرت إليه مجدداً وقالت:

-كابوس لَعين

-تُذبَحين

- نعم

ثمَ أكملت بعدما نهضت لتجلس على سريرها:

- سيمزق جسدي ويوزع على مناطق زيكولا.. وأضافت ساخرة:

- يبدو أن قدرهُ لَطالما كان ملكاً لزيكولا وأهلها

فقاطعها يامن: 

- سيصبح كل شيء على ما يرام 

فثارت سَاخطة: 

- سنُذبَح لا محالة إلى متى نختبأ؟ إلى متى نستطيع أن نكمل حتى؟ لم يمضي سوى شهر وأصبح حالنا بائساً أخبرني إلى متى؟ 

فأجابها هادئاً: 

- سيأتي يوم زيكولا وسنخرج حين يُفتح بابها،  

- بعد سبعةِ أشهر  

ثم نهضت وتركت فِراشها ووقفت بقميصها العاري: 

- أخبرني كيف نكمل حياتنا هكذا إلى يوم زيكولا انظر إلَي لقد أصبحت بائسة بين جدران هذهِ الغرفة بسبب صديقك عليه اللعنة.. أخبرني كيف نكمل؟ 

ثمَ غَمغَمت: 

- حتى أنت لا ترغب بجسدي اللعنة عليك أنت الآخر. 


قبل أن يُفتح باب الغرفة ببطء ويدخل إياد مغطي رأسه بِغطاء رأس فأكملت في تذمُر: 

- ها قد جاء البائس الثالث. 

فقال إياد مُتجاهِلا حديثها: 

- لدي أخبار جديدة. 

فَنظراَ إليه مترقبين فقال: 

- سيجتمع المجلس الزيكولي الأعلى ليضعوا قانوناً جديداً بشأن خيانة زيكولا لقد أوصاهم الحاكم بقانونٍ لا يفلت منه خائن. 

فَنَطَق يامن في شرود: 

- المجلس الزيكولي الأعلى؟.. سيكون أشد قسوةً بكل تأكيد. 

كان الصخب يعم الأرجاء حين غادرت أسيل بيت المسن إلى شوارع الشميل، سارت تستكشف تلك المدينة وأهلها الذين تنوعت ملامحهم وألوان بَشراتهم كأنهم جمعوا مِن بلاد كثيرة بهذا العالم وأبصرت عربات مجرورة إنتشرت بشوارعها تحمل صناديق خشبية كبيرة مجيئاً وذهاباً، وإبتسمت إبتسامة مُرة حين وجدت عربة تشبه عَربتها بزيكولا، وواصلت تحركها دون أن تتحدث إلى احد، قبل أن تتوقف بجوار عربة ناداها قائدها متسائلاً: 

- أنتِ من غُرباء الأمس؟ 

فإلتفتت إليه ووجدت بجواره فقير بيجاني كان على العربة ذاتها التي حملتها إلى الشميل، فأومأت برأسها إيجاباً، فتابع الرجل باسماً: 

- ما رأيك في جولة بمدينتنا قبل بدءكم العمل غداً؟ 

فَإبتسمت وأشارت بيديها الخاليتين بأنها لا تمتلك مقابلاً فقال ضاحكاً: 

- لا عليكِ تستطيعين إستغلال كَرَمي اليوم.

فَصعدت إلى العربة التي تحركت لتخرج من الشارع الجانبي إلى طريق أكثر اتساعاً، لم تتوقف عيناها مِن التلَفُت إلى جانبَيّ الطريق، المحاط بالمَباني المتماثلة يعجبها نظافة المدينة وشوارعها وطرقها المُعَبَدَة بقطع صخرية مستوية والأشجار وحيضان الورد التي تراصت على جوانبها، وأخبرها قائد العربة بأنه مضيف مَن بجواره من غرُباء بيجاناَ، وبدأ يتحدث عن عظمة أماريتا وعن قوة جيشها وعن أرضها التي تخرج لهم كل شيء وجبالها المليئة بالثروات ومناجم المعادن وخاصة الذهب .. غير بحر مينجا الذي يعطيها ما يكفيها، ثمَ سكت حين وجدها تراقب المدينة من حولها كلما مضت العربة للأمام وسألته بعدما لاحظت كثرة العربات التي تحمل صناديق خشبية:

- ماذا تحمل تلكَ الصناديق؟ 

فأجابها: 

- سيوف ورماح ودروع ومصنوعات معدنية، إنَ الشميل المنطقة الصناعية الأولى في أماريتا.. 

وتابع: 

- «أماريتا» بلد صناعية وتجارية كبيرة ستجدين تلكَ العربات بكل أرجائها تحمل صناديقاً .. هنا تُحمَل السيوف والرماح والدروع والمصنوعات المعدنية كما أخبرتُكِ، وفي «بيساناَ» تحمل خُضروات وفاكهة ومحاصيل زراعية متنوعة.. وفي «بُؤماَ» تحمل صناديقها أسماك وخيرات بحر مينجا، تجوب تلك العربات أنحاء أماريتا دون توقُف، ويتبقى فائض كبير تحمله سفن بحر مينجا إلى بلاد أخرى كثيرة، لا يترك مَلِكَنا قَدماً بهذا البلد لا يستغل ما تجود به أرضه.. 

فقالت: 

- أرى أنكم تحبون مَلِكَكُم كثيرا 

قال: 


- نعم.. لقد كان نقطة فارقة في تاريخ هذا البلد معه أصبحت أماريتا أقوى البلدان. 

فقالت أسيل: 

- يبدو أنك لم تسمع عن زيكولا...... 

*********************************************************

الفصل التاسع



 أكملت العربة طريقها إلى الجنوب ووصلت إلى منطقة الشميل الوسطى وشقت طريقاً صخرياً واسعاً بنيت على جانبَيه قلعة ضخمة قد تحتوي آلافا من البشر داخلها، وعلى جانبه الآخر ظهرت في الأفق بُحيرات، قال الرجل إنها بُحيرات الشميل العذبه، ثمَ وصلت العربة إلى مَشارف المنطقة الجنوبية لـ ألشميل مع منتصف النهار منطقة سكنية كانت تشبه المنطقة التي يسكنها العجوز الغريب، وإنتفض قلب أسيل حين وجدت أشخاصاً عرايا يجرون عربات صُغرى تحمل رجالا ونساء يبدوا على ملابسِهم الثراء، وتحمل أياديهم سياطن تشُق الهواء لتسقط ممزقه الجلود العارية دون رحمه، فقال الرجل بعدما لاحظ تغير وجه أسيل ومن معه: 

ستَعتادان هذا المشهد كان عليهم إن يتحاشوا هذا المصير لقد جاءوا إلى هذا البلد أحرارا وأعطتهم أماريتا فرصه لم يستغلوها وتكاسلوا، لم يستطيعوا دفع ضرائبهِم فأصبح من حق أماريتا إن تبيعهم عَبيدا يفعل بهم سادتهم ما يشاؤون وإن عصوا أمرا واحدا تكفلت الجنود بتقطيعهم ارباً أمامنا جميعا.. 

ثمَ أردف:

- للغريب هنا فرصة عام كامل إن أصبح عبداً سيظل عبداً حتى يموت..

وأشار إلى عربة تجُرها إمرأة نحيلة:

- رجالاً كان أو إمرأة.. 

لا كرامة لِعَبد هنا هو من أضاعها بيده فإحذروا إن تقابلا هذا المصير..

فسكتت أسيل في قلق وسكت من معها، وتابعت تحركها إلى الجنوب لتعبُر هذهِ المنطقة السكنية وتَظهَر أمام أعينهِم سلسلة من الجبال المتجاورة فقال الرجل؛ جبال الرِيمِيوز ..جبال الثروات والمعادن، و كاد يتخذ طريقا رملياً متعرجاً يمتد نحوها.. فسألَته أسيل أن يعود بها إلى شمال الشميل حيثُ رَكِبت معه فوافقها البيجاني الآخر على ذلك..


توقفت العربة أمام بيت العجوز وهبطت أسيل بعدما شَكَرت صاحبها وتَمَنت للبيجاني الآخر حظاً موفقاً بيومهم التالي دَلفت إلى البيت حيثُ لم يكن بابهُ محكم الإغلاق، وجدت العجوز جالساً على الطاولة بمنتصف الرُدهه يتجرع خمره وأبصرت في تعجب زجاجات جديدة ممتلئة أسفل طاولته، فقالت:

- لقد عدت سيد سيمور..


فلم يقُل شيئاً ولم ينظر تجاهها وواصل تجرُع كوبه فأكملت تحركها إلى غرفتها ولم تُغادرها إلا صباح يومها التالي..


في صباح اليوم التالي، كانت عربة الشاب الأماريتي الذي رافقهم إلى الشميل قد أحيطت بغُرباء بيجاناَ بينهم أسيل ينظرون إليه في ترقب بعدما وَقَفَ اعلاها يحمل أوراقا وبدأ ينادي أرقاماً متتابعة يتبع كل رقم أحد أماكن الشميل ومر قليل من الوقت ثمَ نادى أربعُماءة وأربعة عشر فإِنْتَبهت أسيل قبل أن تجمد تعابير وجهها فجأة حين تابع:

-جبال الرِيمِيوز،

ثمَ إنتهى فوُزعت كل جماعة من الأرقام على عربات وفقا للأماكن المتقاربة، وصعدت أسيل إلى عربة أتخذت الطريق ذاته الذي سلكَته يومها السابق.

وصلت العربة إلى جبال الرِيمِيوز ثمَ إنحرفت لتسير بطريق رملي موازٍ لها، نظرت أسيل عن يسارها لتجد أسراب العاملين ينتشرون بأعلاها رجالاً ونساء وشباباً وعجزه، أُلوف من البشر تجمعوا في هذا المكان قسّموا إلى جماعات عدة إنتشرت على إمتداد بصرها غير مئات من العربات الخشبية كانت تصعد وتهبط طرقاً ممهدة ومتعرجَة تحمل صناديقً وعُمالً لَفَحت وجوههم إشاعة الشمس..

توقفت العربة بالقرب من إحدى جماعات العُمال وترَجَل الشاب الأماريتي وتحرك إلى رجل سمين قصير مدَور الوجه كان في إنتظاره أخرج أوراقه وسلمها إليه ثمَ إلتَفت إليهم وأمرهم أن يترجلوا جميعاً وبدأ ينادي أرقامهم مجدداً من أوراق أخرى وبينهم أربعُمئة وأربعة عشر فأشارت أسيل بيدها عن وجودها ثمَ إنتهى فأقترب منهم السمين وتحرك بينهم وتَفحصهم بعينيه وقال بصوت مزعج سمعه الجميع:

- لقد طلب منا الملك إنهاء العمل في هذا المَنجَم قبل نهاية العام الحالي وأريدكم أن تبذلوا قصارى جهدكم إذن .. 

ستنضمون إلى باقي عُمالنا وستجنون أجراً مثلَهم لا فَرق بينكم وبينهم للثلاثة أيام قطعة نحاسية للشهر عشر قطع مَن يعمل بِجِد سيجني أجره كاملا وَمن يتكاسل يوماً واحداً فلا يسألني أجر خمس عشر يوماً وَليسدد ضرائبه صخوراً.

 ثمَ قال عابِساً:

- إن لم تعمل سأكون أنا طريقك إلى العُبودية. 

وتحرك أمامهم وقال:

- ستحملكم العربات كل يوم مِن شمال الشميل إلينا مع الفجر وستعود بكم مع غروب الشمس لدينا أقل من عام لنخرج خير هذا المَنجم الرجال سيكسرون الصخور أما النساء سيحملنهاَ إلى العربات لتُستخدم في صناعات أخرى بعيدة عنا..

ونظر إلى أسيل وألقى إليها وعاءً قماشيً لحمل الصخور وقال ساخراً:

- سيقوى هذا الجسد الضعيف مع العمل. 

ثمَ نظر إلى الباقين وصاح بهم:

- أهل أماريتا الجدد فلتبدأوا عملكم.

بعد هذا اليوم مرت الأيام جميعاً ثقيلة متشابهة عربات خشبية تنتظر مع حلول الفجر بِناصية أحد شوارع ألشميل يسرع إليها العُمال ويصعدون إليها تتلاصق أجسادهم الهزيلة وتتحرك بهم جنوباً في طريقها إلى جبال الرِيمِيوز لتصل إليها بعد شروق الشمس فيبدؤون عملهم ومعهم أسيل التي فقدت مع أيامها الأولى جزءاً ليس بالقليل من وزنها وإختفت نضارة وجهها وجف جلدها وتشققت شفتاها..

كانت تتحرك حافية القدمين تحمل على ظهرها وعاء قماشياً قوياً ملئ بصخور مُقطعة لِتفرغه بإحدى العربات القريبة ثمَ تعود لِتملأه من جديد وإن تباطئت ناداها السمين الذي لا يكُف عن التَنقُل بينهم؛ أربعُمئة وأربعة عشر أسرعي وإلا لن تنالي أجرك فتُكمل طريقها إلى من يكسرون الصخور بِباطن الجبل دون أن تتحدث وتملأ وعاءها من جديد وتتجه به مجدداً إلى عربة الصخور وتنزلق قدماها بين حين وآخر وتسقط صخورها فتُعيدها إلى وعائها وتنهض وتكمل عملها حتى ينتهي يومها فتعود بها العربة إلى بيت مضيفها فتجد المسن البائس يجلس بِرُدهه بيته ثملاً أمام مصباح ناري لا يتحدث ولا يشعر بشيء من حوله يتناول خمره فحسب فتجلس لتأكل قليلاً من طعام رديء وضعه لها قبل مجيئها قبل أن تَدلُف إلى غرفتها في صمت وتلقي بجسدها المُرهق إلى سريرها حتى فجر يومها التالي، فَتنهض وتسرع إلى عربة العُمال وتكُمِل عملها كَيومها السابق لا يناديها أحد باسمها الكل يناديها بِأربعمئة وأربعة عشر وصارت تتحرك بين جماعات العُمال لا ترفع رأسها تحمل صخورها وهي تنظر إلى موضع قدميها كي لا تنزلق كعادتها وإن أصابها تعب أبطأت من حركتها ونزلت على ركبتيها لتلتقط أنفاسها قبل أن تنهض وتُتابع عملها وتخبر من حولها إنها بخير وأن جُرحت قدَمها ضمدتها بِقطعه قماشية مزقتها من فُستانها البالي ..

تتحرك من فوقها شمس أماريتا من الشرق إلى الغرب تحمل أشعتها الملتهبة كل يوم عناء لم تشعر به من قبل وجرحٌ جديد مؤلم بقدمها، فَتُحدث نفسها دون توقُف : 

- سَيمر هذا العناء لن أُصبِح عبدَةً في هذا البلد الملعون لن يَمتَلِكني أحد..

و تحمل وعائها وتتحامل على نفسها وتواصل عملها حتى تغيب الشمس ليتوقف التعب مؤقتاً وتعود بهم العربات ليلا فتجلس بإحداها مستندة ظهرها إلى صندوقها الخشبي شاردة لا تتحدث وإن أبصرت العربات الصغرى التي يجُرها العبيد حين تمُر بمنطقة الشميل الجنوبية أبعدت عينيها ونظرت إلى السماء قبل أن تضحك بألم هي والباقون إن ألقى أحدهم بمُزحَة عن السمين متناسين آلامهم للحظات.

تتكرر أيامها ولياليها دون جديد نهار شاق بطيء وليل تهرول ساعاته ثمَ جاء ذلك اليوم حين أشتدت حرارة الشمس من فوقها وتصبب منها العَرق بغزاره وحَملت صخورها في إتجاه العربة ثمَ أبطأت مِن حركتها بعدما شَعرت بالأرض تهتز فجأة من أسفلها وتوقفت فناداها السمين بأن تُسرع للعربة فتحركت فإهتزت الأرض مِن أسفلها مرة أخرى فتوقفت مجدداً فصاح بها السمين غاضباً فَنظرت أمامها فوجدَت ما حولها يدور بها وزادت هزة الأرض من تحتها فسقطت على وجهها وسقطت معها صخورها وإنغمس رأسها بالرمال وأغمضت عينها وكأن الحياة توقفت لا تشعر بشيء مما حولها ولا بصوت السمين الذي ظل يصيح بأن تنهض وإلا لن تحصل على أجر هذا اليوم ومعه أجر يومين آخرين تسمع دقات قلبها التي تنبض بقوة وأصوات أنفاسها التي تعمقت ثمَ فتحت عينها ببطء إلى الفراغ أمامها فذهلت حين رأته بعيداً يقطع الصخور كان جسده العاري يلمع مع إشعة الشمس بعدما لف قميصه حول خصره كعادته قبل أن يلتفت ويسرع إليها لما وجدها قد سقطت وجثا على ركبتيه بجوارها ومد إليها يده باسماً، وقال :

- حبيبتي إنهضي ..

فمدت يدها إليه بصعوبة إبتسمت شفتاها الجافة المشققة حين قبل يدها ثمَ أرقدها على ظهرها مسح الرمال عن وجهها وقال مجدداً وهي تحدق به دون ان تنطق؛ حبيبتي إنهضي..

فلم تستطع أن تتمالك نفسها وإنزلقت دموعها على وجهها وإرتعشت شفتاها وقالت باكية:

- لست بتلك القوة لم أعُد استطيع يا خالد لم أعُد استطيع..

فأبتسم إليها ومسح دموعها عن وجهها بِيده وهوَ يقول:

ستستطيعين يا أسيل ستستطيعين.

ثمَ قَبَل رأسها ونهض وخطا خطوات للخلف مبتعداً عنها دون أن يعطيها ظهره وهي تحدق به ورأسها ثابت على الأرض ..حتى إختفى عن نظرها فأغمضت عينيها في طمأنينة قبل أن تشعر بإهتزاز جسدها وصياح كثيرون من حولها؛ أربعُمئة وأربعة عشر إنهضي، ثمَ شعرت بماء يغُمر وجهها فَفتحت عينها فوجدت العاملين يحيطون بها وبينهم السمين وسألتها فتاة أخرى:

- هل أنتِ بخير؟

فأجابتها أسيل بتعب:

- نعم

فصاح بهم السمين كي يُكملوا عملهم وأن تنهض هي الأخرى ويكفيها ما أضاعته من وقت فنهضت بصعوبة حملت وعاءها وملأته بصخوره المُبعثره وتحركت نحو العربة تجُر قدميها المضمدتين تعبُر بهما الأرض الصخرية المكسره من أسفلها وتنظر إلى أمامها في يأس وتخطو في طريقها خطوة وراء خطوة..... 

*********************************************************

الفصل العاشر


 مضت أيام أخرى بعدها كانت أسيل تُكمِل عَملَها وتعود إلى بيت المسن مساءً، فتغمر جسدها وفستانها بالماء ثمَ تتركه ليجف مع شروق الشمس، وإن جلست أمام مرآتها تحَسَست وجهها الهزيل الذي ضَمَرَت وِجنتاه وبرزت عظامه، نظرت إلى رقمها الموشوم على كتفها كأنها تندب حظهُ الذي أوقعها في هذا العمل، وهذا المسن الذي يسهر ليله وينام نهاره حتى طعامه الذي كان يعده أيامها الأولى لم تعُد تجده في أيامها الأخيرة، ثمَ تأوي إلى فراشها فَيمُر ليلها سريعاً لتنهض وترتدي فُستانها المبلل ويبدأ يوم جديد، لا يختلف عن سابقهِ شيئاً. 

كان ذلك قبل تلك الليلة حين إنتهت مِن عملها وعادت بهم العربات إلى شمال ألشميل، ودلفت إلى بيت المسن فلم تجده برُدهته كعادته، فلم تعطيهِ بالاً، واتجهت إلى غرفتها وكادت تدلُف إليها فسمعت صوتاً بغرفته فتوقفت، ثمَ ألتفتت إلى طاولته الخشبية فوجدَت زجاجة خمرهِ مغلقه لم ينقص منها شيء، فَإندهشت ثمَ تحركت ببطء تجاه غرفته وإنقبض صدرها حين وجدت دماء داكنة ممتزجة ببقايا الطعام تناثرَ على أرضية الردهة أمام باب غرفته، دفعت بابه بحذر فوجدته ملقى على وجهه يهذي بكلمات متقطعة وقد أغرقت ملابسه بدماء مُتَجَلِطة .. أسرعت إليه وحدثته؛ سيد سيمور، فلم يجيبها فهزت جسده وصاحت به ثمَ نهضت وأحضرت إناء ماء وسكبته فوق رأسه فلم يحدث جديد فأدركت أنهُ غير واعي وأن تلك الدماء الممتزجه بقطع الطعام ليست إلا قيئ دموي، فحاولت أن تحمله إلى سريره فلم تقوى فأرقدته على جانبه وأسرعت إلى الخارج لِتُحضر طبيباً يساعدها بينما بدأ يهذي مِن جديد بكلمات مُتقطعة كانت أكثرهم وضوحا: 

- كان يجب أَلا أُبحِر تلك الليلة.

فتوقفت قدماها للحظات .. ثمَ أكملت طريقها راكضةً إلى الخارج.

***

كانت شوارع المدينة مُزدحمة بِالمارة حين ركضت أسيل بينهم تسأل مَن تقابله أين تجد طبيبا فَدلها أحدهم إلى مَشّفى قريب فأسرعت إليه وعادت بطبيب شاب إلى بيت المسن الراقد مغيباً على أرضية غرفته، فَحملاهُ إلى سريره وحدثت الطبيب بأنها إعتادت أن تجده يجلس كل يوم جالس برُدهة بيته يتناول شرابه الذي يُدمنه وأنها فوجأت هذهِ الليلة بِهذياته فَظَنَت أنه ثَمِل قبل أن تجد قيئه الدموي فأدركت أنهُ مصاب بغياب لعقله وأن هذيانه هذا بداية لأغماء لِقصور كبده، فِاندهش الطبيب وسألها كيف علِمَت بذلك فلم تخبره إنها طبيبة وأخبرته مضطربة بأنها قد رأت حالة شبيهة من قبل، كانت عيناها مصفرة مثلَه، دمر الخمر كبدها وحدث معها مثلما حدث مع سيدها، فقام بفَحصه لِدَقائق ثمَ إنتهى فَهَز رأسه معجباً بذكائها وأشار إليها بأنها صائبة تماماً وأن قيئه الدموي هو ما أدخله في إغمائته وتمنى أن يكون نزيفه الداخلي قد توقف، حيثُ لم تُكتشف طريقة بعد لإكتشاف مدة هذا النزيف وإن كان قد توقف أَم مازال ينزف إلى لحظتهم تلك ليس بوسعهم إلا الإنتظار وإمداده بِسائل مغذي مُنقى عن طريق أوردتِه قام بتصنيعه عُلماء أماريتا مِن عُصارة الخرشوف البري حتى يستعيد كبده نشاطَه ويستعيد جسده عافيته ووعدها بأنه سيرسل مساعده لِإعطائه هذا السائل وإفراغ أمعائه مرتين باليوم علهُ يساعد جسده في إفراغ سمومه فَشكَرَته أسيل ثمَ حَدثته خجلة بأنها، لا تملك مقابلاً بعد فابتسم الطبيب وأخبرها إن أماريتا ترعى مُسنيها ولا ينال الأطباء أجراً مقابل علاجهم خاصة وإن كانوا من بحاري أماريتا مثل السيد سيمور ولن ينال مساعده مقابلاً هو الآخر فشكرته مجدداً ثمَ غادر وجلست هي بجوار المسن وأمسكت بيده وهمست إليه:

-أتمنى أن تنجو أيها البحار

***

كانت تلك هي المرة الأولى التي تمكث بها أسيل بغرفة المسن ولم تكن الأخيرة وجلست بجواره تراقب تفاصيل وجهه الشاحب المريض وحركات جسده العصبيه اللاإرادية المفاجئة وهَذَيانه بكلمات غير مفهومة بين حين وآخر، لم تُغادر غرفته إلا مع مجيء مساعد الطبيب لإفراغ أمعائه، ثمَ عادت إليه بعدما إنتهى جلست بجواره على سريره تمسك بذراعه مُقيدة حركاته اللاإرادية بعدما ثُبت بإحدى أوردتِه أنبوب معدني رفيع تدلى مِن إنبعاج معدني صغير موصول بزجاجة داكنة اللون كانت تمتلئ بسائل منَقى وعلقت على حامل معدني بِجوار سريره ثمَ غادر المساعد متعللاً بأنه لديه مرضى آخرين فأخبرته بأنها ستعتني به، وظلت بجواره ممسكة بِذراعه طوال الليل تقاوم بجسدها الضعيف عنف حركاتهِ المفاجئة لا يغمَض لها جفن تنظر إلى تفاصيل غرفته وأثاثها العتيق مِن حولها وإلى زجاجات خمرهِ الفارغه المُتناثرة بكل مكان ثمَ تُبصر قدميها المضمدتين بقُماش متسخ وتُحرِك أصابعها بألم كأنها تَتيقَن أنها مازالت بخير حتى حل الفجر وهدأت معه حركاته وهذيانه فاغمضت عينها في سكون وأخرجت زفيراً مريحاً ثمَ نهضت بحذر وأزالت سن الأنبوب المعدني المدبب عن ذراعه وضمدته بقطعة قماشية نظيفة كان قد تَركها مساعد الطبيب وجلست بجواره مجدداً ومرت بضع ساعات قبل أن يفتح عينه متعباً وتعجب حين وَجد ذراعه مُضمدا وأسيل بجواره، فَسألَهَا في إعياء شديد:

- ماذا حدث؟

فإبتسمت وأجابته:

- أخبرتك إن الخمر سيقتلك ولكن يبدو أنك نَجَوت هذهِ المرة.

فأغمض عينه لِلحظة ثمَ فتحها بثقل وسألها:

- هل أشرقت الشمس؟

فأجابته:

-نعم

سألها مجددا:

- ألم تذهبي إلى عملك؟

ردت عليه:

- لم أذهب اليوم

قال لها:

- لماذا

- كان لابد أن أرعاك حتى تنهض.. 

ألا تعلمين أنَ عدم ذهابك يوما سيكلفك أجر خمسة عشر يوما؟! 

- اعلم هذا .. لكني خفت أن أتركك فتسوء حالتك دون أن يدري أحد. 

فَنَظر السيد سيمور إلى سقف غرفته وقال: 

- كان لابد أن تذهبي 

فقالت: 

لم أعتد أن أترك أحدً يموت كان بإستطاعتي مساعدته. 

فقال: 

- فَقدتي خمسة قطع نحاسية مِن أجل أَلا تَدَعيني أموت ! ستندمين أيتها الفتاة إنَ هذا الزمان ليس لأصحاب القلوب الرَقيقة  

فقالت: 

- لا تضع لِندمي بالاً يا سيدي.. 

ثمَ نَهضت وبدأت تُلَملِمْ زجاجات الخمر المتناثرة بأرضية الغرفة وقالت باسمة بصوت عالٍ سمعه: 

- لا خمر بعد اليوم 

فقال بصوت سمعته: 

- أنكِ تحُلُمين 

فأقتربت من سريره تحمل زجاجات الخمر الفارغة بين ذراعيها، وقالت: 

إنني أتحدث بجديية، لقد كنت طبيبة زيكولا الأولى وكما قلت لك لم أعتد أن أترك أحدهم يموت كان بأستطاعتي أن أساعده.

وأكملت: 

سأبذل كل جهدي كي يستعيد كبدك وجسدك عافيته.. 

ثمَ توجهت إلى باب الغرفة بعدما أغمض المسن عينه وكادت تغادرها فقال في إعياء: 

- علمت منذ رأيتك للمرة الأولى أنكِ لستِ فقيرة، ما الذي جاء بك إلى أماريتا أيتها الطبيبة؟ 

فأقتربت منه مجدداً وجلست بجواره على مقعد خشبي ووضعت زجاجاته جانباً وقالت: 


- إنهُ القَدَرّ سيدي.. يضع أمامنا طرقاً شتى ويوحي لنا بِأننا نملك اختيار طُرُقُنا .. ثمَ نَكتشف نهاية الأمر أنهُ مَن إختار لنا طريقاً ساقتنا إليه أقدامُنا بِإختياراتِنا نحن. 

ولدت في بيجاناَ ثمَ إنتقلت إلى زيكولا بين العبيد حين كنت طفلة ثمَ أِشتراني رجل حكيم علمني الطب ثمَ أعتقني لِأُصبِح أمهر أطباء زيكولا ثمَ وضع لي القدَر حبيباً مِن عالم آخر كان اسمه خالد أرتطم به حصان عَربتي وأنقذ طفلاً مِن الغرق قبل قدومي إليه أحببت أختلافه عن باقي أهل زيكولا البُلَهاء عَلِم أنهُ لن يستطيع العيش بِعالمِنا فظل يبحث عن مخرج إلى سرداب بلده وأنا معه خطوة بخطوة ومع كل خطوة وضع لنا القدَر أناساً وأشياء لم تكن في حسابنا ثمَ تدخَل وتَقدم فجأة يوم مولد ابن حاكم زيكولا في وقت فقد مَن أحببته ذكاءه فأختير بين فقراء زيكولا ثمَ جاء دوري لأُحدد الأفقر بينهم فكان هو الأكثر فقراً يومها.. ولم أعتد أن أظلِم أحداً فخاض منافسة الزيكولا فاختاره قدره ليكون ذبيح عيدنا.. 

ثمَ ابتسمت وإلتمعت عيناها بالدموع وأكملت: 

- أتدري يا سيدي لم أُخبِر أحدً من قبل عن تلك الليلة بعد أختيار الزيكولا لخالد لم أمُر بِلَيله أقسى منها ..  

أن تسأل نفسك في الليلة ألف مرة لماذا لم تُساعِديه وتُعطيه مِن وحدات ذكائك منذ البداية، لماذا تركته ليصل إلى هذا المصير ويصبح ذبيح هذا البلد .. لم أكن أُدرك أن تكون أقسى لحظات الحياة حين تجلس لِيشتعِل رأسك بأسئله جميعها لماذا..  

ثمَ قَرَرت أن أُزاحِم القدَر تلك المرة رغما عنه وأغيره بيدي وأعطيته مِن ذكائي ثروة تجعله ينجو مِن الموت ضاربة بقوانين زيكولا عرض الحائط وتركت زيكولا وكل شيءٍ حققته وأُعلنت خائنة لذلك البلد .. لِأعود إلى بلدي فيضع لي القَدَر اتفاقيه البشر مقابل الديون وآتي إلى هنا وَأُوشَمْ برقم يضعني بهذا البيت.. 

حلَقة تُسَلِّم أخرى .. لو فُقِدَت حلَقة واحدة بين تلك الحلقات .. حَلَقةٌ واحدةٌ  فقط .. لَما كنت أحمل الصخور بهذا البلد أو أجلس بجوارك الآن في هذهِ الغرفة، 

ثمَ تابعت بعدما صمتت برهة: 

- كنت أظن أن القدَر سمح لي بِمنافستهِ لإنقاذ خالد .. ولكنه في الحقيقة تَركني أصنع بيدي حلقة مِن حلقاته أُكمِل بها طريقي الذي إختارهُ لي ..  

كان خالد إحدى حلقات قدَري .. كما كنت انا إحدى حلقات قَدَره .. وقد أكون إحدى حلقات قَدَرك لِأكون بجوارك وأنت في إغمائتك .. وأحضر لك طبيباً ينقذ حياتك ويؤكد لي أنك مِن بَحاري أماريتا بعدما سمعت هذيانُك عن نَدمَكْ لإبحارك ذلك اليوم..

فسألها:

-هل قُلت ذلك؟

قالت:

-نعم 

فصمت وأبتلع ريقه ثم أَغمض عينه وفتحها بعد لحظات وقال:

- ليتني أستطيع أن أفكر كيفما تُفكرين .. عشرون عاماً قضيتهُم داخل جدران هذا البيت لا أفكر إلا بِشيء واحد .. لماذا أبحرت تلك الليلة؟.. ليتني لم أُبحِر  .. 

لم أجد حلاً إلا الخمر كي أتناسى ذلك اليوم، ثمَ قال بصوت مرتجف:

- كانت جميلة .. بيضاء كالثلج .. ناعمة كالحرير .. كنت أقوى على بحر مينجا بشوقي إليها، أُبحِر لِأرى وجهها بِالسماء في أمواج مينجا في كل شيء مِن حولي أتحدث إليها .. لم تكن زوجةً فقط .. كانت رياحي التي تحرك شراعي .. ثمَ كَبِرت بطنها وعلِمنا أن مولوداً في طريقهِ إلينا فزادت معه أحلامُنا .. وعدتها بإننا سننتقل يوماً إلى حقول «بيسانا»َ لأبني لها بيتاً كبيراً تحيطَهُ حدائق مثمرَة تتدَلى مِن أشجارها حَبات الكروم الذي تحبهُ .. 

ثمَ مر كل شيء سريعاً شعرت بِمدى تعبها فأردت أن أبقى بجوارها فأخبرتني إنها بخير سألتني أَلا أتَكاسل وأن أواصل عملي فأخبرتُها إنني سأعود إليها قبل أن تضع مولودنا .. وأبحرّت تلك الليلة..

ثمَ أَغمض عينه وفَتحها لِتلمع بِدموعه:

- عدت فلم أجدها .. 

أخبَرني الطبيب وقتها أنها تألمَت كثيرً تَعجل موعد وضعها فجأة .. كان رأس الطفل كبيراً ولم تقوى على فِعلها أخبروني أن صراخها باسمي كان يَرُج أركان ألشميل، حتى سكتت فجأة، ولم يسكت سؤالي لماذا تركتها وأبحَرت تلك الليلة، و لم أُغادر بيتي بعدها، لا يدق بابي إلا حامل مَنح الملك لِبَحاري أماريتا وحامل الخمر وحامل الطعام وهذهِ الأيام أنتِ ..  

ثم أكمل : 

- كان حظك سيئا بالمَجيء إلى هنا 

فقالت أسيل: 

لا أؤمِن بالحظ يا سيدي .. إنني أؤمِن بالقدَر.. 

ربما إن بقيت يومها لَماتت أمامك ولم يغادر صراخها أُذنيك فأصابك الجنون، ربما عاشت وإفترقتُما لاحِقاً، ربما غادرتُما ألشميل إلى بيساناَ وحدائق الكروم كما كنتما تحلُمان وحدث ما لم تتوقعانه، جميعها طرق لكن القدَر إختار طريقاً واحداً ..  تموت زوجتك منذ سنوات وتُدمن أنت الخمر لِيقتُل الخمر كبدك تسوء حالتهُ تلك الأيام يدخلك في إغماءه لعقلك .. تهذي بكلمات أمامي عن تلك الليلة .. 

حلقاتٌ جميعها مُتَصلة إن فُقدت حلقة واحدة لم تكن لتصبح أنت صاحب الحلقة الجديدة مِن حلقات قدَري.. 

فَنَظَرّ إليها العجوز وسألها: 

- أي حلقة؟ 

فأجابته: 

- أن تعبُر بي هضاب ريكاتا....... 


*********************************************************

الفصل الحادي عشر


 أِرتسمت الدهشة على وجه السيد سيمور حين قالت أسيل: 

- أن تَعبُر بي هضاب ريكاتا 

أَغمَض عينيه ثمَ فتحهما في ثقلّ وسألها: 

- إلى أين؟ 

أجابته: 

- إلى شمال بحر مينجا لقد قررت أن أنافِس القدَر مرة أخرى.. وتابعت ..مازلت أعرف الطريق إلى سرداب فوريك سأَعود إلى زيكولا وأعبُر أرضها إلى المنطقة الغربية لِأصِل إلى سرداب خالد 

قال: 

لَكنكِ أخبرتيني للتو أنكِ أُعلَنتي خائنة لزيكولا.. 

قالت:

نعم وإن أَمسكوا بي سَأذبح أمام أهلها لكني عشت بها سنوات كثيرة وأعلم طبيعة يوم زيكولا جيداً وأعلم أنه حين يُفتح بابها لن تجد مثيلاً لِزحام العربات والمارة المارين به ذهابا وإياباً.. 

وأعلم أيضا أنَ حُراس زيكولا يتجنبون نساء تُجار الشمال اللاتي يغطين رؤوسهُن تحاشياً لِغضب أزواجهِن لا ينشغلون إلا بإحتفالات زيكولا وفض شِجار السكارى ..

سَأُغطي رأسي ووجهي مثلهن وستأوارى بين المارة أو بِإحدى العربات وسأعبر ذلك الباب وإن إحتجت مساعدة احد سألجأ إلى أصدقاء خالد سيساعدوني دون أن يشوا بي أو يخذلوني أريدك فقط أن تساعدني..

فسألها مُتعبا:

لماذا تريدين مغادرة أماريتا؟

فأجابته هادئة:

إنَ بلدي مثل بلدكم بلاد ظالمة سيد سيمور ومَلِكُكم الشاب الذي تحبونه ليس إلا مَلِك ظالم يستعبد طاقات البشر .. لا أريد أن أعيش في هذا البلد بقية عمري وإن عشت حرة سنواتي العشر ولا أريد أن أعود إلى بيجاناَ الكارهة لِفُقرائها بعد عشر سنوات.

ثمَ قالت باسمة:

لا أملك إلا حياة واحدة ولي الحق أن أَختار أين تكون وقد وضَعك القدَر في طريقي مِن بين أهل أماريتا ليكون بيدي الإختيار مِن جديد..

ثمَ نهضت وتحركت نحو باب الغرفة وقالت:

سأكمل عملي هنا سيد سيمور وسأتقاضى عملاتي النحاسية حتى يقترب يوم زيكولا بعد أشهر قليلة سأبذل بها كل طاقتي كي يستعيد كبدك عافيته بعدها سأُجازِف بكل شيء كي أَصِل إلى سرداب فوريك وإلى خالد وإن كانت مِنصة ذَبح زيكولا مصيري، فأهلا بسَيافِها.

مازلت أتذكر ساعاتي الأولى هنا جيداً،دلفنا يومها مع رجال القصر إلى قصر الملك وبعدها بدأ النعيم بعينه، غُرف واسعة للغاية، نوافذ ضَخمة إنسَدلت منها ستائر حَريرية مُلَوَنة طُرِزَت حوافِها بِنقوش مُذهَبة، أرضية مَلّساء ناعمة، أثاث ذهبي، زخارف جدرانية وتماثيل رُخامية فاتِنَة، ورود مبهِجة تفوح بِرَوائح عطرة .. كل شيء جميل مِن حولك..

اسمي قمر، رقمي سبعة عشر، بين فتيات القصر الجدد هكذا حدَثت من جاءنا لِيدَوِن أسماءنا يومنا الأول بالقصر قبل شهور مِن اليوم، وكان بجانبهِ آخر أقترب مني بِشريطِهِ المُدرج وسجل قياسات جسمي طولاً وعرضاً، وخلفهما وقفت إمرأة أربعينية حسب تقديري، رقيقة الملامح صارمة في الوقت ذاته كانت تتفحصُنا جميعاً بنظراتها مع قول كل منا لِاسمها لو لم أقابل الطبيبة أسيل لَقُلت إن تلك المرأة أجمل مَن رأيت..

أتذكر حين إنتهى الرجلان مِن تدوين أسماءنا ومقاساتنا وإلِتَفَتا إليها فتحدثت إلينا بوقار بالغ بأنها السيدة نجود قائدة وصيفات القصر أي قائدتنا ومنذ تلك اللحظة وباتت جميع شؤوننا مسؤوليتها وإكتفت بكلماتها تلك قبل أن تخبرنا بأنها ستُكمل حديثها إلينا لاحِقا بعدما نستحم ونخلد للنوم بعد عناء رحلتنا الشاقة عبر بحر مينجا وأمرت إمرأة أخرى أن تصحبُنا إلى الباب الخلفي لِلرُدهة التي تواجدنا بها..

***

مرت أيامنا بالقصر سريعة وبسرعتها تحولت وجوهنا مِن وجوه باهتة هزيلة إلى وجوه حمراء متورِدة وصارت أجسادنا الواهنة كُتلة مِن النشاط لا تكل ولا تمِل نتحرك هنا وهناك بِثقة تامة كان الفضل كاملا للسيِدة نجود التي راقبت عيناها كل فتاة مِنا على حِدة وتولت تعليمنا كل شيء كي نُصبح نساء الدرجة الأولى كما أرادْتْنا أن نكون وإن فقدت أمَلها بإحدانى إستبعدتها إلى قصر آخر أو إلى المدينة حتى تقلُص عددنا إلى ثلث ما اختاره رجال القصر يومنا الأول.

أما أنا فَوجَدَت هذا القصر فرصة لن أتركها ما دمت حية وراقبت السيدة نجود في حركاتها نَهاراً حتى إن نام الجميع ليلاً نهضت وأعدت تلك الحركات مع نفسي مِراراً وتكرارا حتى  أتقنها قبل أن ينهَضن وبَذلت كل جهدي كي أُرضيها وتعلَمت منها كثيراً وكثيراً كان أهمه أَلا يشعر السادة بِوجودي ولا يشعرون بغيابي في الوقت ذاته وبعد أيام أدركت أنني فتاتها المفضلة بين فتيات القصر المتبقيات لم تقُل شيئاً ولكن بدا على وجهها رضاها عني ودق قلبي بقوة حين أخبرتني إنني سأكون معها بالقرب مِن الملك وأتبعت كلماتها بإنني أفضل الفتيات قراءة لِلُغة العربية. 

*** 

كانت المرة الأولى التي أرى بها الملك تميم عن قرب بعد شهر كامل مِن وجودي بالقصر .. شاب قوي وسيم تجاوز الثلاثين قبل أشهر قليلة إبتسم إلَي لما وجدني أرتجف للمرة الأولى حين أقتربت منه .. فَطمأَنَتني إبتسامته دون أن ينطق ..  

علمت خلال أيامي بالقصر إنهُ تولى حكم هذا البلد في عامه الثامن عشر ..ومعه أصبحت أماريتا أرضاً أخرى عما كانت عليه فسماه شعبه الأماريتي أكثر منه ملِكاً .. الجميع هنا يحبه بجنون ويثقون به ويفخرون به كَمَلِك لهذا البلد الغني يتحدث كثيراً إلى شعبه بساحات قصره ويخرج أحياناً كثيرة إلى المدينة ومناطقها مع حراسه أو بدونهم أخبرتني عاملة أخرى بالقصر إنه لا يخشى الموت قط وبإستطاعته أن يهزم جيشاً كاملاً بضربة سيف واحدة قبل أن تحكي لي إحدى مغامراته بِصحراء ألشميل لا وقت لذكرها الآن.  

لم أتخيل يوما أن يهتم الملوك بِشؤون بُلدانهم لهذا الحد كان لا ينام كثيراً يقضي أوقاتاً طويلاً بمكتبة قصره يقرأ بكتب التاريخ والأدب التي كُتبت بأماريتا أو جاءت مِن بلدان أخرى وكنت أقف بجواره صامتة بين خدمة الآخرين إن إحتاج شيئاً ..  

كانت غرفة المكتبة أكبر غرف القصر صممت بعناية فائقة وتراصت أرففها ملاصقة لجدرانها كَجناحي طير صُفت عليها كتب كثيرة ولُفافات مخطوطة تفاوتَت أحجامها يتوسط الغرفة كرسي ضخم مُذهب أعلاه سراج لا ينقطع نوره الأبيض أبدا وأمامه جدار قُسم إلى مجسَمين الشرقي كان لهذا العالم ببُلدانه التي يقسمها بحر مينجا الواسع إلى أماريتا جنوباً وبيجاناَ وَزيكولا وبلاد أخرى لا أذكرها شمالا .. والغربي لأماريتا ومناطقها الخمس؛ أماريتا .. وبؤماَ .. والشميل .. وبيساناَ .. ومساقيا لُونت كل منطقة بلَون مختلف وكُتَب عليها اسمها بالعربية بِماء الذهب ..  

كان يقرأ كثيرا ثمَ ينهض ليقف أمام ذلك الجدار ويُحملق به لدقائق ثمَ يعود ليقرأ مجدداً حتى ينتهي فينتقل إلى غرفة أخرى لِيجتمع بمستشاريه الذين يسمون بِالمجلس الأماريتي .. كان عددهم أحد عشر رجلاً بينهم القائد العسكري الشاب السيد جرير .. الذي عَبَر بنا بحر مينجا يوم مجيئنا مِن بيجاناَ .. 

وَولت أيامٌ أخرى كثيرة كانت جميعها لا تحمل جديداً قبل أن تنقلب الأمور فجأة رأساً على عقب حين جاء ذلك المساء وظهرت بالقصر سيدة أماريتا الأولى رفيقة رحلتي الطبيبة أسيل....... 


*********************************************************

الفصل الثاني عشر


 فجر يتبعه فجر .. ساعات تركض وراء أخرى .. أيام تُهروِل بلا عودة وأسيل تُكمِل عملها نهاراً كحاملة للصخور .. لتعود ليلا لِتمكُث بِجوار مضيفها كَطبيبة يتسامران يتحدثان كثيرا يحدِثها عن رحلات بحر مينجا وعن عواصفه وأمواجه العاتية وهي تملُك قصة واحدة تنبثق منها باقي قصصها هذا الغريب الذي أتى إلى زيكولا عبر سرداب فوريك ليخطف قلبها دون موعد .. 

تخبره ضاحكة بأنها لم تكن لِتُصدق قصة هذا الشاب لو لم تعيشها بذاتها أي عاقل يصدق أنَ هناك أرض أخرى وعالم آخر يعيش به أناس آخرون يتحدثون العربية الآن هي مَن تطمح لأن تصل إلى تلك الأرض الخيالية تُحدثه عن ذلك النجم الذي سماه باسمها ولم ترهُ بالسماء منذ يوم ترحيلها إلى أماريتا لا تنام إلا ساعات قليلة بعدما ينام هو كانت تُدرك أنَ وحشه وحدته هي سبيله لِعودته إلى خمره ..

حين إنتهى شهرها الأول بِعملها لم يعطيها السمين إلا خمس قطع نحاسية ذهبت بها ليلتها إلى حوانيت بيع الأعشاب والبذور الطبية وأبتاعت باثنَتَين منها ما إحتاجته لِعلاجه ثمَ باتت ليلتها تصنع مِن عصارتها وصفات مخلوطَه إحداها منشطة لكبده وأخرى مقوية لدورته الدموية وأوعيتها وكان إن توسل اليها كي يرتشف قليلا من الخمر تبرم وجهها ثمَ ابتسمت وسمحت له برشفات قليلة للغاية بعد أن يعِدُها بإلا يقترب منها في غيابها وأن يتناول وصفاتها الطبية التي صنعتها بأوقاتها التي حددتها..

***

يتعجب من نفسه بعدما شَعر أنهُ بات شخصا آخر ليس ذاك الشخص منذ شهر مضى، وَيندهِش حين ينتظر كطفل مرور ساعات النهار كي تأتي ضيفته ليلا فتجلس بجواره ليكملاَ ما إنتهى به حديثهما ليلتهما الماضية، يحب لَباقة حديثها وفلسفتها وَوجهها الباسم دوما ونظراتها الحادة إليه إن تذمر من وصفاتها المرة.

كلما مر يوم شَعر معه بتحسن عن يومه السابق، وَد لو حَدث جيرانه عن براعة طبيبته ثمَ تراجَع بعدما سألَته أَلا يفعل خشية إن تَلفت الإنتباه اليها، يكفيها عملها تلك الأيام بِجبال الرِيمِييوز التي إعتاد جسدها مشقته يتعجب من قوة هذهِ الفتاه وتحمل جسدها الضعيف الذي لا يليق إلا بكونه جسد إمرأة مُرفهة، لمّا عادت مُتبرمه ذات يوم بشهرها الثاني وبدأ على وجهها الضيق الشديد سألها للمرة الأولى أن يخرجاَ إلى حانات الشميل فوافقته على الفور.. 

كانت تعلم أنهُ لم يغادر بيته منذ دلفت اليه وتُوقن إن علاجها قد بدا يؤتي بثماره، وسارت بجواره متأبطة ذراعه بإحدى شوارع الشميل المضاءة بِقناديل نارية مثبتة على أعمدة خشبية رفيعة لا يشغل بالها فُستانها الرث أو حذائها الممزق بل داعبته حين أرتدى معطفاً أسوداً أنيقا بدا أنهُ لم يرتدهُ منذ عقود ودق قلبها فرحا ولمعت عيناها بدموعها بعدما رحب به كثيرون بمثل عمره أو أصغر قليلا في طريقهما وأجاب ترحابهم فرحا كانه لا يصدق نفسه.. 

حين جلسا بالحانه سألها عن ضيقها ذلك اليوم، فأجابته بأَنْلا يضع له بالا ثمَ أكملت متمتمه: 

أنهُ ذلك السمين اللزج وكلماته القاسية كعادته.. 

فأخذ رشفة من شرابه الساخن الذي أحضره نادل الحانه ثمَ وضع كوبه على الطاوله أمامه بيد مرتعشة، وقال هامساً:

- ستغادرين قريبا على كل حال ..

فتوقفت عن رشف شرابها ونظرت إليه بترقب كأنها تَتيقَن مما قاله، فأبتسم وأومأ إليها برأسه إيجابا .. يؤكد لها ما سمعته فثغرت فاهها من المفاجئة، وقالت مازحَة:

إذن سأفتقد هذا السمين !

فسألها مداعباً:

حقاً؟

فضحكت وقالت:

لن أفتقده إلى تلك الدرجة تمنيت فقط لو جاء يوم وحكت شفتيه ببعضهما البعض لاغلق فمه إلى الأبد..

فقال مازحا:

ظهر الجانب الشرير من الطبيبة الآن، ضحكت وهزَت رأسها نافية وقالت:

لا لقد عفوت عنه وتركت تلك الأمنية .. 

ثم تابعت :

تعلَل قلبي بأن زوجته لن تغفر لي صمت زوجها.

فضحك السيد سيمور .. وأكملا حديثهما عن أمور أخرى بعيدة عما قاله عن رحيلها القريب.

***

مضت أيام أخرى أصبحت معها صحة العجوز أفضل حالاً خف أصفرار عينيه وزادت سعادة أسيل كلما خرج معها أو خرج بمفرده فيعود ليلا ليتسامرا سويا عمن قابلهم تلك الأيام ممن كان يعرفهم وكانت تُكمل عملها هي الأخرى دون أن تغيب يوما واحدا وتقاضت أجرها عن شهريها الثاني والثالث بجبال الريميوز عشرين قطعة نحاسية ..

ثمَ جاء ذلك الفجر من شهرها الرابع وكادت تُغادر بيت المسن إلى عملها فوجدته يجلس على مقعد خشبي بالردهه مسنداً رأسه إلى كفه نائما فإندهشت وأقتربت منه ففتح عينه حين شَعر بها وبادرها قبل أن تنطق قائلاً:

أيتها الطبيبة لن تذهبي إلى عملك اليوم لقد آن الأوان..

قالت في دهشة:

أي أوان سيد سيمور؟

قال: 

سَنُبحر غدا إلى شمال بحر مينجا.. 

فإتخذت مقعدا مجاوراً وقالت: 

غداً .. حسب تسجيلي لِأيامي .. مازال هناك شهر على يوم زيكولا 

قال: 

أعلم هذا لكني أعلم مينجا جيدا أنهُ أكثر هدوءا هذهِ الأيام ولا أضمَن هدوءه لاحقا ولا أضمَن صحتي أيضا .. لقد إستاجرت مِن أحد أصدقائي القدامى قبل أيام سفينة صيد ستفي بِعبورنا بحر مينجا خلال أربعة عشر يوما كما سيُعينَني برحلتنا ولده أيضا صبي اسمه مضحك... أخبرته بأن ينتظرنا بالسفينة وإلا يخبر أحدا عن رحلتنا .. 

ما إن نصل إلى شاطئ الشمال لن يتبقى لنا إلا أربعة عشر يوما آخرين حتى اليوم السابق لعيد زيكولا سنمكث بمركبنا تلك الأيام ومعنا ما يكفينا من طعام ومتاع لها، ثم أردف :

إنني أعد جيدا لهذهِ الرحلة منذ أسابيع وأدركت أن راسي لم يتمكن منه الصدأ بعد، ثم أكمل :

ترسو سفينتنا بين سفن الصيد بشاطئ أماريتا ستحملنا الليلة عربة ذات حصانين معبأه بِطعام جاف وشراب ومتاع كاف إلى هناك سَتَصل بنا مع فجر غد .. 

ستعَبر معنا تلك العربة وأحصنتها بحر مينجا كما ستعبر بي وِبكِ باب زيكولا يوم يفتح ..

فحدقت به أسيل غير مصدقه:

هل ستعبر معي باب زيكولا؟!

فنهض وتباها بنفسه:

إَلا أبدو مثل تُجار الشمال؟

فضحكت وضاقت عيناها وهزت رأسها: 

- تبدو

قال : حسنا سأعبُر بك باب زيكولا وبعدها تتولين أمرك سأترك لك حصانا وأعود بالآخر إلى بحر مينجا مجددا وأتمنى أن تَصلين إلى مرادك.

فانفرجت أسارير أسيل ثمَ نهضت وقبلت خده دون أن تنطق ثمَ أسرعت إلى حُجرتها وعادت ومعها سرة قماشية وأفرغت على الطاولة أمامه ما بها من قطع نحاسية وقالت:

هذا ما أمتلكه سيدي عشرون قطعة نحاسية أنها قليلة ولكنها كل ما لدي..

 فقال السيد سيمور هادئاً:

لا أحتاج إليها ابنتي لقد نال كلٌ مقابله ..

فأندهشت وقالت:

إستاجرت سفينة صيد لشهر كامل وستدفع أجر مساعداً لك عن هذا الشهر وطعام وشراب يكفيان تلك المدة وعربة وحصانين مِن أين لك بالمال؟

فأبتسم وقال:

- لا تضعي لهذا بالا الآن ..

ثمَ أزاح بيده قطعها النحاسية تجاهها وأكمل:

اعيديهم إلى مكانهم قد تحتاجين إليهم لاحقاً

ثمَ أشار إلى صندوق خشبي متوسط الحجم بأحد أركان الردهه، وقال :

- أحضري هذا الصندوق.

فحملته أسيل إلى الطاولة أمامه فَفتحهُ وأخرج صديري لا أكمام له وقميصا واسعا طويل الأكمام وبنطال وقلنسوة صغيرة كانت جميعها مهترئه تميل ألوانها إلى الصفرة أكثر منها إلى البياض وقال:

لا تُبحِر النساء على سفن الصيد كان هذا الزي لي منذ كنت في عمرك أرتديه لن نجد اكثر من سفن الجنود الذين يتفقدون السفن والبحاره وصيدهم إن أبصرك أحدهم لا أعلم ماذا سيكون مصيرك ومصيري. 

ثمَ أَخرج فُستانا أسود طويلا له غطاء رأس كبير وتابع: 

كان هذا لِزوجتي سيساعدك غطاؤه حين ينسدل على جبهتك في إخفاء وجهك أثناء عبور باب زيكولا كإحدى نساء تجارة الشمال 

فهزت أسيل رأسها وإبتسمت وكأنها لا تزال غير مصدقه لما يتحدث به فأكمل: 

عليكِ أن تستعدي سنرحل مع غروب شمس هذا النهار.. 

*** 

مرت ساعات قليلة خَلَد خلالها المسن إلى نومه بينما دلفت أسيل إلى حُجرتها ونزعت فُستانها وإغتسلت بحوض الماء ثمَ بدأت ترتدي تلك الثياب التي أَخرجها السيد سيمور من صندوقه الخشبي وأوصاها بإرتدائها وعصرت حبل البنطال الواسع حول خَصرها النحيف وعقدته وارتدت القميص القماشي المهترئ فوق الصديري ثمَ لفت شعرها الطويل حول رأسها وثبتته وارتدت القلنسوه وما إن تحركت حتى إنزلق شعرها الناعم مِن أسفلها فرفعته ولفته مرة أخرى فإنزلق مجدداً وكلما حاولت فشل إن يرقد أسفل قلنسوتها الصغيرة فَنظرت إلى صورتها بالمرآة وتأملتها قليلا ثمَ خرجت وعادت ووقفت مجددا وبيدها مقص حديدي صغير وكادت تقص شعرها فتوقفت ثمَ وضعت المقص أمامها وحاولت أن تخفي شعرها مرة أخرى أسفل قلنسوتها فسقط على جانبي رأسها فنزعت القلنسوه جانبا وأمسكت المقص وأغمضت عينيها وأمسكت بأصابع يدها الأخرى خصلتاً من شعرها وبعد تردد ضغطت طرفي المقص ضغطى توقفت معها أنفاسُها ثمَ فتحت عينيها فوَجدَت الخصلة الأولة بيديها فتمتمت إلى نفسها: 

لا عليكِ يا أسيل لا عليكِ سيعود كما كان.. 

ثمَ أمسكت خصلة أخرى وقصتها، لم تترك منها إلا سنتيمترات قليلة، ثمَ خصلة أخرى ثمَ أخرى. 

كان شعرها الأسود المقصوص يتساقط ببطء كالحرير المحلق وسط شُعاع الضوء ذلك المتسلِل عبر نافذة الغُرفة وكلما قصت خصلة مررت يدها على رأسها وأمسكت خصلة أخرى بين إصباعيها وقصتها مثلما قصت سابقاتها حتى إنتهت ووجدته أصبح بالكاد يغطي أذنيها ومؤخرة رقبتها فهمست إلى نفسها : 

- تأبى أماريتا أن أَخرج منها معي شيء يشبهني .. 

ثمَ إرتدت قلنسوتها التي صارت تلائم رأسها ونظرت إلى صورتها بالمرآة وغمزت إليها باسمة: 

أهلا بك أيها البحار.... 

*********************************************************

الفصل الثالث عشر


 مازلت أتذكر جيداً إلى هذهِ اللحظة حديثي مع منى ليلة زفافنا حين سألتني أن نذهب إلى مكان نقضي به شهر عَسَلِنا مع إشتداد صيف هذا العام، فَأجبتها وقتها مازحاً بأن نذهب إلى مكان أعرفه ليس به تعامل بالمال ولما سألتني عن ماهية التعامل به أجبتها بعدما طالت نظرتي إلى نجم أسيل اللامع بالسماء ليلتها بأنها ستَعرف حين نذهب إلى هناك .. 

في الحقيقة كانت مزحة مني لا اكثر ولا أقل ولم تكن لدي نية للعودة إلى أرض زيكولا رغم إنني كنت أشتاق كثيراً إلى أصدقائي وإلى أسيل ولكننا قضينا شهر عسلنا وأشهرنا التالية جميعها ببلدتي. 

منى لم تجد عملاً مناسباً وآثرت أن تهتم بِشِئون بيتنا ورعاية جدي في غيابي وأنا مازلت أعمل محاسباً بإحدى شركات بمدينة المنصورة. 

تحدثتُ مع زوجتي كثيراً عن أرض زيكولا وعما حدث لي بها كانت تصر إنني قاصٌ جيد الخيال تنقصه الحبكة الدرامية وأرى أن لديها بعض الحق خاصة إنني كنت أقُص قصتي دون ذِكر أسيل وأضفت مِن خيالي أجزاء تكملية غير مقنعة تعوض غيابها عن قصتي ..  

على أي حال مرّت أيامي مع منى مستقرة للغاية ولم أعطِ إهتماماً كبيراً لعدم تصديقها رحلتي إلى زيكولا وبدأت اعتاد حياتي الروتينية عملي صباحاً عودتي للمنزل جلوسي مع جدي جلوسي مع منى تصفحي مواقع التواصل الاجتماعي ترقُبي للسماء كل ليلة نومي حتى صباح اليوم التالي لا شيء جديد قبل أن يُلقى هذا الحَجر المفاجئ بمياه حياتنا الراكدة حين أيقظتنا طرقات جدي المفاجئة على باب شقتنا فجر ذلك اليوم وحدثني فَرِحا بأن هناك ضيفاً هاماً في إنتظاري دون أن يخبرني شيئا آخراً أو يعبأ بِدهشتي مِن تأخُر الوقت وهبطتُ معه إلى الطابق الأرضي ناعساً ليتوقف بي الزمن حين وجدتُها أمامي تجلس على الأريكة بِفُستانها الممزق وتنهض لِتقول لي بلهجتها الزيكولية:

لقد أفتقدتُك كثيراً.

########

كانت الشمس قد غربت حين غادرت ألشميل عربة يجُرها حِصانان إنطلقت في طريقها إلى مدينة أماريتا يقودها السيد سيمور وبِجواره صديقه القديم مالك سفينة الصيد التي إستأجرها عجوز آخر أشيَب الشعر واللحية إمتلأ وجهه بحيوية جعلته يبدو أصغر سناً أصر أن يرافقهما إلى ساحل أماريتا ولم يكُف مِن الثرثرة منذ إرتقائه العربة.

وبداخل صومعة العربة الخشبية جلست أسيل بثوبها الرجالي المهترئ وقلنسوتها وسط أجولة -  الجَوَال : كيس كبير تُوضَع فيها الأشياء -  مِن الطعام الجاف والفاكهة الجافة والخبز، وأغطية صوفية ملفوفة وقِرَب مِن الماء العذب كانت قد صُفت بالعربة قبل أن تأتي إلى بيت السيد سيمور، ولاصقت بجسدها باب العربة تحمل على كتفها جراباً قماشياً بداخله فُستان زوجة العجوز الأسود وسرة قطعها النحاسية ونظرت عبر نافذتهِ إلى سور ألشميل الحجري الشاهق وبابها المفتوح على مصراعيه حين سارت العربة بِطريق موازي له عن بُعد، قبل أن تتخذ طريقا آخر غابت معه ألشميل للأبد عن نظرها...

هب هواء بارد أنعش صدورهُم جاء من ناحية تلال صغيرة رقدت بعيدة على جانب الطريق و انسدل ظلام الليل وتلألأت نجومهُ بالسماء وأشغل العجوز شعلة زيتية كانت مثبتة على نتوء معدني بجانب العربة وعادت أسيل بظَهِرها إلى مَسند مقعدها وأغمضت عينيها وتمتمت بكلمات تتمنى بها أن تصل إلى مرادها قبل أن تفتحها وتبتسم حين سمعت العجوز الغريب يسأل السيد سيمور على ذلك الفتى الضعيف الذي يرافقهم بصومعة العربة فأجابه بِزهو بأن هذا الفتى سيكون بَحاراً عظيماً بِأماريتا في الغد القريب فكتمت ضحكاتها وأكملت استماعها إلى حديثهما المُسلي عن رحلاتهما ببحر مينجا إنقضى معه طريقهم سريعاً إلى أماريتا ..

وصلت العربة مع شروق الشمس إلى مَشارف أماريتا الجنوبية ولم تَدلف إلى داخل المدينة بل اتخذت طريقا ترابياً إمتد خارجها بمحاذاه بساتينها ثمَ عَرجت إلى طريق آخر مُعَبَد بقطع صخرية كان ينحرف تجاه باب أماريتا ظهر معه أبنية المدينة المتلاصقة بعيداً أمام عيني أسيل فتذكرت يومها الأول بهذا البلد هي و قمر التي إنقطعت أخبارها منذ رافقت رجال القصر ذلك اليوم ثمَ توارت بجسدها عن نافذة العربة وأَسدلت قلنسوتها على جبهتها حين أبصرت عددا من الجنود يصطفون أمام باب المدينة قبل أن تدرك إنهم يعرفون مُرافقهُم العجوز الذي رحب بهم وأجابوا ترحابه فَإطمئن قلبها عبَرت العربة باب أماريتا وأكملت طريقها إلى شاطئ بحر مينجا دون أن تتوقف حتى أقتربت مِن جسر خشبي امتد إلى داخل الماء تجاورهُ سفن عديدة صغيرة الحجم وأشار العجوز الغريب نحو سفينة شراعية ترسو ملاصقة لِحافته البعيدة فأوقف السيد سيمور عربته وأسرع إليهم فتى نَحيف أسمر البشرة كان يجلس قريباً مِن الجسر ورحب بهم و ودع السيد سيمور صديقه ولم يمر إلا قليل مِن الوقت حتى شقت السفينة طريقها إلى داخل بحر مينجا. .... 


*********************************************************

الفصل الرابع عشر


اسمي مُضحك، هكذا سماني أبي منذ مَوِلِدي قبل خمسة عشر عاماً، وقد أَختارني صديق شبابه السيد سيمور كي أُرافق رحلته عبر بحر مينجا .. كنت أجلس متشوقا أمام جسر الشاطئ الخشبي في إنتظار عَربته يكاد شَغَفي يصل عنان السماء كلما جال بذهني عبور الريكاتا للمرة الأولى وما إن رأيتها تقترب حتى ركضت إليها بساقي النحيفتين ورحبت بالسيد سيمور وبأبي ثمَ قدت العربة إلى أعلى السفينة بداخلها الطبيبة .. 

نعم كنت أعلم إنها أمرأة قبل أن أراها حتى، لقد أخبرني السيد سيمور بهذا السر الذي لم يخبر به والدي حين ألتقيته في ألشميل قبل أن يوصيني بأمر غريب جعلني أظن أن هذا الرجل فقد عقله سأتحدث عنه لاحقاً ولكن عليّ أن أذكر ما حدث منذ شقت السفينة طريقها إلى داخل بحر مينجا. 

كان أبي قد حدَثني كثيراً عن قدرات هذا العجوز وبراعته بالإبحار وقد رأيت هذا بعيني فما أن إرتقى السفينة حتى أمسك بِدفَتِها واثقاً كمَن يصغره بأعوام كثيرة وبدأ بنا رحلتنا في ثبات إلى الشمال وتعددت مهامي ما بين تسلق الصاري بين الحين والآخر لربط او حل حبال الأشرعة وتلبية أوامره الكثيرة المتتالية بكل أرجاء السفينة أو الإمساك بِدفَة السفينة وقت راحته أو أقترابه من الطبيبة ليتحدث معها .. 

أما الطبيبة فغادرت العربة المثبَتة ثمَ وقفت شاردة الذهن تنظر إلى أماريتا دون أن تُحرك ساكنة لم أدري ماذا يدور برأسها وقتها ولم أقترب لأحدثها أيضاً ولكني لم أزح نظري عنها وأيقنت أن خلف هذا الشرود والتجهُم قصصاً تحتاج أياماً لِسردها بعدما وجدت دموعاً لامعة قد هربت إلى وجنتيها .. 

كانت ذكيةً حين إرتدت هذا الزي فكثيراً ما تمُر قوارب قادَة الحرس لتفتيش سفن الصيد خشية أن يهرب الصيادون مِن دفع ضرائبهم عن صيدهم وقد حدث ذلك بيومنا الثاني حين إرتقى السفينة قائد مع جنوده ولم يلتفتوا إلى الطبيبة التي كانت تمسح أرضية السفينة بل سأل العجوز عن العربة والأحصنة فأجابه سيدي بثبات بالغ بِأن تلك السفينة كل ما يملك وما أن يمتلك مكاناً سيترك وقتها ممتلكاته به مشيراً إلى عربته وأحصنتهُ، و غادر القائد السفينة دون أن يدري أن ذلك الفتى الجالس على أرضية السفينة بعيداً ليس إلا أمرأة هاربة مِن هذا البلد وأكملنا إبحارنا تُحرِكنا الرياح في إتجاهنا المقصود .. 

وسارت أمورنا على ما يرام وجاء نهارنا الثالث بالبحر وسمعت سيدي يقول للطبيبة إن أمامنا نهاراً آخر لِنصل إلى ريكاتا وفقاً لِسرعة الرياح ذلك اليوم، ثمَ أخبرها بأنه ينوي عبورها ليلاً فدق قلبي فرِحاً وأعجاباً ببراعة هذا العجوز لكن فرحتي لم تدم كثيراً ..

أشرقت شمس يومنا الرابع ولاحظت شحوب وجه سيدي وسقمه عن أيامنا السابقة، حتى إنني سألته أن أمسك الدفَة بدلاً منه لِينال قسطاً من الراحة فرفض وسألني ألا أخبر الطبيبة بشيء وأمرني أن أكمل عملي بنزح مياه الأمواج الواثبة إلى ظهر السفينة، ثمَ لاحظت أنهُ يتحاشى الحديث مع الطبيبة طيلة ذلك النهار وغطى رأسه بقلنسوة كبيرة وكلما أقتربت الطبيبة للتحدث معه كلفها بشيء تفعله بقبو السفينة حتى إن إنتهت سألها قبل أن تقترب منه أن تفعل شيئاً آخر ثمَ ظهرت أمامنا أولى الهِضاب مصطبغة بحُمرة الشَفَق مع غروب الشمس فصحتُ من فوق الصاري:


ريكاتااااااااااا

ثمَ هبطت الصاري قفزاً وأسرعت إلى القبو لأُشعل مصابيحنا فوجدت الطبيبة قد أشعلتها بالفعل وسألتني أن أُعطي مصباحاً لِسيدي فأخبرتها فرحاً إننا في طريقنا إلى أولى هضاب ريكاتا وركضت إلى ظهر السفينة فتركت ما بيدها وركضت خلفي و وقفت بجواري على حافة السفينة تحدق بالهضبة الشاهقة أمامنا أكاد أسمع دقات قلبها مِن الفرحة البادية على وجهها حتى ظننت إنها ستُحضِنني أو تقبلني كما تمنيت بمخيلتي لكنها إلتفتت إلى سيدي الذي لم ينطق بشيء منذ وقوفنا وأقتربت منه بأسارير منفرجة وكادت تحدثه ففوجئنا به ينظر إليها زائغ العينين قبل أن يقيئ دماً أندفع فجأة بغزارة من فمه كان يكفي لِملأ قدراً مِن قدور الطعام ثمَ سقط تاركا دفة السفينة ..


لا أستطيع أن أَصِف تلك اللحظات أذكر أن كل شيءٍ بات سريعاً، ركضت نحوه حاملاً مصباحه ومصباحي ثم تسمرت قدماي بأرضية السفينة أمامه وكان عقلي قد شل وإنسدل ظلام الليل مِن فوقنا فأخفى منظر الدماء المُرَوِع أسفل سيدي القابع على ذراع الطبيبة التي بادت عاجزة أمام سَقَمِه وأكتفت المصابيح بإظهار ملامحنا فسألتها لاهثاً:


ماذا أفعل سيدتي؟


لم تجبني وظلت تحدق بوجهه شاردة ثمَ نزعت قميصها ومسحت آثار الدماء عن فمهِ ورقبتهِ ثمَ وجدتها تنظر إلى السماء وتحدثها بصوت سمعتهُ قائلة:


لا أستطيع أن أُعالجه ساعدني يا رب.


فوجدته ينظر إليها ويقول في إعياء:


يبدو إنها النهاية هذهِ المرة أيتها الطبيبة .. كان حدِسي صحيحاً بإقترابها .. كنت على حق حين بادرت بالأبحار قبل يوم زيكولا لكنه لم يكن كافياً. 


تمنيت أن أحقق مرادك ..


فقالت الطبيبة:


عليك أن تهدأ سيدي سيستعيد جسدك توازُنَه وستصبح بخير ستنهض سيدي و ستعود إلى بيتُك ..


لا أعلم إن كان سيدي يمتلك بيتاً آخر .. ما أعلمه أن أبي قد اشترى بيته قبل رحلته هذهِ مقابل السفينة والعربة المحملة بالطعام وأجري، وبَدا أن سيدي لم يدرك ما قالته الطبيبة و وجدته يحدق بعيداً نحو السماء ويبتسم وثبت عينه كأنه ينظر إلى شخص هناك ثمَ زادت أبتسامته ولمعت عيناه بدموعٍ وقال:


إنها مثلكِ هي والخير مجتمعان..


ثم حل صمتٌ مفاجئ فقلت بحذر:


سيدتي


قالت:


لقد فارق الحياة


لحظات صمتٌ أخرى صمتٌ لا أكثر.... 


*********************************************************

الفصل الخامس عشر


 فارق سيدي الحياة وساد الصمت والخوف سفينتنا فَتَذَكرت وصيته الغريبة التي أوصاني بها حين ألتقيته قبل أبحارنا بأيام وقال لي وقتها بجدية بالغة:

إن فارقت الحياة على ظهر السفينة وكانت الطبيبة أسيل لا تزال معنا وكنا قرب هضاب ريكاتا فأنتظر حتى يحل الظلام وقم بأشعال شراع السفينة الأكبر في أقرب وقت من حلوله قبل أن يصمت.

و يكمل:

- دون أن تستأذن الطبيبة ثمَ أخبرها أن تنزع قميصها..

أتذكر إنهُ عاد على كلماته حتى ظننت أنهُ أصطحبني معه فقط من أجل وصيته تلك، فعُدت خطوات إلى الخلف مبتعداً عن الطبيبة التي كانت تجلس بجوار جثته لا تُحرِك عينيها عنه وقد غطت وجهه بقميصها ثمَ صعدت صاري السفينة حاملاً شعلة مصباحي وأشعلت طرف شراعنا الأكبر فسرَت النار ببقيته سريعاً مع رياح تلك الليلة وهبطت الصاري مُنزلقاً فألتفتت إليَ الطبيبة مرتبكة وصرخت بي:
               

ماذا فعلت؟

فأجبتها صارخاً خائفاً بعدما اشتعل الشراع بأكمله أمامنا:

هو مَن أوصاني بفعل ذلك.


فوَقفَت أمامي ذاهلةً تنظر إلى النار المتأججة و وقفتُ أنا الآخر ذاهلاً مرتبكاً مثلها يكاد الخوف يقتلني، ثمَ حملت دلواً مِن الماء وقذفت بمائه نحو الشِراع المشتعل فتناثر قبل أن يصله، و تسارعت أنفاسي ونبض قلبي بقوة وَجن جنوني حين رأيت النار قد إندلعت بالصاري ذاته وباتت في طريقها إلى سطح السفينة فركضتُ وحملتُ دلو آخر وألقيت بِمائه نحوه فلم يجد نفعاً فخارَت قواي وسقطت على ركبتي صارخا إلى نفسي لاهثاً:


ماذا فعلت؟

ثمَ نهضت وركضت إلى حافة السفينة الجانبية تاركاً الطبيبة التي عادت إلى جلستها بجوار سيدي الميت وأمسكت بيده محدقة به ثمَ نظرت أسفلي إلى البحر المظلم أمامي وأبتلعت ريقي وأغمضت عيني وكدت ألقي بنفسي خارجها قبل أن أفتحها مجدداً و أرى بالسماء عدداً من السهام المشتعلة التي تنطلق متتالية لأعلى بين الظلام الحالك السواد فتشبثت بسياج السفينة الخشبي وصحت بأعلى صوتي:

- أيتها الطبيبة أُنظري إلى السماء.. أيتها الطبيبة أُنظري إلى السماء ..

فألتفتت إلى السماء التي أمتلئت بالسهام المشتعلة ونهضت وأقتربت مني دون أن تنطق وكأنها لاتدري ماذا يحدث فتابعت صراخي فرِحاً:

إنها سهام سفن النجدة المَلَكية لقد رَأوا شراعنا المشتعل ..

فقالت شاردة وهيَ تنظر إلى السماء:

- لقد جَلَبَهم إلينا السيد سيمور.

كانت النيران قد أشتعلت بعربة الطعام الخشبية وزاد هِياج الأحصنة بعدما تآكَل الصاري المشتعل وسقط مع شراعه بمنتصف سطح السفينة، حين اقتربت ثلاثة قوارب صغيرة تحمل مقدمتها مصابيح نارية كانت قد أسقطتهم سفينة كبيرة إلى الماء ألقت غطاسها على مقربة مِن سفينتنا المشتعلة وأكملت إطلاقها للسهام المضيئة نحو السماء دون توقُف.. 

وعلى حافة السفينة وقفت ملَوحاً بيدي صارخاً إلى جنود القوارب بأن يسرعوا لإنقاذنا قبل أن يبلغوا السفينة ويلقوا بحبالها إلى أعلاها ويتسلقوا جانبها ويصطفوا بخوذهم على سطحها في صفين ثمَ نظر قائدهم إلى الطبيبة الجالسة بجوار الجثة الراقدة ترتدي قبَعتها وصديرها وسألني:

هل هناك آخرين؟

فأجبتهُ: لا

فأشار إلى أحد جنوده بأن يحملني وصاح بآخر مشيراً إلى الطبيبة:

أحمِل هذا البحار إلى قاربِك.

فأقترب منها الجندي وحدثها:

هيا أيها الفتى سنترك هذا الميت..

فألتفتت إليه وقالت متوسلة:

أرجوك لقد كان شيخاً طيباً

فأقترب منها قائد الجنود حين سمع صوتها وحدق بكتفِهاَ اللامع مع ضوء النيران المشتعلة وهمس بصوت سمعتَه:

وشم ثُلاثي الرقم؟!!

ثمَ مد يده ونزع قلنسوتها ونظر إلى وجهها وقال:

تقصدين كان شيخا خائناً..

ثمَ صاح بِجنوده: 

أحملوها مع الفتى إلى قواربُنا وألقوا بهذا الميت بالبحر بعدها نظر إلى الطبيبة التي حَدَقت به وأكمل بِبرود: 

أمامنا ثلاثة أيام لنعود أماريتا لن يتحمل أحد رائحة جيفته. 

في يومنا الثالث أقتربت بنا السفينة المَلَكية مِن شاطئ أماريتا مجدداً لا أذكر خلال تلك الأيام الثلاثة إن نطقت الطبيبة بكلمة واحدة ما أذكره أنَ الجنود قد كبلوها يداً وقَدماً مثلما فَعلوا معي و وضعانا سوياً بغرفة ضيقة بِقبو السفينة لا يزيد طولها أو عرضها عن ستة أقدام كانت جدرانها مِن قوائم حديدية وجلست الطبيبة بجواري شاردة هائمة زائغة العينين غير عابئة بسُباب الجنود أو نعتهِم لنا بِخونَة أماريتا إن ألقوا لنا بطعامهم الرديئ مساء كل يوم وإن حاولت التحدث إليها أومأت إلَي برأسها دون أن تُجيبَني قبل أن يسُبني حارس الغرفة كي أصمت.. 

و وصلت السفينة إلى الشاطئ فأقتادنا القائد وجنوده مكبلين إلى عربة كانت في إنتظارهم إنطلقت بنا جيادها مسرعة عبر باب أماريتا و كدْت أُغرق بنطالي من الخوف مجدداً حين سمعت أحد الجنود يقول إننا في طريقنا إلى قصر القائد العسكري جرير و واصلت العربة تحركها قبل أن تتوقف أمام احد القصور وأمرنا قائد السفينة أن نترجَل ودَلف بنا هو وجنوده إلى بَهو ذلك القصر الشاهق.. 

لم أشعر بلحظات خوف مثلما شعرت بها ذلك اليوم وقتها لم يجل بذهني شيء سوى ذبحي أو إحراقي أمام أهل أماريتا وكلما مرت بُرهة من الوقت زاد معها قَلَقي وتوتري وعلت دقات قلبي حتى كادت يسمعها من يقفون بجواري أما الطبيبة فوقَفت صامتة كعادتها على وجهها هزال لم أجده حين رأيتها للمرة الأولى قبلها بأيام، ثمَ بلغت دقات قلبي أقصاها حين أقتادنا الجنود إلى بَهو آخر كان يجلس به القائد جرير على مِقعد كبير مُذهب بجواره قائد السفينة المَلَكية وما أن وقفنا أمامه حتى نهض وتحرك نحونا ثمَ وقَف أمام الطبيبة وأمسك بِذراعها بقوة ناظِراً إلى كتفها الموشوم وقال: 

وشم ثلاثي يَعبر هضاب ريكاتا .. 

ثمَ نظر إليَ فجأة وسألني: 

كم عمرك ايها الفتى؟ 

فأجبته وأنا أرتعد:  

خمس عشر 

وسكتُ، فصمت هو الآخر وعاد إلى مقعده وساد الصمت لحظات قبل أن تنطق الطبيبة: 

لم يكن يعلم الفتى أين تتجه السفينة.. 

فنظر اليها وسألها: 

إذن وأين كانت تتجه؟ 

أجابته هادئة دون أن ترفع عينيها: 

أردت أن أُغادر فحسب.. 

قال مُتَهكماً: 

خيانة تحدُث للمرة الأولى بِبلادنا تقوم بها إمرأة.. 

وحدق بالطبيبة ثمَ رقَص قلبي فرحا حين أشار إليَ وقال لِجنوده: 

إصرفوا هذا الفتى إلى أهله 

بعدها نظر إلى الطبيبة وقال : 

سيعرض أمرك على الملك هذا المساء أعدُك بأن تصبحي عبرة لبلاد بحر مينجا، وكانت تلك المرة الأخيرة التي أرى بها الطبيبة أسيل.......   


*********************************************************

الفصل السادس عشر



 أستطيع القول أنَ ما حدث بقصر الملك قبل هذا اليوم شيء وما حدث بأيامنا اللاحقة شيءٌ آخر تماماً، أذكر أن اجتمع القائد جرير بالملك لأمر بدى لنا جميعا مدى أهميته ثمَ إنتهيَا فَأمر القائد جنوده بأن يدخلوا مَن وصفها بخائنة البلاد، فزادت ضربات قلبي واندفع الدم بعروقي حين وجدت الجنود يَدلفون ووراءهم الطبيبة أسيل قصيرة الشعر مكبلةً اليدين والقدمين بأغلال حديدية ترتدي زياً رجاليً مهترئاً لأراها للمرة الأولى منذ فراقنا يوم جئنا إلى أماريتا قبل أربعة أشهر كاملة بدت قسوتها واضحة على وجهها الرَقيق. 

وقفت الطبيبة أمام مَلِكَنا الشاب الجالس على عرشهِ بزيهِ العسكريِ ساكنة تنظر عيناها إلى أسفل دون أن ترفعَها إليه فنَظر إليها للحظات طالت قليلا ثمَ حَدَثها هادئاً: 

لقد أخبَرني القائد جرير بأمر خيانتك وعزمُك الهروب مِن بلادنا سيدتي.  

أنها المرة الأولى التي يحاول أحدهم الهروب مِن بلادي.. 

هل تَعلمين جزاء تلك الخيانة؟ 

فأومأَت الطبيبة برأسها دون أن تنطق أو ترفع عينيها إلى مَلِكَنا .. وأدركناَ جميعا أن موت الطبيبة بِساحة القصر أمام أهل أماريتا بات قريبا للغاية قبل أن يسألها: 

مِن أي بلد جئتِ؟ 

فأجابته: 

بيجاناَ سيدي 

ولماذا أردتي أن تُغادري وقد أخبرتكُم منذ يومكم الأول أنكم لستم عَبيداً؟ .. تعملون وتأخذون أجركُم مثلكم مثل شعبي مَن يعمل منكم يستطيع أن يكَوِن ثروتَه ويدفع ضرائبَه وَمن يتكاسل ينال مِن العِقاب ما يستحقُه .. لكم عشر سنوات تنعمون هنا بكل الحقوق.. 


قالت الطبيبة وهيَ تنظر إلى الأرض:          

عشر سنوات لا نستطيع مغادرة بلادكم عشر سنوات أصبحنا خلالها أرقاماً لا أسماء لنعود بعدها كما جئنا فاقدين كل شيء وأضافت:

                
إنَ اتفاقيتكم ليست إلا درجة مِن درجات العبودية يا سيدي.. 


قال: 

وَمن يرُد ديون بلادكم غيركُم أيتها الفتاة .. لقد أعطينا بلادكم الكثير ثمَ عجزت بلادكم عن سداده فاختارتكم بلادكم لتعملوا مقابل ديونها لِيستمر دعمُنا إليكم لدينا من الخيرات ما يفيض ولديكم من البشر ما يكفي .. إنني أَخدم بلادي وأنتم تخدمون بلادكم .. لم يعُد هناك مكان للكُسالى بهذا العالم أليس ذلك عدلاً؟ 

أجابت الطبيبة وكانت لا تزال تخفِض عينيها: 

لم يكونوا كَسالى سيدي كانوا فقراء نَهب خيرهم سادتهم .. ووِفق عهدكم سيأتي فقراء غيرهم وغيرهم ليدفعوا ثمن فساد حُكامهم أهذا هو عَدْلكُم؟ 

قال: 
                

لو لم يكن عدلا لَما أحبَني مَن جاء مِن بلادكم مثلما أَحَبني شعبي.. 

رفعت الطبيبة عينيها إلى سيدي للمرة الأولى وقالت هادئة: 

لَطالما رضيَ الفقير بالسَيّء خِشية الأسوأ .. مَن يحبونك حين يشتاقون لِأهلهم ولِبلادهِم سيمْقُتونك وسيمْقُتون بلادك كما مَقَتوا حُكامهُم لن تغفر لكم زوجةُ أحدهِم أو ابنته ذلك الفراق .. كان عليك أن ترى دموعَهُم أمام سجن بيجاناَ يوم رحيلنا كنت ستعلم وقتها سيدي أنه لا يوجد ميزان عَدْلّ كانت إحدى كفتَيه حرية امرئ.. 

فصَمت الملك قليلا ثمَ قال: 

تتحدثين عنهم ليس عنكِ لستِ فقيرة مثلَهم .. ما الذي جاء بك إلى هنا؟ 

فابتسمت الطبيبة وقالت: 

تركت روحي للقدَر وعلِمّت أنهُ لن يخذِلني.. 

فسألها: 

ما اسمكِ أيتها الفتاه؟ 

أجابته: 

اسمي أسيل سيدي

يسألها مجددا: وما قصتُكِ؟

كانت الطبيبة أسيل جميلة حقا جمالٌ اصطبغ بقسوة أيامها فباتت كالماسة التي أثقلَتُها النيران وبدأت تتحدث إلى الملك عن حياتها بزيكولا منذ دخولها إليها حتى أصبحت طبيبة زيكولا الأولى دون تفاصيل كثيرة كانت أخبرتها لي حين عَبرنا بحر مينجا معا تحدثت عن قوانين زيكولا التي كانت تفخر بها لسنوات طويلة ثمَ مَقتَهَا حين عاشت عناء الفقر وأهله وابتسمت ابتسامة مُرة وقالت:

كنت أنا مَن يختار الأفقَر ليخوض الزيكولا فلَفحني قدَري وجاء الوقت ليذبح مَن أحب..

ثم صمتت لحظة ونظرت إلى الأرض أمامها وابتلعت ريقها وأكملت:

لم يكن يستحق الموت .. أعطيتهُ مِن ثروتي قبل ذبحه لِينجو وغادرت زيكولا فأعلنني حاكمها خائنة وساقني القدَر إلى هنا..

فقال الملك:

إذن أعتدتي أن تخوني قوانين بُلّدانك

أجابته:

القوانين غير العادلة ليست بقوانين سيدي

فقال:

وإلى أين كانت جهة سفينتكُم؟

فسألَته باسمة:

هل ستَعبُر بي مجدداً؟

فأجابها باسماً:

لا لست مثلكِ لا أحيد عن قوانين بلادي

فابتسمت وقالت:

إذن فلتسمح لي أن أحتفظ بهذا السر يا سيدي..

فقال الملك:

ألا تخشين موتك بساحة قصري؟

أجابته:

لن يختلف كثيرا عن موت على سفينة مشتعلة كان يحيطَها الماء مِن كل جانب..

فابتسم الملك ثمَ فوجئنا به يشير إلى أحد الجنود بأن ينزع أغلال الطبيبة قبل أن يشير إليَ قائلاً:

اصعدي بالطبيبة إلى الغرفة الشرقية وإهتمي بِشؤون معيشتها إنها ضيفتي مِن اليوم..

وقتها أدركناَ أنَ الطبيبة باتت على حافة شأن عظيم..

غادرنا البهو الملكي فابتسمت لي الطبيبة وإحتضتني والدموع تلمع بِعينها ثمَ صعدتُ بها إلى الغرفة الشرقية أفخم غرف القصر لم تتحدث كثيراً كنت أُدرك حاجة جسدها المُنهك إلى الراحة فتركتُها بعد أن أخبرتها إنني وثلاث مِن الوصيفات سنتولى شئون ضيافتها .. 

ما إن نالت الطبيبة راحتها وبدَلت ثيابها الرثة بِفَساتين صممت خصيصاً مِن أجلها حتى أبهرت مَن بالقصر بجمالها وبنقاء روحها التي عبقت بكافة أرجائه منذ اطلالَتِها الأولى وسرت همهمات الفتيات مِن حولي عن نظرة الملك إلى الطبيبة وتوقف الشراب بحلقِه حين دَلَفَت إليه بِفُستانها الأنيق بعدما طلب لقائها للمرة الثانية يومها الثالث بالقصر .. 

ثمَ تعددت لقاءاتها كثيراً إما بِبهو القصر الرئيسي أو بِمكتبتِه أو بِحديقتِهِ الخلفية .. كانا يتسامران لساعات وساعات كأنهما لا يشعران بالوقت مِن حولهما يتناقشان بأمور شتى وقضايا مختلفة كانت إن تحدثت استمع إليها وإن تحدث جادلته فَينهض إلى أرفُف مكتبتِه ليُحضِر كتاباً مُدعما قوله بما ذَكره مؤلفه فَتزيد جدالها جدلاً فإن أقنعته ألقى بِكتابه إلى نيران مدفأته معلناً إنتصارها وإن أقنَعها قالت مداعبةً لهْ:

- ربما

قبل أن تُكمِل باسمة:

ولكن لنا جولة أخرى سيدي..

وعلى نحو أربعة أشهر لي بالقصر لم أرى تلك النظرة على وجه الملك لإمرأة مثلما رأيت نظرته إلى الطبيبة خلال تلك الأيام سبعة عشر يوماً كانت كافية لنُعلِن أن قلب ملِكَنا قد تعلق بِذكاء ابنة بيجاناَ طبيبة أماريتا الجديدة .. 

سارت الأمور جميعها على خير ما يرام أُقسم أنني لم أشعر بِبهجة هذا القصر مثلما شعرت بها تلك الأيام قبل أن تنقلب فجأةً رأسً على عقب دون مقدمات .. فجر تلك اليوم حين أيقظتنا صرخات شديدة مدوية مزقت سكون الليل فنَهضنا جميعاً وركضنا نحو الغرفة مصدر تلك الصرخات يتقدمنا الملك تميم بثياب نومه لتتسمر أقدامنا وتجمُد أجسادنا حين دَلَفنا إلى الغرفة ووجدنا الطبيبة راقدة على أرضيتها زائغة العينين ينتفض جسدها لا إرادياً بقوة وتصرخ صرخات ترُج الجدران مِن حولنا ممسكه برقبتها تُنازع إختناقها ثم توقف جسدها عن إنتفاضاته رويداً رويداً لتنظر إلى سيدي الذي أقترب منها نظرة لن أنساها ما حييت كأنها تتوسل إليه بأن ينقذها قبل أن تغمض عينيها وقد أصبحت شاحبة شحوباً لم أرى مثيله في حياتي .....  


*********************************************************

الفصل السابع عشر


 لِسنوات طويلة كانت عُمّر القصر الملكي لم يشهد خلالها قدوم هذا العدد من الأطباء، فمنذ إن غابت أسيل عن الوعي ولم يمر يوم واحداً إلا ودَلف إليه جماعة منهم غير الذين سبقوهم دون ان يجد أحدهم تفسيرا لِحالة الطبيبة الشاحبة ما يستطيعون قوله أن وظائفها الحيوية تعمل بانتظام ولا يوجد عرَضٌ آخر يوحي بإصابة مخها الغائب عن الوعي بعلة ظاهرة، ثبت كبيرهم بذراعها أنبوبا معدنياً رفيعاً تدلى من زجاجة بها سائل مغذي مطعم بِمُنَشطات للعقل، وحَدّث الملك أملاً أن يستجيب مخها لِدوائه وآسِفا بسوء المصير إن لم يستجِب. 

ثمانية أيام لم يفارق الملك غرفة الطبيبة إلا إن اجتمع بمجلسه فتقوم قمر بتدليك جسدها بالزيت قبل أن يعود ويجلس أمامها لا تُفارق عينيه وجهها أو الزجاجات المغذية التي تتبدل واحدة تلو الأخرى دون أن يحدث جديد. 

ثمَ جاء صباح اليوم التاسع ودَلف إلى القصر طبيب شاب جاء من بيساناَ وحين إنتهى من فحص أسيل أخبر الملك بما أخبره به من سبقوه من أطباء وغادر الغرفة إلى المَمر أمامها فسَمَع إحدى الوصيفات تتحدث إلى أخرى بأن قمر تجلس بغرفة الطبيبة فسألها بفضول: 

أي طبيبة؟ 

فأجابته الوصيفة: 

السيدة أسيل المريضة كانت طبيبة زيكولا.. 

فعاد مرة أخرى إلى الغرفة وسأل الملك أن يفحص أسيل مجدداً ثمَ وضع بين إصبعيه ثنية مِن جلّدها وأكمل فحصه ثمَ حدَق بها مفكراً قبل أن يلّتَفت إلى الملك قائلاً: 

سيدي لقد تجاهلت شيئاً أنا وغيري ممن سبقوني من الأطباء. 

لقد عاشت الطبيبة عمرها بزيكولا ولقد قرأتُ قديماً الكثير عن حياتهم هناك قبل أن ألتقي ذات مرة بطبيب خرج من زيكولا وحدثني عن قوانين بلدهم التي مُيِزوا بها وعن شحوب فُقرائهِم المميز الذين يصابون به دون اختلال وظائف جسدهم الحيوية إن فقدوا وحدات ذكائهم وعلمني كيف يميزونهم عن مرضاهم بفقر الدم. 

فقال الملك: 

هذا هناك، في تلك الأرض الملعونة ليس في بلادنا 

فقال الطبيب: 

لكني سَمعت خَبرً عابراً بالأمس، أن زيكولا قد طبقت قانونا جديدا يقتص من خائنيها.

كانت الأشهر الخمس الماضية الأصعب بحياتي ومازلت لا أُصدِق إنني حي حتى هذهِ اللحظة، فمنذ أن أخبرتني نادين فتاه المنطقة الشمالية بعد أيام مِن رحيل خالد عن إبلاغ أحد تُجار المنطقة الغربية عن نفق أسفل بيته يَعبُر سور زيكولا وبدئهُم البحث عن مرتكبي تلك الخيانة خالد والطبيبة أسيل وكل من رؤي مع خالد ونادين بعد وشايه هلال النذل بها ونحنُ نختبئ بالمنطقة الجنوبية لقرابة الخمسة أشهر علّنا نستطيع مغادره زيكولا يوم يفتح بابها..

قبل أن يعلم إياد يوماً عن تكليف حاكم زيكولا المجلس الزيكولي الأعلى بوضع قانون جديد بشأن خونة زيكولا لكن حقاً ما نخشاه كثيراً لن يأتي أفضل منه لقد أعلن كبير قُضاة زيكولا قبل أيام عن قانون بلادنا الجديد الذي يقتص من خونتها، وقد نص هذا القانون على أمرين:

الأول .. أَلا يستطيع الخائن التعامل بواحدات ذَكَائه داخل زيكولا ويحظر على أهل زيكولا التعامل معه ومن يخالف ذلك يُتَهم بالخيانة مثله بِمعنى آخر لن يستطيع الخائن العيش داخل زيكولا..

الأمر الثاني: أنهُ يحق لأهل زيكولا جميعهم إسترداد وحدات ذكائهم التي دفعوها للخائن من قبل حتى إن نالوا مقابلاً لها خلال يوم واحد فقط بعد إعلانه خائناً..

المثير للدهشة إن هذا القانون قد وُضع لِيَسري على جميع الخائنين حتى وإن غادروا زيكولا، وأعلن كبير القُضاه البدء في تطبيقه قبل أن يعلن قائمة بأسماء الخائنين، فرُدت إلينا الحياة مجدداً لعدم شمول القائمة اسمائنا بعدما لم يستطيع جنود زيكولا الإمساك بنا لقد اعتمدوا على وصف خادم التاجر وهِلال الثمِل دوما، وأنا وَإياد ونادين مثلنا مثل الآلاف ممن يعيشون بأرض زيكولا ولن يعرفنا أحد طالما بعدتُ عن المنطقة الشرقية وإبتعد أِياد عن المنطقة الغربية وأبتعدت نادين عن المنطقة الشمالية..

خمسة أشهر كنا ننتتظر بفارغ الصبر أن يفتح باب زيكولا ونغادرها ثمَ جاء هذا القانون ليُبعد عنا أعين حُراس زيكولا إلى خَوَنَتها الذين سيصبحون أكثر شحوباً، فلا يخرج ذبيح زيكولا عنهم ثمَ فتح باب زيكولا وعلِمنا عن اتفاقيه البشر مقابل الديون التي خضعت لها بلادنا المجاورة، وكما أبدو لا أملك غير ملابسي وإن غادرنا زيكولا لن تجدي وحدات ذكائنا خارجها بِشيء ولن يكون هناك أفقر منا فقررنا أن نبقى في زيكولا حتى أوان آخر وأن نعمل ونكمِل حياتنا بمناطق لا يعرفنا بها أحد لتصبح عدم شهرتنا ميزة ندين لها بحياتنا..

و اتجه إياد إلى المنطقة الشرقية ليعمل بتقطيع الصخور وبقيت أنا بالمنطقة الجنوبية لِأعمل بالزراعة وأتجهت نادين لتبحث عن عمل بالمنطقة الوسطى متيقنة بأنها لن تجد هلالاً هناك، وإحتضنتني وهيَ تُغادرُنا باسمة بعدما لم تكن تتوقع أن تترُك الرذيلة والمنطقة الشمالية يوماً ما غير مصدقة بأنها قد فعلَتها لِخمسة أشهر وتنوي أن تبحث عن عمل آخر حقيقي كما أخبرها خالد من قبل.

خالد الذي سَماه القاضي في قائمته بالغريب الناجي مِن زيكولا دون أن يعلم إن قانونه لن يجدي معه بشيء لقد غادر منذ أشهر ولا يحتاج إلى التعامل بالذكاء مجدداً حتى مَن ينوي أن ينال وحداتهُ منه فلا أتذكر أن هناك مَن دفع لخالد وحدات كان هو من يدفع دائماً ما أحزنناً حقاً أن القائمة قد شملت الطبيبة أسيل بتهمتين للخيانة، الأولى: التعامل مع ذبيح زيكولا، والأخرى: تَوَرُطَها بذلك النفق بالمنطقة الغربية بعدما وشى بها خادم التاجر الذي عرَفها.

ولأنني أعرف أهل بلدي جيداً وإنتهازهم أي فرصة لكسب وحدة ذكاء واحدة في الوقت الذي تعاملت فيه الطبيبة مع الكثيرين منهم وبهذا القانون الذي يعطيهم حق إسترداد وحدات ذكائهم كاملة أصبحت الطبيبة كنزاً لِيوم واحد وجده أهل زيكولا فجأة سيسرعون جميعاً لإلتهامه قبل أن ينضب وحسب تفكيري المحدود أن تفقد الطبيبة هذا العدد مِن وحدات الذكاء مرة واحدة فإنهُ لا يعني إلا الموت المحقق.

لم يكن هذا قانونا فحسب بل كان إنتقاماً شرساً لزيكولا، إنني أشفق عليها حقاً لقد تحملت الطبيبة بمفردها ثمن عودة خالد إلى بلاده.

أخبر الطبيب الملك تميم بأمر قانون زيكولا، وصدّق على حديثه أحد مستشاري المجلس الأماريتي عجوز أشيَب الرأس اسمهُ سدير عُرف عنه كَثرَت ترحاله ومعرفته الجمة بِشؤون البلدان الأخرى، وخَتم الطبيب حديثهُ إلى الملك قائلاً:

سيدي إن طالت هذهِ الإغماءة لن تُجدي سوائلنا المغذية بشيء أخشى أن تُصاب أحشاء الطبيبة بإختلال و قصر لا رجعة لَه..

 ثمَ قال السيد سدير هادئاً:

ليس هناك حل لِنجاتها إلا إسقاط خيانَتِها..

ولم تمُر ساعة واحدة إلا وإنطلقت سفينة مَلَكية على متنها رَسول يحمل رسالة مِن الملك تميم إلى حاكم زيكولا يطلب فيها إسقاط خيانة الطبيبة مقابل ما شاءت زيكولا، وأمَر قائدهُ جرير أن يحضر له كافة الكتب التي تتحدث عن زيكولا ودَلف إلى مَكتبتِه.

*** 

ستةُ أيام لم يغادر طاولة مكتبته حتى إلى حُجرة أسيل يُقَلِّب صفحات كتبه التي تحدثت عن زيكولا كتاباً تلو الآخر يقاوم إرهاق جفونه ليدَوِن ما يجده مُختلفا عما قرأهُ من قبل وأن غلبه النعاس لم يفارق كرسيه وغفا على طاولته ثم ينهض لِيكمل تصفُحه لا يدلِف إليه إلا خادم شرابه وطعامه القليل وطبيب القصر لِيحدثه عن حالة الطبيبة التي لا تتحسن والقائد جرير مساء كل ليلة والذي حدثهُ مازحاً ذات مرة حين لاحظ إرهاق وجهه: 

لو علمت أنَكَ لن تُفارق هذهِ الغرفة لِأيام مِن أجلها لَما أرسلتُها إلى القصر.. 

فأجابهُ باسماً: 

لقد كان أفضل ما فعلت بحياتك يا صديقي.. 

فقال جرير متعجبا مِن أمرِه: 

لدينا مِن الجميلات الكثيرات فأجابه وهوَ يُقلب صفحة كتابه: 

لا شأن للجمال بذلك، ثمَ أغلق الكتاب. 

وأكمل: 

حين طلت عليّ الطبيبة مكبَلَة اليدين للمرة الأولى أدركت أنَ وراء هذهِ الفتاه الضعيفة أمراً عظيماً ثمَ تحدثت فأيقنت أنني على وشك جُرم كبير إن أقررتُ خيانتها، ثمَ تحدثنا لِأيام فَأَحَب قلبي حديثها ثمَ جادلتني فَأَحَب قلبي حِكمتها، 

 فقال جرير: 

لكنها تظل خائنةً لزيكولا سيدي.

فنهض واتجه إلى أحد رفوف مكتبته وقال وهوَ يلتقط كتاباً آخر:

إننا مَن نضع قوانيننا يا جرير لقد تناقشنا كثيراً عما فعَلَته كان بيدها أن تُغير قدر ذلك الغريب فغيَرته لم ترى أنهُ يستحق الموت كانت نقية الروح فحسب.

ثمَ عاد إلى مقعده وتابع:

لن أجد مثلَها يا صديقي.

***

ثلاثة أيام أخرى ودلَف إلى الملك فجراً رَسوله حاملاً رداً مِن حاكم زيكولا الذي أجاب برسالة مُقتضبة يقول:

حين يتعلق الأمر بأمن بلادنا لن يكفينا مقابلاً نرفض طلَبكم .

فَأخرج الملك زفيراً دون أن ينطق بكلمة ثمَ اتجه إلى غُرفة الطبيبة وألقى نظرة مطولة عليها قبل أن يتجه إلى شُرفة قصره وينظر إلى تمثاله المنتصب بمنتصف ساحته للحظات ثمَ اتجه إلى بَهوه وأمر كبير رجال القصر بِحشد أهل أماريتا صباح يومهم التالي بساحات قصره لِترُج أبواق الخِطاب الملكي سماء أماريتا بوقاً تلو الآخر أطلقها عمال كثيرون سُموا البوقيون كانوا ينتشرون بكافة مناطقها ما إن يطلق أولهم بوقه حتى يسمعه البوقي الأقرب فيطلق بوقه ثمَ الأقرب فالأقرب لِترُج أرجاء البلاد بنَفير أبواقها التي يختلف إيقاعها حسب أغراضها ويميزها كل مَن يعيش على أرض أماريتا مِن أطفالها حتى شيوخها ثمَ أرسل إلى مستشاريه لِيحَدثَهُم بِأمرٍ هام قبيلَ خِطابه إلى شعبه.

طاولةٌ بيضاوية ألتَف حولها أحد عشر مِن مستشاري الملك بينهم جرير يتهامسون فيما بينهم عن هذا الخِطاب الطارئ وتسمع آذانهم هتاف وصَيحات أهل أماريتا الذين أحتشدوا خارج القصر منذ شروق الشمس وموسيقاهم التي إعتادوا أن تُصاحبهم كل خِطاب قبل أن يدلف إليهم الملك بزيه العسكري حاملاً بيده كتابً لم يتبَيَنُوه ثمَ جلس هادئاً وقال :

لم أهتم بِشؤون زيكولا مِن قبل مثلما إهتممت بها خلال أيامي السابقه لأعلم كم يمتلك حُكامها مِن كِبرٍ وكِبرياء لقد رفضت زيكولا العفو عن الطبيبة ولا أُخفيكم سراً لقد عاهدت نفسي وعاهدت الطبيبة النائمة إنني لن أدعها تموت ثمَ أَخرج زفيراً وتابع:

ولم يَعُد هناك مزيد من الوقت لإضاعته فقال السيد سدير: 

لم يعُد بيدينا شيء سيدي طالما رفضت زيكولا العفو عنها. 

فنهض الملك وتحرك إلى شُرفة قصره ونظر مِن وراء ستائرها إلى حشود شعبه الذين تَجمعوا في إنتظار خِطابه وطالت نظرته لِلحظات قبل أن يقول: 

أيها السادة إن لم يعُد أمامي سوى أن أُغير خريطة هذا العالم مِن أجل نجاة الطبيبة وسأفعل. 

ثمَ ألتفت إليهم وأردف: 


سأحتَل زيكولا مِن أجل أسيل..... 


*********************************************************

الفصل الثامن عشر


 فقال جرير: 

أُعذرني سيدي لا أفهم ما تقصده .. 

فقال: 

كما قلت يحتاج أسطولُنا إلى أكثر مِن ثلاثين يوماً لإعداده لِحرب كبرى مع بلد كبرى مثل زيكولا لكن أسيل قد لا تملك كل هذا الوقت .. ستُكمِل أسطولَك وقواتك وستُبحِر بهم يا جرير لكن الحرب لن تكون خيارنا الأوحد .. 

لقد قرأت كثيرا عن زيكولا وعلِمت مدى كِبر وَكِبرياء ذلك البلد ووضعت خطتي على هذا الكبرياء.. 

ستَتنَاقَل أخبار خِطابي سريعاً بين العامة وبين التُجار وسَتطير إلى جميع بلدان بحر مينجا بينهم زيكولا أسرع مما تتخيل سَتُحمل الأقاويل مدى الجدية التي تحدثت بها والحماسة التي يستعد بها مُقاتلينا ستنتشر الأخبار بين عامتهم إننا قادمون مِن أجل مَلِكَتُنا طبيبتهِم السابقة عائدون لنَنقِذِها أو ننتقم لها عما فَعَلوه بها.. 

على مدى العصور لم تُحارب زيكولا بأرضها ولم تسمح لبلد آخر بِحصارِها، سيعدون جيشهم بوقت قصير ليصدونا قبل أن نصل إلى أرضهم كما فعَلوها من قبل مع خصومَهم منذ قرون مضت سيفتح بابها ليخرج جيشهم ويحتل شاطئ مينجا الشمالي في إنتظارنا .. لا أريد غير ذلك أن يفتح بابها مرة أخرى إن الطبيبة في حاجة ماسة إلى دخول زيكولا مرة أخرى ولكن بابها قد أُغلق بعد مرور يوم عيدهم .. سأحرِك كبرياء زيكولا لِتُخرج جيشها ولن يُغلَق حتى تنتهي الحرب على شاطئ مينجا وكعادة تُجار الشمال سيجتمعون أمام بابها ليدخلوا إليها مطمئنين بخُروجهم مالم تنتهي تلك الحرب .. سأُبحر الليله مع أسيل كَتاجر للذهب وسأعبُر بابها بين تُجار البلدان الأخرى لا يعرفني أحد هناك، سأبَدِل ذهبي ذكاء لأُعطيه للطبيبة، ستُكمل بناء أسطولُنا لِتُبحِر بعد شهر مِن اليوم لكننا لن نخوض الحرب إن نجت لا يعلم بهذا غيرك.

وتابع:

لا توجد سهام النجدة المضيئة ببُلدَان غيرنا..

وأقترب مِن الخريطة المُجسمة على الجدار أمامهُما وأشار بإصبعه عليها:

سيتخذ جيش زيكولا أقصر الطرق إلى ساحل مينجا

وحرك أصبعه على الخريطة قليلاً إلى أعلى وقال:

هذا الوادي يسمى وادي بيجاناَ وادي ضيق لا يصلح لمرور عربات أو مجانيق وتفصله جبال شاهقة عن الوديان الأخرى وأقرب لبيجاناَ منه إلى زيكولا لذا لا حاجة لزيكولا إليه سيكون موضع إطلاق سِهامي سيظُن مَن يراها إنها شُهُب سماوية غير رِجالنا.

 وحرك أصبعه إلى بحر مينجا:

تحتاج السفن بعد هضاب ريكاتا إلى مسيرة خمسة أيام لتصل إلى الشاطئ الشمالي ستتناثر خمسة سفن مِن سفننا بين كل واحدة وأخرى مسافة يوم يعلو صواريها حادين البصر.

تستطيع أقرب السفن رؤية السهام لِتطلق سِهامها لتراها السفن المتناثرة مِن بعدها حتى هضاب الريكاتا ستوقف بعدها أبحارك لن تغفر لي أسيل موت الكثيرين في تلك الحرب.

فقال جرير:

وإن لم تطلق السهام؟

صمَت الملك ثمَ قال: 

ستمضي وقتها في طريقك مِن أجل عهد الرسل لن أغفر لزيكولا موت الطبيبة. 

فهز جرير رأسه ثم قال باسماً: 

لن يَنسى التاريخ ذلك الملك الذي عرَض حياة شعبه ونفسه للخطر مِن أجل أمرأة أَحبها.. 

فقال الملك: 

على قدر الحلم تكون التضحية يا صديقي. 

فقال جرير :حسناً سيدي ستجد مِن الجد بالعمل وإنتشار الأخبار ما يجعل زيكولا تعلم إننا قادمون لاقتلاعها لتخرج لنا كل مقاتليها عبر بابها.. 

وكاد يغادر فقال الملك: 

هناك شيء آخر.. 

ثمَ حَمَل ورقة مُصفرة مَختومة بالختم الملكي كانت ترقد على الطاولة أسفل كتاب ومد يده إليه بها وقال: 

سيكون أول قرار لك باسمي في غيابي. 

فانطَبعت دهشة بالِغه على وجهه وهوَ يقرأ ما بها ثمَ سأله: 

هل هذا صحيح؟ 

فأجابه باسماً: 

نعم.... 

*********************************************************

الفصل التاسع عشر


 كنا نُصارع الوقت بحق .. جسد الطبيبة بات نحيلا للغاية .. شُحوبِها كما هو لم يتغير .. كنت أجلس بجوارها بغرفتها أثناء خِطاب الملِك وعلِمت ممَن حولي إنَ سيدي قد عَزَم على غزو زيكولا مِن أجلها .. وتأكد حَدسي بأنها ستصبح سيدةَ أماريتا الأولى .. قبل أن تخبرني السيدة نجود بعد ساعات مِن الخِطاب بأن أستعد للرحيل مع سيدي والطبيبة على متن سفينة كانت ستغادر شاطئ أماريتا مع غروب شمس ذلك اليوم.. 

غرُبت الشمس وانطلقت بنا سفينة مَلَكِية عُمالها كثيرون حَمَلتني أنا وسيدي والطبيبة وإثنين مِن حُراس القصر لم يغادروا جِوار عربة خشبية كانت معنا على متنها .. علمت فيما بعد أن أحدهما قد زار زيكولا مِن قبل، وقُسِمّ قبو السفينة إلى غرفتين اتخذ الملك إحداها وأمرني إن أمّكُث بجوار الطبيبة بالغرفة الأخرى .. بعد أن أطمأن أنني أستطيع تثبيت سوائلها المغذية بِذراعها كما علمني طبيب القصر.

و مرت أيام سبعة ببحر مينجا دون أن أعي بم يفكر سيدي أو إلى أين تتجه سفينتنا ما أوقِن أن مَلِكنا لا يضع بباله شيئا سوى شفاء الطبيبة .. وحين أشرقت شمس يومنا الثامن دَلَف إلى حُجرتنا وقال لي دون مقدمات:

اليوم سنصل شاطئ مينجا الشمالي .. ستحملنا العربة إلى مَقرُبة مِن أرض زيكولا .. وسَنتخذ مبيتاً لِأيام بصحرائها حتى يُفتح بابها .. بعدها سنعبر إلى أرضها .. منذ أن تطأ أقدامنا الشاطئ ولم أعُد مَلِك أماريتا .. إنني السيد تميم تاجر الذهب القادم من الشمال إلى زيكولا .. والحارسان معي ليسا إلا مساعديّ.

فأومأت برأسي إيجاباً .. وأدركت سر ذلك الشرود الذي لم يفارق وجهه أيامنا السابقة.

مع غروب شمس ذلك النهار حملنا زورق صغير إلى الشاطئ بينما حَمَل آخر العربة وجواديها والحارسَين .. ثمَ أبحرت السفينة مُبتعدةً عنا وغابت شيئا فشيئا عن أنظارِنا مع إنسِدال ظلام الليل.

بِتِنا ليلتنا الثامنة بخيمة أعدها لنا الحارسان على شاطئ مينجا .. وإبتسمت حين تَذَكرت القافلة التي حملَتني أنا والطبيبة مكبلتين إلى هذا الشاطئ قبل خمسة أشهر .. كانت الطبيبة وقتها تَشُع طاقة وأملاً .. ودارت برأسي كلِماتها إلَي قبل مغادرتنا السجن الغربي بأنَّ أماريتا طريقها إلى سرداب فوريك قبل أن تُعيدها إلى حين غلبني الفضول وسألتها مجدداً بِعربة الفُقراء عن ذلك السرداب التي تحدثت عنه .. فقالت إنا أماريتا ستصبح طريقها إلى زيكولا ومِن ثمَ إلى أرض حبيبها .. لا أعلم إن كانت تدري بأننا نمضي قدماً في ذلك الطريق الذي تمَنته أم لا.

ثمَ بلغت دهشتي ذَروتها وكدت لا أصدق عيني حين نظرت إلى السماء ووجدت ذلك النجم اللامع بها .. أُقسم أنهُ هو ما أرَتني إياه قبل ليلة رحيلنا .. وأخبرتني أنَ حبيبها قد سماه بأسمها .. كان يلمع وحيداً مميزاً كانه يحتفل بعودة سيدته إلى بلاده مرة أخرى.

وفي صباح يومنا التالي وجدت سيدي قد بدل ثيابه العسكرية ليرتدي قميصاً قماشياً واسع الجيب وبنطالاً أسفل عباءة مُزَركَشة ليشبه تُجار بلادنا .. وقاد الحارِسان العربة نحو وادٍ رمليِ امتد بين جبلَين لاحا في الأُفق .. وجلست في صومعة العربة أمام سيدي شارِد الذهن بجواري سيدتي الطبيبة النائمة .. وَكعادته لم يحرك عينيه عنها إلا للَحظات غاب معها نظرَهُ عبر نافذة العربة التي أسرعت بنا تَعبُر سهولاً وودياناً في طريقها إلى صحراء زيكولا..

ومضت ساعات أخرى لم تقف خلالها العربة مرة واحدة .. حتى وصلت بنا أعلى إحدى الهِضاب مع اقتراب الشمس مِن المَغيب .. ثمَ أبطأت مِن سرعتها وتوقفت للمرة الأولى وهبطنَا إلى الأرض .. وبدأ الحارسان يعدان الخيمة مرة أخرى .. بينما حَمَل سيدي الطبيبة بين ذراعَيه وتقدَم بها ثابتاً تجاه حافة الهضبة .. فأسرعت خلفه حتى توقف على حافتها ونظر إلى أسفل بعيداً حيث ظهرت مدينة كبيرة ذات منظر بديع مِن أعلى بِها مبانٍ شتى تتخلَلُها مساحات خضراء كأنها أراضي زراعية ومسطحات مِن الماء يحيطَها سور صخري شاهق فاق كل أسوار المدن الأخرى التي رأيتها مِن قبل .. وبعدما طالت نظرته سمعته يهمِس إلى الطبيبة قائلاً:

تمنيت لو تدركين أين نحن الآن، ثمَ أكمل بعد لحظات:

لنرى ماذا تخبئ لي ولك هذهِ الأرض الملعونة..

كانت المرة الأولى التي أرى بها أرض زيكولا .. لَطالما سمعت عنها وعن لعنتها .. لكنني لم أظن يوماً أن أقترب منها إلى ذلك النحو .. حدَثني شاب بيجاني ذات يوم عن رحلته إلى تلك المدينة .. وعن تعامُلَهِم بوحدات الذكاء دون غيرها مِن البلاد .. وعن يومهم الذي يحتفلون به .. فيذبحون الأفقَر بِها .. فلَعنَتُها في نفسي .. وزاد حبي لبلادي قبل أن تدور الدائرة .. وتصبح بلادي أكثر لعنة وتُرسلِنا إلى أماريتا .. وها أنا أجلس بخيمة على أقرب الهِضاب إليها .. في إنتظار أن تحدُث المعجزة ويُفتح بابُها كما خَطط سيدي..

مَكثنا في خيمَتِنا لِأيام .. يمر وقتنا ببطء .. لم أشهد لهُ مثيل .. لا أذكر أن فارق سيدي حافة الهضبة إلا قليلاً .. كانَ ينظر بعيداً إلى زيكولا ويظل شارداً لِأوقات طويلة .. قبل أن يهبط ظلام الليل فيعود بظَهَره إلى الرِمال ليُحَدق بنجوم السماء حتى يغلبه النعاس .. ثمَ ينهض مع شروق نهارنا التالي .. فيشبه يومنا سابقه .. فإن شَعر بتسرب اليأس إلى قلوبنا اقترب مِنا وحدثنا بأنها ستُفتح بابها .. ثمَ يمسح بيده على وجه الطبيبة ويَهمس إليها بأنها ستنجو..

ثمَ حدث التغير الأول يومنا التاسع .. حين فوجئت بسيدي يصيح فجأة بِثلاثتنا - أنا والحارسَين - بأن نقترب مِن الحافة .. وأشار إلى عَربتين تسيران بطريق يتجه إلى زيكولا .. ثمَ حدث الأمر نفسه في يومنا العاشر والحادي عشر ومرت عربات أخرى كانت أكثر عدداً بالطريق ذاته .. ثمَ انخلع قلبي يومنا الثاني عشر .. حين حاصَرَنا مِن كل جانب صدى صوت لِدقات طبول إنطلقت فجأة مع شروق الشمس .. كان إيقاعها قوياً مخيفاً .. ثمَ توقفت لِتصرخ الأبواق عالياً .. ثمَ دُقت الطبول مرة أخرى إيقاعاً منتظماً رَج صداه الصحراء مِن حولنا .. فوجدت سيدي يقف منتصباً على حافة الهضبة .. لا يحرك ساكناً فاقتربنا منه لنرى رايات حمراء كبيرة قد عُلقت على سور زيكولا .. ولاح بالأفق بعيداً غبار كثيف يتصاعَد إلى السماء تلاشت معه رؤية ما خلفه من سور زيكولا ومبانيها .. فَنَطق الملك هائماً:               
- اليوم، كُتبت النجاة للطبيبة... 

*********************************************************

الفصل العشرون


 استمرت دقات الطبول وصدى صوتها مِن حولنا وبلغ الغبار عنان السماء كُسِيَ معه الطريق الرملي أمام زيكولا بِغطاء أسود لامع .. نما زاحفاً بإنتظام كبُساط يخرج مِن زيكولا دون نهاية كونت أنسجته ألوف من الجنود الذين أصطفوا كالنمل بخوذهم ودروعهم في صفوف متساوية بلغ الصف الواحد المئات منهم كانت صيحاتهم عالية تدوي في تناوب مع دقات الطبول .. دق قلبي خوفًا واحمرت وجنتاي ونظرت إلى سيدي الواقف بجواري مُحدقا بتلك الجحافل التي تخرج مِن زيكولا دون إنقطاع .. ثمَ قطع صمته الطويل ونظر إلى الحارسَين خلفنا قائلاً:

أعِدّا العربة كما أخبرتكما سابقاً.

ثم نظر إليَّ وقال:

انزعي سوائل الطبيبة سنبدأ طريقنا إلى زيكولا.

فَعُدت إلى الخيمة وفعلّت ما أمَرَني به .. ثمَ جاء الحارسان بصندوق كبير كان مثبتاً بمؤخرة العربة منذ تحركنا .. و وضعاه بجوار الطبيبة وفتحاه فوجدته مبطن بوسائد بيضاء رقيقة ثمَ حمَل سيدي الطبيبة وأرقدها برفق بذلك الصندوق ومد يده إلى جوانبه وإطمئن إلى وجود ثلاث ثقوب دائرية صغيرة واحد بكل جانب من جوانب ثلاثة .. ثمَ غطى سيدتي بلوح خشبي رقيق طُلي جانبه العلوي بماء الذهب وجاء الحارسان بصندوقين آخرين كانا معنا داخل صومعة العربة وفتحاهما لأجدهما ممتلآن بسبائك ذهبيية لَمعت بشدة مع إشعة الشمس التي تسربت إلى الخيمة وبدءا يصفان تلك السبائك أعلى اللوح الخشبي حتى انتهيا فبدا الصندوق وكأنه ممتلئ عن آخره بالذهب .. ثمَ حملاه إلى داخل العربة وتبعتهما لأجلس بجواره .. ثمَ دلف سيدي إلى صومعة العربة بعدما أزال الحارسان الخيمة وإنطلقنا في طريقنا إلى أرض زيكولا.

إتخذنا طريقاً متَعرِجاً هبط بنا مِن الهضَبة إلى الطريق الترابي إلى زيكولا .. ثمَ إنحرَفت بنا العربة إلى جانب الطريق بعيداً خلف عربات أخرى كانت في طريقها إلى زيكولا .. ثمَ توقفنا بأمر مِن سيدي حين توقفت تلك العربات أمامنا بعدما أقتربت منا طلائع الجيش الزيكولي.

وهبط سيدي إلى الأرض ووقف بجوار العربة حين بدأت صفوف الزيكولين تمُر على الطريق أمامنا بينما مَكثت بالعربة أُراقبهم عبر النافذة بجواري كان وقع أرتطام أقدامهم بالأرض قوياً يهز الأرض مِن أسفلنا تُحلق معه صيحاتهم الحماسية إلى السماء وتلمع أسلحتهم ودروعهم مع إشاعة الشمس دون أن يلتفت أحدهم جانبا كأننا غير مرئين يتوسطهُم حاملي الطبول التي لا يتوقف إيقاعها ويتناثر بينهم حاملي الرايات التي ترفرف عالياً بين الصفوف.

لم أتخيل أن يكون عددهم كبيراً إلى ذلك النحو وظللنا واقفين حتى أقتربت الشمس مِن منتصف السماء فإنتهى الثلث الأول منهم .. ثمَ ظهر الثلث الثاني مع دقات طبول اختلف إيقاعها كانوا فرساناً تغطي وجوههم خوذ مخيفة ويحيط أعناق بعضهم عقود مِن الورد تسير جيادهم ببطء في محاذاة تتمشى بدقات الطبول مِن حوله كان عددهم كبير للغاية لا يقل عن بضع آلاف بأقل تقدير .. ثمَ دقت الطبول إيقاعاً آخر فظهر أمامنا الثلث الأخير مِن جنود تجُر خيولهُم أبراجاً شاهقة لم تتضح لي معالمها بعدما غطت بأغطية قماشية كان عددها بالعشرات تتبعها عربات كثيرة تغطي صناديقها الممتلئة بأقمشه هي الأخرى ويجُرها خيول بدت غير قادرة على جرها لولا سياط الجنود المُنهالة على أجسادها فسمعت أحد الحارسين يقول للآخر:

إنها مجانيق زيكولا الزيتية يستطيع الواحد منها إحراق مدينة كاملة..

فَنظرت إلى سيدي الواقف بجوار العربة وأدركت أنهُ شَعر بما شعرت به .. ما رأيته أن ذلك الجيش لم يخرج لِيُدافع عن أرضهِ فحسب .. بل خرج ليعبر بحر مينجا إلى أماريتا.

أكملّنا طريقنا إلى زيكولا بعد ساعات من إنتظار مرور جيشها .. وابتلعت ريقي رهبةً .. حين ظهر أمامنا سورها الشاهق وبابهُ الضخم المفتوح على مصراعيه .. كانت الساحة أمامه مليئة بالهرج والمرج مِن أهالي زيكولا الذين خرجوا نساءً ورجالاً وأطفالاً ليودعوا جنودَهم حاملين عقود الورد ومطلقين الأغاني مع عازفين إنتشروا بينهم .. ومِن عربات التُجار التي تزاحمت أمام باب زيكولا في إنتظار عبورها إلى داخل المدينة .. ثمَ أبطأت عَربتنا مِن سرعتها بين الزحام وتوقفت فجأة وفتح بابنا ليسألنا احد الحُراس باقتضاب:

مَن أنتم؟

فَرَد سيدي في هدوء:

السيد تميم تاجر للذهب جئت مِن الشمال.

ثمَ فتح صندوقهُ فلمَعت سبائك الذهب وزاغت عيناَ الحارس قبل أن يومأ برأسه إلينا إيجاباً ويرحب بنا في زيكولا ويصيح بآخر كي يفسح لنا الطريق .. تحركت العربة لتعبُر باب زيكولا فأمسكت برأسي بعدما أصابها ألمٌ شديد مفاجئ حتى إنني إنزلقت بين مقعدي العربة وأغمضت عيني لألتقط أنفاسي بصعوبة .. سَرت بجسدي رَعَشة لم أشعر بها مِن قبل .. بينما أغمَض سيدي عينه دون أن يظُهِر ألمه .. ثمَ بدأ الألم يتلاشى شيئاً فشيئاً .. فسألني سيدي إن كنت بخير .. فعُدت إلى مقعدي و أومات برأسي إليه إيجاباً فقال لي:

إنها لعنة هذا البلد .. لمن يدخلها مرتهُ الأولى.

فَدَق الخوف بقلبي ونظرت إلى باب زيكولا الذي عَبرناه وجال بخاطري للمرة الأولى:

ماذا لو أُغلق ذلك الباب ولم نكن قد خرجنا بعد؟!

دَلَفَت العربة إلى المنطقة الشرقية لِزيكولا .. و وجهت قمر نظرها عبر نافذتها لترى ضواحيها ومبانيها التي كانت تشبه إلى حد كبير مَثيلاتها في أماريتا .. حيثُ البيوت المتلاصقة على جانبي الطرقات المُعبَدة .. ودُهِشت حين وجدت الكثيرين يملؤون شوارعها رجالاً ونساءا بعدما ظنت أنها ستجدها خاوية على عروشها مع خروج جيشها الضخم إلى صحرائها وكأن مَن خرجوا ليسوا إلا جزء يسير منهم..

أكملت العربة تقدمها بشارع واسع مُعَبَد .. ثمَ توقفت أمام إحدى الحانات بأمر مِن المَلك تميم الذي تَرجل ودَلَف إلى الحانة وسأل صاحبها عن بيت يستأجره لعشرين يوما فَدله إلى أحد البيوت مقابل عشر وحدات مِن ذكائه كانت أولى الوحدات التي يفقدها بهذا البلد ونظر إلى يديه كأنه يتأكد من شحوبهما فداعبه الرجل قائلاً:

- إنها ليست إلا عشر وحدات أيها الغني.

فَأومأ الملك برأسه إيجاباً دون أن ينطق وعاد إلى العربة التي أكملت سيرها في الإتجاه الذي وصفه رجل الحانة حتى توقفت أمام بيت صغير أحاطه سور من قوائم حديدية .. وهبط مع أحد الحارسَين ودلفاَ إلى داخله وإلتقيا صاحبه ثمَ عاد إلى العربة بعدما إستأجر بيته مقابل مأئتي وحدة مِن ذكائه ولاحظت قمر شحوب شفتيه قليلاً لكنها لم تُحدثه بشيء بعدما بدا الوجوم على وجهه .. ثمَ أمَر حارسيه أن يحملا صندوق الذهب إلى داخل البيت .. فَحَملاه إلى رُدهَته وأسرعا يعيدان الذهب إلى الصندوقين الصغيرين و أزالا اللوح الخشبي وحمل أحدهما الطبيبة إلى سرير بإحدى الغرف العلوية فأسرعت إليها قمر ووضعت أذنها على صدرها وسمعت دقات قلبها .. ثمَ ثبتت بِذراعها سن أنبوب سائلها المُغزي وتأكدت مِن سريانه فابتسمت ونظرت إلى مَلِكِها الذي بدا قلِقاً فطمأنته ابتسامتها قبل أن يغادر على الفور ويمتطي حصانه بينما أمتطي حارسه الذي زار زيكولا مِن قبل الحصان الآخر معه أحد صندوقي الذهب وإنطلقا في طريقهما إلى المنطقة الوسطى.. 


*********************************************************

الفصل الواحد وعشرون


 لا أعلم سر ذلك القلق الذي أجتاح داخلي منذ عبورنا باب زيكولا .. إنني أثق بسيدي تمام الثقة ولكن ما رأيته مِن ثقة أهل هذهِ الأرض بقوة جيشهم وكأن خروجه حدث طبيعي جعل قلبي يدق خوفاً ولم يتوقف عقلي عن التفكير منذ خرج سيدي لبيع ذَهبه وتركني مع سيدتي النائمة وصندوق ذَهبه الآخر وحارسه النائم بالطابق السُفلي و وقفت بشُرفة الغرفة أُشاهد أهل المدينة الذين لم يكُفوا عن الإحتفال ولم يفارق خيالي مشهد يعود فيه جيشهن منتصراً بعدما عبر هضاب الريكاتا وأحكم قبضته على أماريتا لِتسري هناك أيضا لعنة وحدات الذكاء وقوانين زيكولا ومشهد آخر يغلق فيه بابها لأشهَر قادمة حتى يوم عيدهم ومشهد ختامي لِفتاه شاحبة حَليقة الشعر يستعد السياف لقطع عنقها لما كشف عن رأسها لم تكن سوى أنا الخادمة المطيعة لِملك أماريتا وحبيبته فإنقبض صدري وتحسست رقبتي وعُدت إلى الغرفة وجلستُ بجوار سيدتي وأمسكتُ برأسي علّه يتوقف عن التفكير وحدثتُ نفسي: 

 أسكت أيها العقل لطالما سمعت أن تفكيرك يستهلك مِن وحدات ذكائك أرجوك توقف.. 

 ثمَ نظرت إلى سيدتي وهمست إليها في توسُل: 

 أرجوكي سيدتي لا تخذلينا أرجوكي.

 ثمَ وضعت رأسي بين ذراعي بجانبها فغلبني النعاس دون إرادتي لم يوقظني سوى وقع أقدام سيدي الذي عاد مع منتصف ليلتنا فنهضت مسرعة وعُدت خطوات مبتعدة عن سرير سيدتي وإنحنيت أمامه حين دَلَف إلى غرفتنا بوجه مُتورد يشُع أملاً لم أره منذ مرض الطبيبة وإقترب منها متلهفاً ثمَ جثا على ركبتيه وأمسك بيدها وأغمض عينه وتحركت شفتاه ليهمس إليها بكلمات لم أتبينها ثمَ قبل يدها برفق فدق قلبي حين وجدت تورد وجهه يتلاشى كأنه يُسلَب منه ثمَ فتح عينيه ونهض ليقف بجوار سريرها توقفت أنفاسُنا جميعاً وحدَقنا بالطبيبة في إنتظار تبدُل لونها الشاحب لاكن شَيءً لم يحدث فَجَثاَ سيدي على رُكبتيه مرة أُخرى وأمسك بيدها وهمس إليها بِكلماته مجدداً وأغمض عينيه وقبل يدها فلم يتبدل شيء سوى وجهه الذي صار شاحبا قليلاً فكاد يمسك يدها للمرة الثالثة فَنطق الحارس مِن خلفنا:

 - سيدي إنك الآن تفقد مِن ثروتك التي جئت بها مِن أماريتا .. لقد أنفقت ثروة الذهب بالفعل لكن جسد الطبيبة لم يتقبلها..

 فجمدت حركته للحظات وضع خلالها رأسه بين يديه وأغمض عينه وكأن الزمن توقف من حوله قبل أن ينهض فجأه ويركل بقدمه صندوق ذَهبه المتبقي غاضباً فتناثرت سبائكه وبعضاً مِن السهام المضيئة كانت بالصندوق أيضا فإلتقطها والقاها بعيداً فتهشم بعضها وصاح:

 اللعنة عليكِ أيها البلد اللعنة على قوانينكم..

 ثمَ ضرب بيده على طاولة كانت أمامه .. ونظر إلى الطبيبة وقال:

 أُقسم إنني لن أخذل إستنجادك بي .. أُقسم لك إنني لن أُغادر هذا البلد إلا وأنتي بجواري تَبتسمين كما كنتِ دوما ثمَ هدأ صوته وأكمل:

 لم تعُد هناك حاجة للسهام المضيئة لم يعد هناك حل سوى عهد الرسل سيصل إلينا جيشنا ليكسر أنف هؤلاء الملعونين اللعنة عليهم .. اللعنة عليهم.

 ثمَ جلس على أرضية الغرفة وأسند ظهره إلى حائطَها فأسرعت أُلَملِم سبائك الذهب والسهام المتناثرة لاضعها بصندوقها وتختطف عيناي نظرات إلى وجهه الشارد الغاضب وتتردد إلى أذني كلماته بِأن لا يغادر هذا البلد وكان ما جال بخاطري قبل ساعات قد بدأ في تحقُقه للتو.>, كنت قد لَمِلمِّت الذهب والسهام المضيئة المتناثرة وأعدتُها إلى صندوقها، وإتجه سيدي إلى غرفته بعدما نَصحُه حارسه بأن ينال قسطاً مِن الراحة بعد عناء يومه، وأطفئت مصابيح البيت لتغمض الأعين مع ظلام تلك الليلة العصيبة إلا عيني أبت أن تتلاقى جفونهما كلما أغمضتهما صرخ صوت الملك إلى الطبيبة بأذني .. لن أُغادر إلا وأنتي بجواري تَبتسمين .. 

 الليلة لم يعُد هناك مفرٌ مِن الحرب الكبرى بين زيكولا وأماريتا .. أي رجل هذا الذي يضحي بشعبه مِن أجل أمرأة وأولهم أنا؟

 عاد إلى رأسي مشهد إغلاق زيكولا ونحنُ بداخلها لِنبقى عاماً كاملاً هنا أشتعل عقلي بأسئله دقت للمرة الأولى:

 ماذا إن أنفق سيدي ما تَبقى مِن ذهبه وماتت الطبيبة؟

 إلى متى يتحمل ذكاؤه نفقات معيشتنا؟

 ماذا إن أصابه بُخل أهل زيكولا وتبرأ منا فجأة؟

 لسنا سوى خدَمه، ماذا أفعل وقتها في هذا البلد الغريب بضعف جَسدي هذا؟ ولاح أمام عيني مجدداً مشهد احتفالات زيكولا بذبحي على مَنصة أمامهم، قبل أن أثب وأنهض وسط ظلام لأشعل مصباحاً صغيراً ثمَ وجدت نفسي أفرغ حقيبة قماشية كانت تحوي ثياب الطبيبة وأقتربت مِن صندوق الذهب فتحته برفق عبأت الحقيبة مِن آخرها بسبائك الذهب لم أترك إلا سبيكة واحدة لم يكن لها حيزاً ونظرت إلى الطبيبة النائمة والخوف يقتلني وهمستُ إليها:

 عذرا سيدتي لن أدفع حياتي ثمناً لخطأك ..

 ثمَ حملت الحقيبة الثقيلة وحدثت نفسي:

 لن أعود وصيفة قصر الملك بعد اليوم .. سيجعلني هذا الذهب مِن أثرياء زيكولا ولن أكون في حاجة إلى مغادرتها..

 ثمَ فتَحَت الباب بحذَر وأطمئننت إلى غلق باب غرفة سيدي ونَوم حارسيه بالأسفل وهبطت سُلم البيت الداخلي وعَبرت رُدهته على أطراف أصابعي حتى وصلت بابه الرئيسي وغادرته وسرت لا أعلم وجهتي أحمل حقيبة الذهب يدق قلبي خوفاً مِن تلك الشوارع التي سادها السكوت مع ذلك الوقت المتأخر مِن الليل وأتلفت بين لحظة وأخرى إن حرك الهواء شيئاً مِن خلفي، ثمَ رأيت جنديا يمر بعيدا فتواريت بِجسدي حتى مر ثمَ أكملت مسيرتي، و وجدتُ نفسي أمام الحانة التي توقفنا أمامها نهاراً ودَلّنا صاحبها إلى بيت نستأجره فدَلفت إليها فوجدت بضعاً مِن رجال زيكولا يجلسون على طاولاتها الخشبية ويقف صاحبها أصلَع ممتلئ البطن بأحد أركانها خلف طاولة رُخامية يُنظف أكواب شرابه الزجاجية فأقتربت منه وسألته عن غرفة أبيت بِها فأجابني:

 لدي غرف بالأعلى عشرون وحدة ذكاء لِليلة تشمل طعامك .. فَأرتَبَكت لم أفقد ذكائي مِن قبل ولا أعلم كم أمتلك من وحدات ولكني وافقته وأخبرته إنني سأبيت ليلتين وسأدفع عن كل ليلة أخرى أبيتها بعد ذلك .. فأومأ إلي برأسه إيجاباً .. ثمَ أشار بيده إلى سُلم خشبي .. وحدثني بأن أصعد إلى الطابق العلوي وأختار أي غرفة شأت فصعدت ودلفت إلى أولى الغرف التي قابلتني وأحكمت إغلاق بابي وألقيت بجسدي على سرير نَتِن الرائحة أحتضنت بين ذراعي حقيبة ثروتي القادمة لتعطيني دفئاً لم أشعر به مِن قبل وأغمضت عيني في إنتظار حياة جديدة لا تعرف شيئاً عن كلمتي الذل والفقر.

 خمسة أيام أخرى لم أُغادر الحانة، ولم تتوقف وساوسي عن ضجيجهَا، كلما هدأَت .. إشتعلت مِن جديد لِتُحدثَني بأن الطبيبة باتت على وشك الموت .. بعدما توقفت سوائلها المغذية مع هروبي .. وأنَ الملك يبحث عني بكافة أرجاء المنطقة الشرقية ليقتص مني .. ما يطمئنَني أنهُ لن يستطيع إخبار جنود زيكولا بِأمري .. ما يقلقني أنَ صاحب الحانة يستنزف من وحداتي يوما بعد يوم .. ولم أعرف بعد عن مناطق زيكولا وطرقها وتُجارها، ولن أستطيع مغادرة هذهِ المنطقة إلى منطقة أخرى وحدي قبل أن أجد مَن أثق به ويرافقني إلى مكان بعيد عن هنا .. ثمَ جاء مساء اليوم الخامس ودق بابي صاحب الحانة مُطالِبا بوحداته عن ذلك اليوم فدفعت له .. وكادَ يغادر فاستوقفته وفَلَتَ مني لساني وسألته إن كان يعرف تاجراً للذهب .. فأجابني:

 أعرف كل شيء هنا .. لدي جميع الزبائن..

 فقلت:
 أُريدك أن تصلَني بأحدهم..

 قال وهوَ ينظر إلى الحقيبة المغلقة على سريري:

 خمسون وحدة ذكاء لي وسأجعلك تقابلينه الليلة..

 فصمت ثمَ قُلت:
 حسناً
 مرت ساعات قليلة أخرى وطَرَق بابي مجدداً ليخبرني بأن تاجره ينتظرُني بالأسفل، فلَفَفت سبيكة داخل لُفافة قماشية ووضعتُها بين ملابسي وهبطت إلى الحانة .. فأشار إلى نحو طاولة برُكن بعيد كان يجلس عليها رجل لم أتبين ملامحه فأقتربت منه وسَحبت مقعدي جلست أمامه، كان رجلاً أربعينياً طيب الوجه .. توقف الشراب بِحلقه حين أَخرجت السبيكة مِن لُفافتها لتلمع مع ضوء مصباح الطاولة، وحدثته دون مقدمات:

 أريد أن أبيعها

 فَمَدَ يده وأمسكها منبهراً وقال:

 ذهبٌ جنوبيّ!!

 قلت:
 نعم

 فقال دون تردُد:

 السبيكة مقابل أربع مائة وحدة ذكاء .. لن تَجدي هذا السِعر أبدا بِأي مكان آخر.. 

 فإنفرجت أساريري وابتلعت ريقي بعدما حسبت كم سبيكة أمتلكها وكم سأجني بعد بيعهِم وقلت دون تفكير: 

 لدي الكثير .. أكثر من خمسين سبيكة.. 

 قال: 

 إن أردتي بيعها جميعاً لدي خزائني ببيت مجاور.. 

 فتساءلت فرِحة: 

 جميعها 

 قال: 

 نعم .. جميعها 

 فقلت باسمة: 

 حسنا يا طيب الوجه .. انتظرني. 

 ثمَ ركضت إلى أعلى والسبيكة بيدي ودلَفت إلى غرفتي .. حملت حقيبتي وعُدت بها إليه ثمَ خرجت معه ليحدثني عن عشقه بذلك النوع مِن الذهب وظل يُثرثر كثيرا حتى دق قلبي خوفاً مِن ذلك السكون بشوارع زيكولا .. فتوقفت قدمايْ كي أعود مجدداً إلى الحانة .. ففوجئت برجُلَيّن آخرين يُمّسِكاّن بي ويجذبان الحقيبة مِن يدي .. بينما لَكَم وجهي ذلك التاجر وسَبَّني ونزع أحدُهما الحقيبة وركضا .. فأطلقت صرخةً فأمسك التاجر اللص بشعري بقوة .. كَمَم فمي بيده الأخرى .. ثمَ جَرني إلى زقاق جانبي .. فعضضت إصبعه وصرخت مجدداً .. فأخرج خِنجرَه وكاد يطعنني لولا تلك اليد التي أمسكت بِمعصمه فجأة .. تلكُمهُ اليد الأُخرى تسقطَهُ أرضاً .. لينهض ويركض مبتعداً خلف صاحبيه، وأنا أقف ذاهلة تسيل الدماء مِن أنفي غير مصدقه إنني فقدت حقيبة ذهب .. ثمَ قطع شرودي صاحب اليد التي أنقذتني قائلاً:

 لا تسير فتياتنا وحدها في هذا الوقت المتأخر مِن الليل..

 مد يده يمسح تلك الدماء على وجهي .. فأرتعد جسدي وأبعدت رأسي وإلتفت إليه خائفة .. فوجدته شاباً قوياً أبعد يديه ورفعهما بِجوار رأسه مُطمئناً لي وقال:

 يبدو أنكِ غريبة عن هذهِ المنطقة.

 فأومأت برأسي إيجاباً .. وأنا أُغَمِغِم إلى نفسي باكية .. بأن كل شيء قد إنتهى .. فحدثني هادئا: 

 سيغدو كل شيء على ما يرام سيدتي. 

 ومد يده مرة أخرى ومسَح دماء وجهي برفق .. فلم أُبعِد رأسي ثمَ قال: 

 أنا أيضاً غريب عن هنا.. 

 فَنَظرت إليه لأرى ملامح وجهه فأبتسم وأكمل: 

 اسمي إياد .. أعمل بتكسير الصخور .........    
*********************************************************

الفصل الثاني وعشرون


 ظرت الفتاة الباكية إلى وجهي حين أخبرتُها بإنني غريب عن ذلك المكان مثلها .. وأكملت قائلاً: 

اسمي إياد .. أعمل بتكسير الصخور.. 


ثمَ جلست بجانب الطريق وزادت دموعها وقالت: 

لقد خسرت كل شيء سيدي .. خسرت سيدي .. وخسرت سيدتي .. وخسرت الذهب .. وخسرت الكثير مِن الوحدات لصاحب الحانة .. لم أربح شيئا واحدا منذ دخولي هذا البلد..          

فجلست بجانبها وقلت هادئاً: 

يبدو أنَ خِسارتك عظيمة .. لكن ما أعرفه أنَ زيكولا طبيعة خاصة ستعتاديها مع الوقت إن أردتي البقاء.. 


فقالت وهيَ ترتشف دموعها: 

لا أريد البقاء .. لكنني في الوقت ذاته لا أعلم أين أذهب .. لا أعلم إن كنت أستطيع العودة إلى بلدي أَم لا .. لا أملك حصاناً أعود به .. حتى وإن عدت لا أعلم إن كان حُراس المدينة سيسمحون بمروري أم سيعيدونني إلى السجن الغربي ليُرسِلونني إلى أماريتا فيقتلني سيدي .. إنها لعنة أن تُولد فقيراً في بلد فاسد ضعيف.. 

سألتها: 

مِن أي بلد أنتي؟ 

قالت: 

بيجاناَ 

قلت: 

بلد الطبيبة أسيل؟ 

قالت: 

نعم 

فسألتها مجدداً: 
                      

هل قابلتيها مِن قبل؟ 
                       

صمتت قليلاً ثم قالت: 
                       

لا. 
                       

قلت بصوت هادئ: 
                    

لابد أنها تعاني كثيراً بعد إقرار زيكولا خيانتُها بتُهِمَتَيّن لِلخيانة .. فَمسحت دموعها وسألتني في دهشة: 
                       

تُهِمَتَيّن؟ 
                       

قلت: 
 
نعم 
                       

قالت: 
                        

ما نعرفه إنها اتهمت بالخيانة بعد إعطائها الفقير وحدات من ذكائها بعدما اختارته الزيكولا 


                          

قلت: 

هناك تهمة أخرى .. بعدما أُكتِشف نفق أسفل بيت بالمنطقة الغربية يعبُر سور زيكولا .. ووشي خادم البيت بأنه قد رآها كانت مسكينة يعرفها أهل زيكولا جميعهم.. 


                          

وأكملت: 

كنت أنا صاحب فكرة ذلك النفق لِعبور صديقنا الغريب إلى بلاده لكن الخادم لم يعرف اسمي ولم يشي عني إلا بِصفات عامة يمتلكها الكثير مِن الشباب 


                          

سألتني: 

أكنت تعرف حبيبها؟ 


                          

فأدركت أنها تعرف الطبيبة .. ثمَ أجبتها: 


                          

نعم .. كان الصديق العزيز لِصديقي لقد جاء إلى زيكولا بضعة أشهر ليبَدِل حياتنا جميعا .. تركت المنطقة الغربيه التي أحبها وجئت إلى هنا حيثُ لا يعرفني أحد .. وَرحَل صديقي عن المنطقة الشرقية وأعتقد أنَ الطبيبة قد فارقت الحياة في بلدكم لم تكن تستحق ذلك .. كنا أكثر مَن يعلم كم كانت تُحبُه..        
                

فقالت: 


إنها هنا 


فَنظرت إليها مترقباً حديثها فتابعت: 


إنها في زيكولا .. لكني لا أعلم إن كانت لاتزال على قيد الحياة أَم لا.. 


وتساقطت دموعها مرة أخرى وقالت: 


لقد ترَكتُها منذ ستة أيام .. إنني خادمتها وخائنَتُها .. لقد سرقت ذهب سيدي الذي جاء به من أجلها .. لقد عانت كثيراً أكثر مما تتخيل فقلت دون تفكير: 


أريدك أن تدُليني إلى مكانُها. 


كان الأوان فجراً .. حين طرقت باب البيت الذي دَلَتني إليه فتاه بيجاناَ وأخبرتني إنَ الطبيبة بداخله .. قبل أن يجيبني صوت أحدهم ويفتح بابه .. كان شاباً قوي البنيان مرهق الوجه والعينين منبت اللحية أدركت أنهُ تاجر الذهب الذي وصفته لي الفتاة .. لكني لم أبصر حارسيه كما أخبرتني وسألني حين وجدني أمامه: 


مَن أنت؟ 


قلت: 


أريد أن أرى الطبيبة 


قال:  


لا يوجد أطباء هنا 


وكادَ يغلق بابه فقلت: 


لقد كنت أحد شركاء خيانتُها .. وأعلم أنها لاتستحق هذا المصير.. 


فتوقف عن إغلاق بابه وحَدق بي وسألني: 


السارقة مَن أخبرتك؟ 


فأومات برأسي إيجاباً .. وتابعت:


أخبرتني أيضا إنكم تظنون إنها تهمة واحدة لا تُهمَتَيّن


فسألني متعجبا:


أي تهمة أخرى؟


قلت:


الأقتراب مِن سور زيكولا .. لقد اكتشفوا نفقاً حفرناه مِن أجل عودة صديقنا إلى بلاده..


فصمت الشاب مفكراً فقطعت صمته وقلت: 


أريد أن أراها.. 


فأشار إليَ بأن أدلُف إلى الداخل .. وصعدنا إلى غرفتها فأضطرب جسدي حين وجدتها نائمة سقيمة الوجه نحيلة لِلغاية .. يكادَ جِلّدها يلاصق عظمها ونطق لِساني: 


إنها لم تفعل شيئا سوى إنها أحبت خالد 


فقال هادئاً: 


حدثني عن ذلك الشاب وذلك النفق.. 


فحدثتهُ عن ذلك اليوم الذي دَلَف به خالد إلى زيكولا .. وعن صداقته بِيامن .. وعن عمله مساعداً للطبيبة بحثاً عن كتابه الذي تحدث عن أرض أخرى وطريق إليها يسمى سرداب فوريك .. وعن ذلك اللغز الذي وُضع بكتابه .. وذلك النفق الذي حفرناه بالمنطقة الغربية كي يصل إلى سردابه ويعود إلى بلاده .. ثمَ حدثته عن حب الطبيبة له الذي بدا لنا جميعاً .. وعن يوم زيكولا الذي جاء فجأة ولم يكن قد إستعاد ثروته فاختارته الزيكولا ذبيحاً لِيومنا .. قبل أن تعطيه الطبيبة مِن ذكائها مقابل قُبلة منه مخالفة لِقوانين بلادنا..        
                

ثمَ تابعت بعدما لاحظت تبدُل وجهه: 


كانت الطبيبة تعلم إنَ زيكولا لا تذبَح أبدا أَغنياءها ..  


وكانت تملك الكثير من وحدات الذكاء .. فأعطته ما جعلهُ غنيا .. وأنقذت حياته .. وتركت بلادنا ليعلنها حاكمنا خائنة .. ثمَ اكتُشف ذلك النفق .. وَوشى خادم البيت عن رؤيته لها هناك مع الغريب الناجي من الذبح .. فأُتِهمت مرة أخرى بالخيانة .. ولأن زيكولا لا تَذبَح أَغنياءها .. طُبِق ذلك القانون حديثاً كي يصبح الخائن فقيراً .. فيُذبح دون أن تُمس عقائد زيكولا.. 


فقاطعني قائلا: 


حاولت أن أُعطيها ثروة مِن الذكاء فلم تُجدِ .. 


أجبته: 


منذ إعلان ذلك القانون .. ومُنع الخائنون مِن أي تعامل جديد بوحدات الذكاء .. تستطيع أن تقول أن هذا القانون حصار اقتصادي قاتل لمَن يُتَهَم بالخيانة.. 


فصمت مفكراً وطال .. بينما نظرت إلى الطبيبة مشفقاً عليها ثمَ سألني فجأة: 


هل ذكر القانون شيئا عن المعاملات القديمة للخائن؟


قلت:


وُضِع الحق للجميع بِأن يستعيدوا وحداتهم دون مقابل .. وهذا سبب ما حدث للطبيبة


فقال:


أعلم هذا .. لكن هل ذكر القانون ماذا إن كان الخائن يدين أحدهم بوحدات مِن الذكاء؟


قلت:


لا أعرف .. ولكن إن كان للخائن دَين عند أحدهم لن يرده أبداً .. أنا أعرفهم جيداً


قال:


هذا إن كان زيكولي


فسألته:


ماذا تقصد؟


فَنَظر إلى الطبيبة وقال:


لا يقدم البشر قانوناً كاملاً.


ثمَ تابع:


لِأسيل دَين كبير لدى صديقكم الغريب .. هي في أشد الحاجة إليه..


قلت في دهشة:


خالد


قال:


نعم .. طالما تحدث قانونكم عن منع التعاملات الجديدة بالذكاء لم يعد أمامنا سوى أن يرُد الغريب دَينه القديم إلى الطبيبة..


و أردف:


لابد وأن يعود الغريب إلى زيكولا مرة أخرى.


سكتُ مفكراً، ونظرت إلى أسيل مرةً أخرى وحدق بي التاجر الشاب في إنتظار إجابتي ثمَ قال حين أطلت صمتي:


أيها الشاب سأعطيك ما شئت مِن الذهب إن ساعدّتَني لِنجاتها .. وأكمل حين ترقبت وجهه: 


لا أمتلكه الآن .. ولكني لا أنقض وعودي.. 


فأبتسمت وقلت: 


إن علمني الغريب شيئاً .. فكان أن أُساعد أحدهم دون مقابل .. وكما أخبرتك إنني أؤمن أنَ الطبيبة لا تستحق هذا المصير .. لكننا لا نعلم إن كان عاد إلى وطنه أَم فشل في ذلك.. 


فأقترب مِن الطبيبة ومسح وجهها وشعرها القصير بقطعة قُماشية مبللة ثمَ ثبت أُنبوبا معدنياً بِذراعها وتأكد مِن سَريان سائله فتابعت متحمساً: 


وعلمني أيضا أن أُحاول طالما يدق قلبي. 


وأكملت: 


أنَ النفق لم يُهدَم بعد لسبب لا أعرفه .. لكن هناك جنود مكلفون بحراسته لا يقبلون الرشوة .. وسرداب فوريك لا اعلم عنه الكثير .. لكني أُوقِن أن صديقي يامن قد قرأ كتاب الغريب اكثر مِن مرة. 


ثمَ سألته: 


هل لديك وسيلة تنقلنا إلى المنطقة الجنوبية؟ 


أجابني مُتَلهِفاً: 


نعم .. لدي عربة ذات جوادَين  


فقلت وأنا أنظر إلى الطبيبة: 


أرى إننا في حاجة إلى الوقت .. سيكون الجوادان أسرع دون العربة.. 


قال: 


لا أستطيع أن أتركها بِمفردها .. لقد هربت الخادمة مع سبائك ذهبي .. ورحل حارِسَيْ بعدما خشيا أن يفقدَ ثروتهما 


فقلتُ: 


إنتظر 


ثمَ اتجهت إلى الشُرفة .. وأطلقت صافرة قصيرة .. كانت فتاه بيجاناَ لا زالت تجلس في إنتظاري على جانب الطريق أمام بيت سيدها .. ونهضت حين سَمعت صافرتِي .. ونظرت إلي فاقترب مني تاجر الذهب ونظر إليها .. فبادرته قائلاً:


لقد نَدِمَت على فعِلَتِها .. إنها مَن دَلَتني إليك لِأُساعِدك .. إنها تحب الطبيبة كثيراً .. إنها زيكولا تثير دوما نفوس الغُرباء .. أغوتها ثمَ عاقبتها وسُرق ذَهبُها .. إنني أضمن لك إنها ستعتني بالطبيبة جيداً حتى نعود..


فَنظَر إليها وأطال نظرته ثمَ أومأ برأسه إيجاباً دون أن ينطق .. فأطلقتُ إليها صافرة أخرى كي تَدِلُف إلى البيت .. ففعلت ولم تشرق الشمس إلا وكانت جيادنا في طريقها إلى المنطقة الجنوبية.....    
*********************************************************

الفصل الثالث وعشرون


 لم أكن أعلم أنَ إعتياد حياةٍ جديدة سيكون بِتلكَ الصعوبة، عشرون يوماً بعد نَجاتي المؤقتة من تهمة الخيانة أحاول أن أتَقبَّل واقعي الجديد، بِإنني صرت مُزارعا أجيراً يجوب الحقول الرطبة حاف القدمين لينثُر حبات القمح والشعير بين أرجائه مقابل وحدات زهيدة مِن الذكاء .. لِأعود إلى غُرفتي الضيقة مع غروب الشمس .. فتمُر ساعات ليلي ببطء .. ليبدأ نهار آخر بحقل جديد وحبات أخرى لا تنتهي.. 
               

الحقيقة إنني سئمت ذلك العمل بعد يومي الأول .. وازداد الضيق بداخلي يوما بعد يوم .. وبدأت نفسي تحدثني بأن أترك المنطقة الجنوبية إلى منطقة أخرى بزيكولا، ثمَ وجدت قدمي تأخذني إلى قائد جنود المنطقة الجنوبية .. وأخبرته بأنني أستطيع الضرب بالفأس جيداً .. وحطمت أمامهو درع أحدهم بِفأسي برهاناً لمهارتي .. لتتخذ حياتي مساراً جديداً لم أتوقعه يوماً .. بعدما مُنحت هذا الوشم على ظهر يدي اليُمنى وشم مُشاه زيكولا .. رمحٌ وفأسٌ متقاطعان الوشم الذي يريحني إلى الأبد مِن تُهمة خيانة زيكولا .. بعدما أصبحت أحد مقاتليها المخلصين .. كما أنهُ سيَمنحني عشر وحدات مِن الذكاء عن اليوم الواحد .. وعلِمت إنني سأرحل مع مقاتلي المنطقة الجنوبية إلى خارج زيكولا بعد أربعة أيام .. سيختار خلالها القائد ما تَبَقى مِن المُقاتلين الجدد قبل أن أجد إياد وشاب لا أعرفه لم يبدو لي أنهُ زيكولي يَدْلُفان إلى غُرفتي فرحبت بهما كثيراً .. وكِدْت أُخبِر صديقي بأمر إنضمامي إلى الجيش .. فبادرني قائلاً: 
                 

إنَ الطبيبة أسيل في حاجةٍ إلينا .. 
                 

ثمَ تابع:


                    

إنها في المنطقة الشرقية مريضة للغاية..
                 

ثمَ حدثني التاجر عما حدث للطبيبة .. وعن ذلك الذهب الذي استبدله بوحداتنا وضاع هباءً .. بعدما لم ينتقل إليها .. وأنهُ لم يعُد مِن سبيل لإفاقتها سوى عودة خالد إلى زيكولا .. ثم إنتهى قائلاً:
                 

أخبرني إياد أن النفق لم يُهدَم بعد .. أُريدك أن تُحدثني عن سرداب فوريك .. وسأُعطيك ما شئت مِن وحدات الذكاء..


                    

فقلت لهُ:


                    

لا داعي لِوحداتك


                    

ثمَ تابعت مُتَذَكِراً:


                    

حدَثَني خالد كثيراً عنه .. ممر يصل بين عالمِنا وعالمه .. واسع للغاية .. لا يكون مُضاءً إلا ليالي البدر .. طريقٌ واحد ينقسم إلى طريقين .. أحدهما شرق زيكولا والآخر غَربَها..


                    

ثمَ صَمَت .. وعصرت رأسي لِأتذكر وأكملت:


يستطيع المرأ التنفُس بداخله غير أنَ هناك نفقاً آخر بنهايته .. أخبَرَني خالد أنهُ مظلم قليل الهواء .. وعلى المرأ أن يسرع وإلا اختنق بداخله .. نهايتهُ الأخرى توجد بلاد خالد .. تختلف كثيراً عن بلدنا .. هذا كل ما أتذكرُه ثمَ أردفت:
                  

آه نسيت .. حين تبدأ جدرانه بالإنهيار .. عليك أن تُسرع .. وإلا دُفنت بداخله .. قرأتُ ذلك بكتاب خالد..


فسألني:


هل تَتذَكر أي شيئٍ آخر؟


أجبتَهُ:


هذا كل شيء


فصمت ثمَ سألنا:


كم يتبقى على اكتمال القمر؟


قلت:


أربعةُ أيام


فسألني:


وكم تبلغ مسيرة السرداب إلى بلاد صديقك؟


أجبتَهُ:


أخبرني خالد أنها ليست إلا ساعات قليلة ثمَ سألتَهُ:


ما الذي تنوي فعله؟


قال:


سأَعبُر نفق المنطقة الغربية إلى سرداب فوريك .. لِأصِلّ إلى بلاد خالد


فقال إياد:


إنكَ حقا تشبِههُ في تَهَوره .. كما أخبرتك جنود السور غير قابلين لِلرِشوة ..


فأشاح عباءته وأظهر سيفه وقال:


لن يحمي ذلك النفق أكثر مِن رجُلَين أو ثلاثة.


فقلت:


إذن مصيرَك القتل أو تُهمة الخيانة .. ومصير الطبيبة الموت


فقال هادئاً:


أو أعبُره وأعود بصديقكم .. ثمَ تابع .. ليس هناك وقت على خالد أن يعود ويعيد إلى الطبيبة وحداتِها كي تنجو..


قلت:


وماذا إن لم تجدَه؟


فصاح بنا:


سَأجدُه .. وأثق أنهُ سيعود مِن أجلها..


كنت أوافقه تلك الثقة .. ثمَ سألَنا:


هل ستأتيان معي إلى المنطقة الغربية..


فصمتْنا وبِتّنا عاجزين عن الرد .. حقا نريد مساعدة الطبيبة .. لكن ما رأيناه خلال أشهرنا الخمس الماضية ليس هَيناً .. وَنَطقت هادئاً:


سَيموت كلانى إن ذهبنا إلى المنطقة الغربية .. قد يرى الخادم إياد فَيشي عنه مُجددا .. ولن يُفلت هذهِ المرة .. وقد رأيت ما حدث للطبيبة .. أنا لن أستطيع التخلف عن واجبي .. سأُغادر إلى صَحراء زيكولا ليلة اكتمال القمر أيضاً بعد أربعة أيام..


ثمَ أرَيتهُما وشم يدي وأنا أقول:


إن تخلفت سَتُقطَع هذهِ اليد


فسألَني إياد مندهشا:


إنضمَمت إلى الجيش؟


أجبتَهُ:


نعم .. سأحارب ضد الأماريتيين..


ثمَ قلتُ لِلتاجر الشاب:


علينا أن نفكر بحلٍ آخر


قال:


سأعبُر ذلك النفق .. وإن كَلَفَنّي حياتي .. وسأعود مع صديقكم مِن أجل نجاة أسيل..
*********************************************************

الفصل الرابع وعشرون


     لم أُصدِق أُذني حين أخبرتني إحدى الوصيفات بِأن هناك شابً ينتظرُني بِخارج القصر .. اسمه يامن .. بالطبع لم يكن قصري كان قصر أحد أثرياء المنطقة الوسطى .. وافق على عملي وصيفَةً لِزوجته .. مقابل ثماني وحدات ذكاء .. وَوجبة طعام واحدة لليوم الواحد .. فأسرعت رَكضَاً إلى الخارج .. يكَادَ قلبي يرقص فرِحاً .. وما إن إحتضنته حتى سألَني مُتعجلاً .. إن كنت أعلم عن الحانة الوسطى .. فأجبته في دهشة بالإيجاب .. فأخبرني بأنه ينتظرَني بها لِأمر هام مع غروب الشمس .. ثمَ غادر.. 
                          

كانت الحانة الوسطى تقع بالطرف الجنوبي للمنطقة الوسطى .. حانة ضيقة لا يخرج زبائنها عن خدَم القصور وحُراسها .. يجتمعون ويتسامرون بعيداً عن سادتهم المُتَعجرِفين .. يفصلها ممر خلفي عن غرف ضيقة مُتجاورة يستأجرُها الغُرباء لِلمَبيّت.. 
                          

دَلَفت إلى هناك مع حلول ظلام الليل دون أن أُخبِر سيدتي .. ينشغل رأسي بذلك الأمر الهام الذي نطق به يامن .. ثمَ وجدتهُ بإنتظاري أمام الحانة .. ودَلف بي إلى ممر الحانة الخلفي .. ومنه إلى إحدى الغرف .. وأغلق بابه مِن خلّفِه .. فوجدت صديقنا إياد وشاباً آخر غريب .. فضَحكت وقلت: 
                          

سأتقاضى أجر ثلاثة إذن.. 
                          

فَنَظر إلَيَ الشاب الغريب .. فقلت: 
                          

إنني أمزح .. لقد تركت المنطقة الشمالية والرذيلة منذ قرابة السِتَة أشهُر .. وعاهدت نفسي إلا أعود إليها بِفضلهما. 
                          

وأشارت بإصبعي إلى يامن وَإياد .. فأشار إلَي الغريب كي أجلس .. فجلست وبدا الأمر هاماً مثلما تحدث لي يامن قبلها بساعات .. ثمَ نطق يامن: 
                          

إننا في حاجةٍ إليكِ.. 
                          

فَترقبته فتابع: 
                          

تَعلَمين أنَ الطبيبة أسيل اتُهمت بالخيانة.. 
                          

قلت: 
                          

نعم 
                          

قال: 
                          

إنها مريضة للغاية .. وتحتاج إلينا 


وأردف: 


وليسَ هناك حل سوى عودة خالد إلى زيكولا.. 


فَنطقت تعابير وجهي دون أن ينطق لساني لِتقول:
                          

وما شأني بذلك؟
                         

فأكمل متردداً:
                     

كما تَعلمين .. غادر خالد زيكولا عبر نفق بالمنطقة الغربية إلى بلاده .. وأنتِ تعرفين وجهه..


                          

ثمَ ابتلع ريقه وأكمل:


                          

ولا يعرفك أحد بالمنطقة الغربية .. والنفق لم يُهدَم بعد .. يحرسه حارسان، و ..
                        

ثمَ سكت .. فَنَظرَت إليه فلم يكمل فأكمل إياد قائلاً:


نريدك أن تذهبي عبر سرداب فوريك إلى بلاد خالد .. وتعودين معه.. 
                        

فَسألتهم في دهشة: 
                        

هل جئتم إلى المنطقة الوسطى لِتمزحوا؟ 
              

فقال يامن:


لا نمزح


وقال إياد:


إنَ الطبيبة مريضة للغاية .. كنتِ ستُعانين المصير ذاته .. إن أمسك بك جنود زيكولا..


فقلت:


لكنهم لم يَمسكوا بي .. وسألّتهم .. لماذا أنا؟


فسكتوا .. فنَظرت إلى وجه يامن المضطرب وقلت:


آه لإنني أستطيع أغواء الحارسَين .. تريدَني أن أعود لِلرذيلة مِن أجل خالد وحبيبته..


فلم يرُد .. فأخرج الشاب الغريب سبيكة مِن الذهب .. ووضعها على الطاولة أمامي .. قال:


سأعطيكي ما شئتِ مِن الذهب لاحقاً..


فضحكت ساخرة .. وأزحت بيدي السبيكة نحوه .. وقلت له:


لا تَنسى أن تُخبرهم أن يجعلوا منصة ذبحي مِن هذا المعدن..


ونظرت إلى يامن فقال:


إن لم تنجو الطبيبة .. سَيموت الكثيرون .. وتابع .. ولن تهدأ الحرب بيننا وبين أماريتا


فصاحت به:


اللعنة على البلدين .. وتابعت .. لم أكن إلا فتاة ليل صارت خادمة بِأحد القصور..


فسكتوا مجدداً .. فهممت بالنهوض وتحركت خطوات إلى باب الغرفة وكِدت أن أُغادر فقال يامن هادئاً:


سأُغادر إلى خارج زيكولا مع المقاتلين..


فتوقفت قدماي فأكمل:


لقد إنضمَمت إلى الجيش الزيكولي.


فَدَق قلبي بقوة وجَمد جسدي وتوقف تفكيري لِلحظات .. وأغمضت عيني ثمَ أَخرجت زفيري ببطء وتركت مقبض الباب .. وإلّتفت إليهم .. ثمَ قلت:


إن عاد خالد لن تقوم الحرب؟ 


فإلّتفتا إلى صديقهما الغريب كأنهما ينتظرِاّن إجابته .. فلم يجب .. فكرَرت تساؤلي .. وأنا أَصيح بهم: 


إن عاد لن تقوم؟ 


فأجبني الغريب بعد لحظات: 


نعم  


ثمَ أردف هازً رأسه: 


نعم .. أعدُكِ بذلك. 


جلستُ مجددا ونظرت إلى يامن .. نظرةً هو وحده يعرفها .. فأشاح نظره بعيداً عني .. ثمَ مدَدّت يدي وأخذت سبيكة الذهب دون أن أنطق أو ينطق أحدهم .. ساد الصمت لِدَقائق .. ثمَ قطعَه يامن .. وذَكرني بسرداب فوريك .. كان قد حكى لي كثيراً عنه لِملء فراغُنا بِالأشهر الخمس التي اختَبأنا فيها .. فأخبرته إنني أتذكر ما حدَثني بهِ عنه .. لكنه لم يهتم بحديثي .. وأعاد وصف السرداب لي مِراراً وتكراراً .. وحَدَثني عن ذلك النفق .. ثمَ عن نفق المنطقة الغربية الضيق المدَعَّم بقوائم خشبية .. ثمَ إنتهى قائلاً: 
               

كان خالد يتحدث دائما عن غرابة بلاده .. لا أعلم مدى غرابتها .. لكن عليكِ أن تترُكي مخيلتك لِتتوقع كل شيء.


وأكمل إياد فوصف لي مكان البيت بالمنطقة الغربية بتفاصيل قد ملَلَتُها .. ثمَ أخبرَني بإنني سأرحل مع اكتمال القمر بالسماء بعد يومين .. وعِند رَحيلي سَتنتَظرُني عربة صَديقهم بالطريق الرملي أمام زيكولا .. لتحملنا إلى داخلها خشية أن يرى جنود باب زيكولا خالد المُدان بالخيانة .. مثله مثل الطبيبة .. ثمَ أشار إلى صديقهم الثالث وقال: 


- صديقُنا رسول مَلك أماريتا .. سيتدبر كل شيء بعد ذلك.. 


قلت ساخرة: 


رسول مَلك أماريتا .. الذبح لنا جميعاً 


فسألني يامن: 


هل هناك ما تحتاجينه؟ 


فقلت: 


زجاجتي خمر .. ثمَ أكملت .. لكن لا عليك سَأسرَقهُما مِن قصر سيدي.. 


فَهَز رأسه دون أن ينطق .. وهَم ليُغادر فأقتربت منه وأمسكت بِيده ونظرت إلى الوشم عليها .. وسألّته: 


متى سَترحل إلى خارج زيكولا؟ 


فقال: 


بعد يومين أيضاً 


فقلت: 


أتمنى أن تعود سالماً 


فابتسم ثمَ غادر مع صديقَيه .. وتركوا لي جواداً بِخارج الحانة .. أخبرَني صاحبُها بأنه قد تقاضى سبع وحدات مِن الذكاء مقابل الإعتناء به لِيومَين آخرَين.. 


عدت إلى القصر .. وَوبختني سيدتي كعادتها .. لكني لم أُعطي لحديثها بالاً وَ وقفت أمامها لا تعي أُذني كلماتها حتى إنتهى صريخها .. فأمرتني إن أصعد لِأُنظف غرفتها .. فصعّت .. واتجهت إلى شُرفتُها ونظرت إلى السماء وإلى قمرُها شِبه المُكتمل .. ثم أتممت عملي ..  


ومرت ساعات ليلي ويومي الذي تلاه سريعاً .. وأشرقت الشمس يومي المراد فانطلق بي حصاني إلى المنطقة الغربية أدُس بين ملابسي سبيكة الذهب التي مَنحَها لي الأماريتي .. وَزُجاجة خمر واحدة .. لم أستطع أن أسرق غيرُها.. 


وَ وصلت إلى المِنطقة الغربية مع منتصف النهار .. ودَلَفت إلى شوارعها .. ثمَ لَمحَت عيناي زِحام سوقها .. فترَجَلّت وأَسدلت على جبهتي غطاء رأس معطفي الحرير .. في الحقيقة كان معطف سيدتي .. سرقته هو الآخر .. وأكملت طريقي بين المتزاحمين .. أُمسك بِلِجام حُصاني .. ثمَ عَبَرتُ ذلك الزِحام .. اتخذت مكاناً جانبي خالياً .. مَكثتُ به في انتظار مرور ما تبقى مِن ساعات النهار. 


حَلَّ الليل .. وظهر القمر مكتملاً بالسماء .. فنهَضت مِن مكاني .. وامّتَطيت حِصاني في اتجاه الطرف الغربي للمنطقة الغربية .. تحركني ذَاكِرَتي بكلمات إياد التي تَصِف طريقي إلى ذلكَ البيت ثمَ وجدّته، وتيقنّت مِنه حين رأيت جندياً يقف أمام بابه .. فترجَلت ووقفت مكاني أُراقبه دون أن يَراني .. ثمَ تَذَكرت حديث إياد .. بأن البيت يحرسه جنديان ليس جندي واحد .. ودارت بي ذَاكِرتي حين مارست الرذيلة مِن قبل مع احد جنود الحِراسة بالمنطقة الشمالية .. وحدَثني عن عملهم وكيف يَنام أحدهم ليعمل الآخر .. لكنه ليس في ذلك الوقت المبكر مِن الليل .. فعَقَلّت حِصاني وانتَظَرَت في مكاني أُراقبه .. ثمَ أبصرت الجندي الآخر قد خرج مِن داخل البيت .. واتخذ موضع زميله الذي دَلَف إلى داخل البيت .. فآثرت أن أنتظر مزيداً مِن الوقت.. 


ومرت بضع ساعات أُخرى ساد معها سكون الليل .. صمت تام أحاط الأرجاء مِن حولي .. وكأن مَن ملؤوا النهار ضجيجاً وصياحاً باتوا جميعاً موتى مع منتصف الليل .. وعاد الجندي الأول مرة أخرى إلى نوبَة حِراسته .. فانتظرت قليلاً ثمَ شعرت بِتَمَلِمُله .. فَشَققت بيدي نصف فُستاني السفلي .. ونهضْت وتحركت في اتجاهه يغطي رأسي غطاؤه ويلمع حَرير معطفي أسفل ضوء القمر .. يمتلئ قلبي ثِقة وَفخرا بسنوات كثيرة مضت بالمنطقة الشمالية .. لم تُخلَق بها مَن تُنافِسَني بإغواء الرجال .. ثمَ لَمَحت تلك الدهشة على وجهه فأزلت معها غطاء رأسي فانساب شعري الناعِم إلى كتفي وأكملت اقترابي منه تنظر عيناي في عينيه .. أكاد أسمع دقات قلبه .. وتتحداه نظراتي بِأن يفتح فمه دون أن يسيل لُعابه ثمَ اقتربت مِن أُذنه فهمست إليه: 


دون مقابل.. 


وحركت ساقي أسفل فُستاني المشقوق .. فكشفت عن آخرها .. ولمع بياضها أمام عينه مع ضوء القمر والمصباح الناري أعلاه .. فاندفعت الدماء إلى وجهه .. وتَلَفت حوله قبل أن يدفعني إلى داخل البيت .. فَلَمحت الجندي الآخر نائماً كالموتى أسفل غطائه الصوفي بغرفة جانبية .. وَدَلَف جندي الحِراسة مِن خلفي محمر الوجه .. وأغلق باب غرفة زميله بِرفق وأحكم إغلاقها .. ثمَ وَقَف أمامي مُتباهياً بِضخامة جسده .. فوضعت زجاجة الخمر على طاولة بجواري .. فَدَنا مني فإبتسمت .. وبللت شفتاي بِلساني فزاد احمرار وجهه .. حَمَل زجاجة الخمر .. نَزع غطاءها بأسنانه .. وتجرع مِنها .. فنزعت معطفي وألقيته جانبا .. وكِدت أنزع فُستاني .. فسرت بجسدي رَعشه غريبة .. وتوقفت يدي .. وكأنها لا تستطيع .. فأغمضت عيني وابتلعت ريقي أحاول أن أُعيد ثبات جسدي لكني لم أستطع .. وإمّتَلَأت عيني بدموع ضجت رأسي بكلماتي إلى يامن بالمنطقة الجنوبية:


- لن أفعلها مجدداً.


ثمَ نظرت إلى الجندي مجدداً .. فوجدت الغضب قد انطبع على وجهه .. فأخرجت سبيكة الذهب ومدّدت يدي بها إليه .. وتَمَلكَني خوف لم أشعر به مِن قبل، وتساقطت دموعي على وجّنَتْي .. فسقطت السبيكة مِن يدي المُرّتَعشَة .. وإنحنى الجندي لِإلتقاطَها .. فأغمضت عيني ارتشف دموعي قبل أن أَفتحها بعد لحظة على صوت أرتطام مفاجئ فوجدت يامن أمامي يرتدي زي جنود زيكولا .. وقد ضَرَب الجندي على رأسه بِقطعة حديدية .. فرَقَد فاقداً وعيَه .. وهمس مازحاً:


كل هذا الوقت؟!


وتابع هامساً:


أنتظر دخولك منذ ساعات
كنت أنظر إليه كأنَني أحلَم .. ثمَ أكمل باسماً ومسح دموعي بإصبعه:


لم أكن لِأسمح أن تنقضي عهدك إلى نفسك..


فإحتضنته .. ثمَ حَمَلّ إلَيَ السبيكة فأشرت إلى باب الغرفة التي يَنام بها الجندي الآخر .. وهمست إليه .. بأن هناك جنديا يَنام .. فهمس إلَي:


دَعيه نائماً
ونظر إلى الجندي الراقد وقال:


لم يمت .. لسنا قاتلَين.. 


ثمَ حَمَل مصباحا زيتياً كان معلقا على جِدار الرُدهه وأمسك بيدي ودَلَف بي إلى غرفة أخرى ووضع المصباح جانباً .. بينما راقبت ردهه البيت خشية أن ينهض أحد الحارسَين .. ثمَ أزال لوحاً خشبياً سميكاً كان على أرضية الغرفة .. فظهر أمامي حفرةٌ دائريةٌ عميقة .. يتدلى بِداخلها سُلم خشبي ظهر حين اقترب يامن بمصباحه منها .. ونظر إلَي وقال: 


أخبري خالداً أن أصدقاءه في حاجة إليه.. 


فسألّته: 


ألن تأتي معي؟ 


فأشار إلى وشم يده وقال: 


عَلَيَّ أن ألحق برُفَقائي الليلة .. وإلا ستُقْطع.. 


فقلت باسمة: 


هناك حِصان بالخارج سريع للغاية.. 


فأبتسم وقَبَل رأسي وهمس إلَيَّ قائلاً: 


- أنتظر عودتك 


ثمَ أعطاني المصباح الزيتي .. ومددت ساقي إلى السُلَم الخشبي لِأبدأ طريقي إلى سرداب فوريك.....  
*********************************************************

الفصل الخامس وعشرون


 هبطت السُلَم الخشبي وَودعني يامن فأومأت له باسمة .. ثمَ دَلفت زاحفة على رُكبَتي إلى النفق الأُفقي الضيق .. تعطيني كلماتهُ بأن أعود سالمة طاقة كبرى لِأعبُر أنفاق العالم جميعاً .. تعمقت أكثر فَأكثر إلى داخل النفق يضيئ المصباح أمتاراً أمامي مُظهِراً قوائمه الخشبية فأتجنَبُها .. ثمَ توقفت للمرة الأولى كي أُزيل شِباك العناكِب التي زادت مِن اختناقي.. وإلتقطت معها أنفاسي .. ثمَ أكملت زحفي دون أن أنظر إلى ركبتي المُتَألِمتين .. كنت أعلم أنها تقرحت مع حِدة أرضية النفق الصخرية. 
                

ملأت صدري بالهواء وإنفرجت أسارير وجهي حين ظهرت أمامي فتحة النفق الأخرى .. يتسلل خلالها ضوء القمر .. فأسرعت أتحمل ألم، ركبتي ودنوت مِنها ثمَ قذفت بجسدي خارجها .. فإنغمس وجهي بِرمال ناعمة .. ونهضت لِأنظر خلفي فوجدت سور زيكولا شاهقاً يضيئه القمر .. فحملت مصباحي الملقى على الرمال .. وتَحركت خطوات أمام إلتِقاء ضلعَيه كما أخبرني يامن .. فإنزّلقت قدمي فجأة بِحفرة ابتلعتني وهوى جسدي بها لِأسفل يرتطم بِجدرانها وظل يهوى أكثر فأكثر دون أن يتوقف أو أستطيع التحكم به كانت يدي تمسك مصباحي بقوة وحاولت يدي الأخرى أن تحمي رأسي وأستَمر سقوطي وإرتطامي قبل أن تقل حركتي شيئاً فشيئاً ويتوقف جسدي عن الارتطام لأجِد نفسي أمام نفق أستطيع النهوض والسير به .. تظهر معالم جدرانه واضحه دون الحاجة إلى مصباحي كان يتجه بإنحناء لِأسفل فنهضت غير مُصَدقة لما أراه حتى إنني نسيت آلام ركبتي وذراعي مِن الدهشة وبدأت أسير به ينتعش صدري بالهواء وأسرعت مِن خطاي خِشية أن يمر الوقت .. ثمَ وجدت وجه أحد الأشخاص منقوشاً على جِداره فأكملت تقدُمي فاهتزت الأرض أسفَلي وسَمعت صوت إرتطام قوي فَنظرت خلفي فوجدت جدران النفق قد بدأت في الإنهيار فأبتسمت ونظرت إلى الوجه بجانبي وقلت: 
                 

مرحبا سيد فوريك 
                   

ثمَ أمسكت بطرف فُستاني المشقوق وركضت والإنهيار يسرع مِن خلفي يكاد يبتلعني كنت أعلم أنهُ يدفعني إلى طريق مقصود فأسرعت بكل طاقتي أخشى أن أنظر خلفي فتنزلق قدماي فأُدفن أسفل صخوره ثمَ هدأت الأصوات مِن خلفي .. وقَل معها اهتزاز الأرض .. فَنظرت أمامي فوجدت نفقاً أكثر اتساعا وإرتفاعا .. جدرانه ضخمة مليئة بِنقوش كثيرة لِأشخاص وحيوانات وتتناثر على أرضيته عظام وجماجم كثيرة ونظرت خلفي بعيدا فوجدت النفق الذي جئت منه مكتمل الجدران وكأن شيئاً لم يحدث يجاوره نفق آخر و وجدت بجانبي رسمة أخرى منقوشَة للوجه ذاته الذي رأيته مِن قبل فَنظرت أمامي مجدداً وأخرجت زفيري وقلت لاهثة: 
                  

سرداب فوريك 
                  

ثمَ أكملت تقدُمي أتجنب العِظام أسفل قدمي وجال بخاطري زوال البدر فركضت كنت أتلفت بين الحين والآخر خشية أن يحدث الانهيار مرة أخرى، ثمَ توقفت حين وجدت سُلَماً طويلا فصعدته مسرعة حتى وصلت أعلاه فوجدت بنهايتهِ فتحة ضيقة ذات ألواح خشبية مُتكسرة فَازدت إنارة مصباحي .. وإلتقطت أنفاسي .. ثمَ مددت يدي بمصباحي داخلها ودَلَفت أُزيل بيدي شباك العناكِب الكثيفة أتذكر حديث يامن بأن أُسرع خلال ذلك النفق وإلا اختنقت وتدين نفسي إلى مصباحي الذي لَولاه لِما عرفت ماذا أفعل وتحركت بحذر خطوة وراء أخرى وتسارعت أنفاسي ودق قلبي مُسرعا حين زاد اختناقي قبل أن ألمح سُلَماً مِن قوائم حديدية .. لمع مع ضوء المصباح فاتجهت نحوه وصعدت درجة .. ثمَ مددت يدي أدفع بابه الحديدي فسقط مصباحي وَتَهَشَّم وإنطفأت نيرانه وساد الظلام مِن حولي .. فأكملت دَفعي للباب فأصدر صريرَه .. واندفع الهواء إلى صدري بعدما فُتِحَ قليلاً ثمَ دفعتهُ بقوة فَفُتِح عن آخرِه .. وقذفت بجسدي إلى الأرض بجواره. 
                  

كان ذلك البيت محاطاً بسور طوبي تسلقته وعبرته إلى جانبه الآخر .. لأجِد نفسي بطريق ترابي يسوده السكون .. فَخِفت أن أُضِل طريقي .. وعَزَمّت أن أبقى مكاني في إنتظار شروق الشمس .. وجلست ونظرت إلى البدر بالسماء .. ودار بُخُلّدي أن يكون يامن ينظر إليه متجهاً إلى خارج زيكولا مع رفقائه الجنود في الوقت ذاته .. فأغمَضّتُ عيني أتمنى له أن يبقى سالماً ثم وثب جسدي مِن موضعه حين دوت السماء بِنداءات اختلفت قوتها .. كانت جميعاً تقول؛ الله أكبر، فنهضت واتجهت تِجاه مصدرها .. فوجدت أمامي بعيداً أنواراً شتى .. تتخلَل ظلال المباني المتلاصقة يتوسطَها برج رفيع طويل تُزينهُ أضواء مُلَونة .. ينطلق الصوت مِن أعلاه بدت أنها بَلّدَةُ خالد الغريبة.. 
                   

دقائقٌ قليلةةو كنت أسير بطريق مُعبَد تتراص المباني على جانبَيه .. خلف أعمدة معدنية تحمل مَصابيحا مُنيرة لا تشبه مصابيحنا، فتذَكرت حديث يامن .. بأن لا أُدهش مِن أي اختلاف هنا .. بعد ما رأيته مِن أمر السرداب لم تعُد لِدهشتي مجالاً وكلما رأيت شيئاً غريباً .. تجاهَلته ثمَ أبصرت رجلاً لم أتبين ملامحه .. يسير بعيداً بِشارعٍ خافت الإضاءة .. فأسرعت إليه وحدثته:
                  

سيدي .. أريد أن أصِل إلى خالد حسني.
                  

فنَظر إلى فُستاني الممزق وقدمي الحافيتين وتمتم خائفاً بكلمات لم أفهمها فأكملت إليه:
                   

سيدي .. إنني غريبة عن هذا البلد..
                   

فأكمل تمتمته وتحرك مبتعداً عني يتمتم .. فسرت خلفه فأسرع فأسرعت .. فَرَكَض فرَكَضت، ثمَ دَلَف إلى بِناء أرضي كان بابه مفتوحً على مِصراعيه تُضيئ أنواره بشدة فَدلفت فَوجدّته رُدِهَه واسعة يجلس بها رجال حافيين الأقدام نَظَروا إلَيَّ جميعهم في دهشة حين دَلَفت إليهم فقلت:
                   

أبحث عن خالد حسني عبد القوي.. 


فصاح بِي أحدهم بِجملَة لا أتذكرها، ورأيت الغضب على وجوههم.. 


فرض: 
                   

إنني مِن أرض زيكولا. 
                    

فَظَلت نظرات الغضب على وجوههم .. ثمَ وجدت عجوزا يخرج مِن بينهم لم تظهر على ملامحه دهشة أو غضب مثل الباقيين وهمس إلي: 


أرض زيكولا 
                   

قلت: 
                   

نعم 
                    

سألني: 
                    

تعرفين خالد؟ 
                    

قلت: 
                  

نعم  
                    

فَنَظر إليهم وقال: 


إنها مريضة 


فقلت: 
                   

لست مريضة 
                  

فَهمس إلَيَّ أن أتبعه، فَسِرت خلفه كان يسير ببطء شديد دون أن ينطق بكلمة واحدة .. فسألّته: 
                    

أنت جد خالد .. فأجابني: 


لا......         
*********************************************************

الفصل السادس وعشرون


 إن تحدثت الليل كاملاً لن أستطيع وصف ذلك الشعور 
ليلتها .. أيقظنا طرقات جِدي المفاجئة فجراً على باب شقتنا، وحدَثني فرِحاً بِأن هناك ضيفاً هاماً في انتظاري دون أن يُخبرني شيئاً آخراً أو يعبأ بِدهشتي مِن تأخُر الوقت وهبطت معه إلى الطابق الأرضي نَعِسَاً .. ليتوقف بي الزمن حين وجدتها أمامي تجلس على الأريكة بِفُستانها الممزق .. وتقول لي: 
                   

لقد إفتَقدْتُك كثيرا أيها الغريب.. قبل أن تُسرع نحوي وتَحتَضِنَني .. فتَسمرت ذاهلاً دون أن أنطق بِشيء .. وكأنني ابتلعت لساني .. ما أتذكره إنني هززت رأسي عَلَّني أُفيق مِن ذلك الحلم، لم تفيْقَني إلا كلمات منى مِن خلفي: 
                    

إنتي مين؟ 
                    

فَنَطقت إلَيَّ الفتاة: 
                    

خالد ألا تتذكرني؟ 
                    

فَحَملقَت بي منى في انتظار إجابتي .. ثمَ تحدث صديق جَدي - مجنون السرداب - الذي لم أُلحظ وجوده مِن المُفاجأة قائلاً: 
                    

دخلت علينا المسجد وأحناَ بِنصَلي وقالت إنها مِن أرض زيكولا وبِتدَوَر عليك.. 
                  

فقالت مجدداً: 
                    

خالد إنني نادين فتاه المنطقة الشمالية أنا مَن دَلَتك إلى بيت هلال .. إنَ أصدقاءك مَن أرسلوني .. جميعهم في حاجةٍ إليك.. 

                    
بالطبع كنت أتذكرها .. لكن أن يأتي أحد مِن أرض زيكولا إلى بلّدتي كان أمراً لا أتوقعه على الإطلاق .. وحين يأتي أحدهم .. تكون فتاه المنطقة الشمالية .. كان هذا يفوق خيالي، ثمَ إستطردت تُحدُثُني عما حدث بزيكولا خلال الأشهر الماضية بعد رحيلي .. وعن تورط أصدقائي وهيَ معهم بعد تكاسُل العُمال وعدم إغلاقهم نفق هروبي .. وذلك القانون الذي طبقته زيكولا عِقاباً لخونتِها .. فأقتص مِن أسيل وحدها لتصبح على وشك الموت .. بعدما فقدت وحدات ذكائها .. وتلك الحرب التي توشِك أن تقوم إن لم تنجو .. حرب كبرى لن يُشهد لها مثيل فُتِح معها باب زيكولا في غير موعده .. إنضم إليها يامن بين مقاتلي زيكولا. 
                    

كانت تتحدث .. وتتدور أيامي بزيكولا برأسي كأنها قبل ساعات .. وجلس جدي وصديقه يستمعان إلى كل حرف تقوله مدهوشين .. وينظُران إليَّ إن تحدثت عن أسيل .. أما منى التي لم تُصدِق يوماً حديثي عن أرض زيكولا ظلت صامتة كأن عقلها لا يستوعب ما يحدث .. ورمقَتْنيْ بنظراتها حين تحدثت نادين عن قُبلة أسيل لي مقابل وحداتها .. قبل أن تنتهي الفتاه قائلة لي:
                    

يعلمون أنك مُدان بِخِيانة زيكولا .. لكنك أمل الطبيبة الأخير..
                    

وصمتت في إنتظار كلماتي .. فنهضت منى وغادرت إلى طابِقُنا الأعلى في هدوء.
                   

صمت تام أجتاحاني تلك اللحظات .. وتَكَفَل جدي وصديقه بأسئله جعلت نادين تَتعَجَب مِن علمهما تفاصيل كثيرة عن زيكولا .. كانت أسئلتهم عن اتهامي بالخيانة .. وعن نفق المنطقة الغربية .. وكيف عبرته .. ونظَروا إليَّ حين أجابتهم قائلة:

                    
مِن المؤكد سَتُشدِد حِراسته بعدما أفقد يامن أحدهم وعيه .. كانت فرصة وحيدة لِعبوره .. لن تفلَح تلك الحيلة مجدداً..

                    

كان حديثُها عن أمر نفق المنطقة الغربية .. يعني عدم وجود سبيل إلى سرداب فوريك .. وحديثُها عن اتهامي بالخيانة .. يعني عدم اكتسابي وحدات ذكاء مِنجديد للمعيشة داخل زيكولا .. فسَكتا .. ونظر إليَّ جدي دون أن ينطق .. كان يعلم إنني قد حسمّت قراري منذ نَطقت الفتاه بِحاجة أصدقائي إلَيَّ.
                  

وكان الأوان ظُهِّراً .. حين ترَكتُ نادين مع جَدي وصديقه يتناقشون بأمر الكهرباء التي أبهرتها .. وصعدت إلى الطابق العُلوي بحثاً عن منى .. دون أن يجد لساني ما يتحدث به إليها .. وأبصرت باب غُرفتها مغلقاً .. فَمكَثتُ بالردهة أُرَتِب كلماتي .. ثمَ دَلَفّت إليها .. فوجدْتها تقرأ كتابي الذي عدت به مِن أرض زيكولا للمرة الأولى منذ زواجنا .. ولاحظت إحمِرار جفونها كعادتها إن بكت .. فَجلست بِجوارها ولم أنطق بِشيء فلم ترفع عينيها عن الكتاب وواصلت قراءتها لِصفحاته فقطعت ذلك الصمت وقلت هادئاً:
                    

كنت أنا أفقَر أهل زيكولا .. ولولا أسيل كان زماني أتدّبحت يوم عيدهم ..
                    

فلم تُجيّبَني، فسكت ولم أستطرد بأي كلمات عن حبي لِأسيل أو حبها لي .. كنت أعلم إنها تحبني كثيراً وَسَيؤلمها حديثي عن أسيل .. فلم أشأ أن أجرَح داخلها .. وقَبَلّت رأسها وتركتها وغادرت الغرفة .. وجلست بالرُدهة ساكناً أحدق لساعات ببابها المغلق أنتظر أن تخرج إليَّ وتصدر إيماءة حتى..

                   
 ثمَ صعد إليَ جدي .. وأخبرني أنَ نادين قد غلبها النعاس فتركتها نائمة .. بينما غادر صديقه وجلس وقال مازحاً:
                    

واضح أن زيكولا قدر عِيلِتْنا إللي مفيش مفر منه.
                    

فقلت:
                    

كنت المرة الأُولى شايل همك .. دلوقت بقيتوا أتنين .. أنت ومُنى.
                    

فقال باسماً:

                   
ربنا إللي نجاك في المرة الأولى .. قادر يُنجيك في المرة الثانية..


فأومأت برأسي موافقاً حديثه .. فَنظَر إلى باب منى وأكمل:
                    

قالت ايه؟
                    

فَقُلت:
                    

مَقالتش أي حاجة..
                    

ولم أُكمِل كلماتي حتى وجدت بابها يُفتح وخرجت إلينا وجلست على مقعد بجوارنا فساد الصمت بين ثلاثتنا لدقائق وتلاقت أعينِنا دون أن ننطق بِشيء .. قبل أن تقول فجأة دون مقدمات:
                    

أنا هاجي معاك 
                   

فقلت متعجبا: 
                   

مش هتقدري .. الحياة هناك صعب تتحمليها. 
                  

فقاطَعتني مُتَذَمِرَة: 
                    

فاكره كل كلامك القديم عن حياة زيكولا .. وقرأت كتابك .. فقاطعت كلامها وقلت: 
                    

ممكن منرِجَعَش  
                   

فقالت: 


خالد أنا هاجي معاك......  
*********************************************************

الفصل السابع وعشرون


 كان إصرار منى على مُرافقتي قوياً، فَهَزَزت رأسي إليها موافقاً، ما كان يُهمني حقاً هو إنقاذ أسيل وما أراحَني هي كلمات جدي إليَّ حين نظرت إليه بعد موافقتي إصطحاب منى .. وبادرني قائلاً: 
                    

- متقلقش عليا ربنا مبينساش حد.. 
                    

ودلفت منى إلى حُجرتها مُسرعة، ثمَ عادت بكتابي القديم .. وأشارت إلى جملة عابرة بين السطور تحدثت عن إسقاط خيانة رجالٍ مِن زيكولا كان هدفهم نبيلاً .. كنت قد قرأت تلك الجُملة مِن قبل لكن الكتاب لم يذكر إن كانت تلك الخيانات التي قصدها تشمل الاقتراب من سور زيكولا ام لا. 
                  

وإستَيقَظَت نادين مع حلول الليل .. وجلست مع منى تحدِثها عن نساء زيكولا وطِباعهم .. وأختارت معها فُستانا يقارب فساتين نساء عالمُها .. ووشاحاً مُطرزا .. قالت أنهُ يشبه وشاح النساء الغريبات عن زيكولا .. ممن أَردَن تغطية رؤسِهن أما انا فاتجهت إلى خِزانة ملابسي حيثُ أحتفظت بملابسي الزيكولية قميصاً وبنطالاً مهترآن .. كنت قد عدت بهما إلى بلّدتي قبل سبعة شهور وكانت الساعة الثالثة صباحاً حين غادرنا إلى البيت المهجور على أطراف بلّدتي وعَبرنا سوره أنا ونادين بسهولة واحتاجت منى إلى مساعدتي .. ودَلَفّنا إلى داخله نحمل مصباحين .. كانت إضاءتهما قوية ثمَ هبطناَ عبر الباب الحديدي إلى النفق المظلم وعبرنا الواحة الخشبية إلى سُلم السرداب فالتقطنا أنفاسِنا .. وأغلقنا مصابيحنا .. وأسرعنا نهبِط درجة .. وإبتسمت حين نظرت إلى وجه منى الذي ارتسمت عليه الدهشة .. وأخرجت هاتفها لتلتقط صوراً للسرداب .. فمنعتها عن ذلك، ثمَ تَبدلت دهشتها خوفاً .. وأمسكت بساعدي حين رأت هيكلاً عظمياً راقداً على أرضية السرداب فطَمأَنتُها وأكملّنا طريقنا واقتربّنا مِن الوجه المنقوش على جدار السرداب لِلسيد فوريك .. فتوقفت وأشرت عليهما بأن يتوقفاَ .. وحدثت منى بأن تركض في طريقها دون أن تلتفت خلفها مهما حدث .. قبل أن يجذب إنتباهي هيكَلَين عظمِيَين يفصلهما أمتار .. كانا على مرأى بصَرنا بالجانب الآخر مِن السرداب وكانت عظامهُما تُكسَى ببقايا من اللحم على غير باقي الهياكل العَظمية المتناثرة بالسرداب ولم أتذكر إنني رأيتهما مرَتي السابقة فنظرت إلى نادين وسألّتها .. إن كانت قد رأتهما أثناء رِحلتها فقالت؛ نعم مثلهما مثل باقي العظام فقلت في نفسي؛ ربما.

                    
عبرّنا الوجه المنقوش فاهتزت الأرض مِن أسفلنا، فَنظرت إلى أحد الهيكلّين الغريبين سريعاً .. وَجَثَوّت على رُكبتَي وشممت رائحته فلم أجدها نَتِنه .. ثمَ أشتدت هزة الأرض .. ونظَرت خلفي لآرى الإنهيار قد بدأ فصحت إلى نادين ومُنى بأن تركُضا .. وركضّنا والإنهيار يسرع مِن خلفِنا .. تُمّسِك يدي ويد منى بِمصابيحنا .. ودَلَفّنا إلى الطريق الشرقي .. حين إنقَسَمّ السرداب إلى طريقين .. ثمَ اتجهت الأرض مِن أسفلنا إلى الأعلى .. فظهر نور الصباح أمام عيني يتسلل عبر مَخرَج السرداب .. فأسرعت وقَفزت خارجه وتبعتني نادين ثمَ تبعتها منى بعد لحظات .. كانت أنفاسي قد احتبست بها .. ثمَ إنّهار المَخرج وإنهالت رماله لِتُغلِقه بعد خروجِها .. و رقدت تلهث وتسعُل لِدَقائق .. ووجدّت المصباحَين قد توقفاَ عن الإضاءة مثلهما مثل هاتِفَيّنا .. فَنظَرت حولي إلى رمال زيكولا وإلى شمسِها التي أشرقت للتو .. وملأت صدري بِالهواء .. وقلت بلهجَتْي الزيكولية:
                   

مرحبا مجدداً أرض الذكاء.
                    

سرنا في طريقنا إلى الطريق الرملي المُمهد إلى زيكولا بحثاً عن عربة الأماريتي التي حدثتني عنها نادين، وأبصرت عيني بعيداً عَربتين كانتا في طريقهما إلى زيكولا .. واصَلنا سيّرُنا قبل أن تَصيح نادين فجأةً: 

                   
الرسول الأماريتي.. 
                    

وأشارت إلى عربة خشبية ذات جواد واحد كانت تقف على مَقربة مِن الطريق .. ويقف بجوارها شاب لا أعرفه .. فأسرعت نحوه وأسرعنا خلفها .. واقتربنا مِنه فقالت له: 
                   

لقد أوفيت بوعدي .. ها هو خالد فَنَظَر إلي وكانت عيناه تتفحُصُني وتتفَحص ملابسي المُتربة وقال بصوت قوي: 
                    

كنت أثِق أنك ستعود .. أشكرك حقاً.. 
                    

ومد يده ليصافحني فمددْت يدي وصافحته .. ونظر إلى منى مندهِشاً تكاد تعبيرات وجهه تنطق لِتسأل عنها .. فقالت نادين: 
                    

إنها زوجته .. لقد تزوجا منذ أشهر.. 
                   

فأبتسم الشاب .. ورحب بِمُنى .. وكان لا يزال يمسك بيدي بقوة وقال: 
                    

سأقودكم إلى داخل زيكولا .. السيدتان ستركبان بِصْومعة العربة .. وأنت ستتشبث بِأسفلها. 
                    

وأشار إلى إطار خشبي يقترب مِن الأرض .. كان يحيط بِجَوانِب العربة السفلية عدا عَجلاتها وتابع: 
                    

كانت العربة مُجهزة لِدخول الطبيبة إلى زيكولا بهذهِ الطريقة .. لولا جاءت فكرة صناديق الذهب.. 
                 

فأومأت إليه برأسي موافقاً .. وركِبت نادين وَمُنى بِالصومعة .. وإنحنيت لأرى أسفل العربة .. ثم إنزلقت أسفل إطارها الخشبي وتَشبثَت بِقائمَين خشبيَين وعلقت قدمي بحلقتين حديديتَين ثابتتين .. ثمَ زحف الأماريتي مِن خلفي ومرر وشاحَين جلديَين عريضين .. أحدهما أسفل جذعي والآخر أسفل ساقي .. وثّبَتهما بإحكام .. ثمَ وَدَعني قائلاً: 
                    

سأسير بِبطء. 
                  

وزحف خارجاً .. وتحركت بنا العربة في طريقها إلى أرض زيكولا....      
*********************************************************

الفصل الثامن وعشرون


 صارت الأصوات خارج الإطار الخشبي أكثر صَخباً .. حين توقفت العربة للمرة الأولى منذ تحركنا .. ورأيت أحذية حُراس باب زيكولا الجلّدية تقترب مِن العربة .. وسمعت صوت بابها يُفتح فحبست أنفاسي وما لبث أن أُغلِق بعدها بِلحظات حتى تحركت العربة مجدداً .. وأكملت طريقها إلى داخل زيكولا. 

 وتبدل الطريق الرملي أسفَلي إلى طريق مُعَبَد بِقطَع صخرية أسرع معها جواد العربة .. وكاد يسقطّني لولا الوشاحَين المثبَتين أسفَلي .. وإنحَرَفت العربة عدة مرات بشوارع زيكولا قبل أن تبطئ مِن سرعتها وينحرف جوادها للمرة الأخيرة ويتوقف ووجدت الأماريتي يطرق بيده الإطار الخشبي ويقول: 

 لقد وصلنا أيها الغريب

 فإنزلقت بجسدي عن الوشاحَين وزحفت خارجاً، كانت العربة تقف أمام درج بيت يحيطَه سور مِن قوائم حديدية أدركت أننا عبرناه مِن إنحرافها الأخير .. كان الأماريتي ينظر بعيداً كأنه يتَيقَن بألا يَراني أحد .. ثمَ أشار إليَّ بأن أدلُف مُسرعاً إلى داخل البيت الذي فُتِحت بابه فتاة عشرينية لم أكن أعرفها .. ابتسمت وهمست إليَّ فَرِحة:

 لم يكُف النجم عن الضِياء ليلة أمس..

 ثمَ أشارت إلى غرفة علوية وقالت:

 إنها بِالأعلى..

 فَرَكضّت أخطو درجات السُلَم الداخلي إلى الطابق العلوي وفَتحت باب غرفتها لِأراها .. كانت نائمة في سكون .. قصيرة الشعر شاحبة .. فقدت مِن الوزن ما جعلها نحيلة للغاية .. وجعل وجهها ضامراً بارز العظام .. فأرتجف جسدي وخَفق قلبي بقوة .. وتقدمت نحوها لا أستطيع تمالُك دموعي .. وجلست بجوارها وأمسكت بيدها وإنهمَرَت دموعي بغزارة حين نظرت إلى وجهها الساكن .. وتذكرت ضحكاتها الجميلة ونظراتها إلى السماء عبر نافذة عربتها بحثا عن النجم أسيل .. وقبَّلت يدها باكياً حين تذكرت كلماتها بأنها لن تُغادر زيكولا إلا لسبب قوي للغاية .. كنت أنا هذا السبب .. فتمّتمت إليها أسفاً .. وكان الأماريتي ومُنى ونادين والفتاه العشرينية يقفون خلفي دون أن أهتم لِوجودهم ثمَ غادرت مُنى وتبعتها نادين .. وظل الأماريتي وخادمته .. فقال الأماريتي هادئاً:

 لقد عانت كثيراً ..

 فَمسحت دموعي بِذراعي وإلتفت إليه فأكمل:

 أحضرت إليها أمهر الأطباء في بلادي لم يستطيعوا فِعل شيء سوى تلك السوائل التي تحمي جسدها .. وأعلنت الحرب على زيكولا .. ثمَ جئت بها إلى هنا خشية أن أفقدها إن طالت الحرب .. وأخرج زفيره وتابع:

 لكنني فَشلت في إعطائها وحدات ذكائي .. فقلت بلهجتي الزيكولية:

 لست مجرد رسول إذن كما أخبرتني نادين

 فقال:

 إنني الملك تميم مَلك أماريتا .. وكما وعدت أصدقاءك سأوقف تلك الحرب بعد عودتك

 وأكمل:

 لقد علمت بشأن قُبلة أسيل إليك

 وابتلع ريقه وتابع:

 لم يذكر قانون زيكولا شيئا عن معاملات الخائن القديمة .. لا أريد منك سوى أن تُعيدها جزءا مِن ثمن قُبلَتِها تستطيع أن تستعيد به وعيها.

 كنت أرى نظراته إلى أسيل كلما تحدث .. فأدركت أنهُ يحبها كثيراً .. وأومأت إليه برأسي موافقاً .. وإلتفت إلى أسيل .. وأمسكت بيدها وأقتربت مِن شفتيها .. لم أكن اعلم كم أمتلك مِن وحدات الذكاء .. لكني حدثت نفسي بأن أعيدها ألفي وحدة مقابل قُبلتها .. كان ضِعف ما دخلت به إلى زيكولا مرتّي الأولى .. دون أن أعبأ بمصيري بعدها، وأغمضّت عينيَ ولامستُ شفتيها. 
                         

كنتُ أقف خلف سيدي الملِك .. حين اقترب خالد مِن الطبيبة .. ولمعت عيناي بالدموع حين رأيت دموعَه .. أريد أن أَصيح إليها: 

 انهَضي سيدتي .. إنَ حبيبك قد أتى.

 ثمَ توقف الزمن مِن حولنا .. وسمعت صوت دقات قلبي وأنفاسي حين الّتف اليها وأمسك بيدها وأغمض عينيه وقبَل شفتيها قُبلة طالت تساقطت معها دموعه لِتُلامس وَجنَتيها، فنظَرت إلى سيدي فوجدْته ثابتاً لا يحرك ساكناً .. ثمَ إنتهى خالد .. فأمسَك برأسه .. فسأله سيدي إن كان بخير فأجابه؛ نعم..

 وحدَّقنا جميعا بالطبيبة وعاد خالد إلى الخلف خطوات .. وأسند ظهره إلى الحائط، كانت عيناه تنظر إلى سيدتي في ترقب .. وَتُتمِتِمّ شفتاه بكلمات لم أسمعها .. ومرت لحظة وراء أخرى دون أن يحدث جديد، فوجئت به يندفع نحوها مجدداً .. يريد أن يعطيها مزيداً من وحداته .. لولا يد سيدي التي أمسكت بِساعدِهِ و أوقفتْه .. فحاول أن ينتزع ذراعه فصاح إليه سيدي ذاهلاً وهوَ ينظر إلى الطبيبة:

 - انظر.. 

 أُقسم إنني لم أُصَدِق عيني .. وسقطت على رُكبتَي أرتجف حين وجدت شفتاي الطبيبة قد صارتا ورديتين اللون غير شاحبتين .. وصرخ لساني دون إرادتي .. ووضعت رأسي بين كَفي يكاد قلبي يقف .. لم أتمالَك نفسي مِن البكاء، واقترب سيدي مِن الطبيبة التي كانت لا تزال نائمة .. واحتضن رأسها .. بينما جثا خالد على ركبتيه .. وأغمَض عينيه الدامعتين .. ودلفت نادين وزوجة خالد إلى الغرفة مجدداً بعد صرختي كانت المرة الأولى التي أرى بها دموع سيدي حين حدثَها: 

 ستنهَضين وستنعمين بحياتك مَليكَتِي. 

 كنا ندرك أنَ عقلَها يحتاج وقت تدريجي كي يستعيد وعَيَها .. مثلما أخبرنا طبيب القصر، ووقفت زوجة خالد حائرة تنظر إلى زوجها وتنظر إلى الطبيبة .. وجلس خالد مُسّنِداً ظهرهُ إلى الحائط .. يتمتم بكلماتهِ مرةً أخرى .. وينظر إلى سيدي الذي يحتضن سيدتي ويقبل رأسها .. قبل أن يلتفت إليه ويقول: 

 إنَ بلادي بلاد كرم .. ستحُل بها أنت وزوجتك وأصدقاؤك .. لكم منها ما شئتم.. 

 فأومأ خالد إليه برأسه إيجاباً .. ولم ينطق كان ينظر إلى الطبيبة فحسب، ثمَ نظر سيدي إلى نادين وقال: 

 ستطلق السهام المضيئة الليلة .. سَتوّقَف الحرب .. وسيعود إليكِ يامن .. أخبرَني إنهُ يحبك .. فأبتسمت.. 

 كانت أكثر لحظاتنا سعادة .. باتت الأمور واضحة أمامي .. سيدي سيوقف حربه ضد زيكولا .. وسَنُغادر هذا البلد الملعون .. مع عوده جيشها إلى داخل سورها بعد أيام .. وخالد وزوجته قد ينتقلان معنا إلى أماريتا وإن كنت لا أعلم كيف ستعيش زوجته بالقرب مِن الطبيبة .. وقد رأت بعينيها حب زوجها إليها .. والأمر ذاته لِمَلِكُنا الذي لا يعلم بعد رد فعل الطبيبة حين تستيقظ وتجد خالد أمامها، ودق قلبي خشية إن تكون هذهِ اللحظات ليست إلا لحظات خادعة .. تسبق عاصِفة مهلكة .. لن تهدأ حتى تعصف بنا جميعاً......    
*********************************************************

الفصل التاسع وعشرون


 أماريتا | الحلقكنا جميعاً في إنتظار إفاقة أسيل .. لم تُغادرُنا إلا نادين وأخبرتنا إنها سَتبحث عن عمل بالمنطقة الشرقية حتى يوم رحيلنا إلى أماريتا أو حسبما يقرر يامن حين يعود، ثمَ هبطت إلى الرُدهه السفلية تبعتني منى .. التي لم تنطق بكلمة واحدة منذ دَلَفّنا إلى زيكولا .. بينما بقى الأماريتي وخادمته بجوار اسيل .. ودَلَف إلينا إياد مع غروب الشمس .. فاحتضنني غير مُصدق لعينه ورحب بِمُنى مندهشاً، ثمَ رَكَض يخطو الدرج إلى الغرفة العلوية لِيرى أسيل .. وهبط مجدداً بعد دقائق وأسارير وجهه منفرجة .. وجلس يحدثني عن حياتهم التي تبدلت كثيراً بعدما غادرتهم. 

*** 

وكان الليل قد حل حين أبصرت الأماريتي يهبط الدرج تمسِك يده جراباً قماشياً .. علمت فيما بعد أنهُ لِسِهام المضيئة وقوسها المطلق، ثمَ غادرنا ممتطياً جوادهُ في اتجاهه إلى صحراء زيكولا.. وصعدت مُنى إلى غرفة أعدتها لنا الوصيفة قمر .. ثمَ أخبرت إياد عن حديث الأماريتي بأن نرحل جميعاً إلى أماريتا في خلال الأيام القليلة القادمة .. فقال: 
                    

أنا لن أرحل 
                   

وأكمل: 
                   

لا أستطيع العيش خارج زيكولا .. وأعتقد أنَ يامن لن يفعل ذلك أيضاً 
                    

وسألني: 
                    

هل سَترحل معهْ؟ 
                    

فقلت: 
                   

لا أعلم .. لم تمُر إلا ساعات لي بزيكولا 


متابعة: 

بعد اتهامي بالخيانة .. لن أستطيع مغادرة هذا البيت .. وَمُنى ضعيفة لن تتحمل العمل في زيكولا، ليس أمامي إلا  مغادرة زيكولا، إما إلى بلادي أو إلى أماريتا..
                   

فسألني:
                    

كم أعطيت الطبيبة مِن وحدات
                    

قلت:
                   

الفَي وحدة
                    

قال:

                   
لقد أعطتك الكثير حقا يومها .. أنك مازلت غنيا بعد إعطائها الفَي وحدة .. على الأقل لَديك ألفين آخرين..
                   

فأومأت برأسي وقلت:
                    

نعم أدركت ذلك بعد لحظات مِن إعطائها وحداتي
                  

ثمَ سألته:
                   

إن إنتهت الحرب هل سيعود يامن إلى المنطقة الشرْقية؟
                   

قال:
                   

نعم .. ولن يستطيع أحد الاقتراب منه .. بعد ذلك الوشم، لقد نجا صديقُنا مِن تهمة الخيانة..
                 

فسألته متعجباً:
                    

ولماذا لم تفعل مثله .. وتنضم إلى الجيش؟
                    

قال:
                    

لا أحب الدماء .. أنا سعيد بتكسير الصخور هنا .. ولا احد يعرفني غير يامن بهذه المنطقة..
               

ثمَ تساءل:


خالد هل تحب زوجتك؟


قلت:


نعم


قال:


وَأسيل ؟


فسكت ثمَ قلت:


أُحبها أيضا


فقال:


إذن .. لن تستطيع العيش في أماريتا يا صديقي


فواصلت صمتي فقال:


أتعلَمّ لماذا لا أُحب؟


أجاب نفسهُ حين نظرت إليه:


الحب يجعل الرجال حمقى


وتابع:


لقد رأيت حُب هذا الملك لِأسيل، لقد حرك جيشه إلى بلادنا مِن أجلها .. وكان يوَد الذَهاب عبر سردابك .. لولا أرشدنا يامن إلى نادين خِشية ألا يعود .. فتصبح الحرب قَدرا محتوْما


قلت:


رأيت ذلك الحب في عينيه


وأكملْت:


لابد وأن هناك طريقا آخر إلى سرداب فوريك..


فضحك إياد وهز رأسه نافياً:


- تريدنا أن نعيد الكَرةً مرةً أخرى.


وكاد يكمل كلماتهِ .. لولا صاحت إلينا قمر مِن أعلى قائلة:


لقد حركت الطبيبة يدها


رَكضنا أنا وَإياد إلى الأعلى ودلَفّنا إلى غرفة أسيل، كانت قمر تُناديها:


سيدتي إننا هنا.


ولاحظت حركة أصابع يدها .. لكن عيناها كانت لا تزال مغلقة، فقلت لِقمر:


مازال عقلها ينشط تدريجي .. ستنهض في وقت قريب..


ثمَ أتجهت إلى الشُرفة .. ووقفت خلف ستارة بابها القُماشية دون أن أخطو إليها ونظرت إلى الخارج عبر فرُّجةٍ بين شطريها المُنسدلَين كان الشارع أمام البيت صاخباً .. تنيرهُ المصابيح النارية .. والقَمر المُكتمل بالسماء، فباتت تفاصيله جميعها واضحة جلية، أمتلأ بكثير مِن أهل زيكولا السائرين .. رجالاً ونساء، فَمَكَثت مكاني متوراياً خلف الستارة خوفاً أن يَراني أحدهم ويشي بي إلى جنودهِم .. لعنة حقاً أن يعرفك الكثيرون. 


دار بخُلّدي أن يصيح أحدهم بصوته قائلاً؛ الغريب الناجي من الزيكولا فيندفع الجنود إلى البيت وينتهي كل شيء بالنسبة لي وِلِأسيل وَلِإياد وَمُنى، قبل أن ينشغل عقلي بحديثي مع إياد وطريقي إلى سردابي مجدداً وعادت إليَّ رأسي تفاصيل المنطقة الغربية مرة أخرى، ثمَ احتبست أنفاسي وتشتَت تفكيري حين رأيت تلك العيون تُحَدق بي، كانت لِسيدة في عِقدها الخامس جلست فجأة بجانب الطريق أسفل مصباح ناري مواجِهاً لِلشُرفة كانت ملامحها تختلف عن باقي نساء زيكولا، كان وجهها أحمر ممتلئاً بالتجاعيد، تنسَدل على جانبه خصال مُجّدَلة مِن شعرها الرمادي الأشيَب وإلتف حول رقبتها وِشاح قماشي كان قديماً مثل معطفها الأسود البالي الذي تَكَّمَت بداخله فبعدت عيني عنها لِلحظات .. ثمَ نظرت إليها مجدداً فوجدت عينيها لا تتحرك عني فعُدت خُطوات للخلف فاختفت عن بصري .. ثمَ تقدمت بحذر مرة أخرى فإلّتقت عيناناَ، فحبست أنفاسي وحَدقت بِعينيها التي كانت تُشبه عيني الصقر. 


عدت إلى الخلف وأغلقت شطري الستارة .. فسألني إياد حين لاحظ اضطراب وجهي: 


ماذا هناك؟ 


قلت: 


هناك إمرأة غريبة كانت تُحملِق بي.. 


فنهض إياد ودس عينَيه بين شطرَي الستارة وسألني وهوَ ينظر إلى الخارج: 


أين؟ 


فقلت: 


تجلس أسفل مصباح على جانب الطريق أمامك مباشرة .. إمرأة مُسنة .. ترتدي معطفاً أسود. 


قال: 


لا أرى أحداً.. 


وعاد بجسده فمَدَدْت رأسي .. ونظرت إلى مكانِها .. فلم أجدها .. فقلت: 


كانت تُحَدق بعَينَي بِغرابة .. أتمنى أن يسرع الأماريتي .. علينا مغادرة هذا البيت .. لابد وأنها أسرعت لِتُخّبِر جنود زيكولا.. 


وكاد قلبي يتوقف حين وجدّتُها تَدلف إلينا فجأة بُحُجرة أسيل، وَتُحدق بي بِعينيها العميقتين الزرقاوتَين كأنها لا ترى غيري بالغُرفة .. فاحتبست أنفاسُنا أنا وَإيّاد وقمر .. قبل أن تظهر منى مِن خلفها وتقول بلهجتنا المصرية: 


كانت بتخبط على الباب بدون توقُف .. ومحدش منكم سمعها .. نزلت فتحت لها .. فطلعت على الأوضة مباشرة بدون ما تنطق ولا كلمة.. 


فتقدمت إليَّ السيدة .. كان نعلها الجلّدي يصدر صوتا مع أرضية الغُرفة الخشبية .. وأنا لا أُحرِك ساكناً .. تُحَدِق عيناي بِوجهها .. ثم توقفت أمامي ونَطقت إليَّ مُتلهِفةً بِلُغه لم أفهمها .. فنظرت إلى إياد علهُ فهِم ما قالته .. فبدى على وجهه أنهُ لم يفهم مِثلي .. وأعادت كلماتِها ذاتها إليَّ .. وإنتَظرَت حديثي وهيَ تُحدق بي .. فلم أنطق .. فأعادت كلماتها للمرة الثالثة وتساقطت دموعها على وَجنَتيّها ..  


لم أكن أفهمها .. لكني أدركت أنها تَتوَسل بشيء .. فَنَظرّت إلى منى التي طالما فاّقَتّني في اللغات الأجنبية علها فهمت ما قالته هذهِ السيدة التي تشبه أوروبي عالمُنا .. فَهزت رأسها لي نافية بِأنها قد فهمت أي شيء .. فقال إياد:


ليست زيكولية .. يبدوا أنها دخلت إلى زيكولا هذهِ الأيام..


كان ذلك واضحاً لا يحتاج إلى تفكير، ثمَ ضمت السيدة أصابع يدها اليمنى قبل أن تَفرد الثلاثة الأوسط مِنهم فقط .. وتضرب بيدها اليسرى على صدرها باكية .. وقالت جملة جديدة لم نفهم كلماتها المُتشابكة، ثمَ سكتت فجأة ومسحت دموعها مُهَروِلة ونظرت إلى وجوه الآخرين بالغُرفة المحدقين بِها، ثمَ إلّتفتت برأسها نحو باب الغُرفة ونظرت عبره بإستطلاع، ثمَ زحفت بجسدها كطفل أسفل سرير أسيل واختبأت ولم تَمُر لحظات حتى وجدنا الأماريتي قد عاد وكأنها قد شَعرَت به فإندهشنا.


كان وجهه مضّطربا ليس كما رأيته قبل ساعات، دَلَف إلينا وكان الجِراب القُماشي بِيده فسأله إياد:


هل أطلقت السِهام المضيئة؟ 


قال: 


لا. 


فسألّته في دهشة: 


لماذا؟ 


أجابني متوتراً: 


لم يكن الطريق النائي إلى وادي بيجاناَ خالياً. 


وأكمل: 


كان هناك ثمةَ جنود يَقتلون أحدهم بعيداً عن باقي جيش زيكولا .. ثمَ رَحلوا، فَنظرنا إليه ودقت قلوبنا خشية أن يُكمل ما حدثتنا به وساوسنا، فأكمل متجهِماً: 


كان القتيل صديقكم يامن.....     
*********************************************************

الفصل الثلاثون


 ساد صمت ثقيل بالغرفة زاغت معه الأعين، وإندفعت الدماء إلى وجهَي خالد وَإيّاد وإنتفخت عروق رقبتهما كأن صاعِقة أصابتهما .. بينما تسمَرت منى تنظر إلى زوجها .. قبل أن يصرخ إياد إلى سيدي بعد لَحظة مِن الذهوّل: 
                    

ماذا تقول؟ 
                    

قال سيدي متجهماً: 
                    

كنتُ في طريقي إلى وادي بيجاناَ .. وكان القمر يُضيئ مسافةً كبرى أمامي .. حين وصلت إلى وادي التِلال الصُغرى، سمعت صهيلاً مُفاجئاً .. ثمَ لَمَحت ظلالاً بعيدة لِأشخاص يَمّتَطون جيادهم .. كان أحدهم يحمل شعلة .. ويمسك آخر بحبلٍ يجُر شخصاً يهرول خلفهم مُترجِلاً بصعوبة، فَخفَفت مِن سرعة حِصاني وترَجلت حَذراً في إنتظار أن يبتعدوا عن طريقي، ثمَ دوّت صرخة مكتومَة .. أدركت معها أن هذا المجرور قد قُتل .. وكنت قد أقتربت مِنهم مُتوارياً خلف تبة صُغرى حين أِمّتَطوا جيادهم وَرحلَوا دون أن يبصروني .. كانوا سبعة جنود وقائدهم ثمَ سمعت أُذني خرخرة إحتضار القتيل فدَنَوّت مِنهُ. 
                    

وإلتقط سيدي أنفاسهُ .. ثمَ أكمل بعد برهة مِن الصمت : 
                    

لم يكن إلا صديقكم يامن، موثوق اليدين .. معصوب العينين .. منزوع الثياب .. إلا مِن سروال قصير .. تسيل دماؤه أسفل عُنقه المشقوق.. 
                    

ثمَ سكت وأكمل مِن جديد .. كأنهُ تَذَكر شيئاً: 
                    

كانت يده اليُمنى مُشوهة .. أزال أحدهم بِخِنجَرِه جِلّدها الموشوم. 
                    

فأمسك خالد بِرأسه .. كان يتمالك نفسه بصعوبة بينما لم يستطع إياد أن يتمالك نفسه .. وصرخ باكياً .. وضرب بقدمه صندوقاً خشبياً كان أمامه .. فأحدث إرتطامه صوتاً قوياً، ثمَ وضع رأسه بين كَفَيه وصاح ذاهلاً: 
                    

لا يحق لأي زيكولي أن يقتل يامن .. لقد كان يحمل وشم جُند زيكولا.. 
                    

وصرخ إلى سيدي: 


هل سمعته يقول شيئاً؟ 


فَهَز سيدي رأسه نافياً .. ولم ينطق. 

***                 

لحظات مِن التشتت مرة أخرى كعادة أوقاتنا بهذا البيت، كان خالد يجلس مسنداً ظَهره إلى الحائط .. شارداً تلمع عيناه بِدموعِها في صمت، قبل أن يسأل سيدي:
                

لماذا لم تُكمِل طريقك إلى وادي بِيجاناَ؟
                  

قال سيدي:
                  

كنت قد وعدت يامن بالنجاه .. أخبرتهُ واثقاً يومها أنني أوفي بوعودي .. لكن وعدي لم يتحقق..
                 

وأكمل:
                  

حين نزعت العُصابة عن عيناه الغائرتين .. شَعرت إنها لا تقول إلا شيئاً واحداً .. لا تفعلها..
                 

ثم سكت سيدي..
                 

كان خالد قويا مُتمالكاً أومأ برأسه إلى سيدي .. وعاد إلى شروده .. وبَدى أنهُ يفكر بِما حدث، كان هذا الشاب يعجبُني حقاً .. لم يكن كَباقي أهل زيكولا .. يخشى على وَحداته مِن التفكير .. كان ينظر إلى سيدي بين حين وآخر، ثمَ تعود عيناه إلى الشرود مجدداً، ثمَ نطق إلى سيدي مِن جديد:
            

هل كان هناك قتلى غير يامن؟


أجابهُ سيدي:


لا.


فَنَظَر إلى إياد وسأله:


هل هناك في زيكولا ما يقضي بقتل أي جندي .. غير خيانة جيشه؟


هز إياد رأسه نافياً .. يرتشف دموعه .. فَنَطق خالد مُحدثاً نفسه بصوت مسموع:


وإن خانَهُم وهذا لم يكن لِيَحدُث، لماذا يُقتَل بعيداً عن بقية الجيش، أعلم إن هناك خونة مِن الجنود فَيُقتَلون على مرأى مِن الباقين .. ليكونوا عِبرة وأكمل:


لم أرَ منضبطاً بالعمل مثل يامن .. عمَلنا معاً لِأشهر وعرفتِه جيداً .. كان مخلصاً لِعمله .. لا يحب إيذاء أحد .. وكان يحب زيكولا كثيراً وتابع:


لم يكن لِيخون جيشه أبداً.


وتساءل وهوَ ينظر إلينا:


ولماذا مَحو آثار وشمِه .. وجَردوه مِن ثياب الجند؟!


بعدها نظر إلى الطبيبة النائمة واطال نظرته .. ثمَ قال وهوَ يُحدِق بالفراغ:


لقد كان إنتقاماً .. مثل انتقامهم من أسيل .. إنَ زيكولا تنتقم من أصدقائي واحد تلو الآخر.


وسكت واضعاً رأسه بين ذراعَيه وأمْال جذعه إلى ركبتيه .. ثمَ وجدنا السيدة الغريبة تخرج إلينا مِن مخبئهَا زاحفة على رُكبتيها ويديها، ثمَ نَهضت وخَضِعَت أمام سيدي .. كعادة العامة أمام الملوك .. لكنها كانت ترتجف .. وكانت نظرة التعجب على وجه سيدي بادية لنا جميعاً .. فسألها: 


مَن أنتِ؟ 


فَنَطقت العجوز بِلُغتها الغريبة .. وقالت جملة لم نفهمها .. فَفوجئنا بسيدي يُحدثها بنفس اللغة التي نَطقت بِها .. فَنظرنا إليه .. ورفع خالد رأسه إليه وسأله: 


هل تفهم ما تقول؟ 


قال سيدي: 


نعم 


وأكمل: 


إنها تتحدث اللُغه الإيرجية لُغة إقليم أكتاراَ .. بلاد أقصى الشرق .. تَعلَمّت كثيرا مِن كلمات هذهِ اللغة .. قبل سنوات.. 


قال خالد ناظِراً إليها: 


وماذا قالت لك؟ 


قال سيدي: 


قالت:  إنها تعتذِر لِدخولها البيت بدون إستئذان. 


ثمَ نظر إلى خالد وسأله: 


مَن أتى بها إلى هنا؟ 


قال خالد: 


كنت أنظر عبر الشُرفة .. فَوجدّتها أمامي تُحَدِق بِعيني .. وَخِفت إن تَشي بي إلى جنود زيكولا، لكنني فوجئت بها تَدلُف إلينا وتُحدثنا دون أن نفهم مِنها كلمة واحدة، ثمَ اختَبَأت أسفل سرير أسيل قبل أن تعود بلحظات .. فَتعجبنا مما فعلَته.. 
               

فَحدثها سيدي بِلُغتها .. فأجابتهُ بكلمات كثيرة .. ثم سكتت .. وقال سيدي:


تقول: إنها خَدمت لسنوات طويلة بِقصور حُكام بِلادها .. وتعلم جيداً وَقع أقدام الملوك على الدرج .. لذا إختبأت حين سمعت وقع أقدامي .. تقول:  إنها تَخافهُم كثيرا .. وتكرههُم.


ثمَ بكت السيدة .. وتشابَكت كلماتها بِدموعِها .. وتحدثت إلى سيدي .. وضربت صدرها بيدها كما فعلت أمامنا سابقاً .. وأشارت بِثلاثة أصابع مِن يدها الأخرى مجدداً .. ونظرت إلى خالد .. وأكملت حديثها .. فَحدثها سيدي بلُغتها .. كان يبدو سؤالاً مِنه .. فَهَزت رأسها وأكملت..


كان سيدي يترقب وجهها وهيَ تتحدث ونقف نحنُ كَالبُلَهاء .. لا نفهم أي شيء .. بينما كان إياد شارداً .. لا يعبأ بكلماتها .. لا يلبث أن يمسح دموعه .. فتتساقط غيرها، ثمَ نظرت العجوز إلى خالد مُجددً وهي تتحدث باكية، ثمَ نظرت عيناَ سيدي إلى الأرض وهز رأسه .. كانت نظراته إليها نظرات حُزن أو شَفَقه أو تعاطف .. لا أدري كنا ننتظر حديثه إلينا لنفهم ما تقول .. ثمَ سكتت بعد وقت طويل مِن الحديث المتواصِل المُختلط بالبكاء، فقَبل سيدي رأسها .. وصار جسدها يرتجف بقوة .. وإنهَمَرَت دموعها بغزارة حين بدا سيدي يُحدثُنا قائلا:


إنها اتِفاقية البشر مقابل الديون .. لم تنضم زيكولا إلى عهد مينجا بين بلادنا .. لكن يبدو إنها طبقت اتفاقيتها مع بلاد أقصى الشرق أو ما يُسمى بإقليم أكتاراَ .. دون أن يعلم احد .. قرأت قديما أنَ سكان هذا الإقليم كثيرون للغاية .. الآلاف المؤلفة .. يمتازون بِذَكاء لا يوجد بسُكَان أي بلد آخر غير أنهم فُقراء فقر مُدقع .. كذلك لا تنتهي حروبهم فيما بينهم أبداً .. يبدو أن ذَكاءهُم أثار شهوة زيكولا، و رَأوا إنهم ذوي قيمه عن أهالي بلاد مينجا.


تقول السيدة إنها كانت تخدُم بِقصر مَلِكها يوم جاء إليه رَسُلاً مِن زيكولا قبل أربعة سنوات .. وبعد تلك الزيارة تبدّل كل شيء ببلادها.


عربات كثيرة للغاية .. دَلَفَت إلى بلادهم .. محملة بالأسلحة والبضائع والمؤن مِن شتى الأنواع .. لكن فُقراءها لم ينالوا مِنها شيئاً بل دفعوا هم الثمن .. عادت تلك العربات ذاتها محملة بالآلاف مِن فقراء اكتاراَ عرايا مكبلةٌ أعناقهم بِأغلال حديدية .. مَن يرفع رأسه لِتوَدع عيناه أهله .. ينهال السوط على جِلّده فَيمزقه.


كان هناك ثمةَ حرج على وجه سيدي، وصَمت برهة فعلِمت ما يدور برأسه، لقد جال بخاطره ما حدث لنا أنا والطبيبة .. وغيرنا مِن فقراء بيجاناَ .. حين كنا ضحايا اتفاقه مع بلدِنا .. أو ربما تذَكر حديث الطبيبة إليه حين حدثته أمامنا عن ميزان العدل.


ثمَ أكمل:


تقول إنهم كانوا يختارون الشباب والصغار، كانت العربات تأتي مرتين بالعام .. إنَ بابهُم لا يغلَق .. بات يغلَق ولا يُغادره أحد .. مَن يغادِرّه يُقتَل، أربعة أعوام بِإقليم اكتاراَ .. لا يعلو صوت فوق صوت السياط على الأجساد .. كانت آخر العربات مُنذ أربعة أشهُر .. حملت ثلاثةً مِن أبناء هذهِ العجوز .. وحين قبّلت قدم حاكمِها لِيعيد إليها أبناؤها .. ضُربت بالسياط .. وألقوا بِها خارجاً ..


ليس لديها غيرهُم .. جاءت خلفهم بعدما إستطاعت الهرب لم يهتموا لِأمرها لِكِبر سنها .. وأشفق عليها حارس كان يعرفها حين عملت بِقصر مَلِكهِم .. وبدأت طريقها إلى هنا خلف أولادها .. تَتنقل بين عشائر الوديان .. ثمَ وصلت إلى زيكولا مع تاجر إحدى العشائر .. عَلِم بِأنَّ زيكولا قد فتحت بابها..


أربعة أشهر كي تصل إلى زيكولا .. في طريق لا يستغرق إلا مسيرة شهر واحد بالعربات .. وظلت تبحث بين الوجوه لم يعطيها أحد اهتمام .. ولم يفهمها أحد .. ولم يطعِمُها إلا ذلك التاجر الغريب .. حين أعطاها قبل رَحيله بِضع قِطع جافة مِن الخُبز .. 


كانت قد تعبَت حين جلست على جانب الطريق اليوم .. وَوجدت عينَيك فجأة .. فأدركت أنك غريب عن هذا البلد .. مثل أولادها .. وقد تكون رأيت أحدهم .. فَدَلفت إليك لتستنجد بك..


فقاطع إياد سيدي وقال مبحوح الصوت:


أربعةُ أعوام .. تحضر زيكولا رجالاً مِن إقليمها؟ لم أُقابل أحدا بِزيكولا يتحدث هذهِ اللغة مِن قبل..


وقال خالد متعجباً:


وأنا لم أرى أحد مِنهم على مدار أشهُري الأولى بزيكولا .. إنتظر .. مَرتان بالعام؟!!! .. والمرة الأخيرة منذ أربعة أشهر .. ومسيرة العربات شهر واحد، أي دَلَفَت هذهِ العربة إلى زيكولا قبل ثلاثة أشهر!!


فَنَظر إلى إياد وسأله:


كان باب زيكولا مغلقاً .. أليسَ كذلك؟


قال إياد: 


بلى .. لا مجال لِلشك بهذا الأمر.. 


وأكمل 


إنَ هذه العجوز تَكذِب .. أو أصاب الخَرَف عقلها. 


فقال خالد بصوت شارد وهوَ ينظر إلى وجهها المُجعَد وعينيها العميقتين: 


أو تمتلك زيكولا التي تنتقم منا .. مدخلاً آخر .. مدخل لا يعلم عنه الكثيرون مِن أهلها.....      
*********************************************************

الفصل الواحد و الثلاثون


 قال خالد هائماً: 
                   

- أو تمتلك زيكولا التي تنتقم منا .. مدخلا آخر .. لا يعلم عنه الكثيرون.. 
                   

فَنطقَ إياد: 
                   

هذا مستحيل.. 
                   

ثمَ نظر سيدي إلى السيدة الغريبة .. وحدثها بِلُغتها ولمّا إنتهى هزت له رأسها في حزن .. وهَمت لِتغادر .. فسألَه خالد: 
                   

ماذا قُلت لها؟ 


فأجابه:
                  

أخبرّتَها إننا لن نستطيع مساعدتها .. لم نرى أحدا مِن أهلها مِن قبل .. وسنرحل قريباً..
                  

فقال إياد:
                   

أخبرها إن الحاكم سيلقي خِطاباً إلى أهل المنطقة الشرّقية صباحاً .. سيجتمع الكثيرون هناك .. ربما يكون جمعاً ذا فائدةٍ لها.
                   

فأخبرها سيدي بذلك .. فربتت على يده .. ثمَ انحنت بجذعها لِسادتي جميعهم .. كأنها تشكُرهم .. ثمَ غادرتُنا .. ومال إياد على جانبه وأغمض عينيه ونام موضعه .. بينما غادرت منى إلى غرفتها .. وظَلَلّت أنا بجوار سيدتي .. ومكث سيدي وخالد بالغرفة .. وكان يغلبني النعاس بين حين وآخر .. ثمَ سمعت خالد يسأل سيدي:
                   

متى سيصل جَيْشُك إلى الشاطئ؟
                    

فَأجابه:
                  

خلالَ تلكَ الأيام.. 
                  

فسأله مُتعجبا: 
                 

ألا تعلم لوصوله وقتاً محدداً؟ 
               

فقال: 
              

لا أستطيع أن أُحدد موعداً دقيقاً .. ممر هضاب الريكاتا وسط بحر مينجا لا يمرر إلا سفينةً واحدة .. ولا اعلم كم تم تجهيز من السفن. 
                

وأضاف قائلاً: 
             

لم أمتلك الوقت .. لقد أخبرَني الأطباء .. إنَ حياةَ أسيل في خطر إن طالت إغماءتها .. فَكَلَّفت كبير قادتي بِتجهيز جيشنا .. أثِق به تمام الثِقة. 
                 

وتابع: 
                

وزادت ثِقتي حين رأيت جيش زيكولا .. لم يكن ضخماً كما تخيلناه دوماً، وسكت فسأله خالد: 


هل أخبرتك أسيل أنها تحبك؟ 
                   

فصمت سيدي .. ثمَ قال: 
                   

لا. 
                   

فسكت خالد .. وساد مع سِكوته سكون الليل، وأَغمضاَ أعينهما .. فأسندت رأسي إلى ذراعي الممتد بجانب الطبيبة .. وإستغرقت في النوم لتمُر ساعات تلك الليلة الطويلة .. قبل أن تشرق الشمس .. وأطلق صرخة مدوية .. نهض معها جميع مَن بالغرفة حين شعرت بِأصابع ناعمة تُداعب شعري، وَلما رفعت رأسي ونظرت إلى الطبيبة بِعين نصف مفرجة، وجدتها تنظر إليَّ.
                  

وقفّنا جميعا مُشرقةٌ وجوهنا بجانب سرير الطبيبة .. سيدي عن يمينه إياد .. عن يمينهِ خالد، وعُدّت أنا إلى الخلف .. منفرجة أساريري .. كانت أعينَهم تُحدق بعينيها فرحةً، بينما كانت هي تنظر هائمة في اتجاه واحد دون غيره .. نحو خالد، ثمَ إنّهَمَر سَيّل مِن دموعها على جانب وجهها .. وهمست فَرِحة بإعياء:        
                

- خالد ..


فَابتسم وهز رأسه فَرحاً .. وربت على يدها .. فَابتسمت وضاقت عيناها، ثمَ نظرت إلى إياد وإلى سيدي .. الذي كان يرتدي ثياباً زيكولية وبدت على وجهها حيرة .. زادت بعدما نظرت إلى ذراعها المثبت به أنبوب معدني رفيع، ثمَ حَدقت بِسقف الغرفة ودارت عينيها إلى الغرفة مِن حولِها .. وقالت:


أين أنا؟


فقال سيدي فرحاً:


إننا في زيكولا..


فَنظرت إلى الفراغ أمامها كأنها تستوعب ما يكون قد حدث، ثمَ عادت وسألتنا:


ماذا حدث؟


فابتسمنا جميعاً .. وقال خالد بلهجتِهِ الغريبة ضاحكاً:


فيه حرب هتقوم بسببك..


ثمَ وجدناها تحاول أن تنهض بجسدها فأسرعت وساعدتُها .. وثَبت وِسادة وراء ظهرها .. فسألتني:


ماذا حدث يا قمر؟


فهمست إليها باسمة:


سأرويِ لَكِ كل ما حدث يا سيدتي..


فحركت عينيها مجدداً إلى خالد واطالت نظرتها كأنها تتأمله فغادر سيدي الغرفة، ثمَ أحضرت لها شراباً ساخناً وساعدتُها كي تحتسيه بأكمله .. وكانت نظرات الحيرة لم تُفارق وجهها .. فقلت:


لقد أحضركي إلى هنا سيدي الملِك، منذ فقد عقلَكِ وعيَهُ بغرفتك الشَرّقية..


فصمتت كأنها تَتذكر .. فبدأتُ أروي لها ما حدث منذ شهر مضى، وكيف وجدناها تصرُخ شاحبة تلك الليلة .. وعن خِطاب سيدي إلى شعبه معلناً حربه ضد زيكولا لِيسقط خيانَتها، كان خالد يجلس بجوارها ممسكً يدها .. ويَندهش أحيانا مِن حديثي هو الآخر .. وأكملت لها عن عبورنا بحر مينجا على سفينة مَلَكية .. وعن ذلك النجم الذي لمع وحيداً ليلة وصولنا إلى الشاطئ الشمالي .. وعن عبورنا باب زيكولا .. وعبورها داخل صندوق للذهب .. والذي فشل سيدي في نقل ثمنه مِن الذكاء إليها بعدما قبل يدها، فأحمرت خَجلاً .. ونظرت بِطرف عينيها إلى خالد.


ثمَ حدثتها عن لقائي بِإيّاد صدفة .. ولم أزِد بهذا الأمر كنت لا أريد أن أتذكر ما فعلته تلك الليلة .. ثمَ أكمل إياد الحديث .. وأخبرها عن اتهامها بتهمتين للخيانة وعن ذلك القانون الذي أصدرته زيكولا فاقتَص كل وحدات ذكائها، فوجد سيدي إنَ سبيلها إلى النجاة هو عودةُ خالد ثمَ توقف عن الحديث حين دلفت منى إلى الغرفة .. وسكتنا جميعاً .. فَنظرت إليها سيدتي وسألتني عنها .. فسكتُ فتعجبت مِن سكوتي .. وأضطرب وجه خالد .. وسَحب يده بعيداً عن يد سيدتي .. فَنظرت إليه وسألَته بإعياء في ترقب:


- هي؟


فقال خالد:


نعم .. منى زوجتي


فأخفَضت سيدتي عينيها .. ونظرت شاردة إلى الغطاء الذي يغطي جَسدها .. واحمر وجهها احمرار شديداً .. وسكتت كأنها جُمِّدَت .. ثمَ الّتمعت عينيها بالدموع فغادرت منى ونهض خالد هادئاً .. وغادر الغرفة تبعه إياد الذي أغلق الباب خلفه وكانت سيدتي لا زالت تخفض عينيها قبل أن ترتجف شفتاها وتنفجر في بكاء عنيف فأقتربت مِنها وضممت رأسها إلى صدري وظلت تبكي إلى إن هدأت شيئاً فشيئاً ثمَ مسحت دموعها وسألتني عن سيدي الملك .. فهبطت الدرج إلى الرُدهة السفلية .. فوجدت إياد وخالد يجلسان صامتين فسألتهما عن سيدي .. فأخبراني إنه قد خرج رَكضا خلف نادين التي جُنَت حين أخبرها بِمَقتل يامن.


***


كان الأماريتي قد هبط الدرج إلى الرُدهَةُ السفلية .. وجلس شارداً مُخفض الأعين، ثمَ دَلَفت إليه نادين فجأة فَرحب بها .. وحين سألَته عن ذلك الشرود على وجهه أخبرها إنهُ بخير .. ثمَ سألَتهُ عن الباقيين فأضاف:


إنهم بغرفة أسيل .. لقد إستعادت وعيها.


فَفرحت .. وكادت تصعد الدرج إليهم فسألَته:


هل أوقفت الحرب إذن؟


قال:


لا.


سألَته متعجبة:


لماذا؟


قال:


سَأُوقِفها عليكِ ألا تقلقي..


قالت باسمة: 


أريد أن يعود يامن.. 


فصمت قليلاً ثم قال: 


لا أعدكِ بذلك 


فتركت سياج الدرج وسألَته: 


ماذا؟ 


قال الأماريتي متجهماً: 


لقد قُتل يامن بالأمس.. 


فَدق قلبها بقوة ونظرت إليه قاطبة ما بين حاجِبيها، وعادت وأقتربت مِنه .. ثم صرخت به غير مصدقه: 


ماذا تقول؟ 


قال: 


هناك أشياء كثيرة لم نعُد نفهمها في زيكولا.. 


فصرخت إليه مجدداً: 


لا تهمني زيكولا .. هل مات حقاً؟ 


فأومأ إليها برأسه حزيناً .. فأمسكت برأسها ذاهلة .. وركعت على ركبتيها وصرخت باكية .. وظلت تبكي وتضرب بيدها على الأرض بقوة .. ثمَ نظرت إليه فجأة كالمجنونة يتطاير الشرر مِن عينيها: 


مَن قتلَه؟ 


قال: 


ثمةَ قائد زيكولي وجنوده .. لا أعرفهم.. 


فنهضت وقالت: 


سأقتلهم جميعاً.. 


ثم رَكَضَت نحو باب البيت .. وغادرته مُهروِلة .. فنهض ورَكَض خلفها.....   
*********************************************************

الفصل الثاني و الثلاثون


 كانت شمس الصباح قد أشتد قيظُها حين أسرعت نادين إلى شوارع المنطقة الشَرّقية تجري حافية القدمين .. كمَن فقد عقلَه لا تعلم لها وجهة .. ويخطو خلفها الأماريتي مُسرعا دون أن يركُض لا يريد أن يلفت الإنتباه إليهما .. لكنها لم تَغِب لحظةً عن عينيه .. وإن غابت رَكَض قليلاً ثمَ سار مجدداً .. حتى وجدها قد توقفت بِأحد الأزقة الجانبية، وجَثت على ركبتيها .. وإنفجرت مجدداً في بكاءها فأقترب مِنها دون أن تراه وتركها تُكمل بكاءها وظل واقفاً موارياً جسده وراء جدار بيت، ثم جلس وأسند ظهره إلى ذلك الجدار .. ونظر إلى سماء زيكولا تسمع أُذنه نحيبها ثمَ سكتت فجأة فإلّتفت ومد رأسه إليها فوجدها تحدق كحيوان بَري بجندي يقف على مقرِبة منها .. وأمسكت بيدها حَجراً كان بجوارها ونهضت تتحرك نحوه بِبطأ تلتمِع عينيها بغضب كان كفيلاً لِهلاك صاحبه وكادت تُغادر الزُقاق .. فأمسك بِها الأماريتي وكمم فمها بيده وجرها إلى الزُقاق مرة أخرى وألقى بالحجر جانباً وهمس إليها: 


                    

عليكِ أن تهدأي .. ستُقتلين أنتي الأخرى..


                    

فصرخت به:


                    

دعني وشأني .. أنك السبب فيما حدث..


                    

فسكت وترَك يدها .. فَنَظرت إليه حانقة، ثمَ جلست موضعها .. وعادت دموعها لِتسيل على وجهها .. وقالت بصوت هادئ:


                    

كنت قبل سبعةِ أشهر .. مجرد جسد يشتهيه الرجال لا أكثر .. جسد يسعَد بوحدات ذكاءهِم .. مقابل إرضاء شهواتهم، ثمَ اختبئنا معاً .. فتبدل كل شيء..


                    

وابتسمت ابتسامةً مُرة .. وأكملت:


                    

كان خجولاً للغاية، كلما حاولت غِوايتَه .. احمر وجهه .. اختلق حديثاً آخر .. قبل أن يدعي النعاس .. حتى وإن كنا ظُهراً، كان بسببي يَنام اليوم بأكمله .. أدركت بعدها إنه كان يسهر حين كنت أنام، ويوم بعد يوم وجدت جسدي لم يعد يشتهي الرذيلة .. وحدثَني عقلي بِأن أعمل مثل باقي نساء زيكولا الشُرفاء .. إن نَجَونا، ثم حدثته بذلك .. فإحتضنني خجلاً دون أن يقول شيئاً .. شعرت إنني أسعد فتاه بهذا العالم وقتها


                    

كنت في بداية اختبائنا .. ألعن أيامي .. لكني في آخر الأيام .. أدركت إنها الخمسة أشهر المُثلى بحياتي، وإن لم اكتسب وحدة ذكاء واحدة خلالها .. وأُطعمت بِأرِدَأ الأطعِمة .. كي أحافظ على مخزوني.


                    

كان يعلم إنني أُحبه .. لذا أخبرك متيقناً إنني سأذهب عبر سرداب فوريك لا مِن أجل زيكولا ولا مِن أجل الطبيبة .. بل مِن أجلهِ فقط .. مِن أجل رجلٍ جعَل لي قيمة.


                    

ثمَ هزت رأسها وقالت:


                    

لم أكن أُدرك قبله .. إن شعور المرأة بقيمتها .. يَغنيها عن ثروات العالم جميعها..


                    

فقال الأماريتي هادئاً:


                    

هذا البلد ملعون بكل ما به .. سنُغادر وستعيشين حياةً جديدةً ببلدنا .. لن أنسى مساعدتكِ لنا..


                            

          
                

فقالت:


لم تُعد تختلف كثيراً سيدي..


ثمَ نهض .. ومد يده إليها فأمسكت بِيده ونهضت .. وخرجا معا إلى شارع واسع كان مزدحماً بِأهل زيكولا .. يسيرون في اتجاه واحد يعاكس اتجاههُما، فأكمَلاَ طريقهما بصعوبة وكادا ينحرفان إلى شارع آخر .. فوجدا جندياً على جواده يصيح بهما .. وأشار إلى اتجاه مسيرة السائرين .. وقال:


في هذا الاتجاه..


فَنظَر إليه الأماريتي يَستفهم ما يقصده .. ثمَ وَجد عددا مِن الجنود يأتون مِن خلفه .. فقالت نادين:


إنهُ خِطاب الحاكم .. سيدفعون الناس جميعهم إلى الساحة الشرّقية .. لقد عُلِقنا معهم.


وأشارت إلى مسيرة أخرى بعيدة تَدلِف في الاتجاه ذاته خلفهم بضع جنود ممتطين أحصنتهم .. وصاح الجندي إليهما مرة أخرى:


أسرِعا وإنضما إلى المسيرة .. سيتوقف العمل بزيكولا خلال خِطاب الحاكم..


أغلق الجنود الشوارع بأكملها .. ودفعوا كل مَن بها إلى الطريق المؤدية إلى الساحة الشرّقية التي عُرِفت دوماً إنها لِذبح فقير يوم زيكولا، فإنجرَف الأماريتي ونادين مع زِحام السائرين .. وأكملوا سَيرهم .. وبدأت الطبول تدق مِن حولهم .. وعلت الموسيقة المسيرة بعدما إنضم العازفون إليها


***


كانت الابتسامة تعلو كافة الوجوه .. عدا وَجهي الأماريتي ونادين .. وَوجهٍ آخر مُجعداً بدا حائراً لا يفقه شيئا مما يحدث حولَه .. كان سائراً مع تيار السائرين بلا هدف .. يتفقد الوجوه مِن حولِه ومِن خلفهِ فحسب .. كان وجه السيدة الإكتارية المسنة .. التي التحقت بالمسيرة بعيداً خلفهما .. ثمَ وصلت المسيرة إلى الساحة الشرّقية .. ورأت أعينهماَ مَنصةً كبرى .. قد شيدت بقُطبِها البعيد.


وصار الزحام شديداً .. ولم يكُف العازفون عن عزف موسيقاهم .. تراقصت بعض الفتيات مع رفاقِهِم مِن الشُبان .. وقام آخرون بحركات بهلوانية .. فقالت نادين حانقة:


أرض الرقص والبَهلوانات..


وازداد الزحام حتى أصبحت الساحة ممتلئة عن آخرها .. وكان النهار قد إنتصف أو كاد .. حين دَقت طبول كبرى .. كانت دقاتها أعلى صوتا مِن طبول العازفين .. وأُطلق بوقٌ عالٍ .. فتوقف العازفون عن عزّفهِم .. وارتقى المنصة بضع مِن الفُرسان لَمِعت دروعهم مع إشاعة الشمس العمودية .. ثم صعد عددٌ مِن رجال أغلبهم شيب الرؤوس .. يرتدون عباءات يدرك الجميع أن ثمن الواحدة منها يفدي كثير مِن الذبح يوم زيكولا، واتخذوا مقاعِدهم بجانب المنصة .. فقالت نادين إلى الأماريتي:


إنهم المجلس الزيكولي الأعلى .. هم مَن وضعوا قانون الخيانة.


وأشارت إلى أوسطَهِم .. وقالت:


- أوسطَهم .. هو كبير القُضاه .. مَن أعلن خيانة الطبيبة وخالد..


فَهَز الأماريتي رأسه .. وأمسك بيدها .. وتقدَم بِها بين الصفوف في اتجاه المنصة .. فقالت وهيَ تتجنب الأرتطام بالآخرين:


ظننت أنك لم تحب المَجيء إلى هنا..


فقال:


أريد أن أسمع ما يقُولُهُ حاكمكم..


واجتازاَ عددا مِن الصفوف .. قبل أن ينطلق بوقٌ آخر .. فساد الصمت الزحام الشديد .. وصعد المنصة حاكم زيكولا، كان وجهُه مُتورِداً مَن يرَاه مِن بعيد يظن أنهُ شاب ليس في الخمسين مِن عمره .. فنهض رجال المجلس الزيكولي .. فحياهم وأشار إليهم أن يجلِسوا مجدداً .. ثمَ وقَف أمام أهل زيكولا .. وقال ساخراً بصوتٍ عالٍ إلى الوجوه التي ترقبت كلماته:


لم يظهر أي أماريتيٍ بعد .. لقد أصاب جيشنا الملل..


فَهَلَل السامِعون وحدَث مَن سمِع مَن لم يسمع ثمَ أكمل غاضباً:


يبدو أن طِيبَةَ بلادنا جعلت الطامِعيْن يظنون إننا ضُعفاء مثلَهم، لقد آن الأوان لِنَضرِب بيَد مِن حديد على هؤلاء الطامعين.


هل سمعتم مِن قبل عن كبرى المعارك بهذا العالم..


أريدَكُم أن تَستَعدوا لِتقُصّوا على أحفادكم قصصاً كثيرة عن كبرى معارك بحر مينجا التي سحقت بها زيكولا بلد ضعيف يسمى أماريتا قبل أن يقودنا بحاروها الممزقه جلودهم إلى أرضهم لتصبح أرض الذكاء الجديدة.


إنني أعدكم بِأن يوزع ذكاء الأسرى عليكم جميعاً.


فصفق رجال المجلس الزيكولي .. وهلَلّ السامِعون بِحماس، بينما نظرت نادين إلى الأماريتي الذي لم تتبدل تعابير وجهه منذ بدأ الحاكم خِطابَه .. ثمَ فوجئت بمن تجذب ثيابه مِن الخلف .. وتُحدثهُ بِلُغة غريبة .. مشيرةً بيدها إلى جانب المنصة .. الذي يجلس بهِ رجال المجلس، كانت السيدة الإكتارية .. فَنَظر الأماريتي بعيداً نحو اتجاه يدها .. وحدق بِفارس شاب حَليق الشعر لا يرتدي خوذة مثل باقي الفُرسان .. كان يقف ثابتاً صارم الوجه خلف مَن أخبرتهُ نادين أنه كبير القُضاة .. وظل مُحدِقاً به لِلحظات .. ثمَ همس إلى نادين .. وقال: 


أُنظري إلى كبير القُضاة.. 


فقالت: ماذا به؟ 


فقال: 


هذا الفارس الشاب الواقف خلفه هو مَن قَتَل يامن.. 


ثمَ أمسك يدها بقوة خشية أن تُجَن مجدداً وهمس إلى السيدة الغريبة .. ثمَ تراجَع إلى الصفوف الخلفية يجُر بيده نادين، فوجد الجنود يحيطون بقُطْب الساحة الجنوبي .. فأشار إليها أن تهدأ .. وإنتظراَ حتى إنتهى الحاكم مِن خِطابه .. وبدأ الناس في الإنصراف .. فإنصرفا بينهم .. وعادا متجهِين في طريقهما إلى بيت رِفاقهما....   
*********************************************************

الفصل الثالث و الثلاثون


  أصابنا قلقٌ كبير حين أخبرتّنا منى قبل أن تعود إلى غرفتها أنَ الأماريتي قد خرج يَركُض لِلحاق بِنادين التي بكت بِهستيرية .. وخرجت تركض كأنها جُنَت .. وَوصل قلقُنا قِمَّتَه لمّا تأخرت عَودةُ أي مِنهما لساعات .. ثمَ وجدنا أسيل تخرج مِن غرفتها تتكأ على قمر .. كانت تسير بصعوبة بالغة وتطالبها متألمةٍ بين خطوةٍ وأخرى بِأن تتوقف عن السير .. كأن جسدها قد بدأ في تيَبُسِه بعد تلك الرقدة الطويلة .. ويحتاج إلى إستعادة مرونَته مع الوقت .. فنهضت لِأُساعدها فاشارت إليَّ كي أبقى مكاني وأكتفت بِمساعدة قمر لها حتى هبطت الدرج وجلَست على مقعد بجوارها .. وساد صمت ثقيل .. ثمَ غَمز إياد بعينه إلى قمر وصعدا سوياً إلى الأعلى وتَركاناَ بمفردنا .. ومرت لحظات صمت أخرى .. ثمَ نَطقت هادئاً بِجمل متقطعة جالت في رأسي: 


                    

مكنتيش هتقدري تعيشي في عالمنا .. وأنا مكنتش هقدِر أعيش في زيكولا وأسيب جدي.


                    

وصمَت قليلاً ثمَ قلت:


                    

كنت بجري زي المجنون أدَور عليكي بعد ما نجيت مِن الدبح..


                    

وصمَت برهة .. ثمَ تابعت:


                    

مكنش لازم تديني مِن وحداتك وأنتِ عارفة إنها خيانة.


                    

فإلتمعت عيناها بالدموع فأكملت:


                    

منى كانت السبب إني أنزل سرداب فوريك .. وأوصل لِزيكولا .. وأقابلك .. هي كمان طيبة وبتحبني جداً .. وأكيد مُشتَتة زيي دلوقت .. عمري ما تخيلت إن الأمور تسوء للدرجة دي.


                    

ثمَ سكت لم أعُد أجد مِن الكلمات ما أنطق به .. كان يعتريني شعور بِالخجل يضطرب معه داخلي أضطراباً شديداً .. لا أستطيع أن أتجاهَل حب منى لي ولا أسيل التي أحبتني فأضرها حبها لي وعصف بحياتها كاملة .. لِيجتاحني شعور لم يفارقني منذ دَلَفت إلى زيكولا ووجدتها راقدة .. أنني لم أكن سوى نَذلاً كبيراً .. فقالت بصوت متعب تختنقه الدموع: 


                    

كنت في سجن بيجاناَ .. وهرِبت بين فُقرائها إلى أماريتا بحثاً عن فرصة قد تلوح للعودة مجدداً إلى زيكولا مِن أجل هدف واحد .. أن أعبُر سرداب فوريك إلى بلدك لِأصل إليك وأكمل حياتي معك ..  


                    

وعضت شفتيها بمرارة 


                    

وأكملت: 


                    

تقوَس ظهري مِن حمل الصخور في أماريتا لكني تَحاملت حين رأيت طيفَك أمامي يسانِدَني. 


                    

وابتلعت ريقها وتابعت: 


                    

كان السَّمين يسُبني .. فَكُنّت أقول في نفسي .. مِن أجلك يا خالد. 


                    

وهَربَت دموعها إلى خديها: 


                    

كان جسدي الضعيف .. يعانِد كل عناء .. ويتحمل كل شيء .. مِن أجل فرصة ... فرصةٍ أصِلُ بها إليك مجدداً. 


                    

ثمَ صمتت لوقت طويل كأنها تَتذكر ما حدث لها أشهرها الماضية .. ثمَ مسحت دموعها بأصابعها ولكنها ما لَبِثَت أن تساقطت حين قالت: 


                            

          
                

لم أندَم لحظة واحدة لأنني ساعدَتك يومها.. 


فقلت: 


الأماريتي يحبُك كثيراً 


فَرمقتني بطرف عينيها و لم تنبس بكلمه مجدداً .. ثمَ دَلَفَ إلينا الأماريتي .. ومعه نادين بعد وقت قليل .. وهبط إياد وقمر مِن الأعلى .. لم تكن نادين بذلك الجنون الذي تحدثت عنه منى .. وبدا أنها هدأَت خلال تلك الساعات بالخارج .. فتساءل إياد متعجباً: 


أين كنتم طوال تلك الساعات؟ 


فقالت نادين: 


أجبرنا الجنود على حضور خِطاب الحاكم. 


فضرب رأسه .. كانه قد نسي أمر ذلك الخِطاب .. ثمَ نظر الأماريتي إلى أسيل فَنظرت إليه في عينه .. ثمَ قال:


علينا أن نغادر جميعاً الليلة .. سنُخيم بصحراء زيكولا .. حتى يعود جيشها إلى أسوارها..


فقلت بلهجة زيكولية:


لما التَعجُل؟ ماذا حدث؟


فقال:


يبدو أنَ هناك ثمةً أمر عظيم لا نفهمه .. لقد كنت محقاً إنَ زيكولا تنتقم مِن أصدقائك.


فَنَظرنا إليه جميعا مدهوشين .. وتابع:


لقد رأيت اليوم قائد الجنود الذي قتَل يامن بِوادي التلال الصغرى .. أخبرتني نادين إنهُ حارس كبير قُضاه زيكولا .. الذي أعلن خِيانتكُما يوم زيكولا الماضي..


فانطبع القلق على وجوهنا جميعا .. ثمَ أكمل:


في الوقت ذاته أخبرتني المرأة الإكتارية .. أنَ هذا الحارس مَن كان يقود على جواده رِتل العربات الخشبية المُحَملة بِفُقراء أكتاراَ العرايا إلى زيكولا .. يبدو أنَ الأمر لم يكن مجرد خيانة لِحفر نفق عِبر سور زيكولا .. إنهُ أمر خفي .. تزداد خطورته مع كل لحظة تمّكثون بها في زيكولا.


ثمَ نظر إلى أسيل .. وقال بكبرياء مَلِك:


لقد أقسمّت على نَجدَتُك أيتها الطبيبة .. لم أنسى للحظة واحدة نظرتكِ الأخيرة إليّ قبل إغماءتك وسأظل أُحافظ على قَسَمي هذا.


كان يتحدث إلى أسيل .. كأنهُ تيقَن إنها لم تُبادله الحب وأكمل إلينا:


لقد أحبَبتَكُم جميعا .. ولا أريد إلا أمانَكُم .. سأرحل الليلة سأُطلق السهام المضيئة ليتوقف جيشي عن عبور الريكاتا .. طالما أنتم آمنين معي.


فقال إياد:


أنا لن أرحل


وقالت نادين:


وأنا كذلك


فَنظرت إليّ منى التي هبطت إلينا مع آخر الحديث،  ونظر إليَ الأماريتي في إنتظار حديثي، فصمت قليلا ثمَ قلت:


إن غادرت لا أستبعد أن تصدر زيكولا قانوناً آخر ينتقم منا .. أو تعلننا خائنِين مرة أخرى .. يوم زيكولا القادم فيقتصون مجدداً مِن وحداتنا .. كذلك لن أصير نَذلاً وأهرب مجدداً.


        

          
                

ونظرتُ إلى أسيل .. ثمَ تابعت:


أخبرَني جدي .. أنَ هذا البلد قدر عائلتي، لقد كان محقاً، لقد مات يامن بسببي .. عليَّ أن اعلم لماذا قُتل، بعدها سَأبحث عن مَخرج للعودة إلى بلدي مرة أخرى، عذرا سيدي سأبقى.


فقال لي:


إنك مدان بالخيانة .. لن تستطيع العيش هنا .. لن تكسب وحدات ذكاء لتعيش بها.


فَنَطقت منى بلهجتنا فجأة مقاطعة حديثه:


عشان كده أنا جيت معاه .. نقدر ناكل ونشرب من وحداتي.


فنَظرت إليها .. فَابتسمت وغَمزت لي بعينها تطمأنني، فأومأ الأماريتي برأسه متعجباً .. لكننا صُعِقنا جميعاً حين قالت أسيل:


وأنا أيضا لن أرحل سيدي .. لن أهرَب مِن زيكولا مجدداً .. أعلم إنك فعلت الكثير مِن أجّلي .. لكن كما قال خالد هي قَدَرنا. 


ثمَ أكملت إليه: .. أعرف هذا القاضي لم أحبه يوماً .. ولَطالما كرهني .. لن يترُكَني وشأني .. إن علِم بِنجاتي .. عليَ أن أفهم .. لماذا يحدث لنا كل هذا. 


فسألها: وكيف تعيشين؟ 


فَفوجئنا بقمر تقول: 


إنني أُدين بِالكثير للطبيبة .. لَطالما إعتدَت أكل الخبز في بيجاناَ .. وسيكون شرفً لي أن تُقاسِمَني سيدتي خُبْزْي.. 


فَهز الأماريتي رأسه وقال هادئاً: 


سَيمّسِكون بكم .. وستموتون جميعاً. 


فسكتنا وسكت هو الآخر .. ومرت ساعة أخرى كانت الشمس قد اقتربت حينها مِن المَغيب فقال: 


لم يَعد لي حاجةٍ لِلبقاء في زيكولا.. 


ثمَ وجدناه يودعنا قائلاً: 


سأرحل إلى صحراء زيكولا .. في إنتظار أن يعود جيشها إلى سورها بعد إنتهاء الحرب.. 


ثمَ نظر إلى قمر: 


أعتني جيدا بسيدتك .. إنكِ حرة مثل باقي فقراء بلدك. 


فسألَته أسيل متعجبة: 


هل فعلّتَها؟


قال:


نعم .. لقد تركت مرسوما قبل رحيلنا بِإلغاء كافة قوانين إتفاقيه البشر مقابل الديون .. وترك الحرية لهم أن يغادروا إن شاؤوا..


ثمَ ابتسم وقال بصوت هادئ:


كانت مفاجأتي لكِ حين نعود إلى أماريتا.


فنهضت أسيل بصعوبة واحتضنته .. وهمست إليه بكلمات لم أسمعها .. بعدها أحتضنني وودعني وهمس إليّ: 


إنها لا تزال تحبك. 


فَابتسمت اليه .. ثمَ غادر البيت، أعَد عرَبته سريعاً وانطلق بها في طريقه مغادِراً زيكولا مع غروب الشمس .. ساد الصمت بيننا بعد رحيله، كنا نجلس بِردهة البيت السفلية مجتمعين دون أن ينطق أحدُنا بكلمة واحدة، و اشتعل ضجيج عقلي يحاول أن يربط الأحداث المتتالية .. هذا القانون الذي خرج فجأة معلنا خيانة أسيل وخيانَتي .. هدفه الأساسي كان قتّلَنا ذلك اليوم .. لولا إنَ لعنته لم تَعبُر سرداب فوريك فَنَجَوتُ، ولم يتوقعوا أن تكون أسيل قد أصابت قلب مَلك بلد كبير مثل أماريتا فساعدها بكل ما يملك حتى نجت .. ومقتل يامن رغم حَمله وشّم الجند .. هي خِيانة في حد ذاتها .. قام بها حارس مَن أصدر قانون الخيانة لِموتِنا .. وهذهِ السيدة التي أرسلها القدَر لنا لتُحدثِنا عن اتفاق عقدته زيكولا دون أن يعلم أهلُها .. كان قاتل يامن مَن يقود عربات الفقراء إلى زيكولا. 


وعاد إلى رأسي الهيكلان العَظميان الحديثان في سرداب فوريك .. دون أن أعلم إن كان لهما صلة بما يحدث لنا أَم لا، ثمَ قطعت تفكيري قمر حين هبطت إلينا مِن الأعلى تحمل جراب الأماريتي القُماشي .. وقالت وهي تفتحه: 


لقد نسي سيدي سِهامه المضيئة وقَوْسها المُطلِق. 


فقال إياد: 


اتركيها لابد أنهُ سيعود في الحال مِن أجلها. 


لكني مَددّت يدي إلى ورقة مُصفرة كانت بين السِهام، رُسِم بها مخططا من خطوط رفيعة مُتعرِجَة .. كُتِب عليها بعض الكلمات بينهما وادي بيجاناَ أسفل دائرة صغيرة مظللة فقلت هادئاً: 


لن يعود .. إنهُ لم ينساها .. لقد ترَكها قاصداً. 


وأكملت بعدما نَظَروا إليّ: 


لقد ترَك لنا خيار الإنتقام مِن زيكولا.....    
*********************************************************

الفصل الرابع و الثلاثون


 كان الوقت وقت الشَفَق .. حين انطلقت عربة الأماريتي في طريقها إلى خارج زيكولا .. يجُرها حِصانها نحو باب المدينة ركضاً .. دون توجيه .. كأنه أراد أن يغادر هذا البلد هو الآخر ومتى عبرَت العربة باب زيكولا .. حتى أَخرج الأماريتي زفرة ولعنها في نفسه .. أكمل طريقه بالطريق الترابي الممتد أمامه في اتجاهه إلى الهضبة العُليا التي خيّم بها مع أسيل وقمر وحارِسيه قبل دَلَوفِه للمرة الأولى إلى زيكولا .. لِيُبيت بها ليلته .. على أن يكمل طريقه مع شروق الشمس إلى وادي بيجاناَ الصخري أقرب الوديان الضيقة إلى بحر مينجا. 


                    

ثمَ حلّ الليل فأشعل مصباحه وتَرجَل وأمسك بِلجام حِصانه وسَحبه سائراً نحو أعلى الهضبة .. تندفِع الأرض مِن أسفله إلى أعلى حتى وصل إلى وجهته، فأوقف حصانه وفكّ سِرجه وعَقله بمؤخرة العربة .. ثمَ تقدم خطوات ووقف على حافة الهضبة ينظر إلى زيكولا التي اشتعلت أنوارها لتضيئها وسط ظلام الليل، وهامَ في تفكيره.


                    

في ذات الوقت كانَ خالد و رفاقُه مازالوا يجلسون أمام سهام الأماريتي صامتين تعلو وجوههم الحيرة والقلق ينظرون جميعاً إلى خالد الذي أمسك بأحد السِهام متفحصاً له، كانت تلك السِهام اكثر طولاً مِن سهام رُماةِ الحروب وأثقل وزناً صُنِعت مِن معدَن مصقول تدلى مِن باطن نهايته القريبة فتيل قُطنِيٌ رفيع، وثُبِت أسفل نهايته البعيدة المدببة خزاناً زجاجياً صغيراً داخله سائل شَفاف لم يعلم أحدهم ماهيتِه، ثمَ أخرَج قوسه المطلق وتفحصه .. لم يكن يختلف كثيراً عن أقواس الرُماه .. لكنه كان أكبر حجماً .. ثمَ أعاد السهم والقوس إلى الجِراب القُماشي .. وإلتفت إليهم في انتظار حديثهِم .. فقال إياد ناظِراً إلى جراب السِهام:


                    

هل توجد لديك خطةٌ واضحة؟


                    

فهز إليه رأسه نافياً .. فسكتوا جميعاً .. ثمَ نطق خالد:


                    

أُحاول أن أربط الأحداث برأسي .. لكن يبقى اللُغز في كبير القُضاه وحارسِه..


                    

و أحضرت منى شراباً ساخناً وقدمتهُ إليهم جميعاً .. وحين اقتربت مِن أسيل نظرت في عينها مباشرة .. ثمَ تابع خالد:


                    

وفق كتابي القديم .. لسنا خائنين إن وجدوا أن عودتي إلى بلادي هدفاً نبيلاً .. و وفق كبير القُضاة .. الموت في انتظارنا


                    

قال إياد:


                    

لن نستطيع الاقتراب مِن كبير القُضاة .. لَطالما أحاطَهُ الكثير مِن الحُراس..


                    

فأخرج خالد زفيرَهُ وقال:


                    

أرى أن نرحل إلى المنطقة الغربية .. يكمن اللغز وراء النفق .. إن اقتَربَنا منه .. اقتَربَنا مِن حل هذا اللغز..


                    

قال إياد:


                    

سأبقى هنا


                    

وقالت نادين:


                    

وأنا كذلك


                    

بينما قالت أسيل:


                    

سآتي معك يا خالد


                            

          
                

ثمَ تساءلت:


لكن ماذا عن السِهام


فأجابها:


لا أستطيع مغادرة زيكولا وأنتِ كذلك وَمُنى لا تستطيع إمتِطاء الحِصان..


ثمَ نظر إلى نادين وَإياد وأكمل:


ستبقى السِهام على الطاولة متى أردتُما أن تطلقاها لن يمنعكما أحد..


فنظراَ إليه يعلو وجههما قلق جليّ وصمتا .. ثمَ قال إياد بعد برهة:


لن أطلقها.


فحرك خالد عينه إلى نادين .. فقالت:


تعلم ماذا سأقول .. لن أفعلها.


فساد الصمت مِن جديد.


كان الأماريتي راقداً على حافة الهضبة .. مغمضاً عينيه حين أشرقت الشمس .. ولَفح لَهيبها وجهه .. واقترب مِن عربته وسكَب بعض الماء مِن قربته على رأسه و وجهه .. ثمَ أعَد عَربته ليبدأ طريقه إلى وادي بيجاناَ .. ودلَف بها هابطاً طريقهُ المائل، وعاد إلى طريق زيكولا الرملي .. وحيى تُجاراً أشاروا إليه بالتحية .. كانوا في طريقهم إلى المدينة .. ودار بخُلده حين دَلف إلى زيكولا ومعه أسيل داخل صندوق الذهب .. فابتسم ثم أبصرت عينه صندوق عربة يغازِل به شاب فتاه فتضحك مغلقة عينيها .. فتذَكر ضحكات أسيل بِمكتبة قصره حين كانت تصر على رأيها وتقنعه فيُلقي بكتابه مستسلماً إلى نيران مِدفأته.


ثمَ صار الطريق خاوياً مِن العربات القريبة فانحرف بِعربته باتجاه الشمال نحو طريق جبلي مكسر .. تتناثَر الأعشاب الجافة بأرضيته الصخرية .. وسارت به العربة التي كانت تهتز اهتزازاً شديداً قُرابةَ الساعة، قبل أن ينحرف إلى وادٍ رملي تحيطَه التِلال مِن الجانبين .. بدا طريقاً مَهجوراً .. لم يزُره أحد مِن قبل فهز لجام حِصانه كي يهم في سَيره .. وعادت إلى رأسه كلماته حين قال لمجلسه؛ سأحتَلّ زيكولا مِن أجل أسيل.


اليوم أصبح قرار حربِه في يد أسيل وأصدقائها .. ومضى قليل مِن الوقت .. وإنتصفت الشمس بالسماء، ولم يشغله عن شروده شيء .. ثمَ أوقف حِصانه حين وقع بصره على شيء منغمِس بين رمال الطريق، لمع مع إشاعة الشمس العمودية .. فترجَل واقترب مِنه وإلتَقطَه ونَفض عنه الرِمال .. كان نعلاً بالياً ممزق السيور .. تتفرع سيوره الجلّدية إلى جانبيه مِن حلقة معدنية صغيرة مصقولة نُقشَت عليها رموز إكتارية صغيرة، فَعاد بِذاكرتِه إلى قدم السيدة الإكتارية التي كانت ترتدي نعلاً يشبه هذا النعل .. وهمس إلى نفسه: 


كان أحدهم يثق بِأمه كثيراً. 


ونَظر أمامهُ فوجد بِجوارهِ تبة تعلو الأرض قليلاً صعدها .. فوجد ممراً ضيقاً وراءها بين تابتين أخرتين .. فخَطا نحوه بضع أقدام وانقبض صدره حين إنتهى الممر فجأة وكاد يسقط بِمُنخفَض دائري واسعٌ عميق جدرانه العميقة عمودية ليست مائلة .. يصل عمقه إلى أكثر مِن مائة قدم، وقد يبلُغ قطره ثلاثين قَدماً، كأنه بئر ضخم جاف ماؤه يحيطه الجبال مِن جانبَيه .. فقال في نفسه: 


        

          
                

محال أن تمُر العربات مِن خلاله، ثمَ أبصر بقاعه بعيداً ما يشبه جمجمة حِصان، فنَظَر إلى الجانب الآخر مِن المُنخفَض .. وقال: 


إلا لو ثبتت ألواح كبرى على حوافه لِعبور العربات .. أخطأها هذا المسكين. 


ثمَ وقع بصره عن يمينه على حافة صخرية غير مستوية تلتصق بِجبل عمودي تمرِر بالكاد شخصاً واحداً .. لو فلتت قدمه عن موضعها لسقَط إلى الهاوية .. فنظَر إلى النعل بيده .. ثم ألقاه بعيداً بقاع المنخَفض وقال: 


لَم يعُد لي شأن.. 


ثمَ عاد إلى عربَته وأكمل طريقِه إلى وادي بيجاناَ .. وسارت العربة به لِعشرات مِن الأمتار .. قبل أن تعود السيدة الإكتارية وعينيها الباكيتين إلى رأسه .. فهز رأسه علها تُفارق تفكيره .. وصاح بِحصانه أن يسرع .. فجال بِذهنه هتاف الآلاف مِن شعبه المحتشدين بساحة قصره يهتفون بِاسمه حين طل عليهم من شرفة قصره، ثمَ دق قلبه حين وَجد جميع شعبه المحتشدين قد صارت ثيابهم معاطفاً سوداء بالية .. وصار وجوههم آلافاً مِن وجه السيدة المُجعدة ذي العَينَين الزرقاوتَين العميقتين يتطلعون إليه وهوَ يقف بشرفة قصره والدموع تسيل على وجوههم حتى ابتلت أرضية الساحة مِن أسفلهم ويشيرون جميعاً بثلاثة مِن أصابعهم ويضربون بأياديهم الأخرى على صدورهم لتحدُث ضرباتهم صوتاً منتظماً عالياً كان يدق أعلى مِن صوت الطبول الكبرى كانت بينهم إمرأة واحدة مختلف وجهها ترتدي مثلهم معطفاً اسوداً بالياً وتضرب بيدها هي الأخرى على صدرها كانت أسيل .. لم تكن تبتسم كعادتها بل كانت شاحبة تسيل دموعها مثل باقي الوجوه، فأوقف عربتهُ ونظر إلى الفراغ أمامه للحظات وأملأ صدره بالهواء وزفَرَه، ثم ترجَل عن حصانِه .. وحلَّهُ عن عربته .. وامتطاه وصاح به لينطلق عائداً نحو ذلك الممر الذي عبره قبل وقت قليل. 


*** 


حين اقترب مِن المنخفض الصخري مجددا هبط عن حصانه وأمسك بلجامه وسار بحذر إلى حافته الصخرية، كان عرضُها غير منتظم .. لا يتجاوز قَدماً واحدة .. ونظر إلى أسفلها فَأبتلع ريقه.. 


ثمَ خلَعّ قميصه وعصب عيني جواده وهمس إلى أذنه بعدما مرر يده على رقبته برفق .. ثمَ أمسك بِلجامه ومد قدَمه إلى حافة المنخفض ولاصق بظَهره الجبل العمودي وتحرك خطوة واحدة .. ثمَ جر حصانه برفق فتحرك الحصان مِن خلفه .. ثمَ سار خطوة أخرى حابساً أنفاسه دون أن ينظر أسفلَه تُمسِك يده اليمنى نتوءات صخرية حادة بالجبل الملاصق لِظَهره أو جذوراً ضعيفة لِأعشاب نبتت بين شقوق صخوره .. وَتُمسِك يُسراه بِلجام حصانه .. يتحدث إلى حصانه .. كأنه بشري يدرك أنَ خوف حصانه سيلقي بهما إلى الهاوية .. وتحرك خطوة أخرى .. ثمَ أخرى .. ثمَ توقف لِلحظات وحرك يده إلى رقبة حصانه وربت عليها برفق دون أن يفلت لجامه .. ثم كاد قلبه يتوقف حين أفلتت قدمه فجأة قبل أن يتمالك نفسه ويستعيد اتزانه مجدداً فأغمض عينه يلتقط أنفاسه المتسارعة .. فعادت إلى رأسه ألوف الوجوه المُجعدة لِلمرأة الإكتارية بساحة قصره التي صارت أكثر عمقاً مثل المنخفض الصخري وقد توقفوا عن البكاء ونَظَروا إليه صامتين في ترقب قبل أن تهتُف أسيل مِن بينهم بإسمه فهتفوا جميعاً من خلفِها .. وعلت أصواتهم عنان السماء ففتح عينه وخطى خطوة أخرى .. ثمَ أخرى .. ثمَ أخرى .. يجُر حصانه مِن خلفه حتى دنا من نهاية الحافة .. وخطا خطوتين آخرتين لِيمِد قدمه إلى الجانب الآخر وعبر حصانه خلفه .. فَجثا على ركبتيه لاهثاً وقد سحج ظهره مِن حدة الصخور وأزال قميصه عن عيني حصانه الذي صَهل صهيلاً عالياً فاحتضن الأماريتي رأسه غير مصدق بأنه فعلها، ثمَ عقد قميصه حول خَصرِه وهوَ ينظر إلى الأفق أمامه كان سهلاً منبسطاً مِن الرِمال يتجه إلى أسفل فأمتطا جواده وسار به مَشياً في اتجاه جبال شاهقة كانت ترقد متلاصقة في جميع الاتجاهات .. تحيط حواف السهل جميعها عدا الجانب القابع به المنخفض الصخري .. فسار بِجواده موازياً لها يبحث عن طريق بينهما حتى وَجَد وِجهته .. بعدما أبصر طريقاً ضيقاً بين جبلين شاهقين بالكاد يمرِر عربة خشبية واحدة فصاح بجواده فانطلق إلى داخله.....      
*********************************************************

الفصل الخامس و الثلاثون


 كان الطريق يتوسط جبلين شاهقين .. انتصبت حافتيهما بالأسفل عموديتين غير مائلتين .. بينما اقتربتا بالأعلى كلما ارتفعا .. حتى صارتا كأنهما متلاصقتين عند قِمّتَيهِما كأنهُ جبلٌ واحد شُق مِن منتصفه لِيمتد هذا الطريق.


                    

و إنحرف الأماريتي بعد أمتار مِن رَكض حصانه بداخله .. فاختفى مدخله مِن خلّفِه وخفف مِن سرعة جواده حين بدا الطريق في التعرج والانحراف بشدة .. وبات في تعرجه يشبه مسار الثُعبان .. وبين حين وآخر كان الأماريتي ينظر إلى السماء عبر الفرجة العالية الضيقة بين قمتَي الجبلين لو أسقط أحدهم صخرة مِن أعلى لقتلَته، ثمَ أوقف حصانه حين وَجد جمجمة شخص تظهر منغمسة بِرمال على جانب الطريق وأدرك أن بقية عظام ذلك الميت تقبع بجوارها أسفل الرمال بعدما لَمحَ عظمَه أخرى منغمسة بجوارها، فجال بخاطره عربة كبرى مزدحمة بعشرات مِن العرايا .. مات أحدهم فتوقفت جياد العربة ليلقى به على جانب الطريق، ثمَ أكملت سيرها دون اكتراث حتى أنَ عربة أخرى دَهَسَت جثتَه .. فضحك قائدها مُقهقها وسط نظرات خائفة مِن أطفال مكبلين الأعناق داخل أقفاّص العربات تنظر أعينهم مُرتَعِدة إلى هذا القتيل الذي عرفوه بينهم يوماً ما.


                    

و مضى وقت طويل دون أن يجد لهذا الطريق نهاية .. ونظر إلى السماء فعلم أنَ الشمس في طريقها إلى الغروب فأسرع مِن سرعة جواده .. ثمَ اصطبغت السماء بحُمرةِ الشَفَق .. حين أبصرت عيناه فُرجة بين الجبلين أدرك أنها نهاية هذا الطريق، فانطلق الجواد نحوها وما إن عَبرها حتى أوقف حصانه فجأة حين وَجد أمامه سهلاً رملياً آخر يمتد باستواء إلى سور شاهق اصطبغت صخوره الضخمه هي الأخرى بحُمرة الشفق .. لم يكن إلا سور زيكولا.


                    

ترجل الأماريتي عن جواده، ونظر بعيداً إلى السور الشاهق أمامه، كانت الجبال تجاوره عن يمينه وعن يَساره، لا تسمح بمرور عربات او جياد، عدا تلك الساحة المنبسطة من السهل الرملي الممتد من الطريق الثعباني الذي قطعه بين الجبلين، ثمَ توارى بجسده حين لَمح جندياً يظهر ضئيلاً أعلى السور الشاهق.


                    

وانسدل ظلام الليل .. فترك جواده نائما في موضعه، وجلس مُسنداً ظهره مثنياً ركبتيه يُحَمِلِق بالسور أمامه .. الذي بدا مانعاً هائلاً مِن السواد أسفل ضوء القمر الذي كان أحدباً، ثمَ مرت غيامة خَفَّت معها نور القمر فنهض مسرعا ورَكَض مثنياً جذعه تجاه السور، وحين اقترب منه لاصقه .. وتحسس صخوره .. تبحث يده عن باب لم تره عيناه لكنها كانت جميعها صَخرية .. لم يختلف ملمَس إحداها عن الأخرى فعاد ركضاً إلى موضعه حين خَفَت ضوء القمر مع غيامةٍ أخرى وجلس موضعه موارياً جسدهُ بمَخرج الطريق الثُعباني .. و واصل حملقتهُ بِالسور المظلم دون أن يُغمِض له جفن ولأن ضوء القمر لم يصل إلى الطريق الثُعباني المتَعرِج .. وبات ظلامه حالِكاً عزَم على أن يبيت ليلته على أن يعود أدراجه مع الفجر.


                    

ثمَ غلبهُ النعاس مع منتصف الليل، لم يفتح عينيه إلا مع بزوغ النهار، حين سَمع صهيل جواده فتَلفت بجانبه .. فلم يجده راقداً موضعه كما ترَكه ليلاً، فتلفت بعيداً بعَين نصف مُفرجة .. فوجده يتمشى ببطء يأكل مِن أعشاب نبتت بالقرب مِن سور زيكولا، فوثَب مِن مرقده ونظر إلى الجندي الواقف بالأعلى وكاد يركُض إلى حصانه لِيعود به ففوجئ بجندي آخر يظهر أمام حصانه ويقترب منه ببطء ثمَ إنقض عليه وأمسك بِلجامه .. وصاح إلى الجندي بِالأعلى فرِحا:


                    

سنَتقاسم ثمنه مِن الوحدات..


                    

ثمَ إمتطاه هابطا إلى داخل الأرض عبر باب أرضي مائل كبير أغلق بعدما إختفياَ بداخله محدثاً صريراً سمعه الأماريتي .. فهمس إلى نفسه:


                    

جندي واحد قد يغير مسار حرب كاملة .. المجد لِطمع أهل زيكولا الأغبياء..


                    

ثمَ عاد بِظَهِرِه خطوات إلى داخل الطريق الثُعباني .. قبل أن يلّتف وَيركض بِأقصى سرعة في اتجاه المُنخفَض الصخري.


                    

كان الضباب كثيفاً حين أشرقت الشمس .. لِترسل إشعتها فوق ساحل بحر مينجا وأعلى قمة عالية .. وقَف جندي زيكولي نَحيف جاحظ العينين بين مجموعة مِن الجنود إعتلى كلٌ منهم قمة جبل مِن جبال الشاطئ التي ابتعدت عن ساحل مينجا الشمالي عشرات مِن الأمتار، اصطف بها جنود زيكولا مزدحمين خلف مَتارِيّسهِم الأمامية .. وَأمام مجانيقهم التي تناثرت متوازية يفصلها أمتار قليلة قبل أن ينقَشِع الضباب رويداً رويداً لِيتقلص وجه الجندي فجأة .. ويزداد جحوظ عينيه غير مصدِق ما يراه .. وفرك عينه المحمرة وعاد لِينظر بعيداً ثمَ صاح إلى جندي مِن خلفه ذاهلاً؛ انظر..


                    

فاقترب صاحبه مِن الحافة .. وابتلع ريقه خوفاً .. واضطرب وجهه .. حين وَجد لون مياه بحر مينجا الزرقاء بعيداً .. قد تحولت إلى لون أسود لامع كان يقترب ببطء .. في اتجاه الشاطئ على امتداد عرض الساحل.


                    

لم يكن ذلك السواد إلا اسطول الأماريتي .. الذي تجاوزت أعداده ألفي سفينة .. اصطفت جميعها في عشرات الصفوف لِتُبحِر في اتجاه الشمال تحمل كل سفينة مائة وخمسين مِن الجنود بِأسلحتهم ودروعهم .. تتقدمهم سفينة القائد جرير الذي وقَف بخوذَته ثابتاً بمقدمتها .. وتحمل سفن الصفوف الوسطى مئات مِن الجياد مع عشرات الجنود وفي الصفوف الخلفية .. اصطفت سفن كبرى يتوسط سطحها أبراج حديدية شاهقة بلغ أرتفاع قوائمها خمسة عشر مِن الأمتار كانت مجانيق أماريتا .. التي يبلغ إرتفاعها مرة ونصف مثل ارتفاع مجانيق زيكولا، واصطَف خلف كل منجنيق طاقمه المكون من ثلاثين جندياً جميعهم طوال القامه وأقوياء البِنية.


                    

و على متن سفينة بالصفوف الأمامية صاح صبي داكن البشرة تسَلق الصاري بساقين نَحيفتين إلى الجنود المصطفين بدروعهم وخوذهم ورمحهم أسفله على سطح السفينة:


                    

الشاااااااطئ


                    

فصاحوا في حماس وضربوا برماحهم دروعهم، وواصل تحديقهُ فرحاً إلى جبال شاطئ مينجا الشمالي .. التي ظهرت مع زوال الضباب .. لم يكن إلا الفتى مضحك .. الذي تشبث بأعلى الصاري منذ عبور السفن هضاب الريكاتا مِن أجل مهمة واحدة .. كُلِّف بها مع آخرين اعتلوا صواري سُفُنهِم كانت ترقب السِهام المضيئة بِالسماء.


                    

وفي الطريق الثُعباني الضيق كان الأماريتي يواصل رَكضَه قبل أن يتوقف لِيلتقط أنفاسه للحظات نظر معها إلى السماء عبر الفُرجة بين قَمتَيّ الجبلين، ثمَ أكمل رَكضه مجدداً في اتجاه المُنخفَض الصخري.....       
*********************************************************

الفصل السادس و الثلاثون


 كان الوقت وقت الضحى .. حين وقَف قائد أربعيني أعلى قمة جبلية على شاطئ مينجا، ينظر إلى سفن الأسطول الأماريتي التي اقتربت إلى بُعد مئات الأمتار مِن الشاطئ وتوقفت واحمر وجهه وكأنه لم يتوقع أن تأتي أماريتا بهذا العدد مِن السفن ودار بخُلّدِهِ إن حُمِلَت السفينة الواحدة بِمئة جندي لم يكن جيشه ليمثل ربع هذا العدد، ثمَ صاح إلى فارس بجواره .. أن يطلِق المجانيق كُراتها الزيتية الحارقة، ولم تمُر لحظات بعد أمره إلا وانطلقت بالسماء على امتداد الشاطئ كُرات اللهب المُتتالية .. لِترتفع عاليا في اتجاه الإسطول الأماريتي لكنها سقطت جميعا بالمياه قبل أن تصل إلى السفن الأماريتية أمام أعين القائد جرير الذي وقَف بموضعه متجهِما، ثمَ أشار إلى قائد آخر يكبره سِناً كان يقف بجواره دون أن ينطق بِكلمة ..  
                  

ولم يلبث أن أُطلق بوقً عالٍ .. فأُلقيت المَجاديف الطويلة إلى المياه .. وشرع البحارة في تجديفهم .. فابتعدت السفن الأمامية المتجاورة عن بعضها ليزيد عرض الأسطول اتساعاً ثمَ شقت السفن الكبرى المحملة بِالمجانيق طريقها بين السفن إلى الصفوف الأمامية .. واصطفت متوازية قبل أن يصيح قائد أوسطَها إلى طاقمه، فانطلقت أولى الكُرات .. تابعتِها عشرات الكُرات مِن السفينة ذاتها ومِن السفن الأخرى لِتشُق السماء في اتجاه شاطئ زيكولا. 
                 

كانت كُرات معدنية ضخمة .. قُطر الواحدة مِنها أربعةُ أقدام .. حُمِّلَت بزيت يشبه زيت السهام المضيئة، ما أن يطلق المنجَنيق الواحد إحداها حتى تتحول في السماء إلى كُرة مِن اللهب الحارق .. تجتاح مَن يقف بطريقها، وتساقطت جميعها على صفوف الجيش الزيكولي المتزاحِمين .. فأحرقت تجمعاتهم وسقط بعضها على العربات الخلفية .. المُحَمَّلة بكُرات لهب المجانيق الزيكولية، فأحدثت إنفجاراً هائلاً، تشتت معه الجند خائفين تحت أعين قائدهم الذي قال لمن بجواره بِبِرود: 
                 

يمتلكون مجانيق أطول مدى مِن مجانيقنا .. عُد بِالصفوف إلى الوديان .. حرب مكشوفةٌ الآن .. لا تعني إلا هلاك جيشنا بأكمله قبل غروب الشمس. 


مضى وقت قليل بعد انتصاف الشمس بالسماء .. كان الأماريتي قد اقترب مِن نهاية الطريق الثُعباني، ثمَ صعد السهل الرملي مُتعبا إلى المُنخفَض الصخري وإلتقط أنفاسه قبل أن يمد قَدمه إلى حافته الملاصقة لِلجبل العمودي المجاور، وخطا خطوة وراء أخرى بِحذر يُلاصق بِظَهَره صخور الجبل مِن خلّفِه كما فَعل في ذهابه، كان يظن إنها ستكون أكثر سهولة بدون حِصانه، لكنه لم يكن يعلم أن جزء مِن منتصف الحافة قد انهار مع مرور جواده .. فبات ذلك الجزء أقل بروزاً وتوقف مكانه حين مد قدمه إليه وكاد يفلِتها فعاد بقدمه مجدداً ونظر إلى الفراغ العميق أسفله، ثمَ رفع عينيه ومد قَدمه عن آخرها مرة أخرى واتكئ بِها على أطراف أصابعه .. وأمسك بِيده نتوءً صخرياً حاداً برز بين صخور الجبل، ثمَ خطَى بقدمه الأخرى فَلامَس بِطرفِها الحافة دون أن يفلِتها ثمَ تنفَس الصُعداء .. حيثُ أكمل خطواته بحذر .. قبل أن يصل إلى جانب المنحدَر الآخر، ويعبُر التبة التي وِجدَ بِجوارها النعل اللامع، ثمَ أبصر صخوراً بيضاء قَبَعَت بِجانب الطريق .. كانت الواحدة في حجم طفل في الخامسة مِن عمره، فَحَمَل سبعة مِنها صخرة واحدة كل مرة وصفَّها في شكل هَرَمي أعلى التبة.
                 

ثمَ واصَل رَكضه عبر وادي التِلال الذي قطعه بيومه السابق، وغربت الشمس حين دَلف إلى الطريق المكسر فانزلقت قَدَمَه وتقَلَص وجهه مِن الألم، ثمَ نهض وأكمل طريقه تعرج قدماه لا يفكر رأسه بِشيء سوى الوصول إلى خالد وأسيل، ومرت ساعات قليلة أخرى بعد حلول الليل حين وصل إلى الطريق الرملي الممتد إلى زيكولا فأكمل رَكضه نحو المدينة ثمَ سقط مجددا ونهض فَسَمَع مَن يناديه قائلاً:
                  

إنني ذاهب إلى زيكولا
                  

كم تدفع مِن الذكاء؟
                  

فَنظَر خلفه فوجد رجلاً مُسناً يقود عربة خشبية ذات صندوق يتكوم به ثلاث رجال وإمرأتان ومثبت بجانب العربة شعلة اظهرت ملامحهم وتابع المسن:
                

خمس وحدات أو تُكمل طريقك سَيراً..
                

فأومأ الأماريتي إليه برأسه متعباً، ثمَ قفز إلى صندوق العربة وجلس بين الرجال الذين أفسَحُوا له مكانا ضيقاً، ونظر إلى السماء التي إمتلأت بِالنجوم ثمَ قال المسن ضاحكاً:


إنكَ محظوظ لم نكن لنعود إلى زيكولا في هذا الوقت .. لولا قيام الحرب فسألهُ ذاهلاً:
                  

هل قامت الحرب؟
                  

فقال المسن:
                  

نعم .. لقد وصل الأماريتيون هذا الصباح قابَلت رِجالاً في طريقي قالوا:
                  

لم تكُف كُرات اللهب عن التحليق منذ الظهيرة.
                  

فَنَظَر الأماريتي إلى سور زيكولا الذي ظهر بالأُفق مع اقتراب العربة مِن بابها دون أن يقول شيئاً وتَرَك المسن يكمل ثرثرته عن مصير الحرب ثمَ عَبرَت العربة باب زيكولا فَقفز مِنها ورَكَض إلى بيت خالد و رفقته وعَبَر بوابة سوره فَرَأته منى التي كانت تقف بشُرفة غرفتها بالطابق الأعلى .. وقالت لخالد الذي كان يجلس على مقعد شارداً بالغرفة: 
                

لقد عاد الملك ! 


فَنَظَر إليها فَكرَرت حديثها: 
                  

لقد عاد الملك تميم بِالأسفل.. 


فنهض وهبط إلى الطابق السفلي مسرعاً .. وما إن فَتَح بابه حتى حَدثه الأماريتي بصوت متعب: 
                

لقد وجدت طريق الفُقراء إلى أرض زيكولا.....     
*********************************************************

الفصل السابع و الثلاثون


    كان الوقت متأخراً حين فوجئت بِمُنى تقول متعجبة وهيَ تقف بِالشُرفة: 

 لقد عاد الملك.. 

 فَنَظَرت إليها غير مُصدق حديثها فَكرَرت ما قالته، فَهَبَطتُ مسرعاً إلى الأسفل مُندهشاً مِن عودته .. بعدما جالت الأخبار بِأنَّ الحرب الكبرى قد بدأت على شاطئ مينجا، وحين فتحتُ الباب صارت دهشتي أضعافاً بعدما وجدته مُترب الوجه ممزق الثياب وحدَثني مُتعباً: 

 لقد وجدت طريق الفقراء إلى أرض زيكولا.. 

 وَدَلف إلى الرُدهة تعرج قدماَه وَيتألم وجهه قليلاً مع حركته فأحضرت له بعض الماء ثمَ سألتِه:

 أين؟

 فقال:

 ثمةَ طريق بعيد لا أعتقد أنَ الكثيرين قد ساروا به من قبل..

 ثمَ سألَني عن أسيل فأخبرته إنها نائمة بغُرفتها، وكان إياد نائماً بغرفة سُفلية فأيقظته وإنضم إلينا، ثمَ هبطت منى .. وأكمل حديثه عن ذلك النعل الذي رآه .. كان أحد الإكتاريين تَركُه قاصداً قبل أن يعبُر حافة مُنخفض يبلغ عمقه عشرات الأقدام، ومنهُ إلى طريق ضَيق بين جبلَين ينتهي بسَهّل يجاور سور زيكولا، ثمَ عما حدث حين اقتاد أحد الجنود حُصانه إلى باب سفلي يَبعُد أمتاراً عن السور .. بدا باب لِنفق يعبُر سورها .. فسأله إياد الذي كان يُنصت مترقباً لكل حرف يقوله؛ إن كان يعلم هذا المكان مِن سور زيكولا الذي يحيط المدينة بأكملها.

 فقال:

 وفقَ النجوم إنهُ السور الشمالي.

 ثمَ نزع قميصَهُ متألِّماً .. كان ظهرهُ محمَراً مليئاً بخدوش سطحية كثيرة .. فتساءل إياد مجدداً:

 هل هناك علامة أخرى غير النجوم؟

 فقال:

 تحيط بهِ الجبال الشاهقة..

 فَهز إياد رأسه محبطاً .. وقال:

 تحيط الجبال بسور زيكولا بِأغلب مناطقه..

 فقال الأماريتي بجدية:

 أن يسلك فُرسان زيكولا هذا الطريق الخطر بِفُقراء اكتاراَ بعيداً عن أعين اهل زيكولا .. لن يكون إلا مَن أجل شيء عظيم..

 فقلت مؤيدا حديثه:

 نعم .. يرتبط هذا الأمر الذي نجهله بمصيرنا.

 ثمَ تمتمت هائماً:

 علينا أن نعبُر هذا الباب

 فقال إياد:

 وفق هذا الوصف .. لن نصل إليه مِن داخل زيكولا.

 وتابع الأماريتي:

 ثمةَ جندي كان يقف أعلى سور زيكولا هو مَن يستطيع فتح هذا الباب الأرضي.

 فصمت مفكرا ثمَ حدثتُه:

 أريدك أن ترسم لي هذا الطريق..

 ثمَ نهضت وأحضرت الورقة .. فقال ناظِراً إلى جراب السِهام:

 ظننت إنكم ستطلقونها..

 فسكتنا جميعاً .. ثمَ أحضرت منى قلماً قد جاءت به مِن بلادنا بين ملابسها علها تُدَوِن شيئاً عن رحلتها، ولم يكن هناك وقت لِدهشته مِن القلم، فَبدأ يرسم لي خَطاً متعرِجاً مِن باب زيكولا إلى الطريق المتعرِج إلى طريق صخري إلى وادي التِلال حيثُ تبة يقبع فوقها سبعة مِن الصخور الصغرى كان قد صفها على شكل هرم.

 ثمَ سمعنا ضجيجاً مفاجئاً بِالخارج .. فَصعدنا إلى أعلى .. وإتجه إياد مسرعاً إلى شُرفة غرفتنا لِيرى ما يحدث .. وصعد بيننا الأماريتي الذي توقف أمام باب حُجرة أسيل المفتوح .. ونظر إليها لِلحظات وهي نائمة قبل أن يكمل طريقه ويلحق بنا .. ثم همس إلينا إياد بِأنه أبصر نادين تدلُف بَين الزِحام إلى البيت .. فهبطت إليها منى لِتُحضرها ثمَ صعدتا سوياً إلينا .. فسألتها عن ذلك الضجيج بالخارج .. فقالت: 
               

 سيُغلَق باب زيكولا مع شروق الشمس.
               

تساءلنا جميعا إلى نادين في نَفَسٍ واحد: 

 ماذا؟

 قالت:

 إنتشرت الأقاويل أنَ جيشنا بِضَخامته لا يمثل شيئا بجانب أعداد جيش أماريتا، وأشارت إلى الأماريتي وتابعت:

 يبدو أنَ السيد كانَ محقاً حين قال واثقاً .. أنَ جيشه بِإستطاعته هزيمة جيشنا، ثمَ أكملت:

 سيعود الجيش طوال ساعات الليل إلى المنطقة الشرّقية .. سيُدافع عن المدينة مِن وراء سورها .. وساد الضجيج بعدما بدأت الأخبار عن ترحيل أهالي المنطقة الشرّقية جميعهم إلى المناطق الأخرى .. بِأمر مِن الحاكم لِسَلامتهم .. إنَ الشوارع بالخارج مليئة بِالهَرَجّ والمرج في هذهِ الآوِنة .. يتسارع تُجّار البلدان الأخرى للخروج عبر باب زيكولا قبل عَوّدةِ مقاتلينا .. ما أن يعبُر أول الجنود عائداً لن يستطيع أحد المرور خارجه وسيُغلَق عقب اكتمال عبور الجيش، جئت إلى هنا لِؤحَذِركم إنَ الحُراس يَدِلُفون إلى البيوت جميعها مِن أجل إخراج سكانها لِلرحيل قبل حلول الصباح .. خشيت أن يَراكُم أحد..

 فقال الأماريتي:

 لم أتوقع أبدا أن يسمح غرور هذا البلد بِإنسحابها إلى أسوارها..

 كانَ يبدو على وجهه التَشَتت .. شعرت أنَ جزءاً منه لا يريد الحرب .. وجزء آخر يريدها .. لِيُلقن زيكولا دَرساً عن ظلمها .. وَيسقط خيانتنا أو على الأقل خيانة أسيل.

 ثمَ أيقظت نادين أسيل وقمر وحدثتهم سريعاً عما حدث فدلفت إلينا أسيل والتي دُهِشت مِن عَوّدة الأماريتي .. فَابتسم حين رآها وحدثها عن ذلك الباب الذي وجده .. فقالت:

 إذن نحنُ أمام أمرين بوجود ذلك الباب .. إما نكون خائنين لِصُنّعنا نفق أسفل زيكولا الغربي .. ويكون كبير القُضاه خائناً كذلك .. بِعلمه بباب آخر بِالسور الشمالي.

 وإما يُطبق ذلك النص الذي ذَكره كتاب خالد لِهَدف نبيل .. وهوَ عَوّدة خالد إلى بلاده .. مثلما سيبرر القاضي خيانته بالنص ذاته .. إن اكتشف أمر بابه وبهذا لن نكون خائنين على الأقل بهذه التُهمة..

 قال إياد في خيبة أمل:

 لكننا لا نعلم طريقاً مِن داخل زيكولا إلى الباب..

 قالت وَهيَ تنظر إليّ وإلى إياد وإلى نادين:

 سنبقى في زيكولا .. سنبّحث عنه ما حَيينا .. إنهُ السبيل الآن لِنجاتنا مِن تُهمة الخيانة..

 وأكملت:

 والتُهمة الأخرى بِتحرّركُم مِن خيانتكم أثِق أنَ عقولكم ستجد لِي مَخرَجاً منها..

 فقالت نادين التي كانت تنظر بعينيها عبر شُرفة الغرفة:

 علينا أن نغادر هذا البيت لقد بدأ الحُراس في الدُلُوف إلى بيوت هذا الشارع..

 فَنظرت إلى أسيل علها تخبرنا بِوِجهَتنا القادمة .. فقالت:

 إلى المنطقة الشمالية.

 كنت أعلم إنها ستقول ذلك .. لكني أردتُ أن أسمعها منها حين تذكّر ذهني كلماتها منذ أشهر .. أنها لا تذهب إلى تلك المَنطقة .. و وافقنا إياد على ذلك .. أما نادين .. فقالت أنّها سَتَتّجِه إلى المنطقة الجنوبية .. وأخبرَتّنا عن حانة لِلمَبيت بِالمنطقة الشمالية .. صاحبها ليس جَشِعاً كالباقين، وأحضَر لي إياد معطفاً ذا غطاء رأس كبير .. وقال: 

 كنت أرتديه لِأَختبئ عن أعين الجند .. أنَّك في حاجة إليه الآن.. 

 و إرتدت أسيل معطفاً آخر أَخرجته قمر مِن صندوق ثيابها وغطت رأسها بِغِطائها .. فقالت نادين وَهيَ تنظر إلينا باسمة: 

 تُجّار مِثالِيون...... 
*********************************************************

الفصل الثامن و الثلاثون


 خرجنا جميعاً إلى شوارع المنطقة الشرَقية .. كانت المرة الأولى التي أُغادر بِها ذلك البيت منذ دخولي زيكولا قبل أيام .. كانت نادين مُحِقةً بأن نغادر قبل دلوف الجند إلى البيوت .. وأن نتوارى وسط هَرَجّ أهل زيكولا المتزاحمين .. خاصةً أنَ الحاكم قد أمَر بِتَوفير عربات خشبية تنقل أهل زيكولا بعيداً عن المنطقة الشرَقية دون مقابل .. كنا في حاجةٍ إلى كل وحدةِ ذكاء .. كانت أسيل لا تزال تثق بي .. وأعلم أنَ مُنى تثق بي هي الأخرى .. وإن لم تنطق بِشيء .. الآن لم يعُد لنا سبيل إلا إيجاد ذلك الباب .. قبل أن يُمّسِكوا بنا أو نُقتَلّ مثلما فَعلوا مع يامن.. 


كنا نسير بين الزحام .. تُمّسِك مُنى بيدي وَتَمّسك قمر بيَد إياد .. وتتحرك أسيل مِن خلفنا ببطء يجاورها الأماريتي الذي كان يتحرك مُتألِما بعد تَورُم كاحله، ومِن أمامِنا سارت نادين .. وكنا نتوقف إن توقفت أسيل تعباً .. ثمَ نكمل طريقَنا .. كانت المرة الأولى التي ألمح بها الخوف على وجوه أهل زيكولا لَطالما سمعت على مدى أوقاتي هنا عن قوة الجيش الزيكولي التي وصلت إلى حد الغرور .. فإستخدمَه الأماريتي سلاحاً له .. لولا هذا الغرور لَما فُتِح بابها لِيَدلُفّ بِأسيل إلى زيكولا، دهاء مَلك واحد هزَم كل هؤلاء القادة المتعجرفين الأغبياء.
              

تقدمت بنا المسيرة إلى الطريق الرئيسي .. الممتد مِن باب زيكولا .. كانت العربات الخشبية على مقرُبةٍ منه .. تُحَمِّل صناديقها الضيقة بعشرات مِن الرجال والنساء والأطفال قبل أن تنطلق جيادها مبتعدة عن المنطقة الشرَقية .. يحمل كل منهم ما يستطيع حمله مِن أثاث بيته .. ويحمل بعضهم أجولة ممتلئةً عن آخرِها .. حين أسقطت إمرأةٌ جوالَها مِن أعلى العربة وسُكِبَت محتوياتهُ كانت ثياباً إنقض عليها الواقفين لاغتِنامها مُتنازعين حتى مُزِقت منهم دون أن يَعبَئوا بِصُراخ السيدة ولم تتوقف النزاعات عن الإشتعال بِجوار العربات، ما إن يَجذِب أحدهم جوال الآخر .. تُسّكَب محتوياته على الأرض .. ثمَ يدُب العراك .. ويسرع آخرون لإقتناص ما أسقطته الأجولة إن كانَ طعاما فيُسرعون لِنَفض التراب عنه وإلّتهامُه. 
             

لم أرَ مِن قبل خوف وجوه أهل زيكولا مثلما كنت أراه تلك اللحظات أسفل أنوار المشاعل .. زيكولا القوية التي تُباهي أهلَها دوما بقوتها .. بات أهلها عند أول اختبارٍ حقيقي وجوها ذابِلَة مصدومة تخشى لحظاتها القادمة، أرض الرقص والاحتفالات لم تعُد إلا أرضً لِلخوف .. أعلم إنهم يلعنون أسيل في داخلهِم .. منذ تَسربت إليهم الأخبار إنَ الأماريتي قد أشعل هذهِ الحرب مِن أجلها .. لكنهم قد تَجاهَلوا عمداً إنهم مَن إقتنصوا ذكاءها كاملا دون أن تضر واحداً منهم يوما.. 


على مدار مسيرتنا .. كانت الأحاديث و الإشاعات تَتنَاقل بِجوار مسامعنا .. مَن يقول أنَ بحر مينجا صار لوناً أسوداً بِالكامِل .. وَسيسمى قريبا بِالبحر الأسود .. ومَن يقول أن كُرات مجانيق أماريتا تصل إلى الشمس .. أدركت وقتها أنَ هزيمة زيكولا صارت مسألة وقت ثمَ أوقف تفكيري بوقً أُطلق عالياً .. فقالت لي نادين وَهيَ تنظر إلى الأماريتي وقمر: 
               

الآن حكِم عليهما بِالبقاء في زيكولا .. لقد عادت طلائع الجيش الزيكولي .. لن يُسمح لِأحد أن يغادر الباب مجدداً.. 
              

كنا قد توقفنا بين أهالي زيكولا المتكدسين على جانِبَي الطريق في انتظار عربات تَتجه إلى المنطقة الشمالية، بعدما غادرت جميع العربات ممتلئة عن آخرها .. ثمَ مرت الجماعة الأولى مِن فُرسان زيكولا .. كان التجهُم والشرود على وجه قمر بادياً .. غير أنَ وجه الأماريتي لم يتبدل .. لا أعلم إن كان يثق بِجيشه الذي سيقتحم هذا السور مِن أجله .. أم أنهُ سعيد لبقائه بِجوار أسيل .. كانت نظراته إلى الجنود العابرين ثابتة .. شعرت أنهُ يفتخر بقوة جيشه التي أعادت أولئك المغرورين إلى جُحرهم مجدداً، الآن باتَ الأمر محسوماً .. لن يهدأ الجيش الأماريتي حتى يستعيد مَلِكه الذي يقف بجواري .. سيأتون مِن أجله لا مَحالة..
               

لم تأتي العربات الخشبية المتجهة إلى المنطقة الشمالية مجدداً .. وغادرتنا نادين .. ولوحت إلينا بيدها بصعوبة .. وهيَ أعلى عربة مزدحمة بِالرجال والنساء .. بدأت طريقها إلى المنطقة الجنوبية .. كانت عيناها تَلّتمِع بالدموع لِفُراقنا .. لم تعُد الفتاه ذاتها التي قابَلّتُها قبل أشهر بِالمنطقة الشمالية..
               

ثمَ اقترب الفجر مِن البزوغ .. وكان الجنود المُشاه لا يزالون يعبُرون إلى داخل زيكولا .. بعضهم جرحى تفوح رائحة الحريق مِن ثيابهم .. حين همس إليّ الأماريتي وأشار بعينه إلى فارس شاب حَليق الرأس بِجوار عربة خشبية فخمة خرج منها ثَري مُسن مُتورِد الوجه يرتدي عباءة ثمينة .. وقال:
                

كبير القُضاة وحارسه..
               

كان القاضي على نفس الجانب الذي نقف به .. يتحدث إلى المُتزاحمين مِن حوله يُطَمّئنهم بِأن عَوّدةِ جيشهم ليست إلا لتحقيق نصرٍ حتّمي .. ويحفزهم واثقاً بِأنْ لا يخشوا على جيشهم القوي .. وأن يكُفوا عن نقل الإشاعات التي ستعصف بهم، كان حارسه صارم الوجه .. يمتطي حصاناً أبيَضاً مُميزاً عن بقية الجياد التي رأيتها في زيكولا .. كانت عيناه تَتقلَّب بين جميع الوجوه مِن حولِه.
                

ثم إنتهى عبور الجنود المشاه .. وكانت المجانيق في طريقها لتعبُر سور زيكولا .. كان غبارُها أمام الباب المفتوح على مصراعَيه واضحاً بعيداً مع زوال ظلمةِ الليل، ونظرتُ إلى الأماريتي فَرأيته يُحدق بِالحارس أيضاً .. وسألّته هامساً حين خطرَت بِبالي فكرة مفاجئة:
                

لماذا عدت؟ 
                 

قال: 
                 

إنني أفي بوعودي.. 


ثمَ شعرت أنَ ما فكرت به قد جال بخاطره هو الآخر .. فسألّته مجدداً وأنا أنظر إلى مُنى وأسيل: 


هل تثق بجيشك؟ 
               

فأومأ لي برأسه إيجاباً .. فقلت وأنا أثِق بك أيها الملك 
                  

فقال: 
                   

وأنا أيضا .. أثِق بك 
                   

فتيقنّت أنهُ أدرك حقاً ما أُفكر به .. ثمَ تحرك ببطء تجاه كبير القُضاةِ وحارسِه .. وتحركت مِن خلفهِ تاركاً مُنى وأسيل وقمر مجاورين لِإيّاد الذي إندهش مِن تحركِنا المفاجئ سوياً بين الزحام ومبتعدين عنهم.....
*********************************************************

الفصل التاسع و الثلاثون


 كانَ الطريق الداخلي أمام باب زيكولا خالياً في انتظار دخول المجانيق المجرورة، تزايَد عدد الجنود المصطفين المتشابكين الأيدي على الجانبين ليمنعوا تجاوُز أي مِن أهل زيكولا إلى الطريق ومَن حاول فعل ذلك لم ينجُ مِن لكمة قوية أو لَسِعة سوط مِن أحد الفُرسان الذين ركضوا بخيولهم ذهاباً وإياباً أمام صفي الجنود فالتزم الجميع على الجانبين في انتظار قدوم باقي العربات التي وعدَهم بها الحاكم كي تنقلهم بعيداً عن أرض المعركة المنتظرة. 
                   

صار الزحام هائلاً خلف الجنود مع مرور الدقائق وكان كبير القُضاه لايزال يتنقل بين المتزاحمين يطَمئنهم مِن حوله وتعَمَق وسطَهُم فابتعد بضعة أقدام عن حارسه الذي ظلت عيناه تترقَب الوجوه مِن أسفله .. دون أن يدري أنَ هناك مَن يتحرك بين الزحام تجاههُ هو وسيدهُ كانَ الأماريتي ومِن بعده خالد مغطي رأسه بِغطاء معطفه .. ثمَ توقف الأماريتي ونظر إلى خالد فَنظَر إليه هو الآخر مِن أسفل غطاء رأسه المُنسَدِل على جبهته .. و أومأ له دون أن ينّطق .. فأكمل الأماريتي طريقه نحو كبير القُضاة، ثمَ تعثرت قدماَه فإنهال بجسده على أحد الجنود المصطفين .. فاعتذر مِنه .. فدفعه الجندي غاضباً .. فواصَل الأماريتي تحرُكه وهوَ يعتذر لم يعلم الجندي أن هناك ما سُرق منه .. بينما عبَر خالد نحو جواد الحارس الحليق أمام أعين إياد الذي وقَف على أطراف قدَمه ليُبّصرهما .. يدرك داخله مدى تَهَور هذا الثُنائي وأمسك بيد منى يطَمئنها حين بحثت عينيها الخائفة وسط الزحام عن زوجها الذي تحرك فجأة مبتعداً عنهم دون أن يقول شيء. 
                   

وكان الهرَج والمرج يسود الزحام قبل أن يتجاوز خالد أقرب الأشخاص إلى الحارس .. الذي انتبه إليه فجأة ومد يده نحوه متوجساً ونزع غطاء رأسه .. فكُشِف رأس خالد .. وظهر وجهه المضطرب ينظر إليه في ترقب .. فحدق به كأنه تذَكر تلك الملامح في اللحظة ذاتها دوت صرَخات مُفاجِئة لنساء الّتَفَفن حول كبير القُضاة .. فحرك الحارس بصره سريعاً إلى سيده ليجد الأماريتي قد أحاط رقبته ذات العروق المنتفخة بخِنجر على مرأى مَن المُتزاحمين .. فهرول يجذب لجام حِصانه ليتحرك نحو سيده .. لكنَ خالد باغته وجَذَب طوق درعه المعدني فجأة بقوة لِيُسقطَه مِن أعلى حِصانه وبلَمّح البصر كان خالد قد ارتقى الحِصان ذاته وقَفز به متخطياً حاجز الجنود المتراصين على جانب الطريق .. وانطلق في طريقه نحو باب زيكولا وسط لحظة ذهول مِن رجل زيكولي رأى وجهه ونَطق في دهشة؛ الغريب.
                   

كان المَنجنيق الأول يكاد يعبُر باب المدينة حين تجاوز خالد في تهَور الحيز الضيق بينهما ثم عبر المنجنيق فسد الباب بأكمله ولم يلحق به أي مِن فُرسان زيكولا .. الذين جُمّدوا في مواضِعِهِم .. لمّا وجدوا كبير قُضاتهم على وشك الذبح .. مِن شابٍ غريب لم يروه مِن قبل .. ومتى استوعبت عقولهم ما جال خلال تلك اللحظات كان خالد قد فر إلى خارج زيكولا .. وحاول أحد الجنود بالقرب مِن إياد أن يصوب سهمه نحو خالد فدفع إياد رجلاً آخر مِن خلفه فارتطم به وأسقطَه فأخطأ تصويبه دون أن يظهر إياد بِأنه مَن فعلها وابتسم وهو يهز رأسه قائلاً حين رأى خالد يعبُر باب زيكولا فاراً:
                   

سيموتان متَهورَين


ثمَ انحسر الناس بعيدا عن الأماريتي الغاضب ليقترب الجنود أمامهم الحارس .. وأحاطوا به حذرين في إطار نصف دائري لم يعلموا أنهُ إطمأن لخروج خالد، ثمَ حرك بصره بعيداً فوجد أسيل ومُنى وقمر يترقبان وجهه فرفع خِنجره لأعلى وخفف مِن ضغطة ساعده على أسفل فك القاضي .. ثمَ أفلته فأسرع القاضي وعبر خلف جنوده ممسكاً برقبته حانِقاً فنزع الأماريتي قميصه وألقاه نحو الجندي الذي ارتطم به وسرق خنجره وقال له ضاحكاً :
                

احتفظ به..
                 

فأقترب الحارس منه ولَكَمه لكمة أسقطته .. ثمَ ركله بقدمه .. وأخرج خِنجرَه تحت أنظار سيده .. وأمسك بِشعره وكادَ يقطع عنقه لولا أوقفه القاضي حين صاح به كي يتوقف .. بعدما رأى على كتفه الأيمن .. وشماً كان يعرفه، ثمَ دنا مِنه غير مُصدق لِما يراه .. حدَّق بِالوَشّم .. كانَ تاجاً يتوسط خمسة نجوم صغار في شكل دائري .. فهمس القاضي:
                  

مَلك المدن الأماريتية الخمس.


ونظر إلى وجه الأماريتي الشاب .. فوجده يبتسم .. بعدما نجح وشمهُ في توصيل رسالته إليهِ .. بأنهُ مَلك أماريتا .. قبل أن يُقتل .. فصاح القاضي بحارسه .. أن يُكَبِلّه.
                  

كان إياد قد تَرك رِفّقتَهُ واقترب مِن الأماريتي حين اعتقلهُ الجنود .. ثمَ عاد مُسرعاً إليهنْ .. ونَظَروا جميعاً إلى الملك تميم وَالجنود يقتادونه عاري الصدر مكبلاً وسط لَعنات أهالي زيكولا الذين هتفوا غاضبين .. مطالبين بذبحه على منصة بلادهم وقذفوه بالحجارة قبل أن يهتِفوا بحياة كبير القضاة .. فهمست أسيل إلى إياد: 
                  

كانَ بوسعه أن يرحل هو على جواد الحارس إلى جيشه ويترك خالد ليجز عنق كبير القُضاة .. لكنه خشي أن يقتلوا خالد دون تفكير .. كانَ يعلم إنهم على الأقل لن يقتلوا مَلك أماريتا بهذهِ السذاجة وتابعت: 
                  

قد يكون ضَحى بنصر جيشه مِن أجّلِنا. 
                  

فقالت قمر وهيَ تنظر إليه: 
                 

لقد أقسَم ألّا يترك زيكولا إلا وأنتِ بجواره تبتسمين سيدتي. 
                 

بينما ظلت مُنى صامتة .. بوجه مضطرب يعلوه التشتت .. وهيَ تنظر إلى العربة التي تحمله وتتحرك بعيداً عنهم .. لِيلّتف حولها الفُرسان .. فأمسكت أسيل يدها تُطمّئنُها .. وقالت: 
                 

لقد وضع الأماريتي ثِقته بِخالد .. سيعود خالد مِن أجّلِنا.. 
                  

ثمَ أردفت: 


على الأقل سيعود مِن أجلك.....  
*********************************************************

الفصل الاربعون


كانت الخيول تجُر المجانيق المتبقية في طريقها إلى زيكولا حين شق غبارها خالد مُمتَطياً الجواد الأبيض لِحارس كبير القُضاة .. لم يكُف عن الصياح به كي يزيد مِن سرعته .. ظناً مِنه بأن هناك مَن يلاحقه ثمَ توقف حين التَفت ووجد نفسه وحيداً في صحراء زيكولا لا يلاحقه أحد .. فَنظَرَ إلى السماء وحمد ربه .. وجال في رأسه خوف فُرسان زيكولا أن يلاحقوه .. فيُغلَق باب زيكولا وهم بِخارجها دون أن يعبأ بهم أحد .. فيصبحوا بلا مأوى .. فَفضلوا التأنيب لهروب شخص واحد لا قيمة له عن حياة تائهة محتملة حتى ذلك الحارس القوي لم يكن لِيلاحقه بعدما شرع الأماريتي في جز عنق سيده الأماريتي الذي فهِم مقصده حين أبصرا سوياً القاضي يبتعد عن حارسُه وسط الزحام فطرأت بذهنهما فكرة سريعة فرصة لن يجد مثلها مرة أخرى أن تكون عيناَ الحارس مُشتَتة بين الزحام وقاضيه .. والتشتت الذي يخلق الارتباك والضعف في اللحظة الحاسمة .. لم يكن يتوقع أن يضحي الأماريتي بنفسه مِن أجل فِراره بِجواد الفارس .. لكنه قد فعلها وبات خارج زيكولا التي أغلق بابها بعد عبور آخِر المجانيق دون أن يعلم مصير الأماريتي أو أسيل أو زوجته مُنى.. وأكمل طريقه ترشُده الورقة المرسوم بِها الطريق إلى باب زيكولا الآخر هذا الأمل الذي لم يتيقَن مِنه، ثمَ انحرف إلى الطريق الصخري المكسر وعبره إلى وادي التلال وركَض به جواده تبحث عيناه عن التبة التي تعلوها الصخور البيضاء السبعة حتى أبصرها فأوقف حصانه وعبر التبة ليجد المُنخفض العميق فأخرج زفيره مِن هَول عمقه .. وقال: يا الله. ثم أبصر عن يمينه الحافة التي عبرها الأماريتي فاقترب منها ووجدها متأكلة ضيقة للغاية يستحيل عبورها. فقال في نفسه متجهماً: كان الأماريتي يدرك إنني لن أستطيع عبور الحافة حتى وإن عبرَتها ليس لدي أمل يؤهلني لاجتياز ذلك الباب المُنتَظَر.. ثمَ عاد إلى طريق التلال مجدداً وركب حصانه في طريقه نحو وادي بيجاناَ .. الذي رَسم بِموضِع آخر بالورقة كمكان لإطلاق السهام المضيئة .. ودارت كلمات إياد برأسه .. حين قال إنهُ أقرب الوديان إلى بحر مينجا .. فصاح بحصانه لينطلق مُكْملاً طريقه في وادي التلال .. وبعد عشرات الأمتار عبَر عربة الأماريتي كانت تقبع بالوادي دون جواد وواصل طريقه يحيطُه السكون مِن كل جانب .. فبدا يتمتم إلى نفسه: مِن أجل أسيل مِن أجل مُنى مِن أجل الأماريتي مِن أجل إياد مِن أجل قمر ونادين مِن أجل الفقيرة الإكتارية وأبنائها ومَن قبلهم مِن أجلك أنت يا يامن. ومضت ساعات أخرى تحركت بها الشمس مِن مشرقها إلى مغربها حتى حل الظلام فهبط عن حُصانه وَسحَبه سائراً في طريقه دون أن يتوقف يكرر كلماته مِن أجلك يا يامن مِن أجل أسيل مِن أجل مُنى مِن أجل الأماريتي مِن أجل إياد مِن أجل قمر ونادين مِن أجل الفقيرة الإكتارية وأبنائها. داخل زيكولا واصَل الجيش الزيكولي اصطفافه خلف سور مدينتهم وبابها .. مُدعَمينه بِمتاريس حديدية كبرى .. وأعلى سورها تناثر الرماه على مسافات متساوية يمّسكون بأقواسهم مستعدين .. ورحَل عن المنطقة الشرّقية شيئاً فشيئاً سُكانها الذين كانوا قد تزاحموا فجراً على جانبي الطريق فقَل الزِحام وزادت الأحاديث والأقاويل مجدداً عن نصر زيكولا بعد إعتقال مَلك أماريتا هذا الخبر الذي لم يكن لِيصدقوه أبداً مِن قادتهم لولا إنهم رَؤوه بأعينهم بينهم .. يرفع خنجرَه محاولاً ذَبح قاضيهم كبير المجلس الزيكولي .. المخول بأمور الحرب .. وسخِر بعضهم مِن غباء ذلك الملك .. الذي لم يتجاوز ذكاؤه أفّقر أهل زيكولا في إعتقادهم. وفي الطريق إلى المنطقة الشمالية .. سارت عربة خشبية بطيئة يجرها بغلٌ سقيم .. نَحيف مُقرح الظهر .. تحمل أسيل وَمُنى وقمر ومعهم إياد .. لا تحمل غيرهم .. بعدما خشى إياد أن يرى أحد الطبيبة .. ودفع مِن ذكائه خمسين وحدة مقابل هذهِ التوصيلة إلى صاحب العربة .. عجوز ضعيف النظر ظل يفاوضه على ثمن الإنتقال إلى المنطقة الشمالية ساعة كاملة، وغلبهُ النعاس تاركا بغلهُ يُكمل طريقه دون توجيه .. كانت وجوههم جميعاً شاردة .. لا يعلمون ماذا سيحدث خلال أي لحظة مِن اللحظات القادمة .. تتحرك عَربتهم في اتجاه الشمال حيثُ أمل مجهول قد وضعه أمامهم الأماريتي. لم تُحرِّك مُنى عينها المُلتمعة بالدموع عن السماء التي التحمت بالرمال على امتداد بصرها .. ولم تتوقف شفتاها عن التمتمة بالدعاء كي يعود خالد .. ولم يتوقف عقل أسيل عن التفكير بمصير تلك الحرب ومصير الأماريتي الحَبيس بمكان لا تعرفه مثلها مثل إياد الذي نظر إلى سور زيكولا الشاهق بعيدا وقال في نفسه؛ لطالما كنت مليئا بالأسرار ايها السور، وبِجوارهِ قمر التي وضعت ذقنها على ركبتيها المضمومتين إلى صدرِها .. لا يفارق بالها مشهد سيدها مكبلاً مجروراً إلى عربة وسط الفُرسان .. بينما كانت عيناه تنظر واثقة بين الجموع .. باحثةً عن شخص واحد يُطمَئن أنهُ مازال حراً .. نعم .. كانت الطبيبة التي تجلس بجوارها. 
                  

 في المنطقة الوسطى .. احتشد الكثيرون مِن منتصف النهار حول قصر الحاكم .. تطالب هتافاتهُم بقطع عنق الأماريتي الذي يزحف جيشه نحو بلادهم، كانت أُذُناه تسمع هِتافهُم وصيحاتهِم الحانقة وهوَ يجلس ساكناً مكبلاً بِإحدى غرف القصر .. يقف أمامهُ ثلاثة مِن الفُرسان .. جامدين كَتماثيل .. يعلم في نفسه أنَ الحاكم سيلقاه في أي لَحظة مِن لحظاته القادمة .. ربما تأخر نقاشَهُ مع قاضيه ورجال مجلسه .. بشأن مصيره .. كلما مر الوقت زادت صيحات المحتشدين بالخارج، ثمَ وَجد حارس القاضي يَدّلِفّ إليه .. عابس الوجه .. ويمسك ذراعهُ بِغلّظة دون أن يقولَ شيئاً .. ثمَ جَرَّهُ مِن خلفهِ إلى ممر انتهى بباب خشبي مفتوح على مصراعَيه .. ما إن عَبَرهُ حتى وَجد نفسهُ بِبَهَّو القصر الرئيسي، كان الحاكم الذي رآهُ مِن قبل .. يلّقي خِطابهُ يجلس بكرسي كبير يتوسط البهو .. تُجاوِرهُ مقاعد أخرى على الجانبَين جلس بها رجال المجلس الزيكولي .. الذين أبصرهُم مِن قبل على جانب المِنصة أوقفه الحارس فأشار إليه الحاكم كي يلّتّْفّ بجسده إلى اليسار فحركه الحارس بيده، فَنَظَر الحاكم إلى الوشّم على كَتِفه .. وأشار مجدداً إلى الحارس كي يعيدهُ مُواجِهاً له .. وكانت الصيحات لا تزال بِالخارج .. حين قال الحاكم: 

 يتعجل شعبي ذبَحُك أيها الملك. 

 فابتسم الأماريتي وقال: 

 لَطالَما تعَوَدْتُم الذبح هنا أيها الحاكم 

 فقال الحاكم وأظهر تعجُبَه: 

 أعلم أنَ الجيوش والبلدان ترسل جَواسيسَها .. لكن أن يكون الملك ذاتَهُ جاسوس جيشه .. شيءٌ لم أعتدّه. 

 ثمَ سألهُ بِجِدّية: 

 لماذا جئتَ إلى بلادي؟ 

 فقال الأماريتي: 

 كنت أُريد تجنب الحرب فحسّب 

 فضحك الحاكم ساخراً: 

 وكيف تَتجنَّبُها إذن؟ .....     
*********************************************************

الفصل الواحد و الاربعون


 سكت الأماريتي ولم يذكُر شيئاً عن أسيل أو أصدقائها .. ولم يُجِبْه، فقال الحاكم: 
                   

أردت أن تغزو بلادنا مِن أجل خائنة؟ 
                   

وأردف:                     

أرسلّت إليَّ طالباً العفو عنها ورفضْت .. كان عليك أن تحترم رفض بلادي.. 
                    

فقال الأماريتي: 
                    

إنها لم تضر أحدً بزيكولا .. لقد اتهمتموها بالخيانة دون محاكمة .. ولم يكن مقصدها إلا هدفٌ نبيل. 
                    

فسألَهُ الحاكم:
                    

وما الهدف النبيل إذن مِن وراء خيانَتِها؟
                    

قال:

كان هناك غريب لم يستحق الذبح .. كان يبحث طوال أشهُرِهِ عن عودته إلى عالمه .. ولم يكن هناك طريق إلى سردابه إلا عن طريق نفق يعبُر بهِ سور زيكولا..

فضحك الحاكم:
          
عالَمِهِ وسرداب .. تمتلك مخايلةً عظيمة أيها الشاب.
              

ونظر إلى كبير قُضاته وسأله:
                 

ما رأيك بهذا الهدف النبيل؟

فَهَز رأسَهُ نافيا .. ساخِراً مِن الأماريتي، فتابع الحاكم:
                 

أرأيت؟ لم يصدق القاضي ما تحدثت بشأنه .. لذا وَجبت الخيانة فكادَ يفلت لسانه عن أمر الباب الآخر لِزيكولا .. لكنه تَراجع خشية أن يلفت الإنتباه إليه .. ونظر إلى القاضي وقال بكبرياء مَلك:
                   

لا حاجة لِرأيك أيها القاضي .. سيُطبق عهد الرسل القديم قريباً.
                  

فقال الحاكم:
                   

هذا ما جاء مِن أجّله جيّشُك إذن.
                   

وتابع:                  

تظن إنني سأستجديك لِعودةِ جيشك إلى بلاده .. قد تكون فاجئتَنا بأعداد جيشك .. لكن إن أصبح إعداد مقاتليك أضعاف ما سمعت عنه .. لن يستطيعوا عبور سور زيكولا .. ونستطيعُ أن نعيش هنا الف ألف عام .. ولِنرى كم يتحمل جيّشُك مِن وقت للبقاء في صحرائنا .. ولِنرى ماذا سيفعلون .. حين يُلّقى رأسُك على سهم إليهم .. كَتَحيةٍ مِنا.
                  

ونظر إلى رجلٍ يرتدي ثياب عسكرية بين مجلسه:
                   

ايها القائد متى يتوقع أن يصل جيّشُه؟
                   

فأجابهُ:
                   

ظهيرةَ بعد غد
                   

فَنَظر إلى القاضي وقال:
                   

أيها القاضي .. ستُجرى محاكمة عاجلة أمام أهل زيكولا بساحة المنطقة الوسطى .. بشأن خيانتهِ .. في التوقيت ذاته .. ظهيرة بعد غد.
                  

وقال للأماريتي:                   

منذ عبورَك باب بلادنا .. وأصبحت زيكولي مثلنا .. لنرى ماذا يقرر كبير القُضاةِ بشأن خيانَتِك .. سيحضر المحاكمةَ جميع الجنود الجرحى .. إن أقر القاضي خيانَتَك .. ينتقل ذكاؤك اليهم بالتساوي .. ولو نال الواحد منهم نصف وحدةٍ فقط.         
                

ثمَ تابَع:

وستكون أول مَن يذبح بتاريخ زيكولا .. بيومٍ غير عيدنا .. بموافقة مِن المجلس الزيكولي.


ونظر إلى الرجال الجالِسين .. وسألهم:


أليسَ كذلك؟


فأوّمَأُوا إليه بالموافقة .. فقال:


لقد أقر المجلس ذبحك .. بعد غد .. في حال إقرار خيانَتك..


ثمَ أشار إلى الحارس كي يعيدهُ إلى غرفة حبسِه .. قبل أن يوقَفَه مجددا ويقول:


أتعلَم .. إنك أغبى مَن قابَلّت مِن الملوك .. لَطالَما حفر الغَبي قبرهُ بنفسه


فقال الأماريتي:


نعم ايها الحاكم لديك كل الحق فيما قلّته


كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل .. ولم يزل خالد يكمل سَيرهُ نحو وادي بيجاناَ، وإن أصابهُ تعب توقف لِدقائق قليلة .. قبل أن يواصل طريقهُ مجدداً، يعلم أنهُ لا يمتلك وقتاً لإضاعته كانت النجوم تُضيء أحيانا الطريق مِن فوقه .. إضاءةً خافتة فَيَمّتطي حصانه ليقطع مسافة طويلة، ويسود الظلام الحالك أحياناً أخرى .. تمُر معها الغيوم لِتحجب نورها فيترجَل ويسحَب حصانه خشيةَ أن يتعثر.


كان اتساع الوادي يضيق كلما تقدم في طريقه، صارت التِلال على الجانبين جبالاً عمودية شاهقة، وأصبحت الأرض غير مستوية .. تهبط وتصعد بإنحدار شديد تتناثَر بها صخور كبيرة فَخفف مِن سرعة جواده ومر وقت قليل، ثمَ هب فجأة نسيم منعش يحمل رائحة يود البحر .. فأدرك أنهُ اقترب مِن ساحل مينجا و ملأ صدره بالهواء، وما إن زادت إنارة الطريق قليلاً مع النجوم .. حتى إرتقى حِصانه وَرَكَض به في الوادي الضيق .. و عبره إلى سهل واسع مِن الرمال .. وواصل رَكضهُ يلفح وجهه هواء بارد لم يتوقف منذ تجاوزه الوادي الصخري، قبل أن يجد نفسهُ أمام شاطئٍ رطب بَلَلت المياه رمالَه، فَنظَر مِن حوله على امتداد البصر .. فلَم يجد سوى الظلام فحسب.


كان الفجر على وشك البزوغ .. وزادت برودةُ الجو .. لمّا هبط عن حِصانه وعَزَم على الانتظار ووقف أمام البحر ينظر إلى الفراغ المظلم أمامه .. وتدور برأسه أفكار ووجوه شتى ثمَ رَقد على ظهره ممسكاً لجام حِصانه، نظر إلى السماء قبل أن ينهض فجأة ووقف موجهاً ظهره إلى البحر، وهمس في نفسه:


البحر في اتجاه الجنوب

ثمَ نظر أمامه وقال: 

الجبال في اتجاه الشمال 

ونظر الي يمينه: 

اتجاه الشرق بيجاناَ 

ونظر إلى يَساره: 

اتجاه الغرب زيكولا 


وكررها: 
جنوب ... شمال ... شرق ... غرب 


ثمَ إمتطا حِصانه وَركض به موازياً للساحل في اتجاه الغرب، يهمِس إلى نفسه آملا بِألا يجد جيش أماريتا قد ابتعد كثيراً عن ساحل مينجا. 


في تلك الوقت .. كان السكون يسود أرجاء زيكولا .. عدا المنطقة الشرّقية التي لم تهدأ مِن حركة الجنود والفُرسان بها، والمنطقة الشمالية التي اعتادت أن يكون ليلها نهاراً ونهارها ليلاً .. دون أن يعبأ سكانها بهذهِ الحرب التي قد تعصف بِبلادهم أو يضعوا لها أي بال، وأمام حانة على أطرافها قَبعت العربة الخشبية الصغيرة التي حملت إياد ورفقته .. يرقد بجوارها بغلها النحيل وفي صندوقها الضيق تَكوَم صاحبها العجوز أسفل غطائه الصوفي نائماً في انتظار الصباح ليعود إلى منطقة أخرى بعيدة عن هذهِ المنطقة داخل الحانة .. تزاحَم الكثيرون مِن السَكارى الذين علت أصواتهُم .. يضربون بأكواب خمّرهِم طاولاتهِم .. مع غناء بعضهم ورقص آخرين .. يتخلل صخبهم ضحكات فتيات الليل المُجلّجَلة .. واللاتي الّتَفَفن حول الطاولات بين الرجال وبين وقت وآخر تُرافق إحداهن أحدهم إلى الطابق العلوي لتزداد الضحكات والصرخات بالغرف جميعها .. عدا غرفة واحدة صامتة جلست بها أسيل وَمُنى وقمر، لا يستطيع النوم أن يقترب مِن أي منهن، وَتدُقّ قلوبهن خوفاً وترتعد أجسادهن كلما سمعن صرخات إحدى الفتيات وتنظر أعينهن نحو باب الغرفة الذي أوصاهم إياد بإحكام إغلاقه، إياد الذي جلس بِأحد أركان الحانة على طاولة يضع رأسه على كفه وتغفُل عيناه بين حين وآخر، وإن اقتربت مِنه إحدى الفتيات تطلب وحداته مقابل مرافقتها بِإحدى الغرف .. هز رأسه رافضاً .. كاد يغلبه النوم مع بزوغ الفجر لولا ذلك الفارس الذي دَلَف إلى الحانة لتهدأ الأصوات وتتوقف الفتيات عن ضحكاتهن .. ليحملقن به ثم قال: 


ستُجرى محاكمة عاجلة لِملك أماريتا أمام أهل المدينة بساحة المنطقة الوسطى .. ظهيرة غد .. يوصي الحاكم بحضور الجميع.. 


ثمَ غادر، فعاد الضجيج مِن جديد وكأنهم لم يَدروا بما قاله، فنهض إياد متخطياً طاولاتهم وأسرع إلى الخارج وراء الفارس .. فوجده قد إمّتَطى جواده وابتعد إلى داخل المنطقة الشمالية ووجد بجواره العجوز نائماً اسفل غطائه فَهزه وأيقظه .. فَنظَر إليه العجوز ساخطاً نعساً .. فقال إياد: 


لا تُغادر وحيداً سنعود معك غداً إلى المنطقة الوسطى فقال الرجل: 


خمسون وحدة أخرى وطعام لليوم 


فهَز إياد رأسه موافقاً .. ثمَ دَلف إلى داخل الحانة.....   
*********************************************************

الفصل الثاني و الاربعون


 أمام بحر مينجا .. كان ظلام الليل قد بدا في زواله مع بزوغ الفجر حين واصل الجواد الأبيض رَكضه في اتجاه الغرب يمتطيه خالد الذي كانت تبحث عيناه على امتداد بصرها على أي أثر للجيش الأماريتي قبل أن ينحرف الساحل بزاوية شبه عمودية فإنحرف معه .. فأبصر السفن الأماريتية تُرفرف راياتها الحمراء فوق صواريها، ثمَ رفع بصره على رايات أخرى لاحت في الأفق فوق هضاب الشاطئ بعيداً، فَهز لجام حصانه كي يسرع اتجاهها. 

                  
ومضى وقت قليل .. تقدم معه كثيراً .. فظهرت مع استواء الأرض .. جماعات كثيرة من الجنود مِن أمامه .. كانت كل جماعة تُكَوَن مِن عشرات الصفوف .. يصطف بها مئات الجنود غير الذين ظهروا فوق خيولهم مصطفين في جماعات أخرى .. ثمَ رأى جسرا خشبيً يشق مياه البحر إلى سفينة كبيرة .. وتصل ألواح خشبية سميكة بين السفينة والجسر .. ليعبر من فوقها منجنيق شاهق يجره بصعوبة أربعة أزو اج مِن الخيول، ثمَ أوقف حِصانه حين فوجئ بسهم يخترق الرمال مِن أمامه جاء مِن أعلى .. وهبط عنه رافعاً يده .. فاقترب منه ثلاثة مِن الفُرسان فبادرهُم قائلاً:
                    

أنا صديق الملك تميم
                  

دَلف خالد خلف فارس إلى خيمة تواجَد بها القائد الشاب جرير .. وقال الفارس:
                    

قال أنهُ صديق الملك
                    

فنظَر إليه جرير الذي كان يقف أمام خريطة مجسمة بوسط الخيمة .. وقال بشغف:
                    

هل جئت برسالة مِن الملك تميم؟
                  

فقال خالد:
                    

لا لقد جئت بهذهِ..
                    

وأخرج الورقة المرسوم بها الطريق إلى الباب الآخر لِزيكولا، فَنطق جرير وهوَ يُمعن النظر بالورقة:
خط الملك تميم!

                 

قال خالد:

نعم .. إنهُ طريق إلى باب آخر لِزيكولا


                    

وتابع:                  

لقد أمسك به جنود زيكولا مِن أجل فراري عبر بابها بذلك الحِصان الذي جئت به


                    

وتابع:                   

كان الملك يؤمن أن وراء هذا الباب أسراراً لم تبُح بها زيكولا مِن قبل، ستُساهِم في نجاتِنا مِن تهمة الخيانة..


                    

لقد عاد إلى زيكولا مِن أجل عهده بنجاة أسيل إلى الأبد، ثمَ فوجئنا بعزم زيكولا إغلاق بابها فجأة، كان يدرك أن إغلاق باب زيكولا ونحنُ بداخله ستكون نهايتنا جميعاً.


                    

وجالت برأسينا قبيل إغلاق زيكولا فكرة أن نعبُر الباب الآخر باستخدام جواد الحارس الذي إعتاد عبوره، و لإلهاء ذلك الحارس وتشتيته كان لابد أن يعرض أحدُنا للإعتقال أنا أو هو، فوجدته مَن يقترب نحو القاضي - سيد الحارس - و آثر أن أعبُر أنا إلى خارج بابها.. لن ترحمهُ زيكولا.


                    

ثمَ نظر إلى الخريطة المجسمة أمامهُ


                    

وقال:


                    

أيها القائد لدي خطة لاجتياز ذلك الباب السري أريدك أن تساعدني بها.
     
                

فقال جرير:


وماذا إن كان فخاً منك؟


فابتسم خالد:


لم يكن ليخبرني الملك عن مكان إطلاق السِهام المضيئة 


فابتسم جرير وقال: 


حسناً 


فَنظَر خالد إلى الخريطة أمامه مجدداً .. ووضع عليها الورقة المخططة وقال وهوَ يحرك أصبعه على وادي مجسم بها: 


سنسلُك هذا الطريق .. ثمَ سنعبُر مرتفع هنا سيقودنا إلى مُنخفض عميق دائري واسع.. 


نظر إلى جرير وقال: 


لقد رأيت المجانيق تعبُر إلى الجسر عبر الواح خشبية طويلة .. ستفي تلك الألواح بالغرض. 


فهز جرير رأسه موافقاً .. فتابع خالد: 


أخبرني الملك تميم أنَ هناك طريقا متعَرِجاً ضيقا يصل إلى سور زيكولا، وأكمل: 


ليس موجوداً بخريطتك. 


وتابع: 


قال الملك أنَ الباب الأرضي يوجد أمامه نهاية ذلك الطريق المتعرِج يتسع لدخول عربات كانت تنقِل عشرات الفُقراء إلى زيكولا دون أن يدري أهلها، أتوقع أن يكون جيش زيكولا بأكمله خلف السور الشرقي لن يتواجد إلا أعداد قليلة مِن الجنود بالمناطق الأخرى مع اطمئنان زيكولا بسرية المدخل عدد قليل مِن الفُرسان نستطيع اقتحام ذلك الباب ونَكتشف شيءاً قد يفيد براءتنا قبل إشتعال الحرب: 


فسألهُ جرير: 


كم فارساً تريد؟ 


فقال خالد وهوَ يفكر: 


مائة فارس وكفى 


فقال جرير: 


لا ... سيعبر ذلك الطريق .. ثلث جيشي .. مائة وخمسون ألف مقاتل. 


انطبعت المفاجئة على وجه خالد حين أخبره جرير عن عزمه عبور الطريق الثُعباني .. بثلثي الجيش وتابع جرير قائلاً: 


لقد اشتعلت الحرب بالفعل أيها الصديق .. لديهم الآن الملك تميم .. ونعلم كثيراً عن غرورهم .. لن يفاوضونا مِن أجله، فقال خالد: 


لكن الطريق ضَيق .. لن يتحمل هذا العدد الضخم .. سيضيع المزيد مِن الوقت 


فأشار جرير إلى طريق بالخريطة المُجسمة أمامه وحَرك قطعة خشبية في شكل منجنيق صغير بهِ نحوَ زيكولا التي مُثلت بمربع بارز يحيطُه سور صخري منحوت .. وقال: 


إنَ مجانيقنا ثقيلة للغاية .. ستحتاج يوماً بأكمله لِتجاوُز الطريق إلى زيكولا .. لذا سيصل الثلث المتبقي مِن الجيش .. إلى السور الشرقي مع صباح غد.. 


ثمَ أشار إلى طريق آخر جانبي .. كان وادي التِلال .. وأكمل: 


لدينا إذن يوم بأكمله لِلتقدم نحو السور الشمالي .. مهما كان الطريق ضيقاً .. نستطيع أن نُباغِتهُم في التوقيت ذاته .. لقد تركوا لنا فرصة عظيمة .. بإنسحابهم إلى داخل زيكولا. 

                  

كان الأوان قبيل الظهيرة .. حين بدأ الجيش الأماريتي زحفه تجاه الغرب في طريقه إلى زيكولا جحافِّل من الجنود والفرسان أصطفوا في عشرين فيّلَقٍ متتابع، يَفصل بين كل فَيّلَق وآخر عشرةٌ مِن الأمتار .. كان ينتظم بِالفَيّلَق الواحد أربعةُ آلاف جندي تتوهج خِوَذَهم وَدروعهُم أسفل أشعة الشمس .. بين كل جندي وآخر قدمٌ واحدة، كانت أقدامهُم ترتطِم بالأرض سوياً .. فيُصدِر وقعَها قوياً تتناغم مع دقات الطبول .. التي دُقت عالياً بينهُم وتتناثَر بينهم راياتٌ حمراء كبرى .. نُقِش عليها خمسة مِن النجوم السوداء وُزِعَت في شكلٍ دائري يَتْبعهم بالصفوف الخلفية ثلاثة آلاف جندي طُوال القامة أقوياء البِنية قَسموا على مائة منجنيق يجُر كل منجنيق أربعة أزواج مِن الخيول كانت عجلاتِها الحديدية تُصدِر جلبةً هائلة وَغُبار كثيفاً إندفع بأكمله نحو عربات كانت تسير بمؤخرة الحشد وتحمل كُرات اللهب المعدنية.. 


وفي اتجاه الشرق .. تقدم الجانب الآخر مِن الجيش الأماريتي فُرسانٌ وجنود يضاعف عددهم مَن تقدموا نحو زيكولا .. يتقدمهم القائد جرير على جواده .. بجواره خالد على جواده الأبيض .. بزيّه الزيكولي، رَكَضَت بهم الخيول في صمت نحو وادي بيجاناَ. 


وكانت الشمس قد تعامدت بالسماء حين وصلوا إلى بداية الوادي .. خلف جماعة مِن ثلاثين فارس سبقتهُم بمئات الأمتار كَطلائع لهم .. كان الممر ضيقاً .. بالكاد يتسع لِتجاوُز ثلاثة مِن الخيول، فَخفَفوا مِن سرعة جيادهم حتى صارت مَشياً، ثمَ اتسع قليلا .. فَرَكَض الفُرسان بخيولهم مع انحدار الأرض هبوطاً وصعوداً .. وكادَ خالد أن يسقط حين حاول مُجاراتهم لكنه تشبث بسِرّجه وأعاد أتزانَه .. فَنظَر إليه جرير وتساءل ان كان بخير فأومأ إليه إيجاباً وأكملاَ ركضهُما يتّبعهما الآلاف مِن الفُرسان والمُشاه .. واتسع الطريق أكثر فَأكثر .. فتجاوز خمسة مِن الفُرسان بكل صف .. وصارت الجبال العالية على الجانبين تلالا أقل إرتفاعا، وبعدما تجاوزت المقدمة الأرض المنحدرة بات الطريق رملياً مستوِياً .. وأصبح رَكّض الخيول أكثر سهولة .. فحَث خالد حِصانه كي يسرع. 


خلف سور زيكولا .. كان الجيش الزيكولي يكمل استعداداته .. وجوه مُتَجهِّمَةٌ مِن الجنود المتراصين تدُق قلوب بعضهِم متسارعة .. إن تحدث أحدهم عن كُرات اللهب الأماريتية وخلف الصفوف سارت خمسة مِن العربات المُتّرَفة تحمل الأولى حاكم زيكولا والأُخريات رجال المجلس الزيكولي .. وَترَجَّلوا يحمسون جنودَهم ووقَف الحاكم أمام جماعة مِن الجنود يحُثَّهُم على الصمود .. وَيَعِدُهم بِمضاعفة أجرَهِم مِن وحدات الذكاء .. ليصبح عشرين وحدةً مِن الذكاء عن اليوم الواحد .. فصاحوا مُهلِلين في حماس. 


وفي غرفةٍ بالمنطقة الوسطى .. أضاءتّها القناديل النارية المعلقة، كان الأماريتي يجلس على مقعد حديدي يميل جذعه ورأسه لِلأمام .. مكبلَةٌ يديه وقدَميه مغّمِضاً عينيه نائماً .. بجوارهِ قِدر مِن الثريد -الثريد هو الخبز والمرق أي أنه الخبز المفتّت مع المرق - لم ينقص منهُ شيء، قبل أن يفتح عينيه .. لمّا دَلَفّ إلى الغرفة رجل ثلاثيني قصير .. مُتَرَهِل الجسد .. يحمل حقيبةً وضَعها على طاولةٍ جانبية .. وقال؛ إنني حلّاق المِنَصة، وأخرج آلةً حادة تشبه سِكيناً صغيراً .. وضَعَها جانبا بِجْوار الحقيبة، ثمَ أَخرَج وعاءً زُجاجياً .. وفتح غطاءهُ .. ففاحت مِنه رائحة نَفّاذَة، ودَس يده به لِيُخرِج مادة خضراء لَزجة وضَعها على رأس الأماريتي ودلَّك بها شعره .. ثمَ وضع المزيد منها ودلَّك الشعر بقوة دون أن يحرك الأماريتي رأسه أو ينبس بكلمة واحدة، كانت عيناه تنظر شاردة إلى الفراغ أمامه فحسب .. ثمَ أمّسَك الحلّاق سكّينَه وبدأ يزيل شعرهُ عن آخره .. وما لبث أن انتهى في دقائق قليلة .. كان بعدها الأماريتي حَليق الرأس .. وقال الحلّاق ضاحكاً وهوَ يعيد أدواته إلى حقيبته: 


- يقولون أن حلّق رؤوس الموتى يدفع الفقر عن زيكولا. 


فصاح به أحد الحُراس الواقفين كي يغادر الغرفة في الحال .. دون أن ينطق المزيد من الكلمات. 


و اقتربت الشمس مِن المَغييب حين وصلت مقدمة فُرسان أماريتا إلى التبة المجاورة للمنخفض الصخري .. والتي مُيزت بِصُخورها السبعة، وأشار إليها خالد صائحاً لمّا أبصرها .. فَقلَلَت الخيول مِن سرعتها وتوقفت بِأمر القائد جرير، كان حشداً هائلاً .. امتلأ معه وادي التِلال عن آخره بأجساد الخيول والفُرسان وَالجنود، لم يكن خالد يعلم أنهُ حين توقفت المقدمة بجوار التبة المقصودة كان جنود المُشاة بمؤخرة الحشد لايزالون يندفعون إلى بداية الوادي، ثمَ ترجَل جرير عن جواده وبعض مِن رجالِه وعبروا التبة وراء خالد وتوقفوا على حافة المُنخفض الصخري قبل أن يأمر جرير بسرعة تثبيت الجسور الخشبية. 


كانت ساعةً واحدةً قد مرت بعد حلول الليل .. حين أبصر جندي حاد البصر يقف أعلى سور زيكولا نيران بعيدة بِصحراء زيكولا تتوهج بين ظلام الليل الحالك، لم تكن إلا شُعلاً .. حَمَلَها الجنود الأماريتيون المتدافعون في طريق زيكولا الرملي والذين توقفوا للمرة الأولى بِأمر مِن قائدهِم لِينالوا قسطاً مِن الراحة بعد مسيرت النهار بأكمله.


أما الذين عَبَروا المنخفض الصخري فلم يتوقف سَيلهم .. وكانت الألواح الخشبية قد صنعت خمسة مِن الجسور بين الحافتين، صُنع كل جسر مِن ثلاثة ألواح مُتجاوِرة تربُطَهُم أحبال سميكة فأحكمت تلاصقهُم دون ترنُح، وعَبر الخيالة مُترجِلين يَجرّون خيولهم بيد ويحملون شعلاً بيدهم الأخرى، غير مصابيح ثُبتت مشتعلة على جانبي الجسور فأصبحت معها الرؤية أكثر وضوحاً، و كان جرير وخالد قد أسرعا عِبر الطريق الثُعباني بين الجبلين العموديين خلف فُرسان حَملو شعلاً أضاءت الطريق المُتعرِج أمامهم، وإندفع مِن وراءهِم مَن عَبروا جسور المنخفض يحملون شعلهم وأكملت جيادهم طريقها ركضاً يتجاور اثنان او ثلاثة منهم بكل صف، ينظر بعضهم إلى إرتفاع الجبلين بالأعلى حيثُ تظهر نجوم السماء عبر الفُرجة بين قِمتَيهما، ومضت ساعاتٌ أخرى واصلوا معها تقدمهم إلى الشمال.


كان الفجر على وشك الطلوع .. فتحركت عربة العجوز الخشبية تحمل أسيل وإياد وقمر وَمُنى إلى المنطقة الوسطى بين عربات أخرى تحركت جميعها لتشهد المحاكمة العاجلة لِمَلِك أماريتا، و انتشرت أخبار بين المُسافرين .. أن حاكم زيكولا قد وعد بتوزيع وحدات خزينة كاملة مِن الذكاء على حضور تلك المحاكمة فعزم الكثيرون على السفر إلى المنطقة الوسطى، حتى أن الحانات التي إزدحمت كل مساء .. أصبحت تلك الليلة خاوية على عروشِها يسودها السكون، وصار الطريق الرملي بين المنطقة الشمالية والمنطقة الوسطى .. صاخباً مثله مثل باقي الطرق التي تَتجِه إلى المنطقة الوسطى، تتناثَر به العربات والخيول والبغال والسائرون رجالا ونساءا وأطفالاً يصُبون لعَناتهم على ذلك الملك الذي ظن يوما إنهُ يستطيع هزيمة بلادهِم، وغَنُّوا في جماعاتٍ مُتباهين بقوة بلادهم .. لا يَعلَمون أنَ أجساد جنودَهم قد بدأت في إرتجافها خوفاً .. بعدما أبصروا مع شروق الشمس تصاعُد الغُبار  بِكَثافَةٍ بالِغة على بُعد أميال، كانت المجانيق الأماريتية تمضي قدماً في طريقها إليهم .. تجُرها خيولها دون توقُف .. خلف آلاف مِن الجنود زادت ضربات أقدامهم بالأرض كلما اقتربوا مِن وجّهتهم المقصودَة .. أرض وحدات الذكاء. ....         
*********************************************************

الفصل الثالث و الاربعون


 على  مقرِبةٍ مِن نهاية الطريق الثُعباني توقفت الخيول الأماريتية وترجَّل خالد وجرير وسارا إلى نهايته يوارِيان جسديهما، ورأياَ مِن أمامهُما سور زيكولا شاهقاً على بُعد قُرابة ثلاثُمئة متر مِن سهل رملي، وأشار خالد أمامه .. وقال لِجرير: 
                    

هناك يقبع الباب الأرضي حسب وصّف الملك تميم.. 
                    

وتابع وهو يُبصِر جندي يقف أعلى سور زيكولا: 
                    

هؤلاء القوم لا يفكرون على الإطلاق خوفا مِن فُقدان ذكائهم. 
                   

ثم عادا إلى فُرسانهِم .. فقال خالد لهم: 
                    

ايها السادة أريدكم أن تخلعوا خِوَذَكم..
                    

فَنظَروا إلى جرير فبادرهُم وخلع خُوذتَه .. فَخَلَعوا خِوَذَهم، فمر بينهم لمسافة أمتار ينظر إليهم .. ثمَ صاح بصوته إلى فارس شاب أبصره بِصَف بعيد كي يتقدم نحوه .. كانت رأسه حَليقة يُشبه في جسده حارس القاضي .. وقال له حين أقترب ووقف أمامه مُترجِلاً:

                    

ما رأيك أن تكون أول مَن يدخل زيكولا؟

                    

فضرب الفارس بقدمه الأرض ووضع قبضة يده على صدرِه فابتسم خالد .. وقال وهو يدَعهُ يركب جواد الحارس الابيض:

                    

لقد قطعنا كل تلك المسافة وعرَّض مَلِكُك حياتَهُ للموت مِن أجل هذهِ اللحظة..

                    

لا تنظر خلفك فقط إندفع إلى السور واثقاً..

                   

لا يستطيع أحدٌ بهذا الارتفاع أن يحدد ملامحَك .. أنت مِن هذهِ اللحظة حارس كبير قُضاةِ زيكولا.

                   

فملأ الشاب صدرَه بِالهواء وأخرجه ببطء فضرب خالد مؤخِرة حِصانه فانطلق في طريقه يعبُر السهل الرَملي يترقبه خالد وجرير اللذين توارا وراء نتوءاين صخريتين تدُق قلوبهُما، غير أحد الرِماه الذي صوب سَهّمُه مشدوداً عن آخره إلى الأعلى تجاه الجندي البادي وكانت عين خالد تتحرك بين الشاب على الحِصان أمامه وبين الجندي بالأعلى ثمَ قلل الفارس مِن سرعته وأقترب مِن السور فلم يحدث شيء، فَنظَر خالد إلى الجندي بالأعلى لم يبدي أي رد فعل، فوجد الفارس يدور بحِصانه وجعله يشُب على قوائمه الخلفية وَيصهِّل عالياً صهيلاً متتالياً فانفرجت أساريرهُ حين سمعت أُذناه صريراً إستمر لِلحظات إنطلق معه الجندي إلى داخل الأرض بِمَيل عبر باب أرضي فُتِح مائلاً عن آخرِه فضرب كتف الرامي برفق فانطلق سهمه إلى أعلى السور ليخترق جسد الجندي ويسقطه مِن أعلى إلى السهل لِتندفع الخيول بفُرسانها يتقدمهم خالد وجرير نحو باب زيكولا الجديد. 

                    

كان الباب الأرضي المائل يؤدي إلى نفق واسع تستطيع عَربتين كبيرتين المرور به مُتجاورتين عُلِقت على جانبَيه على مسافة متساوية مصابيح نارية مشتعلة جعلت معالِمه واضحة كان يشبه فِ تصميمه سرداب فوريك غير أن جدرانه الصخرية لم تكن مَنقوشة، و ظهرت بِسقفه قوائم حديدية أفقية تدعم صخوره.. 
        
                

ركضت الخيول يعلو صهيلُها بعدما ضَرب جرير بسيفه الحاد زوجاً مِن السلاسِل الحديدية كانت مثبَتةً بباطن الباب الأرضي السميك وتمتد مِنه إلى مجرى صخري لِتلتف حول إسطوانة حديدية كانت مصدر صريره أستقامت منها السلّسلة إلى أعلى عبر فُرجَه مربعة بِسقف النفق لِيتحكم بالباب جندي السور، وكان ثمة سُلم حديد قائم يتدلى عِبر الفُرجةِ ذاتَها وتعددت فتحات النفق بِسقفه بالأمتار الأولى مِنه، ثم ظهرت جماعة مِن جنود زيكولا لم تزيد أعدادهم عن بضع عشرات حُصدت سيوف الأماريتيين رؤوسهم في طريقها .. وأكملت الخيول طريقها بِالنفق تندفع بهم الأرض مائلة إلى أسفل. 


كانت الحُشود في تقدُمها مِن الطريق الثُعباني إلى النفق الأرضي عبر السهل الرملي تشبه أسراب النمل المُسرعة إلى جحرها في صفوف طويلة لا تنتهي، ثمَ أبصر خالد عربات أصطفت قابعة على جانب النفق، فَتذكر السيدة الإكتارية وحديثها عن نقل فُقراء بلادها في عربات كانت صوامعها أقفاصٌ مِن قوائم خشبية، و كانت الخيول قد قطعت ما يزيد عن اربعة أميال .. حصدت به رقاب عشرات آخرين مِن جنود زيكولا حين إنتهى النفق بباب خشبي مفتوح على مصراعَيه إلى رُدهَةٍ كبرى دائرية كان قطرها يقارب السهل الرملي أمام السور، يتفرع منها ممرات ضيقة لا يزيد عرضها عرض الممر الواحد عن خمسة أقدام على إمتداد محيطها، بينهما ممرَين واسعين أحدهما يميناً والآخر يَساراً يصل عرضهما إلى عرض النفق الذين دَلَفوا مِنه.. 


وظهر بالأُفق جنود آخرين كانت على وجوههِم المفاجأة والخوف كذالك مِن مصيرهم الإعتقال، ثم هبط خالد عن جواده ومعه جرير وأمسك بجيادهما جُندي وتقدما مع بعض الجنود إلى أحد الممرات الضيقة .. كانت المصابيح النارية المُعلقة على جُدرانهِ مُضاءة، لِتظهر أبوابا حديدية متجاورة مُغلقة على إمتداد جانبَي المَمر بين كل باب وآخر بضع أمتار فَضرب جرير قفلاً كبير كان يغلق أقرب الأبواب إليه وركل الباب بقدمه وفَتحه .. كانت غرفة مُظلمة تفوح بها رائحة كريهة .. وما إن دَلف إليها خالد حتى سمع جلبة مفاجئة وهمهَمات مَكتومَة فاقترب بشُعلته خطوات بِداخلها .. فظهرت ملامح لوجوه سَقيمة .. تُشبه ملامح سيدة اكتاراَ، واقترب آخرون مِن خلّفِه بشُعلهِم بينهم جرير فظهرت مِن أمامهِ أجسادهم عارية مُتكدسين مكبَلَةٌ أطرافُهم بِسلاسل حديدية وإلتفت حول أعناقهِم سلاسل أُخرى موصولة بِحلقات كانت مُثبتةً بالحائط كانت أعينهم تظهر مع ضياء المشاعل خائفة ترتعد أجسادهم .. فاقترب منهم أكثر، كانت وجوههُم شاحبةً شحوبً يعلمُه .. شحوب فقراء زيكولا وَظهورَهُم مُمَزقة في خطوطٍ مِن أثر الصياط، كان عددهم بالغرفة يتجاوز خمسين في غرفة لا يتجاوز طولها أو عرضها عن بضع أمتار بينهم أطفال لايتجاوز عمرهم عشر سنوات لم تفلت ظهورهم مِن آثار جَلّدها، فدَق قلبه في ذهول هو وجرير .. الذي لم يصدق ما يراه، وأمَر جنده بِأن يفتحوا كافة الغُرف بالممرات.. 


كان عدد الممرات على حواف الرُدهه الدائرية اثنا عشر أمّتَدوا مِنها كَإشعة الشمس، بكل ممر ثلاثين غرفة على جانبَيه يتكَدس داخل كل غرفة عشرات مِن العَرايا شاحبين الوجوه حليقي الرأس نحيلي الجسد تلتصق جلودهم بِعظامهم، غرف أخرى إمّتلأت بِفتيات شاحبات لم يتجاوز عمرهن عقدهن الثاني حلقت رؤوسهن مثل غيرهم مِن الذكور تغطي أجسادهن فساتين بالية ممزقة كانت تُظهر أكثر مَا تستُر، كان خالد ينتقل مِن غرفةٍ إلى أخرى بشُعلته في ذهول كانت الجلبة ذاتها تحدُث مع فتح كل باب .. جلبة خائفة، النظرات ذاتها نظرات الذُعر والقهر مِن عيون مكسورة مستسلمه تنتظر موتها.

وبدأ الجنود يضربون سلاسلهم وأغلالهم بِسيوفهم، ثمَ جاء جندي إلى القائد جرير وأخبره عن غرف بِالممرات الشرقية تختلف عن باقي الغرف التي وجدوها، كانت غرَفاً متسعة نظيفة تعلق مصابيح نارية على حوائطها بالغرفة الواحدة عشرة أَسِرَة يرقد عليها رجال ونساء ملامحهم زيكولية نائمين موردين الوجوه مثبته باذرعهم أنابيب معدنية مثل التي ثُبتت لِأسيل مِن قبل.

كان خالد يتحرك بين أَسِرتهم ويتنقل مِن غرفة إلى أخرى .. ومِن ممر لِآخر غير مصدِق عينيه، ثمَ انتبه إلى الطريقَين الشرقي والغربي .. كان بأرضية كلاهما زوج مِن القُضبان الحديدية وتتوقف بكل طريق عربة مِن صندوق عميق يستند على أربعة عجلات حديدية صغيرة أُطرها مقعرة تلائم القضبان الممتدة، فاقترب مِن عربة الطريق الغربي فوجد بها جثث عارية شاحبة مبللة مكدسة إلى منتصف صندوقها كأنها تنتظر أن تمتلئ عن آخرها لتبدأ في تحركها .. فأبعد عينيه عنها.

وكان النفق قد أمتلأ عن آخره بِجنود أماريتا حين تولت مقدمتهم أمر بعض الجنود كانوا مختبئين بغرف بِنهاية الممرات وأسروهم مع آخرين يرتدون ثياباً زيكولية لم يكونوا جُنّداً، وجُمِعوا في منتصف الرُدهه خائفين بينهم شاب لم يكُف عن الإرتعاد وحاول الفِرار إلى الطريق الشرقي فأمسك به فارس وعاد به إلى القائد جرير فصرخ الشاب في خوف:

لست إلا طبيبا أُجبِر على العمل هنا.

فأشار جرير إلى فارسه بِأن يعيدهُ إلى وسط الرُدهه مع الباقين، وإلّتفت إلى العرايا الذين يخرجون ببطء مِن الغُرف واحد تلو الآخر يتلفتون حولهم في ذهول ويتحسس بعضهم رقبته فتتقلَص وجوهم الشاحبة مِن الألَم كانت الأغلال قد تركت أثارها على أعناقهم ومعاصِمهم فباتت جلودهم مُتاكلة مُتقرحة، كانت نظراتهم زائغة ينظرون إلى بعضهم البعض وهم يخرجون مِن الأبواب المفتوحة متثاقلي الأرجل تحدق أعين الواحد منهم بوجوه وأجساد غيره كأنه يتأكد إن كانوا هم من عرفهم من قبل أم لا، وخرجت الفتيات عبر أبواب غرفهن كانت أيديهن تُحاول أن تغطي أجسادهن المكشوفة وتتحسس بعضهن رؤوسهن الحليقة للمرة الأولى بعد فك أغلالهن فسالت دُموعهن دون توقُف.

حتى أمّتَلات الممرات، ووقفوا ينظرون بأعين متحجرة إلى جرير وخالد مِن أمامهم صامتين، ثمَ تقدم أحد القادة إلى القائد جرير بعد قليل من الوقت وقال:

هناك غرف كثيرة أخرى خالية .. لم يعُد أحدٌ بالغُرف .. عدد الفقراء ثلاثة آلاف، فأقترب خالد مِمن قال خائفاً أنه طبيب بِوسط الرُدهه .. وسأله:

أين الباقون؟

قال الشاب وهو يجثو على ركبتيه واضعا رأسه بين ذراعيه خوفا:

لقد سَلَكوا طريق الموت، وأشار إلى الطريق الغربي حيثُ وقفت العربة ذات الصندوق العميق .. وأكمل:

لم تتحمل عُقولَهم نقل ذكائها بِالكامِل إلى الخزائن.

وأشار بِرأسه نحو الغرف النظيفة المُتسعة .. وتابع:

ومن تحمَّل عقولهم ذلك لم يعد له قيمة .. فتُرِك لِيموت جوعاً.

ثمَ قال وهوَ ينظر إلى الفقراء العرايا بالممرات:

إنَ هؤلاء لم يؤخذ ذَكائهُم بِالكامِل بعد.

فَهبط خالد على ركبتيه أمامه وسأله في ذهول:

يُقتلون مِن أجل ذكائهم؟

فَهَز الشاب رأسه إيجاباً في خوف .. وقال:

نعم .. يمتلك الإكتاري الواحد على الأقل عشرةُ الاف وحدة ذكاء، فقال خالد:

لابد أن يكون هناك مقابل لِلذَكاء .. ما هو المقابل الذي ينالونه إن كان الموت حتمياً في النهاية؟

فقال الطبيب:

الذكاء مقابل الرحمة..

فضرب خالد رأسهُ بِيده ودَق قلبه وهوَ ينظر إلى أجسادهم المُمزقه بالسّياط وهمس إلى نفسه:

مقابل الرحمة.

ثمَ سأله: 

كم مات مِنهم؟ 

أجابه: 
يأتي لنا كل عام عشرون ألف اكتاري على مرتين منذ أربعة أعوام، فقال خالد شارداً: 
ثمانون الف فقير لم يتبقى مِنهم إلا ثلاثة آلاف مسلوب ذكائهم. 


فتابع الشاب متوسلاً: 
إننا أُجبرنا على العمل هنا لإنامة الخزائن وإمدادهم بِسوائل مغذية وَمُنَوِمة، وغمر الموتى بِسائل اخترعه عالِم زيكولي لِمنع إنتشار رائحة جيفهِم، نحنُ أسرى مثلنا مثلَهم  مثل الخزائن لم يسمح لنا الجنود الرحيل أبدا منذ قدومنا......
*********************************************************

الفصل الرابع و الاربعون


 نظَر جرير إلى الجنود الأسرى بِجانبه ونَطق إلى كبيرهم: 
                    

هل جاءت أخبار عن مَلِك أماريتا؟ 
                    

فنَطق مُتباهِياً: 
                   

سيحاكم ظهيرة اليوم وسيُقتل.. 

                    

فدَس فارس أماريتي مِن خلفه سيفه في مؤخرة عُنقه، فسأل جرير جنديا آخر وأشار إلى الطريق الشرقي: 

                    

إلى أين يؤدي هذا الطريق؟ 

                    

فأجابه مُرتعداً:

                    

ينتهي بباب أرضي إلى مِنطقة جبلية قريبة مِن المنطقة الوسطى وقُرب نهايته يوجد مَمر إلى قصر خزائن الذكاء التابع للمجلس الزيكولي.

                    

فسأله خالد:

                    

والطريق الغربي؟
                    

قال الجندي:                    

تُلّقى الجثث خارج سور زيكولا.

                 

فإمّتطاَ جرير جواده وصاح بِرجاله:
                  
لِنُذيق هؤلاء القوم عقاب فِعلَتهم..

                    

فصاحوا جميعاً، بينما إمتطى خالد جواده واتجه إلى الطريق الآخر وحين نظر إليه جرير قال:

                    

هناك أمر علية أن أتحقق مِنه أولاً

                    

كانت الأُلوف مِن أهل زيكولا قد بدأت في تجمُّعها بِساحة المِنطقة الوسطى لِحضور محاكمة الأماريتي .. ساحة رملية واسعة تقع بِالجانب الغربي لهذهِ المنطقة .. شيدت بها مِنصة كبيرة تُشبه منصة الذبح بِساحة المنطقة الشرقية، أحاطَها عدد قليل مِن فُرسان وجنود زيكولا، كانت المرة الأُولى التي يتجمع بها أهل زيكولا قَلِقين القلوب .. رغم أحاديثهم الواثقة عن نصر جيشهم، لا تعلو وّجوهَهُم فرحتَهم المعتادة في تجمعاتهم .. حتى الموسيقى التي عُزفت بينهم بدت كئيبةً مُرتعشَة، لم يتراقص إلا قليلٌ منهم توقفوا عن رقصهِم حين وجدوا جرحى معركة الشاطئ مِن الجنود قد تقدموا إلى الصفوف الأمامية..

                    

وعلى مقرُبة مِن طرف الساحة الجنوبي .. هبط إياد ورفقتُه مِن عربة العجوز وَدَلفوا بين المُتزاحمين يتقدمون الصفوف إلى الصفوف الأمامية يغطي رأس أسيل غطاء رأسها المعتاد وتُغطي منى رأسها بِوشاح كانت قد أتت بِه من بلدها بينما لم تتبدل ثياب قمر أو إياد، وأكملوا تقدمهم نحو المِنصة تنظر أعينَهم بِالسماء إلى الشمس التي لا تزال بجانبها الشرقي.

                    

في الوقت ذاته كانت الخيول الأماريتية تنطلق كالعاصفة في الطريق الشرقي مِن النفق تندفع بهم الأرض مِن أسفلهم إلى أعلى كلما تقدموا، ويصيح جرير بمقدمتهِم إلى الملك فيصيحوا مِن خلّفِه في حماس شديد، بينما انطلق خالد في الطريق الغربي يركُض حصانه بين القضبيين الحديدين المثبتين على إمتداده ويضئ الطريق مِن أمامهِ مصابيح نارية كانت مُثبتة مضيئة على جانبَيه.
                

وأمام سور زيكولا الشرقي .. باتت الحُشود الأماريتية الزاحفة على بُعد مئات الأمتار مِنه، كانت دقات طبولها الكبرى تصل إلى آذان الجنود، ثمَ أطلق بوق عال فتوقف الحشد عن تقدُمه وأطلق بوق آخر وإختلف إيقاع الطبول ليصبح أكثر سرعة، فبدأت خيول المجانيق بالصفوف الخلفية تنحرف بمجانيقها شمالاً وجنوباً في تناوب، فهمس جندي زيكولي كان يمسك بقوسه أعلى سور زيكولا إلى زميله في ذهول:   
                

سينتشرون على امتداد سور زيكولا بأكمله.


وكانت ساحة المنطقة الوسطى قد أمتلات عن آخرها بأهل زيكولا حين دُقت طبول صُغرى على جانب المِنصة فصعَد إلى أعلاها رجال المجلس الزيكولي .. واتخذوا مقاعِدهم، ثمَ صعد مِن خلفهم كبير القُضاه واتخذ مقعداً بمنتصف المِنصة .. فهتف الحاضرين .. مطالبين بموت الأماريتي، ثمَ دقت الطبول إيقاعاً مختلفاً وأُطلق بوق فساد الصمت .. وصعد إلى المِنصة حاكم زيكولا واتخذ مقعدً كبيراً بجانب المِنصة الأيسر .. مواجِهاً لِرجال مجلسه فهَلَل الكثيرون مجدداً وتعجبت منى وَنَطقت إلى إياد بلهجتها:


سايب جيشه يحارب وقاعد هنا؟!


قال إياد:


لقد تعمد توقيت المحاكمة .. وجوده بين الناس هنا في هذا الوقت .. يوحي بِالثقة في جيشه.


فضمت مُنى شفتيها متعجبة، ثمَ دقت الطبول دقات بطيئة متتالية .. فصعد إلى المِنصة الملك تميم حَليق الرأس .. عاري الصدر .. مكبل اليدين والقدَمين .. يجرُّه حارس القاضي .. فنبضت قلوب أسيل وَمُنى وقمر .. واحمرت وجوههن .. بينما بدا إياد ثابتاً ينظر إلى الأماريتي الذي ما إن صعد المِنصة حتى زاد الصخب وتعالت الصيحات الساخطة مطلقين السِباب واللّعَنات .. فأشار إليهم الحاكم كي يهدَؤوا فعاد الصمت رويداً رويداً .. وَوقف كبير القُضاة و انحنى إلى الحاكم لِيبدأ محاكمته فَسَمَح له .. فَنَظر إلى الوجوه الزيكولية أسفل المِنصة .. وقال:


أيها السادة .. لقد وَكَّل لي السيد الحاكم شرف محاكمة هذا الملك.


وتحرك وتابع:


لن أتحدث عن محاولته لِقتلي لست إلا شخصاً واحداً لا قيمة له لكني أتحدث عن محاولته قَتّلكم جميعاً، لقد أرسل هذا المُعتدي جيشهُ ليهلِك بلادَنا ويدمر حضارتَنا .. لِيَقتل مَن يقتل ويتخذ الباقين عَبيدا لشعبه، يخضع نساءكم لإرضاء شهوات رجالهِم، غبي يظن أن بلادنا كَباقي البُلّدان .. لا يعلَم أنَ سور زيكولا يحيط بِنا كالفولاذ لا يمكن تجاوزُه .. وإن جاء بمجانيق مِن السماء.


صاحت الحناجر مِن جديد وهتفوا:


خائن ... خائن ..


فأكمل القاضي:


نعم ايها السادة .. لا أرى فيه إلا خائناً لِبلادنا.


فتابعوا صائحين:


خائن ... خائن.


انفرجت أسارير الجنود ... وعلا الهُتاف ووصل ذروته فرفع القاضي يده اليهم كي يهدَؤوا .. وتابع:


ليس هذا فحسب .. لقد أقر المجلس الزيكولي بجواز ذبحه اليوم وإرسال رأسه على سهم إلى جيشه.


فهتفوا مِن جديد .. تعلو وجوههم سعادة شامتة بِهذا الملك أمامهم، و واصلوا نعته بالخيانة وتدافَعوا وهم يقفون على أطراف أقدامهم لِينظروا إليه وهوَ يفقد ذكاءه بأكمله، بينما إضطرب وجه إياد وهز رأسه لا يصدق ما يحدث ونظر إلى الأرض مِن أسفله .. إلتمعت عينا مُنى بِدموعِها وحاولت أن تتمالَك نفسها مِن البُكاء .. و وقفت قمر على أطراف قدميّها لِتنظر إلى سيدها .. احتبست أنفاسُها حين وجدت وجهه وجسده قد بدءاَ في شحوبهما سريعاً، كان يُغمِض عينيه محاولاً تحمُل آلام رأسه وعصر جفونه متألِماً، ثمَ فتحهما فصارتا حمراوتَين كالدِماء ورفع يديه المكبلتين وأمسك عنقه يقاوم إختناقه .. فتعالت الصيحات مِن حولِها، ثمَ جثا على ركبتيه ينظر بين الوجوه أمامه كان صدره ينخفض ويرتفع متسارعاً و عيناه الحمرواتين تُحملق في الوجوه، ثمَ حاول أن يقف مجددا فَتعثر وسقط وبات جسده شاحبا للغاية مثل شحوب الطبيبة تلك الليلة بالقصر، حاول أن يقف مرة أخرى، فانهمَرت دموع الطبيبة على وجهها هي وَمُنى التي لم تستطيع تمالُك نفسها حين سقط جسده على المِنصة وبدأ في إنتفاضاته انتفاضات شديدة متتالية إستمرت معها صيحات الزيكولين، ثمَ ظهر السياف على المِنصة يلمع سيفه الكبير مع الشمس فزادت صيحاتهم قبل أن يسكتوا فجأة وتتحول صيحاتهم إلى همّهَمات بعدما ترقبت وجوهم جسد إمرأة نحيلة تحركت بصعوبة أعلى المِنصة يغطي رأسها غطاء معطفها أقتربت مِن جسده المُنتفض وجَثَت على ركبتيها بِجواره وإحتضنت رأسه، أحتبست الأنفاس جميعها حين كشفت غطاء رأسها وهي تنظر إليه ليظهر وجه الطبيبة أسيل ليس شاحباً وظلت تنظر إليه تسيل دموعها على وجنتيها حتى هدأت إنتفاضات جسده رويداً رويداً ثمَ توقفت، فَنظرت إلى الوجوه المحدِقه بها .. وقالت باكيه بصوت ضعيف:


- لم يكن خائناً .. لم يكن ليدمر بيوتكم أو يتخذكم عَبيداً أراد أن يتجنب الحرب فحسب.


كانت الوجوه جميعها تنظر إلى وجه أسيل الباكي في دهشة قبل أن ينهض القاضي عن مقعده ويقول:


خائنة اخرى هنيئاً لِأهل زيكولا وحدات أخرى مِن الذكاء أيها السادة مَن لم يستطيع مِنكم نَيّل وحداته المرة السابقة فلينالُها الآن .. إنني أعلنها خائنة مِن جديد.


فنظرت أسيل بعيدا على امتداد بصرها وابتسمت باكية .. ثمَ نظرت إلى القاضي وقالت:


اللعنة عليك
وإلتفتت إلى الحاكم .. وقالت:


وعليك أيضا سيدي الحاكم.
ثمَ نظرت أمامها مجدداً وهي تحتضن رأس الأماريتي، كان الغبار قد تصاعَد إلى السماء على مقرِبة مِن جنوب الساحة وتعالت معه الصرخات بالصفوف الخلفية حين ظهر سيلٌ هائل من الفُرسان الأماريتية يقودهم القائد جرير يندفع نحوهم.


كان جواد خالد قد خفف مِن سرعته .. حين دنا مِن نهاية الطريق الغربي .. بعد ساعات مِن الركض به .. وكما توقع انتهى سقف ذلك الطريق بباب يشبه الباب أمام الطريق الثُعباني .. وكانت ذراعاً حديديةً طويلة مثبَتةً بجدارِه أسفل مصباح ناري فاقترب منها وجذَبها لِأسفل ليصدُر الباب صريره ويفتح مائلاً للأسفل فظهر مِن أمامه نور النهار وتقدَم إلى الخارج ممسكاً لِجام حِصانه وتجاوز الباب الأرضي المائل ليجد سور زيكولا شاهقاً مِن خلفه يجوِرَه سهل رملي واسع يمتد إلى سلّسلة مِن الجبال المُتلاصقة لاحت على بُعد مئات الأمتار، وسرت بجسده رَعشةً ودق قلبه حين تقدم للأمام وعبر مرتفع أرضي فأبصرت عيناه تلالاً لم تكن رملية بل كانت مِن جثث مُتَراكمة شاحبة منتفخة البطون زائغي الأعين لِرجال ونساء وأطفال غير جثث أخرى تناثرت على امتداد السهل وهياكل عظمية كثيرة ظهرت مِن أسفل الجُثث المتراكمة وبين الرِمال فهمس إلى نفسه في ذهول:


مقبره فقراء اكتاراَ .. وجه زيكولا القبيح..


ثمَ أمّتطاى حصانه ودلف إلى السهل بين أكوام الجثث وكلما تقدم رأت عيناه جثثاً مكتملة وأخرى عظام يكسو بعضها لحم وأخرى عظام ذابت لحومها، كان سور زيكولا قد انحرف مائلاً فأسرع بجواده موازياً له يحاول تفادي دَهس الجثث المتناثرة نكز حصانه كي يزيد مِن سرعته وتوقف بعد قُرابة ميل واحد كان سور زيكولا قد وصل إلى نهايته ليتلقي ضلعه المائل الآخر رأس المثلث الذي بحث عنها كثيرا مرته الأولى بزيكولا، ترجل عن حِصانه واقترب مِن السور عند إلتقاء ضلعيه كانت بأسفله فتحة نفق المنطقة الغربية الذي عبرت إلى سردابه .. نظر بعيداً إلى حُفرةٍ منخفضة بالأرض دون أن يتحرك .. كانت بداية سرداب فوريك، وجال بخاطره الهيكلان العظميان الحديثان به وقال في نفسه :


كانا مِن فقراء إكتاراَ نجا مِن الموت هنا لكنهما لم ينجوا مِن السرداب.


ونظر مِن خلفه بعيداً تِجاه مقبرة الفُقراء وقال:


كانوا يريدون قتلُنا جميعا كل مَن شارك بهذا النفق أرادوا قتّلي انا وأسيل بقانونهم وبحثوا عن إياد وَيامِن وحين رأى أحدهم يامن لم يغفر له وشم يده كانوا يظنون بِغبائهم أننا دَلفنا عبر النفق إلى مقبرتهم كانوا هم مِن يخشونَنا ظنوا إننا قد عرفنا سرهُم الأعظم فَسارعوا لِحصود أرواحنا.


ثمَ إمّتطاى حصانه وركض بِه عائداً في اتجاه باب النفق الأرضي......     
*********************************************************

الفصل الخامس و الاربعون


 كنت قد تيقنت أنها النهاية، سيدي على حافة الموت .. شاحب أعلى المِنصة .. والسيدة أسيل .. أعلنها القاضي خائنة مرة أخرى، السياف يقف بِسيفه اللامع في تحفُز .. قبل أن تتعالى صرخات النساء فجأة بِالصفوف الخلفية ويتدافع الناس مِن خلفنا بقوة، فسقط جسدي بين أجساد كثيرة سقطت مع التدافُع وإرتطمت رأسي ودارت بي وكان الزمن توقف مِن حولي وصار كل شيء أمام عيني ضبابياً يتحرك ببطء شديد وأصبحت أصوات الوجوه المذعورة متداخلة تصرُخ جميعاً قائلة: 

                    
الأماريتيون!! 
                    

تصرُخ مُنى بجواري وهي تهُز جسدي: 


                    
لقد نجحوا لقد عادوا.. 
                   

كانت أعداد الأماريتيين كثيرة للغاية .. أسراب قادمة لا تنتهي .. يقودهم القائد جرير لم يكن هناك إلا مئات قليلة مِن الجنود الزيكولين يحيطون بنا عَلِموا أنهم لن يستطيعوا فعل شيء وأعلنوا إستسلامهم بعدما لاذ حاكمهم ومجلسه بالفِرار وسقط أهل زيكولا جميعهم مِن حولنا واضعين أيديهم فوق رؤوسهم وهدأت ضجتهم بعدما لم يؤذهم جندي أماريتي مِن قريب أو مِن بعيد، وأسرع القائد جرير إلى المِنصة حيثُ رَقد جسد سيدي بجواره سيدتي التي لم تُشَحب إلا قليلاً بعدما شتت هجومه عقول مَن أرادوا نَيل ذكائها، ثمَ اهتزت الأرض فجأة مِن أسفِلنا و دوى صدى صوت عنيف فعلِمنا أن مجانيق أماريتا قد بدأت في إطلاق كُرات لَهيبها بِتتابُع تِجاه سور زيكولا. 
                    

كان يوما مخيفاً .. لن تنساه زيكولا وأهلها لم تتوقف المجانيق عن إطلاق كُراتها طوال ساعاته، ومع كل ضربة كانت الأرض تهتز مِن أسفلنا، وتحركت حشود الأماريتيين الهائلة تجاه المنطقة الشرقية، لم يتركوا سوى بضع آلاف حاصروا الساحة الوسطى بِمَن فيها، لم تكن الحرب الكبرى التي توقعها الجميع .. لم تدم المعركة إلا لساعات كان بها الجيش الزيكولي صامداً مطوقاً من الجانبين شرقا وغرباً .. قبل أن يدلف نحو باب زيكولا مِن شروق الشمس حشد من فقراء أكتاراَ .. عُراه الأجساد يسيرون في ترنُح كالموتى غير عابئين بالسِهام التي تشُق الأجواء ذهاباً وإياباً، كانت وجوههم شاحبة شاردة تسير أقدامهم الحافية في إتجاه واحد مهما تساقط منهم لا يضعون للموت بالاً يقودهم خالد الذي عاد إلى المنطقة الوسطى بعد مَغيب الشمس وإطمئن إلى الأماريتي الذي إستعاد وحداته مِن جنود زيكولا الجرحى بعدما أجبرهم القائد جرير على ذلك، و اطمأن إلى صحة أسيل وإحتضن زوجته مُنى قبل أن يتركنا وينطلق على جواده إلى المعركة المشتعلة بِالمنطقة الشرقية، يقود الفقراء مِن خلّفِه. 

                    

كان يؤمن أن أهل زيكولا وجنودها بشر بينهم صالحون وأنقياء .. رغم الطمع والجَشَع يعلم أنهم غير مُذنبين بما فعلهُ حاكمهُم ومجلسه فَسَعاى كي يتوقف ذلك القتال ولم تلبث أن تسربت الأخبار بين جنود زيكولا عما فعلته بلادهم بِأصحاب الملامح الغريبة الذين ساروا نحوهم فاضطربت قلوبهم التي كانت تؤمن دَوماً أن زيكولا أكثر البلاد عدلاً، وساد التشتت بينهم وخرّت عزائمهم ووصلت إلينا الأنباء مع منتصف النهار إنَ الجيش الزيكولي قد إستسلم وَأُعلِنت هزيمته.
          

وبسرعة النار في الهشيم إنتشرت الأخبار عن الممرات والأنفاق السرية ذات الأبواب الأرضية أسفل جبال المنطقة الشمالية وعلى عكس ما عهدنا فما إن عاد خالد بالفُقراء إلى المنطقة الوسطى بعد إنتهاء الحرب حتى وجدنا أهل زيكولا أنفسهُم يخلعون ثيابهم لِيستروا بها أجساد الفقراء العارية، ويقدمون لهم الطعام ويربتون على أجسادهم، ومنهم مَن قبل رؤوسَهم يعتذرون عما حدث لهم.


طُبِّق عهد الرسل القديم .. وأسقط خيانة سيدتي الطبيبة أسيل والغريب خالد ونادين وإياد وبالطبع خيانة ملِكنا الذي أمَر بإفاقه كافة خزائن الذكاء النائمة ووزع على كل فقير مِن فقراء إكتاراَ الناجين عشرين ألف وحدة ذَكاء.


كُلِّف أطباء زيكولا جميعهم بِمتابعه حالات الفُقراء الصحية تقودهم الطبيبة أسيل التي تنقلت بينهم وعادت إليها ابتسامتها التي عُرِفت بها دوما وهي تُداعب أطفالهم وبناتهم.


بالنسبة لِخالد وَمُنى فقد قرراَ مغادره زيكولا مع اليوم الرابع بعد إنتهاء الحرب، كانت لحظة لا تُنسى ربما سأظل أحكي عنها كثيراً مستقبلاً، احتضنَه سيدي وهو يشكره واحتضنته نادين وكانت الطبيبة أسيل تقف بجواري حين توقف أمامها لِلحظات، فابتسمت إليه وإحتضنته وسَمعتها تهمس إليه:


شكرا لأنك عدت مِن أجّلي.


وأكملت:


تمتلك زوجة طيبة لا تجعلها تحزن يوماً. 


فابتسم ثمَ صافحني وصافحتنا مُنى جميعاً و ركِبا عربة فَخمه شقت طريقها إلى المنطقة الغربية ليعبروا نفقهما إلى سِرداب فوريك ورافقهم إياد بالعربة. 


لم يُعرف حتى الآن لماذا رَفض المجلس الزيكولي هَدم نفق المنطقة الغربية بعد اكتشافه غير أن الملك تميم قد أمَر بِهدمه بعد عبور خالد وَمُنى وكذلك الأنفاق الكبرى والممرات أسفل المنطقة الشمالية بعد مشورة رجال مِن كبار زيكولا كانت تثق بآرائهم الطبيبة أسيل كما وعدهُم بإصلاح ما خَربته مجانيق أماريتا بسور بلادهم. 


وكان اليوم الثاني عشر مِن إنتهاء الحرب حين إصطفت خيول وعربات على وشك التحرك تحمل أهل اكتاراَ بعدما فضلوا العودة إلى بلادهم عن البقاء في زيكولا، كانوا جميعهم يرتدون ثياباً جديدة أختلف ألوانها وصارت وجوهم متورِدة غير شاحبة بينهم السيدة الإكتارية تحتضن ولدها صبي يقارب عشر أعوام - كنا قد عرفنا إنها فقدت ولديها الآخرين - وكنت أقف بِجوار سيدتي على جانب الطريق بين الزحام حين لَوحت لنا بيدها تشكرنا وتقبل ولدها الذي لوح إلى الطبيبة بشده فسمعتها تقول شاردة: 


تمنيت لو رأى السيد سيمور ذلك. 


وتابعت وهي تنظر إلى باقي الأطفال الإكتاريين الضاحكين: 


حلقات متصله من القدَر لو فُقِدَت حلقة واحدة لإختلفت مصائر شتى. 


كانت مِن بين قافلتهم عربات محملة ببضائع ومؤن كثيرة بعدما أعلن الملك تميم أن زيكولا ستسدد كل عام حصة مِن المؤن والعتاد إلى اكتاراَ تعويضاً عما أذّنَبَته كما لبيّ طلبهُم الذين نقلوه إليه عبر السيدة الإكتارية وحملت العربات الوسطى أقفاصَاً خشبية كُبل بها حاكم زيكولا السابق ومجلسه الذين اعتقلوا ووجهت لهم تهمة قتل ما يفوق سبعين الف اكتاري ولم يعترض أهل زيكولا على ذلك وضحكنا حين وجدنا نادين تقترب مِن عربة كبير القُضاة وتمد يدها وتصفعه بقوة قبل أن تتحرك العربات في طريقها إلى المنطقة الشرقية لتعبُر باب زيكولا.


أوفى الملك تميم بوعده بأنه جاء إلى هذا البلد لإسقاط خيانة الطبيبة فحسب، ولم يبقى بزيكولا أكثر مِن شهر لم يتدخل خلاله من قريب أو مِن بعيد بقوانين زيكولا وترَك لِأهلها حرية إختيار حاكم زيكولي جديد كما اعتادوا دوما كل خمسة سنوات، وعاد مع الجيش الأماريتي إلى سفنه وأُغلق باب زيكولا مِن بعدهم.


اُلغيت اتفاقية البشر مقابل الديون بإكتشاف مقبرة الفقراء أو ما سميت بعد ذلك بالأرض المحرمة، وقاد الجيش الأماريتي بقيادة القائد جرير حروباً ضد البلاد التي أرادت تطبيقها..


بعد أيام مِن رحيل الملك وإغلاق باب زيكولا اتخذت طريقي إلى المنطقة الغربية مع إياد الذي أقنعني بالبقاء للعيش في زيكولا أستطيع أن أقول الآن زوجي إياد..


وأخيراً لم تعُد الطبيبه أسيل إلى أماريتا وإحتلت مكانتُها مرة أخرى كطبيبة زيكولا الأولى، ورحب الملك تميم بِرغبتها غير أن الأسطول الأماريتي قد تَرك سفينة ملَكية واحدة يتناوب عليها أطقم البحارة، إنتشرت الأقاويل أنَ تلك السفينة ستظل راسية مكانها أبدا الدهر حتى تُقرر الطبيبة يوما أن تعبُر هضاب الريكاتا مجدداً. 


بعد عام ونصف  


في بلدة البهو فريك كان الهدوء يسود الليل قبيل الفجر وكان الجو حاراً خانقاً حين دوت صرخات رضيع أيقظت مُنى التي أسرعت إلى سريره الصغير وحملته إلى صدرها ثم سارت به نحو الشُرفة فتوقف عن بُكائه وكادت تعود به إلى سريره قبل أن تلمح نجماً بالسماء يلمع بعيداً في عزلة عن باقي النجوم فحدقت به واطالت نَظرها إليه ونَطقت غير مصدقة: 


أسيل 


ثمَ إلّتفتت إلى سريرها كان خالد يَنام على جانبه واضعا رأسه بين وسادتين لم تكن تعلم أنهُ قد فتح عينيه حين شعُر قلبه بقلق مفاجئ.. 


في الوقت ذاته كان شراع السفينة الراسية قرب شاطئ بحر مينجا قد انتفخ وأسقطت مجاديفها الطويلة إلى الماء لتبدأ ابحارها في اتجاه الجنوب.... 


 النهايـــــــــة           
الرواية التالية الرواية السابقة
لا توجد تعليقات
اضـف تعليق
comment url